يجسد ملكة التفكر والتعقل عند الإنســـان:
الدماغ أو المخ هو في الحقيقة موضع الملكات المميزة للإنسان من قدرات فكرية وذهنية وقيم إنسانية وليس عضلة القلب, ولم يصرح الكتاب العزيز أن القلب هو محل العقل, وقد ذهب كثير من علماء الإسلام إلى أن ذكر القلب في القرآن الكريم من باب ضرب المثل بالعقل الذي تميز به الإنسان في المكانة لا بيانا لمكان العقل تعبيرا عن المعنوي بحسي للإيضاح بالتصوير, قال ابن عاشور: "أطلقت القلوب على.. العقل على وجه المجاز.. وإنما آلة العقل هي الدماغ"[27], وقال بمثل هذا التأويل الجمع الغفير, قال الأصفهاني: "قال بعض الحكماء حيثما ذكر الله تعالى القلب فإشارة إلى العقل"[28], وقال أيضاً: "الرأس أشرف الأعضاء الإنسانية.. و(العقل من الإنسان) بمنزلة القلب من البدن"[29], وقال ابن تيمية: "لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن.. كما في الصحيحين عن النبي أن (في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد فإن فسدت فسد لها سائر الجسد), وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقا, فإن قلب الشيء باطنه كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك.. وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه.. ولهذا قيل إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء, ونقل ذلك عن
[عزيزي الزائر يتوجب عليك التسجيل للمشاهدة الرابطللتسجيل اضغط هنا]
وثيقة تاريخية تبين الاعتقاد السـائد في أوروبا فيالقرون الوسطى باعتبار القلب هو مركز الأحاسيس.
الإمام أحمد"[30], وفي قوله تعالى (إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ)؛ قال ابن القيم: "لم يرد بالقلب هنا
مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات"[31], وفي قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)؛ قال الرازي: "قال مجاهد المراد من القلب هاهنا العقل.. وجعل القلب كناية عن العقل جائز كما قال تعالى: (إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي لمن كان له عقل"[32], وقال أبو حامد الغزالي: ”وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر“[33],وقال القنوجي: "القلب له معنيان أحدهما اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدور.., والحيوانات كلها متشاركة في هذا النوع من القلب.., وثانيهما لطيفة ربانية نورانية.. وهو المخاطب والمكلف وبه يثاب الإنسان ويعاقب"[34], وتتمايز أحوال الناس في الملكات الفكرية والعاطفية والأمور الاعتقادية بينما لا تتمايز القلوب العضوية مما يعني أنها تمثيل للعقول والأفكار وبيان أن فاقدي الإيمان موتى الفكر في قوله تعالى: "تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" البقرة 118، والنظائر الحسية والمعنوية عديدة للتعبير عن الملكات المميزة للإنسان وهي ليست مقصورة على لفظ القلوب وحده حتى يظن أنها محل العقل, فقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الملكات أو بعضها بلفظ الافئدة وهي في اللغة قد تعني الأحشاء ومثلها الصدور والألباب والنهى, وكذلك الأحلام في قوله تعالى: "أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـَذَآ" الطور 32، والحجر في قوله تعالى: "هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ" الفجر 5، وفي قوله تعالى (إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق 37؛ يشرح عبد القاهر الجرجاني أن لفظ القلب تمثيل للعقل وليس اسما له فيقول: "جعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر كأنه قد عُدِمَ القلب من حيث عدم الانتفاع به (أي مات).. كما جُعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة بمنزلة من لا سمع له ولا بصر, فأما تفسير من يفسره على أنه بمعنى من كان له عقل.. كأن القلب اسم للعقل.. فمحال باطل لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية وإلى تحريف الكلام عن صورته وإزالة المعنى عن جهته, وذاك أن المراد به الحث على النظر والتقريع على تركه وذم من يخل به ويغفل عنه..، بأن يكون قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكر كأنه ليس بذي قلب, كما يجعله كأنه جماد وكأنه ميت لا يشعر ولا يحس.., وفسر العمى والصمم والموت في صفة من يوصف بالجهالة على مجرد الجهل, وأجرى جميع ذلك على الظاهر فاعرفه, ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا أبدًا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة"[35].
كتاب معجز جامع فريد زاخر ببينات التنزيل:
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا) يعني به القرآن (مُتَشَابِهًا).. يشبه بعضه بعضا لا اختلاف فيه ولا تضادّ.. عن سعيد بن جُبَير.. قال: يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا، ويدلّ بعضه على بعض.. وقوله (مَثَانِيَ).. عن ابن عباس.. قال: كتاب الله مثاني ثنى فيه الأمر مرارا"[36], وقال ابن كثير: "قال الضحاك (مَثَانِيَ) ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل.., زاد الحسن: تكون السورة فيها آية وفي السورة الأخرى آية تشبهها.. وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) } ذاك معنى آخر"[37], وقال أبو السعود: (أَحْسَنَ الحديث) هو القرآنُ الكريمُ.. ومعنى كونِه مُتشابهاً تشابُه معانيهِ في الصِّحَّةِ والأحكامِ والابتناءِ على الحقِّ والصِّدقِ واستتباع منافعِ الخلقِ في المعادِ والمعاشِ وتناسب ألفاظِه في الفصاحةِ وتجاوبِ نظمِه في الإعجازِ, و(مَّثَانِيَ) .. قيل.. من التَّثنيةِ بمعنى التَّكريرِ والإعادةِ.. باعتبار تفاصيله"[38], وقال السعدي: "يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) على الإطلاق، فأحسن الحديث كلام اللّه وأحسن الكتب المنزلة من كلام اللّه (هو) هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها وأن معانيه أجل المعاني لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه.. ما يبهر الناظرين ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم"[39], وقال الثعالبي: "(متشابها) لا تَنَاقُضَ فيه.. بل يُشْبِهُ بَعْضُهُ بعضاً في رَصْفِ اللَّفْظِ ووَثَاقَةِ البراهينِ وشَرَفِ المعاني"[40], وقال الجاوي: "(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) بحسب لفظه لفصاحته وجزالته وبحسب معناه لاشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل ولأن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً، (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً) أي يشبه بعضه بعضاً كما قاله ابن عباس فإن كل ما فيه من الآيات يقوي بعضها بعضاً والمقصود منها بأسرها الدعوى إلى الدين وتقرير عظمة الله"[41], وقال الماوردي: "معناه يفسر بعضه بعضاً (كما) قاله ابن عباس"[42], وقال السمعاني: "أي يشبه بعضه بعضا في الصدق وصحة المعنى"[43], وقال البغوي: يشبه بعضه بعضًا في الحسن ويُصَدِّق بعضه بعضًا ليس فيه تناقض ولا اختلاف"[44], وقال الرازي: "الكاتب البليغ إذا كتب كتاباً طويلاً فإنه يكون بعض كلماته فصيحاً ويكون البعض غير فصيح والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه.. (و)كل ما فيه من الآيات والبينات فإنه يقوي بعضها بعضاً ويؤكد بعضها بعضاً.. (و)المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله.. فهذا هو المراد من كونه متشابهاً"[45], وقال ابن عاشور: "اقتضى قوله (تَقْشَعر منه جُلُودُ الذين يخشَونَ ربَّهُم) أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجَزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره، وكنّي عن ذلك بحالةٍ تقارِنُ انفعال الخشية والرهبة في النفس لأن الإِنسان إذا ارتاع وخشي اقشعرّ جِلده من أثر الانفعال (والرهبة)، فمعنى (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ) تقشعر من سماعه وفهمه.. يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً كالذي يحصل عند شدة برد الجسد ورعدته, (و)يقال اقشعر جلده إذا سمع أو رأى مَا يثير انزعاجه وروَّعَه، فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالباً, وقد عدّ (القاضي) عياض في (الشفاء) من وجوه إعجاز القرآن: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبةَ التي تعتريهم عند تلاوته لعلوّ مرتبته على كل كلام من شأنه أن يهابه سامعه، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَـَذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) الحشر 21"[46], وفي تفسير الميزان: "قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني).. الحديث هو القول كما في قوله تعالى (فليأتوا بحديث مثله) وقوله (فبأي حديث بعده يؤمنون), فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق.., وقوله (كتابا متشابها) أي يشبه بعض أجزائه بعضا.. وقوله (مثاني).. بتبيين بعضها ببعض وتفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضا ويناقضه كما قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)"[47].
بينات الوحي تتألق اليوم بأنوار اليقين:
قبل اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر لا يتوقع أن يصف مصدر بشري العضلات المجهرية في الجلد التي تجعله يقشعر من الخشية والوجل ثم يلين بعد تقبض, ولذا في كتاب في القرن السابع الميلادي تشابهت في الإحكام مبانيه وتأكدت بالتثنية معانيه لا تفسير سوى أنه كلام الله العليم وحده بكل حقائق التكوين عندما ينسب القشعريرة للجلد صريحا ويعلن عن لينه بعد تقبض من تقوى الله وخشيته وهيبته وإجلاله أمام روائع نظم كتابه ودلائل تنزيله, وليست الكشوف العلمية إذن سوى مدائح للإله تعلن عن حكمته تعالى في خلقه وبديع صنعه مؤيدةً نزول الكتاب العزيز بعلم الله شاهدةً له بالوحي ومؤكدةً رسالته, يقول العلي القدير: "قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هَـَذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَىَ قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ" الأنعام 19.