![]() |
|
قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها ..... |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() المدخل لدراسة حقوق الإنسان بسم الله الرحمن الرحيم ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من امرنا رشدا صدق الله العظيم الآية 10 سورة الكهف مقدمه عامه تعد حقوق الانسان حجر الزاويه في اقامة المجتمع المتحضر الحر , واحترام حقوق الانسان ورعايتها هو عماد الحكم العادل في المجتمعات الحديثه والسبيل الوحيد لخلق العالم , الحر الآمن والمستقر . وفي جنبات هذا المؤلف حاولنا استعراض موضوع حقوق الانسان والقينا الضوء على هذا الموضوع الذي طالما شغل رجال القانون و السياسه , واستاثر باهتمام المختصين بهذا المجال من العلاقات الانسانيه لما في تعزيز احترام هذه الحقوق من نتائج منشوده يتجلى فيها خير الحاكم والرعيه , مما حداهم الى بذل الجهد الفكري المتواصل للتثقيف في مجال هذه الحقوق وضمان تطبيقها . واذا كانت البحوث والدراسات التي تناولت هذا الموضوع قد ركزت في اغلبها على الجانبين القانوني والسياسي , فان الجانب التاريخي يبقى بحاجه الى مزيد من البحث , ومتابعة الدراسه والاستقصاء , خاصه في مجتمعاتنا العربيه التى تشيع فيها فكره مفادها ان مبادئ حقوق الانسان انما هي نتاج للعقل الغربي وتتناسى موروثها الحضاري بهذا الخصوص . ان هذا المؤلف "المدخل لدراسة حقوق الانسان " يشكل محاوله منا لبيان الجذور التاريخيه لحقوق الانسان وتطور مفاهيمها الذي ترافق مع التطور البشري ونظال الشعوب الطويل من اجل الحريه والكرامه وصولا الى الوقت الحاضر الذي اصبحت فيه مناره تشع بنور الفضيله والقيم الانسانيه الساميه وتتباهى بتبنيها الدول المتقدمه . هذا المؤلف موجه الى مجموعه متنوعه من القراء الا ان الشريحه الاكثر استهدافا هي شريحة الطلبه الجامعيين باعتبارهم الاقدر على مواصلة الطريق في سبيل اشاعة هذه المبادئ والتثقيف بشانها وتعزيز احترامها . فقد اضحت هذه الحقوق اليوم المعيار الرئيس للحكم العادل ومقياس شرعية السلطه وممارستها, فلم يعد بالامكان ان يتعامل الحكام مع مواطنيهم بعيدا عن المعايير الدوليه لحقوق الانسان. ان احترام هذه الحقوق اليوم يعد التزاما دوليا على عاتق الدوله امام الاسره الدوليه ومقياسا لشرعية الحكم فيها , وفي هذا السبيل من الضروري الوفاء بالالتزامات المتعلقه باحترام الدول هذه الحقوق والتثقيف بها واشاعتها , كتلك الالتزامات الناشئه من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصاديه والاجتماعيه والثقافيه , واتفاقية حقوق الطفل , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ضد المرأه , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ,واتفاقية مناهضة التمييز في التعليم . وقد اقتضت هذه الدراسه ان نقسم البحث الى ستة فصول بذلنا وسعنا ان تكون موازنه بين الدساتير العالميه والعربيه المختلفه كما لم نغفل اخر الاتفاقيات والمقررات الدوليه , وفق التفصيل الاتي : الفصل الاول : الجذور التاريخيه الاولى لحقوق الانيان الفصل الثاني : حقوق الانسان في الاسلام الفصل الثالث : تطور حقوق الانسان الفصل الرابع : اشكال وصور حقوق الانسان والترابط بينها الفصل الخامس: الحمايه الداخليه لحقوق الانسان الفصل السادس : الحمايه الدوليه لحقوق الانسان الفصل الأول الجذور التاريخية الأولى لحقوق الانسان ان المسيرة الفلسفية والقانونية لحقوق الإنسان لم تبدأ في غفلة من التاريخ فهناك أصول وأسس سابقة بنت عليها الحضارة الحديثة مفاهيمها عن حقوق الإنسان، ومن ثم فان القيمة التاريخية لمضامين الحقوق لا تقل أهمية عن القيمة الموضوعية فالأولى تبرز أهمية الثانية بشكل مضاعف والتطرق لموضوع حقوق الإنسان من الناحية التاريخية ومحاولة التماس الأصول التاريخية لهذه المسيرة أمر له أهميته بهدف رسم صورة لعملية التغيير التي حدثت في الأفكار الإنسانية التي ترتب عليها الدعوة إلى حركة وطنية ودولية لحقوق الإنسان لمعرفة إمكانية ضمان تطبيق هذه الحقوق بصورة عملية. ان هذا الفصل يهدف إلى محاولة الإجابة عن سؤال مهم، وهو هل يوجد شيء نطلق عليه حقوق الإنسان بصورة فعلية في الأزمنة القديمة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي الأدوات أو الآلية التي وفرها النظام القانوني في العصور القديمة لحفظ تلك الحقوق ؟ وإذا لم يكن هناك شيء اسمه حقوق الإنسان قديماً فما هي الأسباب ؟ المبحث الأول حقوق الإنسان في الحضارات القديمة لا يمكن القول بوجود لحظة محددة بدأت عندها الأصول الأولى لفكرة حقوق الإنسان، ولكن في أغلب الظن فان هذه الأصول قد بدأت مع بداية تكوين حياة مشتركة لمجموعات البشر، ومن ثم فان هذه الفكرة ولو بصورتها البدائية هي فكرة قديمة قدم الحياة البشرية ذاتها وتمثل المدينة بأوجه الحياة المختلفة فيها والتي شكلت بدايات ظهور الدول في تاريخ العالم البدايات الأجدر بالبحث من خلالها عن تفاصيل محددة لفكرة حقوق الإنسان فمدينة لا رأي فيها الا لرجل واحد ليست مدينة كما انه لا يكفي لكي نعيش حياتنا ان يتحول الصراع إلى مناقشات منطقية إلا حيث تقدر قيمة الاختلاف في الرأي وتتاح المعارضة فالمدينة كمكان يعيش فيه البشر هي مستقر ومرتع تشجع فيه الحروب العقلية لا الحروب البدنية. عليه فان البدايات لفكرة حقوق الإنسان ضمن إطار الدولة تبدأ مع ظهور المدينة. المطلب الأول حقوق الإنسان في حضارة وادي الرافدين ان للعدل باعتباره المثل الأعلى للسلوك الإنساني وللحكم واقامة السلطة التي يتمتع بها الملوك والأمراء وزعماء الجماعات البشرية المختلفة تاريخاً قديماً اكثر عمقاً من الفكر اليوناني، فهو لا ينطلق من جمهورية افلاطون إذ انه عرف بصورة واضحة في شرائع وقوانين بلاد ما بين النهرين، وإذا كان لقضية الخوف التي يعاني منها الإنسان منذ ان وجد على سطح الأرض عاملاً هاماً في دفعه مع الآخرين من بني جنسه إلى البحث عن مركز ثابت للاجتماع والاستقرار الأمر الذي ترتب عليه بمعونة عوامل أخرى إلى ظهور تنظيمات مختلفة للإنسان على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جرى تنظيمها عن طريق القوانين والشرائع التي ظهرت على مر العصور، فمن الوجهة السياسية يلاحظ أن القوة السياسية كانت دائماً في يد مجلس شيوخ المدينة أو القرية وفي معظم المجتمعات فأصول قواعد السلوك والحكومة والقانون والعدل كانت موجودة في مجلس شيوخ القرية ويبدو ان هذه الوسيلة البدائية من أدوات الحكم كانت من مميزات المجتمعات القروية في كل العصور، ولقد بلغ من خطورة شأن هذه المنظمة انها تركت طابعها على كل القصص الدينية ونشاط الأداة الحكومية في مدن بلاد ما بين النهرين اذ انه إلى ما بعد ذلك بآلاف السنين كان لا يزال في بابل مجلس للآلهة على نمط القرية العتيق، وهكذا فانه مع تطور المدينة أصبح في المجتمع طبقة مميزة تسيطر على الطبقات الأخرى وعندها أدعى الملوك والزعماء أنهم يستمدون سلطانهم من مصادر الاهية حيث أصبحوا حلقة الوصل بين السماء والأرض، وبذلك امتزجت السلطتان الدينية والزمنية كما كان الأمر في الحضارات القديمة كلها، وهذه حقيقة تشمل حضارات بلاد ما بين النهرين والحضارات الأخرى كالمصرية القديمة والصينية والهندية واليابانية(13). ان هذه الأوضاع الجديدة منحت الحاكم صلاحية الانفراد بالسلطة واسترقاق الآخرين حيث امتد الأمر ليشمل طبقات بأكملها داخل مجتمعه، وعليه فانه لم يكن هناك حق إنساني إلا في حدود ما يقره الحاكم فقط، ويمكن بالاستناد إلى ذلك تفسير ظاهرة الحرب والسبي والقتل والتدمير اذ أن كل ملك من الملوك كان يطمح إلى المزيد من القوة المادية والمعنوية والتي لا يتم الحصول عليها إلا بمقابلة الآخرين أو قتلهم والاستيلاء على أموالهم، وهذا الوضع العام أدى إلى وجود أقلية حاكمة ومسلحة على حساب الكثرة التي غالباً ما تحرم من حقوقها الإنسانية، فإذا كان ظهور الملك الحربي قد حقق الأمن لنظامه الملكي ولحاشيته وعسكره فانه من جهة أخرى قد فرض نظاماً قاسياً على رعيته، وبقدر تعلق الأمر ببلاد ما بين النهرين يشير أحد الكتاب إلى أن (الإرهاب كان هو السمة العامة للمجتمع، وقد بلغت أعمال الوحشية ذروتها في شخص آشور بانيبال ملك آشور، وتضاعفت مظاهر القسوة هذه ووصلت الذروة في عهد متأخر كعهد حمورابي حيث كانت نصوص القانون الذي اشتهر به يحتوي على قائمة من الذنوب لا حصر لها، وكثير منها طفيف، لكنها كانت تستوجب العقاب بالموت، أو بالتشويه عملاً بالنص الحرفي لمبدأ العين بالعين والسن بالسن(14). وربما كان لهذا الشكل من أشكال الإرهاب أسبابه المتعددة ومنها قسوة الطبيعة. ففي بلاد ما بين النهرين للطبيعة قسوة مميزة تمثلت في فيضان الأنهار المفاجئ والمدمر لمحاصيل الفلاحين بينما يمثل النيل سهولة الحياة وسلاستها فالفلاح المصري يعرف أوقات الفيضان، الأمر الذي يقود إلى استغلال المحاصيل الزراعية على أكمل وجه وهو ما يقود بدوره إلى حياة الأمن والاستقرار، ويمكن تفسير القسوة الإنسانية كنتيجة لقسوة الطبيعة في بلاد ما بين النهرين ونقيض ذلك في بلاد النيل من خلال الضغط والإرهاب الذي أدى إلى وحدة الأقاليم في المنطقة الأولى بينما أقيمت وحدة الأقاليم في وادي النيل على المنفعة العامة التي تجنى من مياه النيل. وقد ازدادت الحياة قسوة عندما جاء رجل ووضع قدمه على قطعة أرض وقال هذه ملكي مما ترتب عليه تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء، ومع ذلك فان التقسيم الحقيقي للملكية لم يبدأ إلا عندما بدأ الحكام يوزعون هباتهم للمقربين منهم ولم تظهر حقوق الملكية بتفاصيل قانونية إلا في الألف الثاني قبل الميلاد وهو ما جاءت به شريعة حمورابي التي عالجت تفاصيل الملكية وحق نقلها، وهنا يمكن ملاحظة حقيقة أساسية، وهي أن معظم الحضارات القديمة قد قامت بشكل أو بآخر على أكتاف الرقيق، وبالمثل فانه يمكن القول أن الثروات الطائلة التي يجمعها أفراد مهيمنون لا تتم إلا عن طريق الاسترقاق والقسوة التي تخلو من الشعور بالإنسانية تجاه الآخرين، ومن ثم فإن الفترة الأولى التي شهدت عصر ما قبل التاريخ والحضارات القديمة لم تتعرض لقضية حقوق الإنسان بمعناها الحقيقي من حيث حقه في تقرير المصير وحقه في الوجود حتى أن القوانين التي وضعها حمورابي لا تؤدي إلا لأن يكون الناس جميعاً بلا عيون وبلا أسنان وبلا أطراف وفي نهاية الأمر فلا نجد في ظل هذه القوانين داخل المجتمع الإنساني سوى عقاب يتبعه عقاب وليس حقوقاً تليها حقوق. عليه فان الحقوق التي أقرتها الشرائع القديمة لم تكن حقوقاً جماعية بالمعنى المعروف في الوقت الحاضر بل كانت حقوقاً فردية يتمتع بها الحاكم، ومن ثم فان تناقض الوعي وصراع الذات والموضوع لم تؤدي إلى تطور الوعي في الحضارات القديمة ولذا انعدمت الحرية فيها حيث لم يكن هناك سوى شخص واحد حر هو الحاكم(15) . أن ما تقدم من أفكار يمثل وجهة نظر واحدة عن حقوق الإنسان وأصولها في المجتمعات القديمة على وجه العموم، وفي حضارة ما بين النهرين على وجه الخصوص، ومن ثم فانه يحق لنا ان نتساءل فيما إذا كانت الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟ فمن الضروري أن نلاحظ أن البدايات الحقيقية للتشريع والقانون إنما ظهرت في بلاد ما بين النهرين التي تكونت فيها أولى التجمعات البشرية المشكلة للأشكال الأولى للدولة بكل ما تعنيه من تنظيم سياسي واقتصادي واجتماعي. عليه فان هناك وجه آخر فازدهار القوانين في بلاد ما بين النهرين أمر مؤكد بالمقارنة مع المدنيات الأخرى التي زامنت الحضارة العراقية القديمة، والحقيقة هي أن تطور القانون لا ينفصل عن تطور الفكر بشكل عام وهو بدوره يمثل انعكاساً للمديات المتقدمة في جوانب الحياة المادية، فالقانون في الأساس، منطلق لتنظيم العلاقات، وتثبيت حقوق وواجبات طرفي العلاقة في أشكال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ومن بين أوجه العلاقات تلك التي تقوم بين الناس، فرادى وجماعات في جانب، وبين الحاكم أو من يمثله من سلطات وإدارات وهيئات من جانب آخر، ولأن الملك في نظرة العراقيين القدماء شخص لا يختلف كثيرا ً عن بقية الناس، أوكلت الآلهة إليه مهمة حكم البشر وادارة شؤونهم، فهي من واجباته، مثلما له حقوق على الناس، لذلك برزت الحاجة الماسة إلى تعيين الحقوق والواجبات لطرفي العلاقة الرئيسيين الملك من جانب والمجتمع من جانب آخر. وعلى الرغم من أن هذا التصور للعلاقة لم يصل إلينا مدوناً بشكل مباشر ولكننا نستشفه من أقوال الملوك وبعض النصوص الدينية، فالملك مكلف بنصرة المظلومين والاقتصاص من الظالمين وهو الراعي العادل، ولكنه لم يمثل صورة الحكم الإلهي (فإذا لم يحرص على تطبيق العدالة، فسيغير الإله ايا قدره) بمعنى أن مصير الملك كصاحب سلطان منوط بموقفه من العدالة وعمله على تطبيقها، لأنها إرادة الآلهة. وجانب من هذه الحقيقة تشير إليها قوانين حمورابي إذ نقرأ على لسان هذا الملك (انتدبني آنذاك آنو وانليل، أنا حمورابي الأمير الكريم عابد الالهة، لأنشر العدل في البلاد واقضي على الشر والغش وامنع القوي من اضطهاد الضعيف). وبقدر تعلق الأمر بالجوانب الخاصة بحقوق الإنسان يلاحظ على القوانين العراقية القديمة إقرارها ببعض العقوبات الصارمة أو اعتمادها على بعض المبادئ الساذجة والتي لا تتوافق مع أعراف البشر المتمدنين في العصر الراهن، ومن أمثلة ذلك تعميم المسؤولية أو استنتاج البينة عن طريق الامتحان، وما إلى ذلك، ولكن إذا ما تذكرنا اننا نستعرض أعمالاً قانونية يقرب عمرها من أربعة آلاف عام، سنقبل بالضرورة بعض المآخذ التي تسجل على جوانب من القوانين، غير متناسين أن القوانين العراقية القديمة تشكل التجربة الأولى في تاريخ البشر، وانها بالمقارنة مع الكثير من الأعمال القانونية اللاحقة، تمثل الأساس الصحيح والسليم لتجربة الإنسان القانونية(16). ومن النصوص القانونية التي جاءت بها شريعة حمورابي والتي لا تنسجم مع أسس حقوق الإنسان النص الذي يعالج حالة أي مواطن يتهم مواطناً آخر بجريمة يعاقب عليها بالإعدام ثم لم تثبت عليه فانه يعدم عوضاً عنه، كما تضمنت هذه المدونة النص على حق المحارب الذي يؤسر في ديار الأعداء في أن يسترد زوجته إذا عاد إلى بلده، حتى لو كانت قد تزوجت أثناء أسره برجل آخر، وهي تحتم على زوجة الأسير ان تلزم داره مادام فيها ما تقيم به أودها وإذا ما تزوجت رجل فانه يلقى بها في النهر، ومع ذلك فان هناك نصوصاً عبرت عن احترام بعض الأسس التي تعد من حقوق الإنسان حتى في العصر الحديث، فقد اعتبرت الدولة مسؤولة عن تقصيرها في حماية الأشخاص والممتلكات، ولهذا السبب، فانه إذا قتل مواطن ولم يتيسر معرفة قاتله تعاونت المدينة وحاكمها على دفع الدية إلى أهله، وإذا سرق مواطن ولم يتيسر القبض على سارقه واسترجاع المسروقات عوضته مدينته وحاكمها عما سرق منه. فضلاً عما تقدم من أحكام تبرز ملامح أخرى لحقوق الإنسان يمكن الإشارة إليها كالإصلاحات المنسوبة إلى حاكم مدينة لجش أوروكوجينا التي تتمحور إصلاحاته على معالجة الوضع الضرائبي وشؤونه بصورة أساسية ومع ذلك فقد أكدت هذه الإصلاحات على بعض المبادئ المهمة كفكرة الحرية في حدود القانون وان المناصب الوظيفية العالية في الحكومة والإدارة لا تعفي صاحبها من الحدود القانونية، وهذا كله بهدف توفير أساس قانوني لمعاقبة الموظفين وجامعي الضرائب ممن خرقوا التقاليد وتجاوزوا على حقوق المواطنين وممتلكاتهم(17)، ومما تجدر الإشارة إليه ان إصلاحات اوروكوجينا هي الوثيقة الأولى في تاريخ البشرية التي وردت فيها كلمة الحرية(18). القانون الآخر هو قانون اورنمو الذي يعد من اقدم القوانين المدونة في تاريخ البشرية وقد اعتمد مبدأ التعويض في العقوبات على خلاف المبدأ الذي يعتمده قانون حمورابي وهو القصاص. وفي إطار عمل الأجهزة القضائية يمكن الإشارة إلى جريمة قتل اخبر القتلة الزوجة بمقتل زوجها فلما عرضت القضية على مجمع المواطنين في مدينة (نفر) صدر الحكم بان العقوبة ينبغي ان لا تشمل سوى القتلة والفاعلين وقد ترجمت تلك الوثيقة وعرضت على عميد كلية الحقوق بجامعة بنسلفانيا وعضو المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1930 – 1940 لبيان رأيه فيها فأجاب بان القضاة المعاصرين يتفقون مع القضاة السومريين القدامى في هذا الحكم، لأن تلك الزوجة لا يمكن أن تعد شريكة في الجريمة بموجب أحكام قوانيننا فان من ينبغي أن يعد شريكاً في الجرم ليس من علم بارتكاب الجريمة فقط، بل يجب أن يكون قد أوى المجرم القاتل أو أسعفه أو زين له أو ساعده. ووثيقة أخرى تدل على العدالة القضائية اذ يستدل في تلك الوثيقة على أن المحاكم السومرية لم يكن يحق لها أن تصدر حكماً على شخص يرفع أمره إليها ما لم يكن حاضراً المحاكمة أو بلغ بالحضور فلم يحضر(19). بناءً على ما تقدم فان الأصول القديمة لفكرة حقوق الإنسان يمكن أن تلاحظ بصورتها البدائية مع ظهور التشريعات العراقية القديمة والإصلاحات المالية والاجتماعية التي شهدها العراق القديم فلا يمكن الحديث عن الحقوق والواجبات ضمن المجتمع إلا في ظل القانون أو الأعراف المطبقة من جانب البشر، وقد عبر العراقيون القدماء بشكل أو بآخر عن فهم لهذه الحاجة الإنسانية فشرعوا القوانين التي كفلت لكل الأطراف حقوقها ضمن الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع البشري في ذلك الوقت، وإذا كانت المجتمعات القديمة الأخرى قد سنت بدورها قوانين خاصة بها وطبقت أعرافاً اجتماعية في علاقات أطرافها فانه مما لا شك فيه أن هاجس العدالة كان مسيطراً على المجتمع العراقي القديم بشكل متميز عن بقية المجتمعات القديمة، ومن ثم فان الأصول البدائية والأفكار الأولية لجوانب من مفهوم حقوق الإنسان كان معروفاً في المجتمعات العراقية القديمة وهو ما عبرت عنه القوانين التي طبقت في ذلك الزمان بشكل أو بآخر. كذلك يتعرض الأستاذ جاكوبسن في بحثه الموسوم (الديمقراطية في بلاد ما بين النهرين) والدكتور عامر سليمان في كتابه الموسوم بالقانون في العراق القديم إلى جانب مهم يتعلق بالبحث المتقدم اذ يشير الكاتب الأخير إلى أن التناقض بين الحكم الديكتاتوري المطلق الذي تميزت به ممالك العراق القديمة في الآلف الثاني قبل الميلاد، وبين وجود بعض المظاهر الديمقراطية فيها حمل العلامة جاكوبسن على دراسة الأساطير الدينية، والملاحم والقصص السومرية والأكدية للتعرف على الحال الذي كان عليه العراق القديم في الألف الثالث قبل الميلاد وما قبل هذا التاريخ، وقد انتهى هذان الكاتبان وغيرهما إلى أن الحكم في بلاد ما بين النهرين يستحق أن يوصف بالديمقراطية البدائية، فقد كانت آلهة أولئك السكان القدماء مقيدة بقرارات مجلسها وكان لذلك المجلس صلاحيات دينية وعقابية معينة لتحديد الآجال ومحاكمة الإنسان على ارتكابه ما يغضب الآلهة، وانتخاب أحد الآلهة ليكون رئيساً، ومنحه السلطة المطلقة في حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية وإسباغ الصفة الملكية على إنسان ليحكم باسم الآلهة على الأرض، وخلع تلك الصفة عنه، كما أكد هؤلاء على أن الغاية من تخويل السلطة الملكية لإنسان على الأرض هي بهدف حماية الحقوق الأزلية التي خلق الكون بموجبها، وهذه حقائق تحكم الآلهة والبشر، أما السبيل إلى ذلك فنشر العدالة وإصدار القوانين ومراقبة حسن تطبيقها فان صدق كل ذلك فان أولئك القدماء هم أول من رسم مخططاً بدائياً للديمقراطية والعدالة وفلسفة القانون، وأول من ذهب إلى وحدة القانون العادل في السماء وعلى الأرض بين الآلهة وبين البشر(20). ضمانات تحقيق العدالة أما ضمانات تحقيق العدالة في حضارة وادي الرافدين فيمكن ردها إلى مبدأ خضوع الحكام لسيادة القانون، والقانون، والقضاء. فمبدأ خضوع الحاكم لسيادة القانون كان ولا يزال يعد من المبادئ الأساسية لتحقيق العدالة وهو من أهم الأهداف التي تسعى الدول إلى تحقيقها في الوقت الحاضر إذ تتحقق فكرة المساواة في جانب منها يتحقق المبدأ المذكور، وهو يعني خضوع السلطة إلى جانب الأفراد إلى حكم القانون الصادر عن الدولة والدولة التي يخضع فيها الأفراد والحاكم لحكم القانون يطلق عليها تسمية الدولة القانونية على أن خضوع الحاكم يكون بالاستناد إلى التقييد الذاتي، ومن ثم فان هذا الخضوع من جانب الحاكم للقانون يختلف عن خضوع الأفراد له، ويبدو أن هذا المبدأ كان معمولاً به بشكل أو بآخر في العراق القديم فإذا كان الملوك هم الذين يصدرون القوانين وإذا كانت أوامرهم وكلماتهم هي القانون فان خضوع سلطانهم كان مقيداً بقواعد العدالة فالقواعد الدينية والعرفية والقانونية كلها شكلت قيوداً على سلطة الحاكم، فالتزام الملك بضمان وتحقيق العدالة كان يعد من أبرز الأمور التي تقود إلى ازدهار مملكته وهناك نص من أدب الحكمة تضمن النصائح الموجهة إلى الحاكم إذ تلزمهم بتحقيق العدل بين المواطنين ويعود تأريخه إلى العصر الآشوري الأخير (911-612 ق.م) إذ جاء فيه (أن الملك إذا لم ينشر العدالة …. وإذا لم يستمع إلى نصح مستشاريه، فان حياته ستكون قصيرة وان رعيته ستثور عليه وان مملكته ستتهاوى). ويبدو أن الحكام قد طبقوا شيئاً أو أشياء مما تغنوا به من أفكار عن العدالة ففي زمن حمورابي أرسل بعض الأفراد رسائل يشكون من تجاوز بعض الموظفين على حقولهم وأموالهم دون وجه حق فأرسل حمورابي إلى حاكم المدينة يخبره أنه أخذ من المدعي أرضه التي يمتلكها منذ ثلاث سنوات، كما سأله عن سبب أخذه للمحصول من الرجل وأمره بقراءة لوح التعليمات وإرجاع الحقل وغلتها طبقاً لهذه التعليمات. كما توجد وثيقة هامة أخرى إذ تشير سابقة حدثت قبل 3400 عام في مدينة نوزي (Nuzi) القديمة وهي تبعد حوالي عشرة أميال عن مدينة كركوك الحالية إلى مبدأ سيادة القانون من جهة التطبيق فقد سيق حاكم هذه المدينة المدعو (كوشي – حارب) إلى المحكمة لمحاكمته عن التهم التي وجهت إليه بأخذ الرشوة والغش وهتك العرض، وقد استمع القضاة وهم ثلاثة إلى دفاع الحاكم المتهم الذي كانت الأدلة ضده، إذ حضر مجموعة من الشهود وكان من بينهم أحد أعوانه فلم يجرأ الحاكم على نفي تلك التهم وأدين بهذه الجرائم ونال العقوبة القانونية عليها(21). أما القانون بوصفه من ضمانات تحقيق العدالة في العراق القديم فهو يعد الوسيلة الأكثر ثباتاً في تحقيق هذا الهدف إذ انها كانت أشبه بتقارير ملكية موجهة إلى الآلهة، وتتضمن القضايا التي فصلت فيها المحاكم التابعة للملك والدولة واتخذت بخصوصها قرارات عادلة لتثبيت عدالة الملك واستقامته أمام الآلهة. ودراسة جانب من القوانين العراقية القديمة يظهر الهاجس الذي ظل مسيطراً على المشرع في بلاد ما بين النهرين وحلمه بتحقيق العدالة فعلى سبيل المثال أخذت القوانين في وادي الرافدين بمبدأ عدم التعسف في استعمال الحق الفردي، وهو مبدأ يستند إلى اعتبارات العدالة كما نصت المادة 137 في شريعة حمورابي على أن ضرورة التزام الزوج الذي يطلق زوجته التي أنجبت له أولاداً، أن يتنازل لها عن نصف ثروته لكي تقوم بتربية أولادها كما نصت المادتين 168 و 169 على عدم جواز حرمان الوارث ورثته من التركة، ولا إنقاص نصيب أي منهم ما لم يرتكب الوارث خطأ جسيماً، وتقدير الخطأ الذي يسمح للوارث حرمان ورثته من التركة يخضع لرقابة القضاء فلا يجوز للمورث حرمان ورثته من التركة إلا بعد صدور قرار قضائي وأن يكون ذلك الخطأ قد حدث منه للمرة الثانية(22). كما ثبت قانون اشنونا المبدأ الذي يقضي بالتعويض عن الضرر الذي يلحقه الجاني بالمجني عليه بما يتناسب مع جسامة الضرر إذ نصت المادة (45) من القانون المذكور على أنه (إذا قطع رجل إصبع رجل آخر فانه يؤدي غرامة ثلثي المنا من الفضة) كما نصت المادة (47) على أنه (اذا كسر قدمه فانه يدفع غرامة نصف مناً من الفضة). ومن الأحكام التي سعت إلى ايجاد نوع من الحقوق القائمة على التضامن الاجتماعي ما جاءت به شريعة حمورابي التي تجعل المدينة وحاكمها الجهة المسؤولة عن تعويض الضرر الذي يتعرض له الأفراد بسبب ارتكاب جريمة سرقة ضدهم، وعدم تمكن السلطات المختصة من التوصل إلى معرفة الفاعل، وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة قتل ولم يتم التعرف على الفاعل فعلى المدينة دفع دية إلى أقرباء القتيل. يتبع > __________________
|
||||
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() عند هذا الحد يشير أحد الكتاب إلى أنه لا يعرف تشريعاً قديماً أو حديثاً يتضمن مثل هذا المفهوم المتقدم الذي يستهدف تحقيق نوع من التضامن الاجتماعي القائم على تحمل السلطة العامة المسؤولية في حماية المواطنين وأموالهم، ويعرف هذا المفهوم في العصر الحديث بنظرية الضرر الاجتماعي ولم يتم تطبيقها حتى الوقت الحاضر إلا في حدود ضيقة اقتصرت على التأمين الصحي والعجز. وهنا يقيِّم ول ديورنت في كتابه قصة الحضارة الإنجاز المتقدم إذ يقول (هل ثمة في هذه الأيام مدينة بلغ صلاح الحكم فيها درجة تجرؤ معها على أن تعرض من تقع عليه جريمة بسبب إهمالها مثل هذا التعويض، وهل ارتقت الشرائع حقاً كما كانت عليه أيام حمورابي أو أن كل الذي حدث لها أنها تعددت وتضخمت)(23). |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() المدخل لدراسة حقوق الإنسان... (1) تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها الأولى وموقف المسيحية منها إذا كانت القوانين والمدارس الفلسفية القديمة قد تعاملت بشكل أو بآخر مع أفكار المساواة والعدالة حيث كان للعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الدور في إظهار مواقف معينة لتلك التشريعات والمدارس فان أمر تقييم بعض هذه الجوانب أو الأفكار يمكن ان يساعد على فهم الحال بشكل أفضل كما أن التطرق لموقف المسيحية من هذه المسألة يساهم في إسدال الستار على مرحلة تاريخية مهمة حول الموقف من بعض الأصول الفكرية التي تقوم عليها مبادئ حقوق الإنسان. المطلب الأول تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها التاريخية الأولى إن الأسس العامة التي تبرر المجاهرة بحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لا تخرج عن مفاهيم العدل والحرية والمساواة وإذا كنا قد تعرضنا لمفهوم حقوق الإنسان من خلال التشريعات ومواقف بعض الفلاسفة والمدارس الفكرية التي ظهرت في العصور الأولى فانه يحق لنا أن نتساءل عن القيمة الحقيقية للأفكار التي طرحناها، وهذا يستدعي منا تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها التاريخية الأولى، وهي عملية تتطلب الإشارة إلى مجموعة العوامل المكونة للمجتمعات البشرية فالعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كلها عوامل مهمة في الوصول إلى تقييم متوازن لهذه الحقوق التي نسعى لمعرفتها وفهمها وتقييم مدى احترامها. ان الإيمان بالإنسان والولاء أو الانتماء للإنسانية، هما اللذان يثيران في طبيعة الإنسان الخيرة أعمق الدوافع وأكثرها صدقاً باتجاه الارتقاء بمستوى الكائن البشري ولكي يكون المسخر لخدمة غيره إنساناً بشرياً نابهاً فهل عاملت الأمم والشعوب القديمة في الفترة التي أشرنا إليها بعضها البعض أو الطبقات الفقيرة والمستضعفة منها بشيء من الرحمة؟ ان الإجابة يمكن أن تكون واضحة من خلال الإقرار ان نظام الرق الذي كان قائماً في تلك الفترة ربما ظل أكبر الإهانات الموجهة للإنسان، هذا النظام الذي جعل من الإنسان موضوعاً ومحلاً للتصرفات القانونية وليس فقط طرفاً وشخصاً للقانون وكانت الحروب هي المسبب الأكبر لاستمراره بغية استمرار الحياة ونشاطها الاقتصادي الذي كان يعتمد عليها بشكل كبير، ومن ثم فان عدم المساواة بين طبقات أو فئات المجتمع ظل عاملاً من عوامل عدم احترام الأسس الضرورية لحق كل إنسان في العيش بشكل متساو مع غيره من بني البشر، وإذا كانت الآلات الحربية التي طورت بشكل مطرد على أيدي الأقوام القديمة وكانت تعد عاملاً من عوامل النجاح في الحروب من أجل تحقيق الأمن والاستقرار على الصعيدين الداخلي والخارجي فان التجارب التاريخية تؤكد أن تطبيق مفاهيم الحقوق الإنسانية من خلال قوانين الدولة تلعب دوراً مهماً في تحقيق الهدف المنشود فالتجربة الرومانية على سبيل المثال التي قدمت قوانينها أفكار الحرية والمساواة والديمقراطية بشكل أو بآخر ولكنها حصرت هذه المفاهيم في فئات معينة الأمر الذي أفقدها ولاء الأفراد. وبعد هزيمة الرومان على يد القبائل الغالية فقد اقتنع الرومان بتغيير تنظيم جيشهم الأرستقراطي وتطبيق مبدأ المساواة العامة بين الناس، ومن ثم فقد أصبح العامة مواطنون وكان عليهم الاشتراك في الجيش وقامت الدولة مقابل أعمال هذه الفكرة بتوزيع الأراضي على من لم يملك أرضاً وخول الدستور الجديد الجمعية الشعبية إجازة القوانين باتخاذ القرارات الخاصة بالحرب والسلم، ومع ذلك فان هذا لم ينفِ الصفة الإمبريالية لحروب الإمبراطورية الرومانية فالطبقة الأرستقراطية بقيت مسيطرة على المجالس الشعبية إذ كان العامة يدلون بأصواتهم لهذه المجموعات الأرستقراطية التي كانوا يشعرون معها بنوع من الأمن، أو لأنهم تعودوا الخضوع للسلطة أو لعلهم تعلموا التسلسل القيادي من خلال خدمتهم العسكرية ويصف أحد الكتاب عظمة القسوة التي وجدت في الإمبراطورية الرومانية حيث يقول (أن الفقراء الرومان المنبوذين، والأيامى والمنكوبات اللواتي تدوسهن الأقدام، وحتى الكثيرين من الرومان المتعلمين وأولاد الناس لاذوا بأعدائهم. لقد كانوا يبحثون عن الإنسانية الرومانية بين البرابرة (القبائل الجوالة) حتى لا يهلكو من قسوة البربرية بين الرومان… لقد انطلقوا ليعيشوا بين الهمج في جميع الأنحاء ولم يندموا على فعلتهم قط، وفضلوا أن يعيشوا أحراراً تحت مظهر العبودية على أن يعيشوا تحت قناع الحرية)(38). ولم تكن معاملة العبيد على درجة واحدة عند الأمم فلدى الجماعات البدائية كانت معاملتهم حسنة، ولم تكن سلطة السادة مطلقة عليهم وكان يعتبر العبد فرداً من أفراد الأسرة، وتميزت روما عندما كانت مدينة صغيرة بمثل هذا النوع من المعاملة مع عبيدها، إلا ان الصورة تغيرت عندما أصبحت إمبراطورية، فقد أصبح العبيد عنصراً أساسياً في اقتصاد الدولة وبررت روما انحطاط العبد إلى درجة الحيوان لتقوم باستغلاله بالطريقة التي تناسبها، فكان للسيد الروماني كامل الحق في أن يتصرف بحياة عبيده ان شاء أحياهم وأن شاء قدمهم لمصارعة الأسود حتى الموت(39). أما الرق لدى الشعوب الشرقية فقد كانت المعاملة التي يلقاها العبيد في الحضارات الشرقية أكثر رحمة من الغرب. عليه فان ما يعرف بحقوق الإنسان من الناحية الواقعية لا يمكن أن يقال إنها كانت معروفة في تلك الحضارات القديمة بالشكل الذي يحفظ كرامة البشر بعيداً عن الجنس أو العرق أو اللون أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد. أما القوانين أو التشريعات التي حاولت ان تؤكد على أفكار كالعدالة بوصفها هدف التشريع أو القانون فهي لم تخرج على وجه العموم من الإطار الاجتماعي القائم على وجود طبقات متعددة في المجتمع كما أنها لم تخرج عن الإطار الاقتصادي لتلك المجتمعات القائمة على الحرب بشكل أو بآخر، وهذا أمر لم تسلم منه حتى المدارس الفلسفية والأفكار التي دعت إليها. المطلب الثاني موقف المسيحية من فكرة حقوق الانسان يمكن الإشارة إلى وجهتي نظر تتعلقان بموقف المسيحية من الأفكار العامة التي تقوم عليها فكرة حقوق الإنسان فيشير جانب إلى أن المسيحية قد ركزت على كرامة الإنسان وعلى المساواة بين جميع البشر على اعتبار أنهم أبناء الله، ووضعت حجر الأساس لتقييد السلطة إذ أن الأخيرة تقرر بالنتيجة من أجل خدمة الإنسان ويتوجب عليها بالتالي احترامه ولا يجوز للسلطة الزمنية أن تتجاوز اختصاصها فتتدخل في الأمور الدينية وإلا فانها في هذه الحالة ستخالف مبدأ (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) وتصبح مقاومتها أمراً مشروعاً(40). وإذا كانت المسيحية التي نادت بمبدأ أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله وما يمثله ذلك من فصل بين السلطة الدينية والدنيوية فضلاً عن فكرة العدالة وباتخاذ الأسرة والكنيسة والدولة وسائل لتحقيق السعادة للإنسان واعتبار الناس أخوة متساوين أمام الله في الحياة الأخرى، وفتحت أبواب الكنائس للعبيد ودافعت عن الفقراء والمستضعفين ضد الأغنياء فتطبيق هذه المبادئ كان من الممكن أن يؤدي إلى نجاح المسيحية في تقليص التفاوت الطبقي وإشاعة العدالة والمساواة في المجتمع إلا أن هذه المبادئ لم تطبق. وإذا كان المجال قد فتح في عصر قسطنطين لحرية الاعتقاد إلا أن ذلك قد زال بعد أن أصبحت المسيحية ديناً رسمياً للدولة وعوقب من يدين بغير دين الدولة بقسوة بالغة، وكان ذلك بداية الاستبداد الذي مارسته الكنيسة حيث عطلت إرادة الفرد وحرمته من أية مكانة له عندها(41). ويؤكد أحد الكتاب على أن الأفكار ذات الطابع السياسي التي طرحها المسيحيون الأوائل لم تكن تعبر بأي شكل من الأشكال عن خصوصية محددة بهم اذ أنها في حقيقتها أفكار سبق أن طرحها غيرهم، فهم آمنوا شأنهم في ذلك شأن الرواقيين بالقانون الطبيعي ومبدأ المساواة بين البشر وبضرورة التزام الدولة بالعدالة فضلاً عن مبدأ مهم أضافوه أعتبر المحور الذي دارت بخصوصه المناقشات طيلة الفترة التي امتدت حتى القرن العاشر الميلادي وهو مبدأ إطاعة السلطة الشرعية واحترامها تطبيقاً لقول السيد المسيح (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) واطاعة لوصية القديس بولص القائلة (لتخضع كل نفس للسلاطين لأنه ليس هناك سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم الإدانة فان الحكام ليس أداة خوف للأعمال الصالحة بل للشريرة أفتريد ألا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فسيكون لك مدح فيه لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إذا فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الله المنتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل، أيضاً لمن له الإكرام)(42). وطبقاً لهذه الكلمات فإن إطاعة السلطان كانت تعد فضيلة مسيحية لم ينكرها أي من زعماء الكنيسة، فهي طاعة يأمر بها الله، وهذا القول يسبغ على التعاليم المسيحية طابعاً يغاير النظرية الدستورية الرومانية التي ترى أن سلطة الحاكم مستمدة من الشعب(43). عليه فان هناك من يرى أن معاملة الرقيق على سبيل المثال كانت أفضل عند الشرقيين منها عند الغرب وخاصة الإمبراطورية الرومانية فشرائع الشرق وقوانينه كانت على العموم أكثر رحمة بالرقيق من قوانين الغرب، وأن المسيحية، وهي رسالة إنسانية، اضطرت بتأثير الظروف التي عاشت في ظلها في أوربا أن تتأثر بالفكر الغربي في النظرة إلى الرقيق(44). واستمر الحال على هذا المنوال حتى في العصور الوسطى المسيحية التي اعتبرت الرق نظام الهي وأوصت العبيد بتحمل ما يلقوه من سوء معاملة أسيادهم إلا أنها في الوقت نفسه دعت السادة إلى أن يرأفوا بعبيدهم المسيحيين دون غيرهم إلا إذا تنصروا(45). هوامش الفصل الأول 1. د. محمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام، دراسة مقارنة مع الإعلان العالمي والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، دار الكلم الطيب، الطبعة الثانية، دمشق-بيروت، 1997، ص9. 2. د. توفيق حسن فرج، المدخل للعلوم القانونية، مؤسسة الثقافة الجامعية، الطبعة الثانية، 1981، ص438-440. 3. المصدر نفسه، ص450. 4. باسيل يوسف، دبلوماسية حقوق الإنسان، المرجعية القانونية والآليات، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص9. 5. د. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الفرنسية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، العدد الرابع، 1972، ص962. 6. د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، الطبعة الأولى، مكتبة الكندي، أربد، 1988، ص11. 7. المصدر نفسه، ص18. 8. المصدر نفسه، ص23-24. 9. إبراهيم السامرائي، الحماية الدولية لحقوق الإنسان في ظل الأمم المتحدة، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية القانون / جامعة بغداد، 1997، ص9. 10. د. توفيق حسن فرج، المصدر السابق، ص184-185. 11. المصدر نفسه، ص186. 12. إبراهيم السامرائي، المصدر السابق، ص29-30. 13. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، عمان، 1988، ص73. 14. المصدر نفسه، ص73. 15. المصدر نفسه، ص74-75. 16. حضارة العراق، الجزء الثاني، بغداد، 1985، ص63-71. 17. المصدر نفسه، ص72. 18. صلاح الدين الناهي، العدالة في تراث الرافدين وفي الفكرين اليوناني والعربي الإسلامي، الطبعة الأولى، الدار العربية للموسوعات، بيروت-لبنان، 984، ص39. 19. المصدر نفسه، ص39-40. 20. المصدر نفسه، ص35-36. 21. د. عباس العبودي، ضمانات العدالة في حضارة وادي الرافدين، دراسات قانونية، العدد الثاني، 2000، بيت الحكمة، بغداد، 2000، ص22-23. 22. المصدر نفسه، ص24-26. 23. المصدر نفسه، ص28-29. 24. المصدر نفسه، ص29-30. 25. د. محمد يوسف علوان، مذكرات في مقرر حقوق الإنسان، الكويت، ص3. 26. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص80. 27. د. محمد يوسف علوان، المصدر السابق، ص3. 28. المصدر نفسه، ص4-5. 29. د. صلاح الدين الناهي، المصدر السابق، ص44-54. 30. د. غانم محمد صالح، الفكر السياسي القديم والوسيط، جامعة بغداد، 109-110. 31. المصدر نفسه، ص131-133. 32. ان الفقهاء الذين طوروا القوانين الرومانية كانوا من أصول شرقية فكايوس من الشمال السوري وبابنيان من حمص وبولس واولبيان من الساحل الفينيقي ومودستيان من صور، فقد أعتمد حبستنيان على هؤلاء الفقهاء ولقبوا بالعلماء العالمين ولفب بابنيان بأمير الفقهاء وكان يطلق على مدرسة بيروت اسم الأم المرضعة للحقوق ومدة الدراسة فيها خمس سنوات. د. عباس العبودي، المصدر السابق، ص19-20. 33. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص86. 34. د. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص167. 35. المصدر نفسه، ص157-158. 36. المصدر نفسه، ص159-160. 37. المصدر نفسه، ص163. 38. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص95-97. 39. المصدر نفسه، ص99. 40. د. محمد يوسف علوان، المصدر السابق، ص10. 41. أزهار عبد الكريم عبد الوهاب، الحقوق والحريات العامة في ظل الدساتير العراقية، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون والسياسة/ جامعة بغداد، 1983، ص3-4. 42. د. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص179. 43. المصدر نفسه، ص180. 44. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص100. 45. المصدر نفسه، ص99. الفصل الثاني حقوق الإنسان في الإسلام سنتعرض في هذا الفصل الى المقصود بحقوق الانسان في الاسلام من حيث النظرية والتطبيق، وفي المراحل المختلفة التي مرت بها الدولة الاسلامية. فما هي الأسس التي تقوم عليها فكرة حقوق الانسان في الاسلام؟ وهل تتفق هذه الأسس مع الأسس العالمية التي ظهرت في العصر الحديث وهي تمثل بشكل أو بآخر هاجس الانسان الأول في تحقيق العدالة؟ فكيف حدد الاسلام حقوق الانسان كفرد وكعضو في الجماعة؟ وما هي المعادلة التي طرحها الاسلام لإخضاع الدولة للشريعة التي هي بمثابة القانون في الدولة الحديثة؟ ثم ما هي تفاصيل الحقوق الاساسية التي اعترف الاسلام بها للانسان؟ أن ما تقدم من تساؤلات يمكن البحث فيها والإجابة عنها من خلال دراسة الأسس الفكرية التي طرحها الاسلام لحقوق الانسان، والتطرق لمبدأ خضوع الدولة الاسلامية للقانون أو الشريعة، ثم البحث في تفاصيل الحقوق والحريات الاساسية التي أقر الاسلام بها للانسان. المبحث الأول المنطلقات الأساسية لحقوق الانسان في الاسلام أن الكلام في هذا العصر كثير عن مبادئ حقوق الانسان وأن تعداد هذه الحقوق الاصلية والجزئية لا حصر لها، وإذا كان من الضروري فهم المقصود بحقوق الانسان في الاسلام بصورة صحيحة فإن البداية يجب أن تكون من المنطلقات الفكرية التي تمثل الجوهر أو الأساس لفكرة حقوق الانسان فهذه هي الخطوة الأولى باتجاه دراسة تفاصيل هذه الحقوق، وقبل ذلك معرفة موقف الدولة الاسلامية من هذه المسألة. المطلب الأول الأساس الإسلامي لحقوق الانسان ترتكز مفاهيم حقوق الانسان في الشريعة الاسلامية على طابع الضرورة المؤسس على العقيدة، وهو طابع يقوم على ضمان معنى الإنسانية، فالإسلام دين عالمي ولم يرسل النبي محمد (ص) للعرب فقط فدعوته جاءت للناس جميعاً، وقد انطلق الاسلام من قاعدة أساسية ثابتة فيما يتعلق بحقوق الانسان، وهي أن أصل الانسان واحد ومصيره واحد. قال تعالى(ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين)المؤمنون، 12. وقد تبنى الاسلام في نظرته للأمور كافة فلسفة وسطية حيث الاعتدال أبرز ملامحها، بمعنى مجانبة الإفراط والشذوذ والتفكك والتفريط والمبالغة والتسيب بل يقوم على الاتزان. قال تعالى(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) البقرة،143 (1)، وينظر الاسلام الى الانسان باعتباره أغلى الكائنات وأعظمها طالما كان مخلصاً لله تعالى الذي سخر له الكون ليحقق له السعادة. قال تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الجاثية13. والحقيقة ان تكريس الكون بما فيه للانسان إنما هو تكريم له من الله تعالى ومن تفضيل الله للانسان ان جعله خليفة في الأرض لما تمتع به من الطاقات والقدرة والاستعداد للقيام بمهام المسؤولية في الحكم. قال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة،30 . مما تقدم يبدو جلياً أن الأساس الاسلامي لحقوق الانسان إنما يقوم على التكريم الإلهي للانسان فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ومحور الرسالات السماوية وله سجدت الملائكة وفضل على سائر المخلوقات وسخر له ما في الكون، وقد شرع الاسلام الكثير من الأحكام وبيّن الحقوق والواجبات في جوانب الحياة المختلفة وإلزام المسلمين أداءها والوقوف عندها، والتقيد بها فقال تعالى ( تلك حدود الله فلا تقربوها)، فالحدود هي الفواصل بين الحقوق والواجبات والأوامر والنواهي والحق والباطل، ومن ثم فإن الأساس في الاسلام لحقوق الانسان هو ما قرره الاسلام في تشريعاته وأحكامه وان هذه الحقوق هي منحة من الله تعالى ويمكن ان يعبر عن الأساس لحقوق الانسان في الاسلام بمبدأ (العبودية لله تعالى) فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالإسلام دين الفطرة وهو الحامي لها والمدافع عنها ومن مستلزمات هذا الحق أن يرعى كل فرد من الناس هذا الحق لأمثاله بمقدار ما يرعاه لنفسه ويكون هذا الحق الانساني المطلب الأساسي للناس جميعاً على مستوى الفرد والجماعات، ويرى آخرون أن حقوق الانسان في الاسلام تنبع من العقيدة وبشكل خاص من عقيدة التوحيد فالله الواحد خلق الناس أحراراً ويريدهم أن يكونوا أحراراً ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها، قال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(2). والحقيقة أن مدلول هذه العبارات واحد فحقوق الانسان في الاسلام تنبع من التكريم الإلهي له بالنصوص الصريحة وهو جزء من التصور الإسلامي لهذه المسألة القائمة في جانب مهم منها على العبودية لله تعالى وفطرة الانسان التي فطره الله عليها فكرامة الانسان هي الأساس لكل الحقوق الأساسية، فهي دليل إنسانية البشر وإذا كانت الكرامة الإنسانية هي المنبع لحقوق الانسان جميعاً فقد كانت هذه المسألة ولازالت غاية جميع القوانين والدساتير وعماد حياة الفرد الاجتماعية وهذا ما عبرت عنه المواثيق والإعلانات والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان حيث جاء في الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 أن(الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية والثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم)، أن ما تقدم يظهر أن حقوق الانسان مرتبطة ارتباطاً جذرياً بالعقيدة الصحيحة وأن الإيمان بالله تعالى أولاً وبالشريعة المنزلة ثانياً هو مصدر الحقوق وأساسها(3). أذن حقوق الانسان التي يقررها الاسلام هي في حقيقتها ليست منّةً من حاكم أو دولة أو اية جهة محددة وإنما هي حقوق أزلية فرضتها الإرادة الإلهية فرضاً كجزء لا يتجزأ من نعمة الله على الانسان حين خلقه في أحسن صورة وأكمل تقويم فحقوق الانسان في الاسلام موضوعة ومقررة سلفاً، وهي تتناسب مع كونه انساناً متميزاً على سائر المخلوقات إذ أوكل له دورٌ في الحياة مما يعني إعطاءه مقومات الحياة الكريمة. إن الأسس التي تقوم عليها مفاهيم حقوق الانسان انما تجد اساسها في مفاهيم بنى عليها المسلمون حياتهم فمفاهيم العدل والحرية أساسية لتأسيس الافكار الخاصة بحقوق الانسان وقد جعل الاسلام من العدل اساساً للحكم. قال تعالى (ان الله يأمر بالعدل والإحسان) النحل،90، والعدل غاية في الاسلام الذي نادى بالحرية والمساواة ويختلف المفهومان عما هو عليه الحال بالنسبة للمدارس الغربية التي تنادي بالحرية الفردية على حساب المساواة أو المساواة على حساب الحرية الفردية، فالحرية والمساواة في الاسلام مقيدة وذلك بهدف تحقيق العدل العام المعبر عنه في الشريعة التي تنص على مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، والعدل ان يعطي الحاكم كل ذي حق حقه ويسمح الاسلام بدخول الافراد في سباق لتحقيق مصالحهم ولكنه يؤكد على ضرورة مساعدة الانسان لأخيه الانسان وعند عدم تحقيق هذه المساعدة تتدخل الدولة عندها، ومن ثم فان الشريعة تنص على تحريم القتل حفاظاً للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وتحريم الزنا حفاظاً للنسل، وتحريم السرقة حفاظاً للأموال، وتحريم القذف حفاظاً للعرض، وتحريم الخمر حفاظاً للعقل، ومعاقبة المرتد حفاظاً للدين وهذه كلها ضروريات تحقق العدالة الاجتماعية في جوانب اساسية منها، كما تقرر أحكام الاسلام المساواة بين افراد المجتمع وجعل التفضيل في العمل الصالح. قال تعالى ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(4) . فتتميز حقوق الانسان وحرياته الاساسية في الاسلام بأنها ذو بعد أخلاقي عميق وهي ذات خصائص ثلاث 1- هي أنها منح ربانية الهية وليست منة من دولة أو حاكم. 2- انها شاملة من حيث الموضوع لكل الحقوق والحريات وعامة لسائر الجنس البشري، وبذلك فإن الشريعة الاسلامية تكون قد أدانت التفرقة العنصرية والنظم التميزية الأخرى على المستوى الوطني والمستوى الدولي. 3- انها كاملة وغير قابلة للإلغاء أو الوقف لمجرد ضيق الدولة أو الحاكم بمباشرتها لأنها جزء من الشريعة الإسلامية(5). يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||
|
![]() المطلب الثاني تابع القادم :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(2و3) |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 5 | |||
|
![]() المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(2و3) حرية العقيدة أو الرأي فالإسلام وضع هذا القيد حماية لمصلحة الجماعة ودرأً للمفسدة وبيان ذلك أن الردة عن الاسلام وإعلانها على وجه الخصوص انما هي مفسدة للجماعة وإضراراً بها مع سبق الاصرار لأن المرتد ما كنا نعرفه لولا اعلانه لردته المتعمدة بهدف التشكيك بعقائد الناس التي اتخذت الاسلام اساساً في قيامها وبقائها والدليل على أن المرتد المعلن ردته يقصد فعلاً هذا الاضرار بمصالح جماعة المسلمين قوله تعالى (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)، آل عمران،73، وهنا لابد من الاشارة الى أن الرسول (ص) قد أكد على حرية العقيدة في أول اعلان دستوري لحقوق الانسان عندما أسس دولته في المدينة اذ أكد هذا الاعلان على أن (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)(18). أخيراً من المفيد ان نسجل شهادة المستشرق البريطاني الكبير السير آرنولد بهذا الصدد حيث يؤكد على (إننا اذا نظرنا الى التسامح الذي أمتد الى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الاسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس الى الاسلام بعيدة عن التصديق(19). الفرع الثاني - الحقوق السياسية والمراد بها الحقوق التي تنظم علاقة الانسان بالدولة والمجتمع وإذا كان اقامة الدولة من الضرورات فإنها لا تقوم إلا بالأنظمة والقوانين ومنها ما ينظم علاقة الأفراد بالدولة وقد تتعارض هذه الأنظمة والقوانين مع حقوق الانسان ذات الطابع الشخصي، ومن هنا تنشأ الحقوق السياسية للأفراد في الدولة. إن ميدان الحقوق السياسية ميدان واسع وسوف يقتصر حديثنا هنا على ما تمنحه الدولة للأفراد من حقوق ذات صلة شخصية بهم ضمن مفهوم وحدود المصلحة العامة كحرية الرأي والتعبير والحق في الاشتراك في شؤون الحكم (الشورى). أ- حرية الرأي والتعبير وحق الشورى ان الاسلام يعتبر الحكم مشاركة بين الحاكم والمحكوم، وأن الحاكم انما يقوم وجوده على أساس تحقيق مصالح الناس ومن هذا المنطلق وضع الفقهاء القاعدة الفقهية التي تقول (تصرفات الأمام منوطة بالمصلحة). ومن ثم فإن حرية الرأي والتعبير تتمثل في قدرة الانسان في ابداء وجهة نظره بوسائل مختلفة ومن بين المسائل التي يمكن أن يعبروا عن وجهة نظرهم بخصوصها المسائل المتعلقة بسياسة الحكم، وقد كان الخلفاء يطلبون نصيحة الناس وآرائهم في المسائل المختلفة. أن الضمان لحرية التعبير انه يعد واجب من واجبات الأمة وهو واجب ديني كما أنه من جهة ثانية لا يعتمد على إذن من سلطان طالما أن القصد منه رضا الله تعالى والتذكير بطريق العدل والحق، كما أن لحرية التعبير حدوداً لا يجب أن يتم تجاوزها ومن ذلك أن تتقيد بالحق والحجة والبرهان كما ينبغي أن لا تؤدي الى حرمان الآخرين من إبداء رأيهم كما يجب أن يكون الرأي المعبر عنه بعيداً عن الظن والوهم وسوء النية. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، الحجرات، 49،6. ويرتبط بالحق في حرية الرأي والتعبير ما يعرف بحق الشورى الذي يعني ضرورة التشاور بين المسلمين من الرعية والحكام، اذ أن أساس الشورى طبقاً للرأي الراجح في الفقه الاسلامي إنما يوجد في آيات قرآنية، قال تعالى (وشاورهم في الأمر) كما أن سيرة الرسول (ص) تؤكد هذا المنهج. والحقيقة أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلفاء الراشدين، فما يذكر أن الأمام علي بن أبي طالب حين خرج عليه الخوارج وكانوا نحو ثمانية آلاف بعد قبوله تحكيم الحكمين في النزاع الذي قام مع معاوية اذ لم يعمد الأمام علي الى استعمال القوة معهم بصورة تلقائية بل بعث اليهم الصحابي الجليل أبن عباس ليناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف فبعث الى الآخرين أن ارجعوا فأبوا فأرسل اليهم (كونوا حيث شئتم بيننا وبينكم ألا تسفكوا دماً حراماً ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحداً فإن فعلتم نبذت الحرب معكم) كما قال لهم (لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فساداً) وهذه الحادثة تظهر أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلافة الراشدة، ومع ذلك فإنه لا يمكن الادعاء أن هذه الحرية كانت مكفولة في الغالبية العظمى مما تلا هذا العهد من تاريخ المسلمين، ولقد كان الخليفة منذ عهد الخلافة الأموية يطلب الى الناس قبل وفاته مبايعة ولي عهده وهذه المبايعة لم تكن في حقيقة الأمر تتم في حرية تامة إنما كان ( الاكراه فيها أكثر وأغلب) على حد تعبير أبن خلدون، وفي العهد العباسي قل من الوزراء من لم يلق حتفه على يد أحد الخلفاء ومع ذلك فقد عرف في بعض العهود بعض العلماء الذين تكلموا بشؤون الحكم وانتقدوا تصرفات الخلفاء والأمراء دون أن يصيبهم أذى كالحسن البصري في عهد الأمويين إلا أن هذه الحالة تمثل الاستثناء عن القاعدة(20). ب- موقف مشروع الدستور الاسلامي من الحقوق السياسية أن تقييم أية تجربة لابد أن يتم من خلال فهم النظرية أو الأسس الفكرية التي جاءت بها ومقارنتها مع الأسس العملية أو الجانب التطبيقي وبهذا الخصوص يمكن بحث ذلك من خلال مشروع الدستور الاسلامي الذي لم تعتمده بعد أية دولة اسلامية اذ يحتوي هذا الدستور على رؤية متكاملة في هذا المجال. فالمادة الرابعة منه تنص على قيام الشعب بمراقبة الأمام ومساعديه ومحاسبتهم كما أن الشعب مصدر السلطات حيث تقر المادة 29 منه بحريات سياسية مهمة كحرية الفكر وإبداء الرأي وإنشاء الجمعيات والنقابات والانضمام اليها وحرية الانتقال والاجتماع، كما تقر المادة 41 منه حرية الصحافة وتمنع الدولة من محاربة وقتل خصومها السياسيين اقتصادياً اذ تنص المادة 17 منه على (حق العمل والكسب والتملك مكفول لا يجوز المساس به …) وفي المادة 42 على أن (للمواطنين حق تكوين الجمعيات والنقابات) وفي المادة 49 التي نصت على (لا جناح على من أبدى رأيه ضد البيعة للإمام قبل تمامها) كما لا يقر الاسلام بالحصانة المطلقة لرئيس الدولة إذ نصت المادة 45 على (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا للإمام في أمر مقطوع بمخالفته للشريعة) والنص في المادة 51 على (يخضع الأمام للقضاء وله الحضور بوكيل عنه) أما المادة 94 فقد أكدت على عدم جواز منع القضاء من سماع الدعوى ضد الامام والحاكم. كما يقر الاسلام ومشروع الدستور الاسلامي الحق في الشورى والرقابة على دستورية القوانين في المواد 61، 71، 83، 84(21). فضلاً عما تقدم تمنع نصوص مشروع الدستور الاسلامي الحاكم من وضع يده على الأموال العامة أو قبول الهدايا، كما لا تجيز الشريعة، ومشروع الدستور الاسلامي العبث بالسلطة القضائية بهدف التنكيل سياسياً بالأفراد أو حقوقهم السياسية المكفولة لهم شرعاً كما لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية(22). الفرع الثالث - حقوق الأسرة تعد الأسرة النواة الحقيقية التي أقر الاسلام من خلالها منظمة الزواج والإنجاب وقرر فيها المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات، قال تعالى(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ولكن هذه المساواة ليست مطلقة في الجزئيات بل يفضل كل منهما الآخر في جانب، وقد جاء الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان فنظم جانباً من الاحكام المتعلقة بالأسرة والزواج بشكل موجز في مادته الخامسة وفي فقرتين هما: (1. الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع والزواج أساس تكوينها، وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية. 2. على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها). ويتفرع من حقوق الأسرة في الأمومة والأبوة اذ جاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان مذكراً بما تقدم في فقرته الثالثة من المادة السابعة منه التي نصت على (للأبوين على الأبناء حقوقهما، وللأقارب حق على ذويهم، وفقاً لأحكام الشريعة). وهذا النص يحيل على الشريعة وقد انفرد بالإشارة الى الأقارب بينما ثبتت الفقرة الثانية من المادة السابعة الحق للأب باختيار نوع التربية لأولاده وهو ما انفرد به الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان حيث نصت هذه الفقرة على (للآباء ومن بحكمهم، الحق في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم، مع وجوب مراعاة مصلحتهم، ومستقبلهم، في ضوء القيم الأخلاقية، والأحكام الشرعية). أما حق الطفولة فقد ثبت للأولاد في الشريعة الاسلامية اذ يجب على الوالدين رعاية الصغير منذ الصغر وتربيته وتوجيهه وتعريفه بالحلال والحرام وتعليمه ممارسة العبادات وإقامة الصلات الاجتماعية القوية وتحفيظه القرآن والتسوية بين الأولاد والحقيقة أن حقوق الأبناء المقررة شرعاً هي حق التربية وحق النسب وحق الرضاعة وحق الحضانة. وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان هذه الحقوق في الفقرة الأولى من المادة السابعة التي نصت على أن (لكل طفل منذ ولادته حق على الأبوين، والمجتمع، والدولة في الحضانة، والتربية، والرعاية المادية، والعلمية، والأدبية، كما تجب حماية الجنين، والأم وأعطاءهما عناية خاصة)(23). الفرع الرابع - الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أكدت الشريعة الاسلامية على ضرورة ضمان مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويمكن الاشارة الى بعض منها بصورة موجزة وهي: أ- حق العمل أمر الله تعالى الانسان بالعمل، قال تعالى (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، وهناك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي حثت على العمل اذ قال الرسول (ص) (أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) وقال (ص) (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وضرب الرسول (ص) المثل بنفسه فكان يرعى الغنم قبل البعثة ويقول (ما من نبي إلا رعى الغنم)(24). ولا تتقيد حرية الحق في العمل إلا بموجب القيود العامة في الحلال والحرام وضمن الاحكام الشرعية وألا يؤدي العمل الى الإضرار والضرر بالغير لقوله (ص) (لا ضرر ولا إضرار)(25). وقد أفرد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان مادتين لتأكيد حق العمل إذ نصت المادة 13 على أن العمل حق تكفله الدولة والمجتمع وللإنسان حرية اختياره، وحق العامل في الأمن والسلامة، وحق كل فرد بأجر متساوٍ للعمل، دون أي تمييز بين ذكر أو أنثى، والحق بالأجر العادل والمرضي الذي يكفل العيشة اللائقة للعامل وأسرته مع طلب الإخلاص والإتقان في العمل، ووجوب تدخل الدولة لفض النزاع ورفع الظلم، كما نصت المادة 14 على حق الانسان بالكسب المشروع دون احتكار أو غش(26). ب- حق الضمان الاجتماعي عرف هذا الحق في الفكر الاسلامي المعاصر تحت عنوان (العدالة الاجتماعية في الاسلام) أو (التكافل الاجتماعي في الاسلام). وأعلن رسول الله (ص) حق التكافل الاجتماعي لعمال الدولة على وجه الخصوص فقال (من ولي لنا عملاً، وليس له منزل، فليتخذ له منزلاً – أي من بيت المال – أو ليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة). وفي حديث آخر لرسول الله (ص) قال (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع الى جنبه، وهو يعلم)(27). وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على الحق في الضمان الاجتماعي في المادة 17 التي نصت على (1. لكل انسان الحق أن يعيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية تمكنه من بناء ذاته معنوياً، وعلى المجتمع والدولة أن يوفر له هذا الحق. 2. لكل انسان على مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي يحتاج اليها في حدود الإمكانيات المتاحة. 3. تكفل الدولة لكل انسان حقه في عيش كريم، ويحقق له تمام كفايته، وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية)(28). ج- حق التملك يراد بحق التملك الاعتراف بحق الملكية الفردية للانسان وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء والاستفادة منه واستغلاله، والأصل في الملكية أن تكون للأفراد وهي الملكية الفردية وأقر الاسلام كذلك الملكية العامة للدولة في الأموال التي تعد أساسية لتلبية حاجات الأمة والتي تعد مصدر الثروة، وقد نصت المادة 15 من الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على هذا الحق بالشكل الآتي: (1. لكل انسان الحق في التملك بالطرق الشرعية والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة، ومقابل تعويض فوري وعادل. 2. تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي). كما أكدت المادة 16 في الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على اقرار حقوق الملكية الفكرية اذ نصت على (لكل انسان الحق في الانتفاع بثمرة إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية الناشئة عنه على أن يكون هذا الانتاج غير منافٍ لأحكام الشريعة(29). ان ما تم ذكره من تفاصيل لبعض الحقوق التي أقرت من جانب الشريعة الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال انها جميع الحقوق التي يتمتع بها الانسان في ظل آخر الرسالات السماوية. المطلب الثاني ضمانات حقوق الإنسان في الإسلام لم يقم الإسلام بتأكيد حقوق الانسان المختلفة أو بيانها فهي ليست مجرد شعارات تطرح في مناسبات معينة، ومن هنا قرر الاسلام أنه لا فائدة من منح الحقوق أو النص عليها اذا لم تتوافر الضمانات القضائية اللازمة لحمايتها ووضعها موضع التطبيق وسواء تم ذلك عبر الايمان والقناعة أو من خلال الرهبة والقوة فلا ينفع التكلم بالحق اذا لم يكن هناك نفاذ له والدين بغير قوة تحميه فلسفة محضة. ومن هنا فإن القضاء يعد وبحق من أهم الضمانات التي يمكن أن تحمي حقوق الانسان وتقيم الشرع وتطبق الأحكام العامة ولذلك فقد اعتبر الاسلام القضاء من أركان الدولة وهو من وظائف الأنبياء، قال تعالى (يا داود إنا جعلنك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ...)، الصف 83/26). والإسلام مفتوح الأبواب لجميع الناس لا يدفع أحد المتنازعين أية رسوم مقابل الخدمة القضائية فالدولة تتحمل نفقاته اذ أنه لا يقل أهمية عن الأمن والتعليم والصحة العامة التي تتكفل الدولة بها، وقد رغب الرسول (ص) في القضاء العادل حيث قال (ليوم واحد من أمام عادل أفضل أو خير من عبادة ستين سنة) وقال (ص) كذلك (أن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه)(30). وفي مقدمة الضمانات المقررة في الاسلام لحماية حقوق الانسان هي حق التقاضي المكفول في الشريعة لكل مواطن في الدولة الاسلامية مسلماً كان أم غير مسلم، وهنا روى وكيع عن شريح، قال (لما رجع علي من قتال معاوية وجد درعاً له افتقده بيد يهودي يبيعها، فقال علي: درعي، لم أبع، ولم أهب فقال اليهودي: درعي، وفي يدي، فاختصما الى شريح، فقال له شريح حين أدعى: هل لك بينة، قال نعم، قنبر(مولاه) والحسن أبني، فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال (علي): سبحان الله رجل من أهل الجنة(31). والحقيقة أن المساواة بين الخصوم وإقامة العدالة بينهم مهما تفاوتت مكانتهم الاجتماعية والدينية، سبباً مباشراً لكثير من الناس في اعتناق الاسلام والانضواء مع المسلمين في العقيدة. ومن الضمانات الأخرى لحقوق الانسان هي المساواة بين المتقاضين بغض النظر عن الغني أو الفقير أوالمكانة الاجتماعية أو اختلاف الدين والمذهب والجنسية والحاكم والمحكوم إعمالا لقوله (ص) (من ابتلى بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده)(32). كذلك فالأصل براءة الذمة حيث لا يقام حد أو قصاص على أحد اذا اثبت ذلك أمام القاضي بالأدلة أما اذا لم يتحقق ذلك فلا مجال لفرض العقوبة عليه كما لا يجوز اللجوء الى ضرب أو تعذيب المتهم لانتزاع الاقرار منه وشملت ضمانات التقاضي فيما يتصل بحقوق الانسان جميع المشاركين في العمل القضائي ومنهم الشهود، قال تعالى(ولا يُضار كاتب ولا شهيد)، البقرة،2/282. كما أقرت مبادئ الشريعة جوانب مهمة من حقوق الانسان عند تنفيذ الأحكام القضائية وبهذا يقول الرسول (ص) (أن الله كتب الاحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة). أخيراً لابد من الاشارة الى حقيقة مضمونها أن قضية حقوق الانسان في الاسلام اذا ما كان هناك خلل فيها فان هذا الخلل كان مرده الدولة الاسلامية ابتداءاً من بدايات الحكم الأموي وهو بدوره ناتج عن المشاكل السياسية التي تولدت عن قضية الخلافة والحكم الأمر الذي انعكس بشكل أو بآخر على المسائل الانسانية الأخرى الخاصة بحقوق الانسان، أما الاسلام فالواقع أنه كنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي قد وضع الخطوط العريضة للعدالة داخل المجتمعات الاسلامية على المستوى النظري بهدف تحويل العالم الى مجتمع اسلامي موحد. هوامش الفصل الثاني 1. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص132. 2. د. محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص131-132. 3. المصدر نفسه، ص133-134. 4. د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص188. 5. د. عبد العزيز محمد سرحان، المدخل لدراسة حقوق الإنسان في القانون الدولي، الطبعة الأولى، 1988، ص56-57. 6. المصدر نفسه، ص54. 7. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص138. 8. المصدر نفسه، ص140-141. 9. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص55-56. 10. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص141-142. 11. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص58-59. 12. د. أنور أحمد رسلان، الحقوق والحريات العامة في عالم متغير، دار النهضة العربية، القاهرة – 1993، ص31-32. 13. المصدر نفسه، ص33. 14. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص142-143. 15. د. محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص141-150. 16. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص122. 17. المصدر نفسه، ص132-133. 18. المصدر نفسه، ص163-164، الهامش رقم(100). 19. د. عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص389. 20. المصدر نفسه، ص284-285. 21. أنظر في مسؤولية الخليفة، المصدر نفسه، ص467-470. 22. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص176-177. 23. أنظر في حقوق الأسرة في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص206-276. 24. المصدر نفسه، ص282-283. 25. المصدر نفسه، ص286. 26. المصدر نفسه، ص294. 27. المصدر نفسه، ص297-298. 28. المصدر نفسه، ص302-303. 29. المصدر نفسه، ص318. 30. المصدر نفسه، ص274-376. 31. المصدر نفسه، ص377. 32. المصدر نفسه، ص380. الفصل الثالث تطور الحقوق والحريات لم تكن الحقوق والحريات التي حصل عليها الإنسان وليدة زمن واحد أو مكان واحد إذ ان تطور الحقوق والحريات عملية تمت في أماكن عديدة من العالم تبعاً لتطور تاريخ الأمم والشعوب وما مر عليها من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية وسوف نحاول في هذا الفصل ان نتتبع مراحل التطور التي مرت بها هذه الحقوق والحريات من خلال متابعة الاعلانات التي ظهرت نتيجة الثورات والأحداث السياسية، فضلاً عن المدارس والمذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية. المبحث الأول المذاهب والمدارس والنظريات الفلسفية والفكرية ساهمت المذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية التي ظهرت منذ نهايات العصور الوسطى الأوربية في بلورة اتجاه يخدم بشكل أو بآخر بعض مفاهيم حقوق الإنسان أو الأسس التي قامت عليها هذه الأفكار في العهود اللاحقة. ومن ثم فان التعرض لبعض التيارات أو الأفكار التي شهدتها هذه الفترة أمر يساعد في فهم جانب من الأصول الفكرية لتطور الحقوق والحريات. المطلب الأول العصور الوسطى يقصد بالعصور الوسطى تلك الفترة التي تمتد من الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة فترات أساسية: الفترة الأولى تمتد حتى القرن العاشر للميلاد شهدت أوربا خلالها غزو الجرمان من الشمال والفتوحات العربية في الجنوب، وفي هذه الفترة شهدت الكنيسة تأكيداً لمركزها في إطار الإمبراطورية، وكان هناك إصرار على ضرورة الطاعة للكنيسة والولاء لها كما تم تقبل أية سلطة حتى لو كانت ظالمة وترفض مقاومتها حتى لو جاءت من غير مؤمن، فضلاً عما تقدم فقد سعت الكنيسة إلى اكتساب امتيازات قبل السلطة الزمنية ومما ساعد الكنيسة في تركيز هيمنتها خلال هذه الفترة سيطرة الإقطاع. الفترة الثانية هي التي تلت القرن العاشر والتي تمتد حتى القرن الثالث عشر للميلاد وخلالها تنامت واشتدت قوة الكنيسة حيث شهدنا صراعاً بينها وبين رجال الدولة بحيث أصبحت نظرية السيفين التي وصفها جلاسيوس الأول والتي تقرر نوعاً من المساواة بين السلطتين الدينية والدنيوية موضوعاً منتهياً. الفترة الثالثة امتدت من بداية القرن الرابع عشر وخلالها نشهد المراحل الأولى لانهيار السلطة البابوية، وقيام النظام الاستبدادي مع دعوات لإقامة مجتمع عالمي وحكومة الهية واحدة في مقابل دعوات أخرى أساسها إقامة الدولة القومية(1) واعتبارها نظام مقدس، وان الملوك هم ظل الله فهم لا يخضعون لسلطة الكنيسة ولا يسألون أمام بابواتها، وقد أدى هذا الصراع بين الدولة والكنيسة إلى ظهور أفكار جديدة ذات طابع سياسي على يد بعض المفكرين. فنحن نجد في كل مجتمع عقيدة سياسية وصياغة قانونية للأفكار السياسية المتبناة إذ تميل هذه الصياغة إلى جانب المحكومين في الدول الحرة بينما هي تنـزع نزعة عكسية في الدول الاستبدادية أو الشمولية، والعقيدة السياسية في الدول الحرة تعد مصدراً أساسياً من مصادر ضمانات الأفراد إذ انها تؤكد قيام النظام السياسي بأسره على احترام الشخصية الإنسانية الحرة لما تتميز به. ومن ثم يجب ان تتمتع بأوفر قسط ممكن من الحرية.(2) والحقيقة ان العقيدة السياسية التي قامت عليها النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة انما ترجع إلى أصول تاريخية تمتد إلى القرون الوسطى الأوربية على الرغم من انها لم تتبلور بشكل كامل إلا في أواخر القرن الثامن عشر فالوضع العام في العالم القديم كان يعارض فكرة قيام حقوق للأفراد في مواجهة السلطة العامة وكان في مكنة الجماعة ان تأتي ما تشاء طالما كان ذلك إجراءاً عاماً، وقد نبتت بذور العقيدة الحرة الأولى خلال العصر الوسيط الذي تميز بطبيعته السياسية الخاصة من ناحية وبالحركة الفكرية التي نشطت فيه من ناحية أخرى(3) وبقدر تعلق الأمر بالحركة الفكرية يمكن الإشارة إلى أهم المفكرين الذين ظهروا خلال هذه المرحلة فضلاً عن التطرق لأهم الأحداث التي ساهمت في حصول الشعوب على حقوقها. الفرع الأول- جريجوري كان جريجوري من أقوى البابوات، وقد نُصب عام 573 عمدة على روما غير انه اعتزل هذا المنصب ليتفرغ كلية للدين، وفي عام 590 تولى منصب البابوية، وتضمنت كتاباته أقوى الحجج المؤيدة لواجب احترام السلطة الزمنية، فهو الوحيد من بين الشخصيات البارزة في الكنيسة الذي تكلم عن قداسة الحاكم السياسي بلغة تدعو إلى الطاعة السلبية وتتلخص وجهة نظره في ان للحاكم السيئ الحق ليس في الطاعة وحدها، وانما في ضرورة كون هذه الطاعة صامته وسلبية، والرعايا يجب عليهم ان يطيعوا كما يجب عليهم الامتناع عن محاولة الحكم على حياة حكامهم أو نقدها أو مناقشتهم فيما يقومون به، وكان جريجوري يحتج على أوامر الإمبراطور إذ كان يعتقد انها تناقض القانون، لكنه مع ذلك يطبقها، ويبدو ان نظريته تتلخص في اعتبار الإمبراطور يمتلك السلطة اللازمة لإصدار الأوامر التي يراها حتى ان كانت هذه الأوامر غير قانونية ما دام يتحمل مسؤولية ذلك وإذا قادت هذه المسؤولية إلى تعرضه للعنة روحية، فليست سلطة الحاكم مستمدة من الله فقط، لكنها أعظم سلطة على الأرض باستثناء سلطة الله(4). يتبع > __________________ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 6 | |||
|
![]() لفرع الثاني- توماس الاكويني تابع القادم
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(4) |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 7 | |||
|
![]() المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(4) 1. جوهانس الثيوسيس هو مفكر ألماني استعمل فكرة التعاقد الاجتماعي في بناء نظامه السياسي عام 1603 وقد طبقت هذه النظرية عملياً من قبل الآباء الحجاج على الباخرة (May Flower) عام 1620 حيث أشير إلى (ونحن أيضاً نقوم أحياناً بالاتفاق وإبرام العهد فيما بيننا أمام الله ونلزم أنفسنا معاً في رباط سياسي مدني).(25) ويطرح هذا المفكر قيداً يرد على سلطات الدولة إذ يقرر عدم وجود فرد أو كائن ذو سلطات مطلقة لا حدود لها إلا الله الذي هو الإله الواحد، أما سلطان الرجال فلا يمكن ان يكون مطلقاً لا ترد عليه القيود، وطبقاً لوجهة نظره توجد قواعد ثلاث تحد من سلطات صاحب السيادة، وهي القوانين الإلهية وقواعد العدالة الطبيعية والقوانين الأساسية للدولة، مع انه لم يضع تعريفاً دقيقاً لما أطلق عليه القوانين الأساسية للدولة. ويلاحظ على آراء Loyseas ان القيود التي ذكرها لا تنشئ للفرد حقاً خاصاً به يولد معه ويتصل بذاته، فالقيد الأول يستمد أصوله من واجبات الملك تجاه الله، والثاني عن القانون الطبيعي وهذا القيد في نهاية المطاف صورة من صور القيد الأول مادام القانون الطبيعي من صنع الله، وهذه الفكرة تؤدي إلى ضرورة ان يحترم الملك أوامر الله أو القانون الطبيعي باعتبارهما واجبات دينية، ولكن ليس للفرد إذا خالف الملك واجباته أي حق تجاهه، ومن ثم لا يملك أية دعوى قانونية تضمن له استيفاء حقه المسلوب، أما القيد الثالث الخاص بالقوانين الأساسية، فهو قيد غامض لان حدوده غير واضحة وماهيته غير ظاهرة(26). 2. جون ميلتون ولد هذا الفيلسوف عام 1608 وتوفي عام 1674 وأشار إلى الطبيعة التعاقدية التي قادت إلى ظهور الدولة، ومن ثم فان افكاره بهذا الخصوص يمكن ان تمثل حلقة من حلقات نظرية العقد الاجتماعي التي طورت بعد ذلك على يد هوبز ولوك وروسو فميلتون يشير في كتاب له صدر عام 1649 إلى ان الناس ولدوا احراراً، وان الخطأ الأول كان قد نهض مع خطيئة آدم، ولكي يستطيع الأفراد الطيبون العيش بسلام وتجنب الأشرار والسيئين، فقد اتفقوا على صيغ عامة لربط أنفسهم بهدف الخلاص من الأذى المشترك، وليدافعوا عن انفسهم ضد أي معارض أو معتدي أو مخلٍ بهذا الاتفاق.(27) 3. توماس هوبز ولد هوبز عام 1588 وتوفي عام 1679 حيث عاش هذا الفيلسوف الانكليزي خلال الحرب الأهلية 1642-1651 وربما كان لهذا الأمر تأثير على تأييده لفكرة الحكم المطلق إذ كانت أعظم الحاجات الملحة لإنكلترا في تلك الفترة تتمثل في حكومة قوية تحافظ على القانون والنظام،(28) والحقيقة ان هوبز كان قد بدأ التعبير عن آراءه في السياسة عندما ترجم أعمال ثيوسيديدس مشيراً إلى عيوب وشرور الديمقراطية إثر مطالبة أعضاء البرلمان الانجليزي سنة 1628 بتنفيذ وثيقة الحقوق، وفي سنة 1615 نشر كتابه التنين (Leviathan) الذي لم يلق القبول والترحيب به لا في فرنسا التي كان يعيش فيها بسبب هجومه على الكنيسة الكاثوليكية ولا من أقرانه الانجليز المقيمين في فرنسا مما أضطره للرجوع إلى انكلترا بعد ان وعد كرومويل ان لا يعمل في الحقل السياسي.(29) وفي تبريره لكيفية قيام الدولة وما يتمتع به الحاكم من سلطان مطلق يؤكد هوبز على ان الإنسان ليس كائناً اجتماعياً بطبيعته كما تصوره أرسطو لكنه مخلوق اناني محب لنفسه لا يعمل إلا بالقدر الذي تتحقق فيه مصالحه الشخصية وهذا ما قاد إلى ان تكون حياة الإنسانية الأولى حياة صعبة تسودها الفوضى والاضطراب حيث سيطر الأقوياء فيها على الضعفاء وبما ان الفرد اناني بطبعه فان هذه الصفة قد ولدت لدى الأفراد ضرورة التعاقد على ان يعيشوا تحت رئاسة أحدهم يتنازلون له عن حقوقهم الطبيعية كافة وترتب على ذلك التعاقد ان تحول الأفراد للعيش في حياة اجتماعية بدل العيش في حياة الفطرة التي كانت تقود إلى حرب الكل ضد الكل، وفي الحالة الطبيعية يقرر هوبز، انه لا توجد ملكية ولا عدالة أو ظلم، لكن هناك حرب ضروس وقاسية، وفي مثل هذه الظروف لا يظهر من الفضائل إلا القوة والخداع، وهكذا فقد تخلص الأفراد من شرور حياة الفطرة الأولى عن طريق الانصياع لقوة مركزية قادرة على حفظ الأمن وتوفير الاستقرار لمصلحة الجميع، وهو ما تم عن طريق العقد الاجتماعي، وأساس هذا العقد عند هوبز انه تم بين الأفراد وحدهم حيث يتعاقد كل فرد مع غيره من الأفراد لمصلحة الحاكم الذي لم يكن طرفاً بهذا العقد، وهذا يعني ان العقد سيكون ملزماً للأفراد بما يتضمنه من التزامات دون ان يلتزم الحاكم بأي شيء طالما انه ليس طرفاً فيه ودون ان يتنازل الحاكم عن حقوقه الطبيعية التي كان يتمتع بها في حياة الفطرة، ومن ثم فان الأفراد عن طريق هذا العقد يحولون سلطتهم السياسية إلى الحكام، وهو ما سيجعل حقوق الأقلية والأكثرية تحت رحمة السلطة الحاكمة التي تستطيع ان تقرر لهم نوعية الحقوق التي يمكن ان يتمتعوا بها، ومن ثم فانه لا يحق للأفراد الثورة والخروج على السلطة الحاكمة لان الحاكم مجرد شخص مستفيد من العقد الذي تم بين الأفراد، وهذا يعني بالنتيجة انه لا مجال للحديث عن الديمقراطية في فلسفة هوبز،(30) طالما لا يمكن الحديث عن تقييد سلطة الحاكم أو سلطة الدولة فهوبز وضع الأساس النظري لدولة مطلقة السلطات مبنية على تعاقد وقبول حر، والأساس النفسي لهذه النظرية هو الخوف.(31) 4. جون لوك ولد لوك عام 1632 وتوفي عام 1704 وهو أكبر أعداء الحكم المطلق وممثل الحركة الليبرالية في أوربا والذي جاءت أفكاره متطابقة مع آراء أنصار المذهب الحر فقد كرس حياته للدفاع عن الحرية ومعاداة الاستبداد والتحكم، كما يرجع إليه الفضل في إعطاء الثورة الانكليزية سندها الفكري والفلسفي ضد أسرة آل ستيوارت عندما عبر عن فلسفته في كتابه عن الحكومة المدنية الصادر سنة 1690 وقد أسهم في تحليله لفكرة العقد الاجتماعي في إقامة نظرية السيادة الشعبية كما شارك في اقامة مبدأ الفصل بين السلطات.(32) ينطلق لوك من مبدأ ان الحكومة المدنية انما هي نتيجة عقد اجتماعي وهو يتفق مع هوبز في وجود حياة فطرية عاشها الإنسان قبل ان ينتقل إلى حياة الجماعة وان العقد الاجتماعي هو الذي نقل الأفراد للعيش من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة أو المجتمع المنظم سياسياً لكنه أختلف مع هوبز في ان حياة الفطرة لم تكن حياة فوضى سادت فيها سيطرة الأقوياء على الضعفاء إذ ان لوك يرى ان حياة الفطرة كانت حياة فاضلة يسودها القانون الطبيعي وأهم مبادئه الحرية والمساواة، وبما ان الأفراد أرادوا الانتقال إلى حياة أفضل فقد عمدوا إلى تنظيم الحريات التي يوفرها لهم القانون الطبيعي ودفع الاعتداء الذي يمكن ان يقع عليهم فقد تعاقدوا فيما بينهم على أن يقيموا سلطة تتمثل في شخص أو مجموعة من الأشخاص يمثلون المجتمع بأكمله وبناءاً على ما تقدم فالعقد الاجتماعي عند لوك قد تم بين الشعب من جانب والحاكم من جانب آخر من أجل إقامة العدل وتنظيم الحريات التي كان الأفراد يتمتعون بها في حياة الفطرة، فلوك يعتبر الحاكم طرفاً في العقد بعكس هوبز وترتب على العقد الاجتماعي طبقاً لمفهوم لوك ان الأفراد أو الشعب لم يتنازل للحاكم عن حقوقه كاملة ولكنه تنازل له عنها بالقدر الذي يقيم السلطة وهذا ما لم يقل به هوبز، كما أكد لوك على ان سلطة الحكام مقيدة وليست مطلقة وأساس التقييد هو ما تضمنه العقد من التزامات متبادلة إذ ان الحاكم مقيد باحترام حقوق الأفراد التي لم يتنازلوا عنها كما انه ملزم بإقامة العدل بينهم في مقابل التزام الأفراد بواجب الطاعة تجاه الحاكم في حدود العقد أما إذا تجاوز الحاكم صلاحياته بموجب العقد واعتدى على حقوق وحريات الأفراد فان الحق سيكون ثابتاً لهم في مقاومة الحاكم وعزله.(33) عليه فان نظرية لوك هي نظرية ديمقراطية تُقر بمسؤولية الدولة أو الحاكم حيث يستطيع الأفراد معارضته لكن الشيء الوحيد الذي يقيد ويحد من ديمقراطية لوك هو انه يخرج من لا يملك عقاراً من قائمة المواطنين، ومن ثم فهو يقصر المواطنة على جزء معين من الشعب. ويرى لوك ان من غير المقبول وهو يعد خطأ في ان تملك الدولة كل السلطات وتحكم حكماً مطلقاً، ولابد للسلطة القضائية ان تتمتع بالاستقلال عن السلطة التنفيذية(34) التي تكون سلطة خاضعة وتسمو السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية وهي تستمد هذه المكانة من حقيقة قيامها بسن القوانين المعبرة عن الصالح العام، فلوك يتصور الفصل بين السلطات على انه نوع من القانون الذي يتحقق عبر تحقيق التوازن بينها ولكن هذا التعاون يميل لمصلحة السلطة التنفيذية إذ ان هذا التوازن يتحقق عبر دور أساسي للملك.(33) 5. مونتسكيو ولد مونتسكيو عام 1689 وتوفي عام 1755 وهو يعد صاحب الفضل الحقيقي في تقديم تحديد واضح لمبدأ الفصل بين السلطات عندما عرض فهمه لهذا المبدأ في كتابه الشهير (روح القوانين) الصادر سنة 1748. وهو يقر بوجود ثلاث سلطات حيث تتكون السلطة التشريعية من مجلسين باعتبار وجود اناس متميزون عن عامة الشعب بسبب المولد أو الثروة، ومن ثم فان لهم مصلحة خاصة من الضروري تمكينهم من الدفاع عنها وعنده فان اختصاصات المجلسين متساوية إلا انه عند التعارض سيقتصر اختصاص المجلس الثاني على الاعتراض فقط، أما السلطة التنفيذية فهي توضع بيد الملك ويسميها السلطة المنفذة للقانون العام، أما السلطة القضائية فيسميها السلطة المنفذة للقانون الخاص.(36) ويؤكد مونتسكيو على ان الحرية تتحقق بتقييد السلطة أياً كانت هذه السلطة فجمع السلطة في يد واحدة يعد خطراً على الحرية ولا يمكن ان توجد الحرية مع جمع السلطات الثلاث، فالفصل طبقاً لرأيه هو الوسيلة الوحيدة الفعلية لتأمين الحرية وهو يبرر هذا المبدأ بثلاثة اعتبارات هي: 1. ان التجارب البشرية قد أثبتت ان من يتمتع بسلطات واسعة غير محددة سيسيء استعمالها، وهذا ما يجعل من الضروري ان يقوم النظام السياسي على أساس مبدأ الفصل بين السلطات. 2. ان مبدأ فصل السلطات هو الوسيلة الوحيدة التي تكفل احترام القوانين وتطبيقها بصورة صحيحة. 3. اعتقاد مونتسكيو ان النظام الانجليزي في عصره الذي كان معجباً به يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات. ولتحقيق هذا المبدأ يشير مونتسكيو إلى ضرورة ان تتمتع كل سلطة بقدرة البت في الأمور التي تدخل في اختصاصها فالبرلمان يسن القوانين وهكذا بالنسبة لبقية السلطات، كما انه يجب ان تتمتع كل سلطة بقدرة المنع أي ان لكل سلطة سلطة منع السلطات الأخرى في ان تتدخل باختصاصاتها.(37) والخلاصة ان آراء مونتسكيو تنتهي إلى إقرار أمرين: الأول التخصص بالنسبة لكل سلطة في مباشرة وظيفتها فضلاً عن ضرورة التعاون مع السلطات الثلاث. أما الأمر الثاني فهو الرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث.(38) 6. جان جاك روسو ولد روسو عام 1712 وتوفي عام 1778 وهو يمثل مرحلة مهمة في تأريخ الفكر الديمقراطي إذ يعد كتابه العقد الاجتماعي الصادر عام 1762 من أوضح وأقوى الكتب التي كتبت عن نظرية السيادة الشعبية ولهذا فانه لا يمكن انكار أثره على التطور الديمقراطي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما لعب روسو دوراً فكرياً مهماً في التمهيد للثورة الفرنسية فكثيراً من قادتها يعدون من مؤيدي روسو والمعتنقين لآرائه، وقد صدر إعلان الحقوق الفرنسي عام 1789، ليسجل الكثير من آراء هذا الفيلسوف كسيادة الشعب، والحريات الفردية، والقانون يعبر عن الإرادة العامة.(39) فروسو دعا للديمقراطية المباشرة وأنكر نظرية الحق الإلهي للحكام وكان يعتقد ان الديمقراطية المباشرة هي النظام الأمثل للحكم أما الحكومة التمثيلية فيسميها انتخاب الارستقراطية.(40) وهذا يعني انه لا يوافق على النظام النيابي وهذا الاتجاه يتفق مع ما كان يعتقده حول فكرة السيادة إذ انها عند روسو غير قابلة للتصرف كما انها غير قابلة للانقسام وعلى هذا الأساس فان السيادة لا يمكن نقلها لأنها تجد التعبير عنها في الإرادة العامة، ولا يتصور ان تحل إرادة شخص محل إرادة شخص آخر فروسو بالنتيجة يرفض النظام النيابي القائم على فكرة الديمقراطية غير المباشرة التي قال بها لوك ومونتسكيو.(41) بدأ روسو كتابه العقد الاجتماعي بعبارة (ولد الإنسان حراً، إلا انه مكبل بالأغلال في كل مكان، وعلى ذلك فهو الإنسان يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية).(42) يستهدف روسو إقامة ديمقراطية مباشرة من خلال فكرته عن العقد الاجتماعي فهو يقول بتنازل الأفراد عن جميع حقوقهم الطبيعية لا لشخص معين بالذات ولا لأشخاص معينين بالذات كما ذهب هوبز ولوك ولكن التنازل المذكور للمجتمع بأكمله وهذا هو أساس مبدئه الشهير ألا وهو مبدأ السيادة الشعبية. يضاف إلى ذلك ان الأفراد حين تنازلوا عن حقوقهم الطبيعية لم يفقدوا جميع تلك الحقوق عملياً إذ انهم استعاضوا عنها بحقوق مدنية تضمن لهم حياة أفضل وهي حقوق أكثر فعالية من تلك الحقوق التي كانوا يتمتعون بها في حياة الفطرة فالحقوق المدنية مضمونة من جانب السلطة السياسية والتعاقد عند روسو وظيفته تتمثل في إحلال الإرادة العامة محل الإرادة الفردية، ويؤكد روسو على ان حياة الفطرة كانت حياة سعيدة وان السلطة لا يمكن ان ترتكز على القوة أو على حق الفتح وإلا فان هذا سيقود إلى انكار الحق بصورة كلية وطالما ان الأفراد في حياة الفطرة كانوا أحراراً متمتعين بكامل حريتهم ومتساوين مع بعضهم فهم لا يستطيعون الانتقال إلى حياة الجماعة أو حياة المجتمع المدني المنظم إلا بموجب اتفاق حر يتم بينهم وهذا ما حصل عندما تم الاتفاق بإجماع الإرادات الحرة للأفراد وهو اتفاق يتم لصالح الجماعة لا لمصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد وهدف هذا التعاقد تنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية لمصلحة المجتمع وما دام هذا التنازل يتم دون تحفظ من قبل الأفراد فليس لأحدهم ان يطالب بشيء وبهذا الشكل يتحقق مبدأ المساواة كما انه ما دام كل فرد قد تنازل عن حقوقه للمجتمع فانه لن يكون هناك من يدفعه الى التعدي على الآخرين وفي هذا تحقيق لمبدأ الحرية إلا ان التنازل عن الحقوق الطبيعية يقابله كما ذكرنا تمتعهم بحقوق مدنية حيث يقوم الشخص العام الذي أقاموه بحمايتهم وبذلك يكون روسو قد اختلف عن هوبز الذي جعل التنازل يتم بصورة كلية لصالح الحاكم، كما أختلف مع لوك الذي قصر هذا التنازل على بعض الحقوق دون البعض الآخر وبذلك فانه طبقاً للعقد الاجتماعي الذي طرحه روسو فان السلطة أو السيادة تكون للجماعة أي انه أقر بمبدأ السيادة الشعبية الذي يعبر عنه بمبدأ سيادة القانون بوصفه تعبيراً عن الارادة العامة.(43) ويلاحظ على عقد روسو الاجتماعي ان هدفه الحرية ولكنه في حقيقة الأمر يعلي من شان المساواة حتى وان كان ذلك على حساب الحرية.(44) والخلاصة ان النظام الذي جاءت به أفكار روسو يقوم على فكرتين أساسيتين هما: 1. الحرية الديمقراطية، ويراد بها الاستقلال الفردي بمعنى خضوع الفرد للقانون الذي يشارك في صنعه كما انها تعني تأكيد حرية الفرد بشرط ان لا تتجاوز حرية غيره، ومن ثم فالحرية بهذا المعنى لا توجد في النظام النيابي. 2. المساواة، ويراد بها المساواة في الاستقلال الفردي والمساواة في الحريات فهي تفهم بمعنى رفض ان تكون الحرية امتيازاً للبعض دون البعض الآخر، ولاضمان في ان تكون الحرية للجميع إلا بالمساواة(45) وينتهي روسو إلى الربط بين الحرية والمساواة عن طريق عمومية القانون واستبعاد كل سلطة شخصية.(46) أخيراً من الضروري الإشارة إلى ان الإرادة العامة الحرة التي يتحدث عنها روسو هي عبارة عن قوة ميتيافيزيقية خارجة عن نطاق الطبيعة، كما ان روسو لا يعتقد بمبدأ فصل السلطات.(47) 7. آدم سميث ولد سميث عام 1723 وتوفي عام 1790(48) وهو اقتصادي اسكتلندي شهير نظر إلى المجتمع الانكليزي، خارج نطاق الطبقة المسيطرة وهو يعتقد انه مجتمع مليء بالصراع لا يحكمه قانون مستقر أو متزن وأخلاقيات أفراده سيئة جداً، فالنساء والأطفال يعملون في مناجم الفحم ويتقاضون أجوراً بخسة ولا يرون النور، والحقيقة ان الحياة الاجتماعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر كانت توصف بأنها من أسوء ما يمكن ان يشاهده ويعيشه إنسان. أصدر سميث كتابه الشهير المعروف باسم (ثروة الأمم) الذي ناقش فيه قضية هامة تتلخص في كيفية استمرار المجتمع في مسيرة الحياة رغم التباين الموجود بين أفراده واختلاف توجهاتهم. بمعنى كيف يضع الفرد نصب عينيه البحث في منفعته الخاصة أولاً بحيث تأتي في النهاية مصلحة المجتمع؟(49) يقول سميث ان الأفراد لا يتعاطفون معهم لأنهم إنسانيين ولكن التعاطف ناتج عن حب مصلحتهم الخاصة وهذه هي التي تدفع الأفراد إلى العمل إلا ان المجتمع الذي يعمل افراده بدافع المصلحة الخاصة هو مجتمع ضعيف ومتضعضع، ولكن المنافسة بين الأفراد هي التي تخلق المجتمع القوي، إذ ان الباحثون عن المصلحة الخاصة مقيدون بما تمليه عليهم اعتبارات المنافسة مع الآخرين التي تفرض عليهم تقديم أفضل ما عندهم أثناء العمل تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة على المدى الطويل، وهذه المصلحة الخاصة طبقاً للاعتبارات المتقدمة تولد بطبيعتها نتيجة للمنافسة في السوق نتائج لصالح المجتمع وهو ما يطلق عليه بالانسجام الاجتماعي.(50) أما هدف سميث الأول في هذا الكتاب فكان إبعاد العوامل المؤثرة كسيطرة الدولة أو غيرها على فعاليات السوق التجاري فهو يؤكد على ان عدم التدخل في قوانين السوق أمر مهم لتأخذ عوامل التقدم مجراها من دون تدخل من أحد وبهذا الأسلوب ينتشر الغنى ولا يكون هناك هوة كبيرة بين الرأسمالي وبين الفقير وأفكار بهذا الشكل تنطبق على بريطانيا في القرن الثامن عشر. سميث رأى كذلك ضرورة انتصار العقلانية فهو القائل (لا تحاول ان تعمل صالحاً، ولكن دع العمل الصالح يبرز من خلال الانانية) وقد ناصر سميث تحرير الرقيق ذلك ان هذه الخطوة أصح على المدى الطويل.(51) مما تقدم يبدو واضحاً ان أفكار سميث قد لعبت دوراً مساعداً في بلورة النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة إذ انها تدعو إلى دور محدود أو ثانوي للدولة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، فالدولة التي أرادها سميث هي دولة حارسة توضع في خدمة المجتمع، فالدولة تمنح المجتمع شكله القانوني بإمساك النظام فيه، ويبقى للمجتمع أولويته على الدولة ويخضعها لسلطانه والتعبير الاقتصادي لهذه القاعدة (دعه يعمل، دعه يمر).(52) 8. جيريمي بينثام ولد بينثام عام 1748 وتوفي عام 1832 وهو فيلسوف ورجل قانون بريطاني أهتم بدراسة طبيعة علم العقاب وأنظمة السجون، وقام عام 1776 بنشر كتابه (شيء عن الحكومة) هاجم فيه صيغة القانون في انكلترا في ذلك العهد، وقبيل عام 1780 صاغ بينثام نظرياته حول فلسفة التشريع، وتتسم فلسفته التي يطلق عليها اسم مذهب المنفعة بتحقيق أعظم الخير لأكبر عدد من الناس، وبان العقاب انما هو عمل من أعمال الشر أو هو عمل غير مشروع في ذاته ولا يمكن تبريره إلا إذا كان ذلك العقاب يحول دون وقوع شرور أكبر، وهكذا يبدو جلياً ان بينثام تمكن في العصر الذي عاش فيه من تحديد الحاجة إلى جمع القانون الجنائي وتنسيقه وإجراء الاصلاحات عليه، وكان لهذا الفيلسوف تأثيرا كبير في جيل من الحقوقيين الذين كانوا مثله دائمي الهجوم على سوء استخدام العدالة وأساليب الالتفاف حول القوانين.(53) 9. جون ستيوارت ميل ولد جون ستيوارت ميل عام 1808 وتوفي عام 1873 حيث ربط بين الديمقراطية والدولة المثالية، فهو في كتابه (الدولة التمثيلية) يقرر ان أفضل أنواع الدول والحكومات هي التي تكون السيادة فيها أو القوة المركزية العليا لتسيير شؤون الدولة في يد أفراد المجتمع حيث لكل مواطن الحق في المشاركة السياسية، وهو يؤكد بان النظام الديمقراطي وان كان ليس النظام المثالي إلا انه أفضل الأنظمة الموجودة وهو ينطلق من ضرورة ان يتمتع الجميع بالحرية والمساواة.(54) أخيراً يبدو من خلال استعراض الآراء المقدمة لفكرة الديمقراطية وارتباطها بحقوق الأفراد الخوف الكبير من حكم الطغاة هذا الحكم الذي لا يظهر فقط من خلال حكم الفرد الواحد أو المجموعة الصغيرة من الأفراد بل ان هذا الشكل من أشكال الحكم يمكن ان يظهر من خلال حكم الكثرة على حساب القلة.(55) يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 8 | |||
|
![]() لمطلب الثالث- |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 9 | |||
|
![]() المطلب الثاني |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 10 | |||
|
![]() المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(5) أما المادة الثانية فقد بينت ان هناك حقوق طبيعية لا يمكن التنازل عنها وهي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الطغيان، كما ان مبدأ السيادة يقوم بشكل أساسي على الأمة وأشارت المادة الثالثة إلى ان مبدأ مساواة الإنسان هو الأساس الوحيد الذي تقوم عليه هذه الحقوق.(91) أما المادة الرابعة فقد عرفت الحرية باعتبارها (الحق في عمل كل ما من شانه ألا يضر بحقوق الغير، ومباشرة الحقوق الطبيعية لكل فرد ليس لها من حدود إلا تلك التي تكفل تمتع أفراد الجماعة الآخرين بنفس هذه الحقوق ويجب ان لا تقرر حدود الحقوق الطبيعية إلا بواسطة القانون). والحقيقة انه بدون الحرية السياسية تصبح الحريات الأخرى مجرد منحة تستطيع السلطة أو من يمثلها استردادها بأي وقت، ولهذا فقد عبر مونتسكيو عن هذه المسألة خير تعبير عندما قرر ان أنظمة الحكم الديمقراطية هي مصدر ضمانات الحريات جميعاً، كما ان الحرية السياسية لا يمكن ان تتحقق بصورة فعلية إلا في ظل توافر الحريات الأخرى، فالانتخاب يقتضي قيام صحافة حرة والاعتراف بحرية الاجتماع.(92) وهذا كلام يجعل من الصعب قبول ما عبر عنه نابليون حين قرر ان (الديمقراطية عندنا تتوج في شخص رئيس الدولة الذي اختارته الأمة).(93) فضلاً عما تقدم فقد أشار الإعلان إلى حريات أخرى بينتها المواد السابعة والثامنة والتاسعة حيث لا يمكن اتهام أي إنسان أو توقيفه واعتقاله إلا في الحالات المحددة طبقاً للقانون، كما لا يمكن معاقبة أي إنسان إلا طبقاً للقانون وان المتهم برئ حتى تثبت إدانته، كما تمنع المادة العاشرة إزعاج أي إنسان بسبب آرائه الدينية، ونصت المادة الحادية عشرة على ان حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي من الحريات الأساسية، ومن ثم فان لكل مواطن الحق في التعبير والكتابة والنشر بحرية تامة بشرط عدم التجاوز على حريات الآخرين وفقاً للقانون والحقيقة ان السبب الذي جعل واضعوا الإعلان الفرنسي يركزون على حرية التعبير ويفردون لها مادة خاصة يعود إلى وضع الكنيسة المهيمن التي لم تكن تسمح بمثل هذا الحق فضلاً عن تسلط الإقطاع. أما المواد الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة فقد أكدت على تأمين الحماية الضرورية لحقوق الإنسان، فضلاً عن الضرائب والنفقات العامة ومحاسبة الموظفين عن أعمال إدارتهم المتعلقة بشؤون الأفراد، بينما تكلمت المادة السادسة عشرة عن مبدأ الفصل بين السلطات باعتباره المعيار الحقيقي للنظام السياسي. أما المادة السابعة عشرة فقد تحدثت عن الملكية عندما نصت على (لما كانت الملكية حقاً مصوناً ومقدساً فلا يمكن لأحد ان يحرم منها إلا حينما تقتضي الضرورة العامة الثابتة قانوناً هذا الأمر بصورة واضحة وشرط ان يمنح له تعويض عادل ومسبق).(94) الفرع الثاني حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في الدساتير الفرنسية عرفت فرنسا منذ عام 1789 حتى عام 1875 ثلاثة عشر دستوراً مكتوباً ولا يكاد يخلو دستور فرنسي ابتداء من الدستور الأول الذي صدر بعد الثورة الكبرى وصولاً لدستور ديغول النافذ لعام 1958 من تسطير مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية، ومن أبرز هذه الدساتير التي يمكن الإشارة إليها: 1. دستور 3 أيلول 1791 هو أول دستور صدر بعد الثورة الفرنسية الكبرى ونص على ان السيادة للأمة وهذه الأخيرة تتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن شخصية الأفراد المشرفين على شؤونها إلا ان الاقتراع لم يكن عاماً وشاملاً ومباشراً، أي ان الأفراد لم يكونوا يتمتعون بحق شخصي بممارسة الانتخاب، لان السيادة هي في الأمة وليس بكل فرد، وقد نص هذا الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات بالشكل المعمول به في الدستور الأمريكي.(95) ان واضعي دستور 1791 لم يبدلوا شيئاً في اعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 عندما جاء دستور 1791 لكنهم وضعوه كما هو في رأس هذا الدستور، وبهذا الشكل فقد جسد دستور 1791 اعلان الحقوق الصادر عام 1789 بصيغة دستورية ملزمة بعد ان أثار الإعلان مسألة القيمة القانونية الحقيقية لنصوصه، ونص الدستور المذكور على جملة من المبادئ الأساسية فالسيادة تعود للأمة كما ذكرنا (المادة الثالثة) وذكر هذا الدستور مبدأ الفصل بين السلطات في المادة السادسة عشرة، وقد بقي هذا الدستور نافذاً حتى تم التصويت على دستور 24 حزيران 1793. 2. دستور 24 حزيران 1793 أعلن عن حقوق الإنسان في مقدمة هذا الدستور الذي تألف من (35) مادة إذ تميز باتجاهه الاجتماعي فاعترف بحق العمل والحق في المساعدات الاجتماعية وبحق التعليم لجميع المواطنين، كما تبنى هذا الدستور فكرة الاقتراع العام دون ان تطبق بعد صدوره وثبت الحق في مقاومة الطغيان إذا ما قامت حكومة بانتهاك حقوق الشعب وادخل اسلوب الاستفتاء الشعبي في العملية التشريعية. فهذا الدستور وصف بان جانباً مهماً منه قد استمد من أفكار روسو وقد وافق الشعب على هذا الدستور بعد ان عرض عليه غير انه لم يقترن بالتنفيذ نظراً لتمرد المدن الكبرى وخطر الغزو الخارجي مما دفع الساسة (المؤتمر) إلى اتخاذ القرار في العاشر من تشرين الأول 1793 بإرجاء تطبيقه وتشكيل حكومة ثورية اشتق من هذه الحكومة لجنة عرفت باسم لجنة السلامة العامة التي خضعت لسيطرة روبسبير وعرف هذا العهد بعهد الرعب إذ بقيت الحكومة الثورية في السلطة حتى السادس والعشرين من تشرين الأول 1795،(96) حيث صدر بعد دستور 1793 دستور 22 آب 1795 ثم دستور 13 كانون الأول 1799 الذي عكس طموح نابليون بونابرت وتميز بدكتاتورية السلطة التنفيذية التي جسدها الجنرال الشاب مع الاحتفاظ ببعض مظاهر الديمقراطية ثم دستور 4 حزيران 1814 الملكي الذي رفض الملك فيه مبدأ السيادة الوطنية وأصر على اعتبار نفسه مصدر السلطة لكنه مع ذلك أقر بالحريات العامة التي حصل عليها الشعب الفرنسي واعترفت بها الدساتير الفرنسية التي صدرت بعد الثورة الفرنسية الكبرى كحرية الصحافة، والحرية الشخصية، والحرية الدينية، والمساواة أمام القانون ثم جاء بعد هذا الدستور الملكي دستور ملكي آخر هو دستور 1830 وبموجبه عرفت فرنسا لأول مرة النظام البرلماني بصيغة معينة.(97) 3. دستور 4 تشرين الثاني 1848 تم سن هذا الدستور بعد ثورة 1848 البرجوازية التي قادت إليها مسألة التمسك بالأرستقراطية الانتخابية وتم القضاء مرة أخرى على النظام الملكي وما رافقه من ممارسات صنفت بأنها مضادة للديمقراطية ولحقوق الإنسان وحرياته. يبدأ هذا الدستور بإعلان لحقوق الإنسان عبرت عنه مقدمته المؤلفة من ثماني مواد فضلاً عن فصله الثاني الذي يبدأ بالمادة الثانية وينتهي بالمادة السابعة عشرة.(98) وبموجب هذا الدستور فقد تم ترسيخ مبادئ إعلان عام 1789 ومعالجة جوانب جديدة واستقر حق الاقتراع العام وخفض سن الانتخاب إلى 21 سنة وسن الترشيح إلى 25 سنة، كما بررت فكرة الجمهورية بالتقدم والعدالة الاجتماعية وثّبت مشرع دستور 1848 الحقوق التقليدية ووضحها وهي الحرية والأمن وأشار إلى إلغاء الرق في فرنسا، وبموجب المادة العاشرة أشير إلى مبدأ المساواة ونص الدستور على حق التعليم مع إشراف الدولة على المؤسسات التعليمية وأشير إلى حق التجمع فضلاً عن إلغاء عقوبة الإعدام عن الجرائم السياسية، كما أشار الدستور إلى ضرورة ان تقوم الحكومة بتقديم العون والمساعدة للمواطنين المحتاجين وللعاجزين عن العمل.(99) 4. دستور 27 تشرين الأول 1946 بعد ان أُلغي دستور 1875 في 10 تموز 1940 تم انتخاب جمعية تأسيسية عام 1945 كلفت بمهمة وضع دستور جديد لفرنسا حيث برز مشروع دستور نيسان 1946 الذي وافقت عليه الجمعية التأسيسية في العام نفسه وعرض على الشعب في 5 أيار 1946 إلا انه رفض وصادف انتقادات شديدة وبشكل خاص فيما يتعلق بحرية التعليم التي لم يتم الاعتراف بها في نصوص هذا الدستور بصورة صريحة فضلا عن المواد التي تناولت حق الملكية فإذا كانت الغالبية الطاغية من صغار الملاك لم يكن يعنيهم قيام الدولة بتأميم الصناعات والملكيات الكبيرة، إلا انهم لم يقبلوا ان يقال قانوناً ان المشرّع هو الذي يعطيهم الحق في الملكية أي ان حقهم في الملكية يستمد وجوده من المشرّع الذي يستطيع ان يجردهم منها في أي وقت وكان من الأسباب المهمة للرفض ان جزءاً مهماً من الناخبين الفرنسيين كان يطالب بالمزيد من الحريات والحقوق.(100) والحقيقة ان مشروع دستور 19 نيسان المرفوض من قبل الشعب الفرنسي قد تضمن مقدمة أو ديباجة ثم إعلان للحقوق بدأ بفصل أول تحدث عن الحريات تلاه فصل ثان تحدث عن الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي وقام بتنظيم الحقوق والحريات في هذا المشروع على أساسيين الأول ضرورة تأكيد احترام الشعب الفرنسي وإيمانه بالمبادئ الحرة نظراً لما لاقاه الإنسان من عبودية وتسلط ثم الاعتداد بالتطورات التي أصابت مفاصل الحياة من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية وضرورة إيجاد نوع من التوافق بينها وبين المبادئ التقليدية التي قامت عليها نظرية حقوق الإنسان وحرياته العامة أي إيجاد صيغة توافق بين المبادئ الفردية الحرة والمبادئ الاشتراكية.(101) أما بخصوص دستور 27 تشرين الأول 1946 الذي وافق عليه الشعب الفرنسي والموضوع بعد رفض مشروع دستور 19 نيسان المشار إليه انفاً فقد قامت الجمعية التأسيسية التي انتخبت بتاريخ 2 حزيران 1946 بمعالجة مشروع دستور 19 نيسان لكي تكفل له موافقة الشعب حيث لم تكن هناك تعديلات أساسية تغير من جوهر المشروع السابق فالمبدأ العام هو محاولة إيجاد صيغة توافقية بين الماركسية والأفكار التي يقوم عليها المذهب الحر. والحقيقة ان الصراع قد احتدم بين الآيديولوجيتين عندما قامت الجمعية التأسيسية بمراجعة إعلان الحقوق ولتفادي الخلاف فقد تم العدول عن إيراد إعلان مفصل للحقوق في الدستور المراد إعداده مع القبول بإيراد القواعد الأساسية التي تضمنها الإعلان في مقدمة الدستور حيث بدأت المقدمة بالتأكيد على ان (يعلن الشعب الفرنسي من جديد ان لكل إنسان بلا تمييز بسبب الأصل أو الدين أو العقيدة حقوقاً مقدسة لا يمكن ان يجرد منها، ويؤكد رسمياً حقوق وحريات الإنسان والمواطن المقررة بإعلان الحقوق الصادر عام 1789 والمبادئ الأساسية المعترف بها في قوانين الجمهورية). ثم تضيف المقدمة النص الآتي (وفضلاً عن ذلك يعلن-كضرورة خاصة لعصرنا-المبادئ الأساسية والاقتصادية والاجتماعية التالية: 1. يضمن القانون للمرأة حقوقاً مساوية للرجل في كافة الميادين. 2. كل فرد يضطهد في سبيل حريته له حق الالتجاء إلى أراضي الجمهورية. 3. عل كل فرد واجب العمل وله حق الحصول على العمل ولا يظلم فرد في عمله أو مهنته بسبب اصله أو آرائه أو معتقداته. 4. من حق كل فرد ان يدافع عن حقوقه ومصالحه بواسطة النقابة التي يختار الانضمام إليها. 5. حق الاعتصام تنظمه قوانين خاصة. 6. كل خدمة وكل مشروع تتسم ممارسته بطابع أهلي أو ينطوي على احتكار يجب ان تؤول ملكيته إلى الجماعة. 7. تكفل الأمة للأفراد وللعائلات الأسباب الضرورية لتقدمهم وتضمن للجميع ولاسيما للأمهات وللعمال المسنين حماية الصحة والضمان المادي والراحة والإجازة، وكل إنسان يجد نفسه عاجزاً عن العمل بسبب سنه أو عدم قدرته البدنية أو العقلية أو لسوء حالته الصحية له حق الحصول على المقومات الضرورية لمعيشته، وتضمن الأمة للصغير والكبير فرصاً متكافئة للتعليم والتثقيف والتدريب وتأخذ الدولة على عاتقها تنظيم التعليم ومجانيته في كافة مراحله.)(102) القيمة القانونية لإعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789 ومقدمة دستور 1946 الفرنسي أثير البحث أولاً في فرنسا حول القيمة القانونية التي تملكها إعلانات الحقوق ومنها إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789، ثم أثير الجدل بعد ذلك حول القيمة القانونية لديباجة أو مقدمة دستور 1946 الفرنسي التي تضمنت مجموعة من الحقوق والحريات العامة. فبخصوص إعلان الحقوق الصادر عام 1789 رأى إيسمان عدم امكانية اعتبار نصوصه ذات طابع قانوني وضعي، ومن ثم فهي غير واجبة النفاذ إذ انها مجرد إعلان عن مبادئ لكنها تفتقر للصفة القانونية الملزمة. فهذه المقدمة أو الديباجة هي عبارة عن إعلان وهي لا تعدو ان تكون قواعد فلسفية أو برامج لا شان للقانون بتنظيمها ولو أراد المشروع ان يسبغ عليها الصفة القانونية لنظمها في صلب الدستور خاصة إذا أراد ان يراعي الناحية الشكلية وليحسم أي خلاف قد يثار في المستقبل بهذا الشأن عن طريق نصوص وعناوين واضحة ومحددة لا ان يوردها في المقدمة إذ ان العبارات المنمقة والرنانة قد تثير مسامع الإنسان البسيط لا رجل القانون الذي عليه ان يستعمل منهجيته في التفريق بين ما هو ملزم وما هو اختياري غير ملزم وهذا الأمر ينطبق على إعلانات الحقوق وكذلك فهي ذات طبيعة فلسفية مثالية غير ملزمة وهذا في أقل تقدير بالنسبة للمدرسة الشكلية التي يمثلها (كاري دي مالبيرغ وإيسمان). أما المدرسة الموضوعية التي مثلها (العميد ليون دوجي وموريس هوريو) فهما يذهبان إلى عكس ما ذهبت إليه المدرسة الشكلية(103) إذ يؤكد العميد دوجي على ان إعلان الحقوق أسمى مرتبة وأكثر قوة من النصوص الدستورية ذاتها، ولهذا فان الحقوق والحريات العامة التي لم ينص عليها دستور 1875 الفرنسي تعتبر أعلى شاناً من ذلك الدستور نفسه بل هي قيد على الجمعية التأسيسية التي وضعته.(104) أما مقدمة دستور 1946 الفرنسي فهو لم ينص على الحقوق والحريات العامة في نصوصه لكنه أعلن عنها في ديباجة بعكس مشروع الدستور الذي رفضه الشعب الفرنسي في العام ذاته (مشروع دستور نيسان 1946) والحقيقة ان الفقهاء مختلفون حول القيمة القانونية لهذه الديباجة أو المقدمة رغم كونها جزء مرتبط بالدستور سواء عند وضعها من جهة واحدة أو عند الاستفتاء عليها من قبل الشعب حيث تم الاستفتاء عليها مع الدستور ولم تفصل عنه، وهي بذلك ليست وثيقة منفصلة كما كان عليه حال إعلان 1789.(105) ويرى أحد الأساتذة الفرنسيين (رينيه) انه يجب التمييز بخصوص القيمة القانونية لديباجة دستور 1946 بين ثلاث حالات هي: 1. بعض نصوص الديباجة لا تتضمن أية مادة قانونية إذ انها لا تتضمن أمر أو نهي أو أي التزام حقيقي لكنها عبارة عن تأكيد لبعض الأفكار السياسية ومثالها العبارة التي وردت في الديباجة والتي تسجل ان الجمهورية الفرنسية تراعي قواعد القانون الدولي العام والعبارة التي تقدم تعريفاً للاتحاد الفرنسي. 2. توجد عبارات كحالة النص على الحق في العمل وضمان النماء الفردي والعائلي أي تلك الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي فهي تتضمن أكثر من وعد من جانب الدولة مضمونه قيامها بإصدار التشريعات الضرورية اللازمة بتحقيق مضامين هذه الحقوق إذا سمحت الظروف بذلك، (فلا يتأتى للفرد التمسك بها قبل الدولة أمام القضاء إلا إذا سمحت الظروف بذلك). 3. هناك فئة ثالثة من العبارات التي وردت في المقدمة تتمتع بالصفة القانونية، إذ انها تتضمن النص بصفة عمومية على الحريات السابق إعلانها في عام 1789 ويمكن ان يضاف إليها الحريات الجديدة وبعض الحقوق الأخرى التي وردت في دستور 1946 كالحق النقابي والحرية النقابية ومجانية التعليم والمساواة بين الرجل والمرأة، فهذه الحقوق تتمتع بصفة قانونية كاملة ولا يستطيع المشرع إصدار قوانين أو تشريعات تخالفها، وإذا كانت القاعدة المتقدمة تخلو من الجزاء طالما ان المحاكم الفرنسية لا تملك سلطة مناقشة دستورية القوانين فان الضمانة الوحيدة المكفولة للقوانين تتمثل في سلطة رئيس الجمهورية بان يرفض التوقيع على أي تشريع يكون مخالفاً للدستور ويعيده للبرلمان بهدف مناقشته مرة أخرى، ويؤكد الاستاذ (رينيه) ان هذه الكفالة واهية وغير فعالة في ضوء السوابق البرلمانية الفرنسية، فضلاً عن ان دستور 1946 قد أخرج صراحة المقدمة (الديباجة) من اختصاص اللجنة الدستورية التي انشأها لمراجعة دستورية القوانين طبقاً للمادة (92).(106) 5. دستور 4 تشرين الأول 1958 بعد اندلاع حرب التحرير الوطنية في الجزائر تأزمت أوضاع الجمهورية الرابعة التي جاء بها دستور 1946 مما قاد إلى بزوغ ما يعرف بالجمهورية الفرنسية الخامسة التي جاء بها دستور ديغول الصادر عام 1958 إذ وضع الجنرال الفرنسي الخطوط العريضة لهذا الدستور في خطاب ألقاه بتاريخ 15 حزيران 1944 وطوره بعد ذلك أثناء وجوده على رأس السلطة في فرنسا حتى عام 1969 ويتضمن دستوره هذا أثنتين وتسعين مادة.(107) والحقيقة ان دستور 1958 لم يقدر له ان يقدم جديداً في مجال الحقوق والحريات العامة يتجاوز ما قدمه دستور 1946 لكنه أعلن تبنيه لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 فضلاً عن تبنيه مقدمة دستور 1946 التي قضت بالاعتراف بالحريات الجماعية في مجالات متعلقة بالعمل إذ أقر حق الإضراب وحق اختيار المندوبين كما تمت الإشارة إلى مسألة التخطيط الاقتصادي لضمان الاستخدام العقلاني للموارد كما أقر حق الحياة اللائقة لجميع المواطنين في مجالات الحماية الصحية والأمن والراحة والتسلية والتعليم المجاني. ويلاحظ ان دستور 1958 قد تمسك بإعلان 1789 وما جاء به من مضمون يعبر عن الفردية وسلبية الدولة ولكنه بالمقابل أقر مقدمة دستور 1946 وما عبرت عنه من مضمون إيجابي للدولة حيث تم التوسع في مجال الحريات من مجالها الفردي السلبي والمحدد بثلاث مجالات تتعلق بحماية الفرد والمحافظة على ملكيته وتأمين ذهابه وايابه إلى مجالات وافق انصرفت إلى التوسع لحماية الجماعة ومقدراتها المادية والصحية والتعليمية بصورة تعبر عن الاهتمام بالفرد والجماعة في الوقت نفسه ضمن مفهوم الدولة القومية الحارسة والمرفهة والضامنة للحياة.(108) المطلب الرابع- موقف الاتجاهات الدستورية من الحقوق والحريات العامة. مثلت عملية ظهور الدساتير الطابع المميز للدولة في العصر الحديث وفي ضوء الشعارات المطروحة من جانب القابضين على السلطة فقد عبرت هذه الاتجاهات الدستورية عن طابع فهم معين للحقوق والحريات التي تبناها دستور كل دولة. وقد ساهمت الحروب والثورات التي شهدها العالم في صياغة العديد من دساتير الدول التي عبرت عن اتجاهات متباينة في ممارسة السلطة وفي الإقرار بحقوق وحريات للإنسان ذات طابع مختلف الواحدة عن الأخرى على انه يمكن تلخيص أهم الاتجاهات الدستورية التي ظهرت في دساتير العالم من خلال المراحل التاريخية الآتية: المرحلة الأولى مثلت هذه المرحلة موجة الدساتير التي ظهرت بعد حرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية وتميزت هذه المرحلة بظهور الدساتير المكتوبة وهذا عكس ما كان معمولاً به قبل ذلك إذ كانت الأعراف والتقاليد هي المتحكمة في عملية تنظيم ممارسة السلطة ومصدر هذه الأعراف والتقاليد هم الحكام ومن ثم فان الدستور الأمريكي الفيدرالي وقبله دساتير الولايات ومن أهمها دستور فرجينيا كان قد تضمن بعض الحقوق والحريات الأساسية أو الطبيعية. أما في فرنسا فقد صدر أولاً إعلان للحقوق ثم صدر دستور 1791 الذي اعتبر الإعلان الصادر عام 1789 جزءاً منه، ومن ثم فقد بقي موضوع الضمانات أمراً مشكوكاً فيه طالما ان الإعلان بتفاصيله لم يكن في متن الدستور وقد تأثرت بعد ذلك دساتير العديد من الدول الأمريكية والدول والأوربية بالدستور الأمريكي والدساتير الفرنسية. المرحلة الثانية شهدت هذه المرحلة ظهور الدساتير في ألمانيا والأراضي المنخفضة وكان ورائها ثورتي عام 1830 الليبرالية وعام 1848 الاجتماعية في فرنسا إذ جاءت ثورة 1830 بدستور ملكي اعتمد النظام الليبرالي البرلماني بينما جاء دستور 1848 بمجموعة من المبادئ الاجتماعية. المرحلة الثالثة جسدت هذه المرحلة الدساتير التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى إذ انهارت إمبراطوريات ودول أدى إلى ظهور دول جديدة في العالم العربي وأوربا الوسطى، وهذه هي المرحلة ذاتها التي شهدت ظهور دول فاشيستية تميزت بتوجهاتها الاجتماعية التي انحسر فيها دور الفرد إذ قامت هذه الدول على تأليه الدولة فالفرد لا دور له ولا اعتراف به إلا في ضوء دوره المساند للدولة، وبالنتيجة تم تقليل دور الحريات الفردية في الدول الفاشيستية والنازية والبلشفية والاستعاضة عنها بمفاهيم الحريات ذات المضمون الجمعي، فالماركسية اللينينية تحدثت عن حماية الطبقية، والفاشيستية تحدثت عن حماية الأمة وصيانتها وإعلاء شانها لتحقيق مفهوم الأمة الرومانية، وفيما يتعلق بالنازية فان الأمر مرتبط بالاهتمام وتعظيم الشعب بمفهومه المنظم السامي لمجموعة متجانسة ومنسقة لا دور لحرية الفرد فيها في هذا الإطار كفرد. ان هذه المرحلة طبقاً للتطبيقات المتقدمة عبرت عن تراجع في مفهوم الحريات العامة وضماناتها بالمقارنة مع المرحلة الأولى والحقيقة ان مضمون الحريات ذات الطابع الجمعي قد امتد الى البرتغال وإسبانيا والنمسا وبولندا بل حتى فرنسا التي لم تأمن من تدفق الأفكار الداعية إلى تبني حريات بمضمون جمعي على حساب المفهوم الفردي ولم تسلم من هذه الموجة إلا بريطانيا وبدرجة ما عندما تمسكت بالليبرالية. المرحلة الرابعة هي من أهم المراحل من جهة عدد الدساتير التي أشارت الى الضمانات للحريات الفردية إذ ظهرت العديد من الدول الجديدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء منظمة الأمم المتحدة، وهذه المجموعة من الدساتير توزعت بين مجموعتين الأولى عبرت عن توجهات ليبرالية بينما عبرت المجموعة الثانية عن توجهات ماركسية، أما المجموعة الثالثة فقد احتوت مضامين مشتركة من المجموعتين، ومع ذلك فعوامل الاشتراك بقيت قائمة من جهة المضامين التي عبرت عنها مجموعة من دساتير هذه المرحلة فالدساتير الاشتراكية تبنت مفاهيم ليبرالية والعكس صحيح. أما دساتير دول العام الثالث فان أغلب هذه الدساتير احتوت على حقوق وحريات ذات طابع ليبرالي وأخرى ذات طابع جمعي إلا ان الطابع الجمعي كان أكثر بروزاً نظراً لطابع الأنظمة السياسية، ويمكن القول ان دساتير دول العالم الثالث تنقسم إلى فئتين أو اتخذت مرحلتين هما: الفئة الأولى: اتسمت هذه المرحلة بطابع الاستنساخ أو النقل من دساتير الدول المستعمرة ولهذا فقد أخذت دول العالم الثالث المتحررة حديثاً بالضمانات الدستورية من دساتير الدول الغربية المستعمرة لها من الناحية الشكلية وهذا ما سارت عليه موريتانيا وتشاد إذ انها أخذت أو هي تنطبق إلى حد كبير مع الدستور الفرنسي فمقدمات بعضها تكلمت بعبارات إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي وطرحت ذات الشعارات (حرية، إخاء، مساواة) الفئة الثانية: عبرت عن هذه المجموعة دساتير تونس والجزائر والكاميرون والسنغال حيث أبرزت المضامين الاشتراكية فضلاً عن تبنيها لنظام الحزب الواحد كما ان تفاصيل الحقوق والحريات ذات الطابع الفردي لم تكن غائبة عن نصوصها مع غلبة التوجه الجمعي بسبب حرص هذه الدول على سيادتها والمفاهيم التي سادت في تلك المرحلة كمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحق كل شعب في اختيار دستوره ونظامه السياسي وتراجعت على المستوى الفعلي الحريات الفردية بمفرداتها المعروفة في هذه الدساتير بسبب تأكيدها على مضامين جمعية حرصاً على الاستقلال وباسمه على حساب الحريات الفردية. يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 11 | |||
|
![]() هوامش الفصل الثالث يتبع > :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(6) |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 12 | |||
|
![]() المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(6) المطلب الثاني دور الدول في مجال الحقوق والحريات كثيراً ما تورد الدساتير الحديثة مجموعة من الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن ذكرها للحريات الفردية التقليدية، فنجد مقدمة الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 ودستور فرنسا النافذ لعام 1958 قد أكدا على "حريات الإنسان والمواطن المقررة في إعلان 1789" واعترافا بالمبادئ الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للعيش في الجماعة الحديثة، وفي حقيقة الأمر فان الحريات الفردية ليست في الواقع إلا حريات اجتماعية لأنها لا تمارس إلا في نطاق الجماعة، وهذا المعنى قد بدأ ظاهراً في المادة الرابعة من إعلان الحقوق الصادر عام 1789، إذ نصت على ان (الحرية تتضمن فعل كل ما ليس من شأنه الإضرار بالغير)، ثم أضافت ان (ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان ليس لها من حدود إلا ما يضمن لغيره من أعضاء الجماعة ممارسة هذه الحقوق ذاتها). (15) ومع ذلك فإن الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي قد تم الاهتمام بمضمونها من الناحية القانونية والعملية في وقت متأخر عن الاهتمام والاحترام للحقوق الفردية ويمكن إجمال خصائص كل من هاتين المجموعتين من الحقوق وبالشكل الذي سيوضح القيمة الفعلية لكل منها. 1. الالتزامات الإيجابية والالتزامات السلبية لا تفرض الحريات الفردية على عاتق الدولة إلا التزاماً سلبياً مؤداه الامتناع عن القيام بعمل في مجالات النشاط الفردي، فدور الدولة يقتصر (في العلاقة مع هذا النوع من الحريات) على توليها مرافق الأمن والقضاء والجيش، إذ انها دولة حارسة أما الحقوق الاجتماعية فهي على العكس من ذلك تتطلب من الدولة ان تتيح لكل مواطن عملاً لائقاً وأجراً معقولاً وان توفر للأم والطفل والشيخ والمريض العناية المطلوبة، فهذه الحقوق تفرض التزامات إيجابية على الدولة منها ان تتدخل في شتى نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد. فالأحكام الخاصة بالحريات الفردية من الضروري ان تصاغ بهدف توفير حماية كافية للمواطنين من احتمال تعسف السلطة التنفيذية أو الحكومة، إذ يقيم المشرع حولها سداً منيعاً لحمايتها، أما الأحكام الخاصة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فتصاغ بطريقة تحقق حماية الحكومة للمواطنين وبهدف تقديم العون لهم في حياتهم، فإذا نص الدستور في باب الحريات على ان للمنازل حرمة، فهذا يرتب التزاماً سلبياً على عاتق الحكومة يفيد أنه ليس للحكام شأن بما يجري في المنازل، وهم لا يستطيعون اقتحام المنازل إلا طبقا للقانون وبأمر القضاء. أما نص الدستور في باب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية على ان الدولة تكفل للمواطن المسكن والغذاء والكساء والعلاج والتعليم، فهذا يفيد ان للمواطن أن يطالب السلطات بان تقدم له العون في حياته الخاصة لترى في أي مستوى يعيش بهدف تقديم ما يحتاج له فهذا التزام إيجابي يقع على عاتق الدولة. 2. إن الحريات التقليدية في حقيقتها إنما هي تعبير عن واقع حاصل ولا يبقى بخصوصها إلا النصوص المنظمة لها والمرتبة للأوضاع التي تمارس بناءً عليها. أما فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فالأمر يختلف، طالما ان النصوص الدستورية التي تسجلها لا تتضمن تقريراً لحالة واقعية بقدر ما تتضمن رسما لبرنامج يهتدى به مستقبلاً، وعلى ذلك فإذا ارتبطت الحريات الفردية بما هو كائن، ترتبط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بما يجب ان يكون. عليه فالحرية بالنسبة للديمقراطية السياسية حرية طبيعية يكفي لحمايتها قيام الدولة بعمل سلبي يتمثل برفع يدها عن التدخل فيها. أما بالنسبة للديمقراطية الاجتماعية فالحرية حالة مستقبلية لا يتوصل إلى تحقيقها إلا بإخضاع النشاط الاجتماعي لنفوذ الحكومة. هذا وان القيمة الفعلية للحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي أمر يتوقف على جهود المشرع العادي والإدارة في كل دولة لمناقشة الخطوات التي تقود لتحقيق الوجود المادي لهذه الحقوق وصياغتها في تشريعات قابلة للتنفيذ. 3. الأعباء إذا كانت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ترتب التزامات إيجابية فهذا يعني زيادة في أعباء الدولة، فضلاً عن تحمل الأفراد لواجبات لم تكن معروفة من قبل في ظل إعلانات الحقوق ذات الطابع الفردي الخالص ويتضح ذلك فيما يلي: أ- بالنسبة لالتزامات الدولة إن الاتجاه نحو إقرار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية يؤثر تأثيراً بعيداً في سياسة الحكم بأسرها، والدستور الذي يرتب على الدولة ان تقوم بأداء خدمات اجتماعية عامة يوجب عليها كذلك توفير الوسائل الاقتصادية لزيادة الثروة القومية لكي لا تصبح الضرائب باهظة فتعوق التقدم الاقتصادي والاجتماعي معاً، هذا ويتطلب التوسع في الخدمات الاجتماعية من جانب آخر وضع مالية الدولة على أسس جديدة بحيث توجه نفقات الدولة توجيهاً مثالياً باتجاه تحقيق فعلي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية. ب- بالنسبة لالتزامات الأفراد إن تدخل الدولة لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يتطلب فرض التزامات ازاء الأفراد لكي يتحقق الهدف المنشود من وراء إقرار هذه الفئة من الحقوق، فعندما تلتزم الدولة قبل أفرادها بأداء الخدمات فهي تقدر مبلغ العبء الملقى على عاتقها، فتفرض واجبات معينة على الأفراد منها ضرورة الالتزام بعمل ما، وهكذا يتحول العمل من مجرد حرية إلى فرض إجباري على المواطنين. ومن النصوص الدستورية التي يمكن الإشارة إليها بهذا الخصوص ما جاءت به المادة (53) من الدستور الإيطالي التي جاءت بالنص الآتي (على كل شخص ان يسهم في المصروفات العامة وفقاً لقدرته على الإسهام). والحقيقة فإن كثيراً مما اشتملت عليه الدساتير الحديثة من التزامات لازالت مجرد التزامات اخلاقية أكثر منها التزامات قانونية، ومع هذا تبقى فائدتها السياسية قائمة باعتبارها عاملاً من عوامل الإرشاد وتوجيه الشعوب. 4.التزامات الدولة بالتنفيذ تتباين الحريات الفردية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في فعاليتها أمام القضاء، إذ تقوم المحاكم بحماية الحريات الفردية فيستطيع الفرد رفع أمره إليها مبيناً أن حرية من حرياته قد لحقها اعتداء ما، لإيقاف هذا الاعتداء وطلب التعويض عن الأضرار التي لحقته من جرائه. أما الحقوق الاجتماعية والاقتصادية فإن التخلف عن أدائها لا يصلح على وجه العموم أن يكون موضوعاً لدعوى أمام القضاء، على ان تحقيق مضمون هذه الحقوق يتطلب ان تكون الدولة قادرة مادياً على أدائها، ثم انها ستبقى في مرحلة الإعلان النظري ولا تبلغ الكمال في تطبيقها إلا تدريجياً حتى يتيسر لميزانية الدولة ان تمكن الحكومة من ان تقيم المجتمع الأمثل. المبحث الثاني صور الحقوق والحريات توجد عدة تصانيف للحقوق والحريات كل منها يحمل اسماً مختلفا عن الآخر إلا انها تتداخل في حقيقة الأمر، فهناك حقوق الإنسان الفردية وحقوق الإنسان الجماعية، وحقوق الإنسان المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق التي تمثل الجيل الثالث، وسنتعرض لجانب من هذه الحقوق. المطلب الأول حقوق الإنسان المدنية والسياسية( الجيل الاول) تعرف الحرية بانها تأكيد كيان الفرد تجاه سلطة الجماعة وهو ما يعني، الاعتراف للفرد بالإرادة الذاتية، مما يعني الاتجاه إلى تدعيم هذه الإرادة وتقويمها بما يحقق للإنسان سيطرته على مصيره، وقد فهمت الحرية انطلاقاً من المعنى المتقدم خلال القرن التاسع عشر باعتبارها وسيلة لمقاومة الدولة وتقييد سلطاتها لصالح الأفراد فهي ضمانة لاستقلال الفرد وتحقيق ذاته وحفظ كرامته الإنسانية وعلى هذا الأساس سارت الحريات الفردية في اتجاهين: الاتجاه الأول يتمثل في تحديد مجال خاص للنشاط الفردي حيث يعتبر هذا المجال منطقة مغلقة في مواجهة الحكومة، ومن ثم فان المجموعة الأولى من الحريات الفردية سيقصد بها الحريات المتعلقة بالنشاط الفردي التي لا تستطيع الدولة ان تباشر أي نشاط فيها. الاتجاه الثاني تمثل بالاعتراف بمجال محدد للنشاط الحكومي، مع الاعتراف للأفراد بحقيقة أساسية هي انهم يملكون وسائل متعددة لمنع الدولة من ان تبسط نفوذها وسيطرتها، وبالشكل الذي يمنع تهديدها للنشاط الفردي وهذه تمثل المجموعة الثانية من الحريات الفردية، وهي الحريات المقررة للأفراد باعتبارها وسائل لمعارضة الدولة داخل الحيز المسموح لها بالتدخل فيه، ومن ثم فان هناك مجموعة من الحريات الفردية حيث تشتمل المجموعة الأولى المشار إليها آنفاً باعتبارها تمثل الحريات أو الحقوق المدنية(16) وسنتعرض لبعض منها وهي: الفرع الأول الحقوق المدنية (الفردية) أولاً: الحق في الحياة والحرية وفي أمان الفرد على نفسه يعد الحق في الحياة أحد الحقوق الطبيعية التي يجب ان تضمن لكل إنسان، وحماية هذا الحق لا يقتصر على عدم المساس به من قبل الدولة وسلطاتها العامة، بل هو حق يتطلب ضمانهُ التزام الدولة بمنع حدوث الاعتداء عليه من جانب الأفراد، والهيئات، والجماعات، ووضع القوانين التي تحقق هذه الحماية بصورة فعلية، وتوقع الجزاء على من يعتدي على هذا الحق بأي شكل من الأشكال.(17) ونصت أكثر من اتفاقية دولية على هذا الحق بشكل صريح، أما دساتير الدول العربية فلا يوجد دستور عربي واحد يضمن الحق في الحياة بأي شكل كان،(18) فيما عدا قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (م12)، فقد نصت المادة السادسة من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية على تفاصيل تتضمن مجموعة من الضمانات لهذا الحق إذ تشير هذه المادة إلى ((1- لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي) أما الفقرات الأخرى من المادة ذاتها فقد جاءت بتنظيم قانوني لمسالة عقوبة الإعدام باعتبارها من أكثر المسائل التي يمكن ان تتعرض للحق في الحياة إذ تنص على: (2- يجوز ايقاع حكم الموت، في الأقطار التي لم تلغَ فيها عقوبة الإعدام بالنسبة لأكثر الجرائم خطورة فقط طبقاً للقانون المعمول به في وقت ارتكاب الجريمة وليس خلافاً لنصوص العهد الحالي والاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها، ولا يجوز تنفيذ هذه العقوبة إلا بعد صدور حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة. 3- ليس في هذه المادة، إذا كان حرمان الحياة يشكل جريمة إبادة جنس ما يخول أية دولة طرف في العهد الحالي التحلل بأي حال من أي التزام تفرضه نصوص الاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها. 4- لكل محكوم عليه بالموت الحق في طلب العفو أو تخفيض الحكم ويجوز منح العفو أو تخفيض حكم الموت في كافة الأحوال. 5- لا يجوز فرض حكم الموت بالنسبة للجرائم التي يرتكبها أشخاص تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً كما لا يجوز تنفيذه بامرأة حامل. 6- ليس في هذه المادة ما يمكن لأية دولة من الدول الأطراف في العهد الحالي الاستناد إليه من اجل تأجيل إلغاء عقوبة الإعدام أو الحيلولة دون ذلك الإلغاء). وفي 15 كانون الأول 1989 أعلن البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهدف إلغاء عقوبة الإعدام وفيه تم التأكيد على ان إلغاء هذه العقوبة يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان وان التدابير الرامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام تمثل تقدماً في المتمتع بالحق في الحياة، وهذا البروتوكول يضع التزاماً على الدول الأطراف في مادته 1 / 2 بوجوب إلغاء الدولة لعقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.(19) ان خلاصة موقف القانون الدولي يتجه إلى إلغاء هذه العقوبة باعتبارها تتنافى مع الحق في الحياة، إلا ان هذا الاتجاه يبقى غير معبر عن السياسات العقابية في بلدان العالم المختلفة والتي تنسجم على وجه العموم مع المجتمعات الوطنية لكل دولة، فضلا عن ان العديد من البلدان التي تعتمد هذه العقوبة توجد فيها ضمانات متعددة، فإيقاع الإعدام لا يتم بإجراءات سهلة ومن هذه الضمانات انه لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا على أكثر الجرائم خطورة، وهي تثبت الحق في الاستفادة من العقوبات الأخف في ظل ظروف معينة، والحق الإلزامي بالاستئناف مع إتاحة الوقت الكافي لإعداد الدفاع والتماس العفو، ووضعت استثناءات من عقوبة الإعدام بالنسبة للأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة والحوامل، والأمهات الحديثات الإنجاب، والأشخاص المخبولين أو الذين أصبحوا كذلك أو المتخلفون عقلياً، ونص على مقتضيات خاصة بالإثبات فيما يتعلق بالكشف عن الجرائم وأهلية المحاكم بغية ضمان محاكمة عادلة وعدم ترك أي مجال لتأويل الحقائق على غير ما هي عليه، ويحق للمتهمين الحصول على مساعدة قانونية خاصة تفوق ما يقدم في حالات الجرائم التي لا يعاقب عليها بالإعدام كما يحق للمتهمين الإطلاع على كامل التهم الموجهة إليهم والأدلة المستخدمة ضدهم وهناك التزام إنساني بأن يضمن عند تنفيذ هذه العقوبة ان تكون معاناة السجناء عند الحد الأدنى.(20) من جانب آخر يشار إلى ان لجنة حقوق الإنسان التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قراراً في 3 نيسان 1997 طالب جميع الدول التي لم تُلغِ بعد عقوبة الإعدام بأن تدرس وقف تنفيذ الإعدام بغية إلغاء هذه العقوبة إلغاءً كاملاً وطالب القرار دول العالم بالانضمام إلى البروتوكول الاختياري الثاني الملحق باتفاقية الحقوق المدنية والسياسية كما ان نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتمده مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين في تموز 1998 لا ينص على فرض عقوبة الإعدام على أي من الجرائم الخطيرة الواردة في النظام الأساسي.(21) موقف الدساتير العربية من عقوبة الإعدام تخلو الدساتير العربية من أية تدابير تقيد من عقوبة الإعدام، كحظر إعدام من يقل سنه عن 18 عاماً أو حظر إعدام النساء الحوامل، وهذا ما قد يوحي بأن واضعي هذه الدساتير قد اختاروا ان يتجنبوه تماماً في دساتيرهم على اعتبار ان من حق الدولة استخدام هذه العقوبة وهذا أمر مسلم به طبقاً لهذا الاتجاه الدستوري ومع ذلك فهناك بعض الدساتير تتضمن إشارة إلى هذا الموضوع بطريقتين: الأولى تتعلق بتحديد حق طلب العفو من عقوبة الإعدام أو إبدالها وهذا أمر تتركه الدساتير لرئيس الدولة، بينما تنفرد الوثيقة الخضراء الليبية في منح المحكوم عليه الحق بطلب التخفيف أو الفدية (م8) ولا يتحدث أي دستور عربي آخر عن مفهوم الفدية في هذا المجال. أما الطريقة الثانية فهي تتمثل في منع بعض الدساتير الوسائل غير المشروعة للعقوبات كالدستور اليمني (م33) ولا يبدو واضحاً إذا ما كان ذلك يشمل عقوبة الإعدام، وتمنع الوثيقة الخضراء الإعدام بوسائل تعتبرها بشعة كالكرسي الكهربائي والغازات السامة وهذه أساليب متبعة في الولايات المتحدة الأمريكية.(22) أخيراً من الضروري التذكير بان الشريعة الإسلامية تأخذ بعقوبة الإعدام لبعض الجرائم وهي توفر مجموعة من الضمانات الكافية في إطار فلسفة التشريع والعقاب في هذه الشريعة، قال تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). أما الحق في الحرية وأمان الفرد على نفسه فهذه حقوق تتضمن مجموعة كبيرة من الحريات والحقوق التي تنضوي تحتها فلا يجوز استرقاق إنسان لأي سبب كان، وهذا أمر نصت عليه الكثير من الاتفاقيات الدولية وتنصاع له القوانين الوطنية، فضلاً عن تحريم السخرة ويعد العمل من أعمال السخرة أو مفروضاً في مفهوم حقوق الإنسان، كل عمل يفرض على الإنسان، دون ان تكون لإرادته دخل في قبوله، ولا يهم بعد ذلك ان يكون المرء الذي يقوم بهذا العمل يؤديه نظير أجر أو بدون مقابل. وهناك حق لكل فرد في الحرية والسلامة الشخصية، ومن ثم لا يجوز القبض عليه أو إيقافه بصورة تعسفية دون اتخاذ الإجراءات القانونية السليمة بهذا الخصوص كما لا يجوز ان يحرم أحد من حريته ومن الضروري ان يتم إبلاغ كل من يقبض عليه بأسباب ذلك عند حدوثه، فضلاً عن إبلاغه فوراً بأية تهمة توجه إليه ويجب ان يقدم الشخص المقبوض عليه أو الموقوف بتهمة جزائية فوراً أمام القاضي أو أي موظف آخر مخول قانوناً بممارسة صلاحيات قضائية ويكون من حق المقبوض عليه أو الموقوف ان يقدم إلى المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة أو يفرج عنه ومن حق كل إنسان يحرم من حريته بسبب إلقاء القبض عليه أو توقيفه أن يلجأ إلى الإجراءات القانونية المتاحة أمام المحاكم المختصة لكي تقرر مدى شرعية الإجراءات القانونية التي اتخذت بحقه وتم إيقافه استناداً إليها كما ان له الحق في طلب التعويض عن الأضرار التي أصابته في حالة كون إجراءات إيقافه غير قانونية. وتحتوي الدساتير العربية فيما عدا دستور دولة قطر على تدابير تتعلق باعتقال الأشخاص واحتجازهم لكن عدداً محدوداً من هذه الدساتير تتوافق نصوصها مع المعايير التي تتطلبها الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، فهناك عدد من الدساتير العربية تتحدث عن الحرية الشخصية بشكل عام على أنها مضمونة، بينما تشير دساتير أخرى إليها باهتمام أكبر فهي (حق طبيعي وهي مصونة لا تمس)، كما جاء في المادة (41) من الدستور المصري أو هي (حق مقدس) في الدستور السوري ( م25/1) ولا تسمح دساتير الدول العربية بحرمان أحد من الحق في الحرية والأمان الشخصي إلا وفقاً للقانون، وهذا نص يقترب إلى حدٍ ما من الصياغات الدولية لهذا الحق حيث (لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً) (م 9/1) من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية)، وهنا يلاحظ غياب مفهوم التعسف في الدساتير العربية، وهو مفهوم كان القصد من وراء استخدامه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حماية الأفراد من الأفعال غير المشروعة وغير العادلة بشكل متساوٍ فلو اقتصر الأمر على مجرد حماية الإنسان من الأفعال غير المشروعة فقط لما أمكن الطعن في كل أعمال الظلم التي تقوم بها الإدارة الحكومية طالما كانت تلك الأعمال متفقة مع القوانين الوطنية الموضوعة.(23) كذلك يلاحظ ان معالجة الدساتير العربية للحقوق الأساسية المتعلقة بكيفية الاعتقال والاحتجاز تعكس وجود اختلافات عديدة تفرض متابعة ودراسة القوانين المطبقة في كل بلد للتأكد مما إذا كانت هذه الحماية للحق في الأمان الشخصي حماية فعلية أم لا، ويمكن القول ان دساتير الدول العربية توفر نوعاً من الحماية النسبية لهذا الحق إلا ان ما يؤخذ على هذه الدساتير ان نصوصها عامة، فدساتير الجزائر والبحرين ومصر واليمن مع المادة 9/3 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية 1966 هي التي يمكن ان تنجح في توفير شيء من الحماية المفصلة والضمانات الموسعة لهذا الحق وبشكل خاص عندما تكون السلطة القضائية هي المرجع في هذا الأمر، فالدستور المصري يشترط وجود أمر اعتقال تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع يكون صادراً عن القاضي المختص أو النيابة العامة طبقاً للقانون (م 41) وتتطابق معها المادة (32/5) من الدستور اليمني مدعومة بالفقرة السابقة التي تضع شرطاً مضمونه عدم جواز تقييد حرية أحد إلا بحكم من محكمة مختصة، كما توفر مجموعة أخرى من الدساتير دوراً أخر للقضاء بحظر تمديد الاحتجاز إلا بأمر قضائي كالمادة (45) من دستور الجزائر والمادة (42/ج)من دستور اليمن.(24) ثانيا: تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية ويرتبط بالحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية والحقيقة أن تحريم هذه الممارسات قد جاء مباشرة بعد النص على الحق في الحياة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان مما يعكس أهمية النص على تحريم التعذيب وضروب المعاملة القاسية وغير الإنسانية، وتعرضت اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان إلى هذا الموضوع في الطعن الفردي الذي قدمه مواطن نمساوي حكم عليه بالسجن في بلده وكان يتعرض للنوم على أشياء صلبة مرة واحدة كل ثلاثة أشهر كعقوبة تكميلية حكمت بها المحكمة النمساوية وعلى الرغم من ان الطاعن لم يُشِرْ إلى هذه المسألة باعتبارها معاملة غير إنسانية فقد تعرضت الجنة لها تلقائياً وذكرت في قرارها الصادر عام 1959 (انها لاحظت جسامة العقوبة التي وقعت على الطاعن بمقتضى نظام النوم على أشياء صلبة، ولكن مع ذلك، فان هذه العقوبة التكميلية لا يتعرض لها الطاعن إلا مرة كل ثلاثة شهور، ولا تعد نظراً لذلك عقوبة غير إنسانية بالمعنى الوارد في الاتفاقية).(25) وربما كانت اللجنة ستعد مثل هذه العقوبة غير إنسانية أو استثنائية لو كان الطاعن يتعرض لها يومياً أو خلال مدة طويلة من فترة السجن المحكوم بها عليه، ويؤيد هذا الفهم ان اللجنة لاحظت من تلقاء نفسها جسامة هذه العقوبة.(26) ان النصوص الدستورية التي تؤكد على تحريم التعذيب والمعاملة غير الإنسانية أو القاسية أو الاستثنائية، توفر بشكل خاص منهجاً لحماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية ولا توجد في عدد من دساتير الدول العربية أية إشارة إلى التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة، فالدساتير العربية التي ترحم التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة لا تتجاوز نصف الدساتير العربية وعلى درجات متفاوتة من التحديد والوضوح حيث تستخدم مصطلحات مثل (الإيذاء والإساءة أو المعاملة بشكل يوصف بالتعذيب بدنياً أو جسمانياً أو معنوياً أو نفسياً أو استخدام مصطلح المعاملة الحاطة بالكرامة أو المهينة أو وضع عقوبات جزائية ضد من يرتكب التعذيب أو ينتهك الحظر المفروض عليه (م28/3 من الدستور السوري)، فضلاً عن اعتبار ما انتزع بسبب التعذيب لاغياً وباطلاً (م 19 و 42 من الدستور المصري)، أما المادة (45) من الدستور الجزائري فهي توفر ضمانة جيدة بهذا الخصوص إذ تنص على (لدى انتهاء مدة التوقيف للنظر، يجب ان يجرى فحص طبي على الموقوف ان طلب ذلك، على ان يعلم بهذه الإمكانية)، ومع ان الفحص الطبي من الوسائل الرادعة أو العملية لمنع اللجوء إلى التعذيب إلا ان ما يلاحظ عليه أنه يُلقي بعبء المطالبة بالفحص الطبي على عاتق الموقوف وعند انتهاء مدة التوقيف فقط وليس قبل ذلك ويقع الالتزام على الدولة بإعلامه ان له الحق في ذلك في نهاية المدة المذكورة.(27) وتوجد نصوص دستورية أخرى في دول العالم تنص على تحريم التعذيب والمعاملات القاسية أو غير الإنسانية كالمادة (38) من دستور اليابان لعام 1967 التي نصت على (لا يجوز إكراه أحد على الإدلاء بأقوال تسيء إلى مصالحه، والاعتراف الذي يتم نتيجة للإكراه أو التعذيب أو التهديد أو القبض أو الحبس لفترة تتجاوز ما يقتضي به القانون لا يجوز ان ينهض دليلاً في الإثبات، كما لا يجوز إدانة أحد أو توقيع عقوبة جنائية عليه إذا كان اعترافه هو الدليل الوحيد القائم ضده).(28) اما الدستور العراقي لعام 2005 فقد نص على تحريم جميع انواع التعذيب والمعاملة غير الانسانية فجاء في المادة (37) (( يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية ولا عبرة باي اعتراف انتزع بالاكراه او التهديد او التعذيب ، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي او المعنوي الذي اصابه وفقاً للقانون)). يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 13 | |||
|
![]() ثالثاً: الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 14 | |||
|
![]() الفرع الثاني يتبع > __________________ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 15 | |||
|
![]() ثالثاً: حرية الضمير والعقيدة الدينية تابع القادم > :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(7) |
|||
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc