المدخل لدراسة حقوق الانسان - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > الحوار الأكاديمي والطلابي > قسم أرشيف منتديات الجامعة

قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها .....

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

المدخل لدراسة حقوق الانسان

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2008-11-06, 18:48   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18 المدخل لدراسة حقوق الانسان

المدخل لدراسة حقوق الإنسان


بسم الله الرحمن الرحيم

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من امرنا رشدا
صدق الله العظيم
الآية 10 سورة الكهف


مقدمه عامه

تعد حقوق الانسان حجر الزاويه في اقامة المجتمع المتحضر الحر , واحترام حقوق الانسان ورعايتها هو عماد الحكم العادل في المجتمعات الحديثه والسبيل الوحيد لخلق العالم , الحر الآمن والمستقر .
وفي جنبات هذا المؤلف حاولنا استعراض موضوع حقوق الانسان والقينا الضوء على هذا الموضوع الذي طالما شغل رجال القانون و السياسه , واستاثر باهتمام المختصين بهذا المجال من العلاقات الانسانيه لما في تعزيز احترام هذه الحقوق من نتائج منشوده يتجلى فيها خير الحاكم والرعيه , مما حداهم الى بذل الجهد الفكري المتواصل للتثقيف في مجال هذه الحقوق وضمان تطبيقها .
واذا كانت البحوث والدراسات التي تناولت هذا الموضوع قد ركزت في اغلبها على الجانبين القانوني والسياسي , فان الجانب التاريخي يبقى بحاجه الى مزيد من البحث , ومتابعة الدراسه والاستقصاء , خاصه في مجتمعاتنا العربيه التى تشيع فيها فكره مفادها ان مبادئ حقوق الانسان انما هي نتاج للعقل الغربي وتتناسى موروثها الحضاري بهذا الخصوص .
ان هذا المؤلف "المدخل لدراسة حقوق الانسان " يشكل محاوله منا لبيان الجذور التاريخيه لحقوق الانسان وتطور مفاهيمها الذي ترافق مع التطور البشري ونظال الشعوب الطويل من اجل الحريه والكرامه وصولا الى الوقت الحاضر الذي اصبحت فيه مناره تشع بنور الفضيله والقيم الانسانيه الساميه وتتباهى بتبنيها الدول المتقدمه .
هذا المؤلف موجه الى مجموعه متنوعه من القراء الا ان الشريحه الاكثر استهدافا هي شريحة الطلبه الجامعيين باعتبارهم الاقدر على مواصلة الطريق في سبيل اشاعة هذه المبادئ والتثقيف بشانها وتعزيز احترامها .
فقد اضحت هذه الحقوق اليوم المعيار الرئيس للحكم العادل ومقياس شرعية السلطه وممارستها, فلم يعد بالامكان ان يتعامل الحكام مع مواطنيهم بعيدا عن المعايير الدوليه لحقوق الانسان.
ان احترام هذه الحقوق اليوم يعد التزاما دوليا على عاتق الدوله امام الاسره الدوليه ومقياسا لشرعية الحكم فيها , وفي هذا السبيل من الضروري الوفاء بالالتزامات المتعلقه باحترام الدول هذه الحقوق والتثقيف بها واشاعتها , كتلك الالتزامات الناشئه من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصاديه والاجتماعيه والثقافيه , واتفاقية حقوق الطفل , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ضد المرأه , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ,واتفاقية مناهضة التمييز في التعليم .
وقد اقتضت هذه الدراسه ان نقسم البحث الى ستة فصول بذلنا وسعنا ان تكون موازنه بين الدساتير العالميه والعربيه المختلفه كما لم نغفل اخر الاتفاقيات والمقررات الدوليه , وفق التفصيل الاتي :

الفصل الاول : الجذور التاريخيه الاولى لحقوق الانيان
الفصل الثاني : حقوق الانسان في الاسلام
الفصل الثالث : تطور حقوق الانسان
الفصل الرابع : اشكال وصور حقوق الانسان والترابط بينها
الفصل الخامس: الحمايه الداخليه لحقوق الانسان
الفصل السادس : الحمايه الدوليه لحقوق الانسان



الفصل الأول

الجذور التاريخية الأولى لحقوق الانسان

ان المسيرة الفلسفية والقانونية لحقوق الإنسان لم تبدأ في غفلة من التاريخ فهناك أصول وأسس سابقة بنت عليها الحضارة الحديثة مفاهيمها عن حقوق الإنسان، ومن ثم فان القيمة التاريخية لمضامين الحقوق لا تقل أهمية عن القيمة الموضوعية فالأولى تبرز أهمية الثانية بشكل مضاعف والتطرق لموضوع حقوق الإنسان من الناحية التاريخية ومحاولة التماس الأصول التاريخية لهذه المسيرة أمر له أهميته بهدف رسم صورة لعملية التغيير التي حدثت في الأفكار الإنسانية التي ترتب عليها الدعوة إلى حركة وطنية ودولية لحقوق الإنسان لمعرفة إمكانية ضمان تطبيق هذه الحقوق بصورة عملية.
ان هذا الفصل يهدف إلى محاولة الإجابة عن سؤال مهم، وهو هل يوجد شيء نطلق عليه حقوق الإنسان بصورة فعلية في الأزمنة القديمة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي الأدوات أو الآلية التي وفرها النظام القانوني في العصور القديمة لحفظ تلك الحقوق ؟ وإذا لم يكن هناك شيء اسمه حقوق الإنسان قديماً فما هي الأسباب ؟

المبحث الأول
حقوق الإنسان في الحضارات القديمة

لا يمكن القول بوجود لحظة محددة بدأت عندها الأصول الأولى لفكرة حقوق الإنسان، ولكن في أغلب الظن فان هذه الأصول قد بدأت مع بداية تكوين حياة مشتركة لمجموعات البشر، ومن ثم فان هذه الفكرة ولو بصورتها البدائية هي فكرة قديمة قدم الحياة البشرية ذاتها وتمثل المدينة بأوجه الحياة المختلفة فيها والتي شكلت بدايات ظهور الدول في تاريخ العالم البدايات الأجدر بالبحث من خلالها عن تفاصيل محددة لفكرة حقوق الإنسان فمدينة لا رأي فيها الا لرجل واحد ليست مدينة كما انه لا يكفي لكي نعيش حياتنا ان يتحول الصراع إلى مناقشات منطقية إلا حيث تقدر قيمة الاختلاف في الرأي وتتاح المعارضة فالمدينة كمكان يعيش فيه البشر هي مستقر ومرتع تشجع فيه الحروب العقلية لا الحروب البدنية.
عليه فان البدايات لفكرة حقوق الإنسان ضمن إطار الدولة تبدأ مع ظهور المدينة.

المطلب الأول
حقوق الإنسان في حضارة وادي الرافدين
ان للعدل باعتباره المثل الأعلى للسلوك الإنساني وللحكم واقامة السلطة التي يتمتع بها الملوك والأمراء وزعماء الجماعات البشرية المختلفة تاريخاً قديماً اكثر عمقاً من الفكر اليوناني، فهو لا ينطلق من جمهورية افلاطون إذ انه عرف بصورة واضحة في شرائع وقوانين بلاد ما بين النهرين، وإذا كان لقضية الخوف التي يعاني منها الإنسان منذ ان وجد على سطح الأرض عاملاً هاماً في دفعه مع الآخرين من بني جنسه إلى البحث عن مركز ثابت للاجتماع والاستقرار الأمر الذي ترتب عليه بمعونة عوامل أخرى إلى ظهور تنظيمات مختلفة للإنسان على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جرى تنظيمها عن طريق القوانين والشرائع التي ظهرت على مر العصور، فمن الوجهة السياسية يلاحظ أن القوة السياسية كانت دائماً في يد مجلس شيوخ المدينة أو القرية وفي معظم المجتمعات فأصول قواعد السلوك والحكومة والقانون والعدل كانت موجودة في مجلس شيوخ القرية ويبدو ان هذه الوسيلة البدائية من أدوات الحكم كانت من مميزات المجتمعات القروية في كل العصور، ولقد بلغ من خطورة شأن هذه المنظمة انها تركت طابعها على كل القصص الدينية ونشاط الأداة الحكومية في مدن بلاد ما بين النهرين اذ انه إلى ما بعد ذلك بآلاف السنين كان لا يزال في بابل مجلس للآلهة على نمط القرية العتيق، وهكذا فانه مع تطور المدينة أصبح في المجتمع طبقة مميزة تسيطر على الطبقات الأخرى وعندها أدعى الملوك والزعماء أنهم يستمدون سلطانهم من مصادر الاهية حيث أصبحوا حلقة الوصل بين السماء والأرض، وبذلك امتزجت السلطتان الدينية والزمنية كما كان الأمر في الحضارات القديمة كلها، وهذه حقيقة تشمل حضارات بلاد ما بين النهرين والحضارات الأخرى كالمصرية القديمة والصينية والهندية واليابانية(13).
ان هذه الأوضاع الجديدة منحت الحاكم صلاحية الانفراد بالسلطة واسترقاق الآخرين حيث امتد الأمر ليشمل طبقات بأكملها داخل مجتمعه، وعليه فانه لم يكن هناك حق إنساني إلا في حدود ما يقره الحاكم فقط، ويمكن بالاستناد إلى ذلك تفسير ظاهرة الحرب والسبي والقتل والتدمير اذ أن كل ملك من الملوك كان يطمح إلى المزيد من القوة المادية والمعنوية والتي لا يتم الحصول عليها إلا بمقابلة الآخرين أو قتلهم والاستيلاء على أموالهم، وهذا الوضع العام أدى إلى وجود أقلية حاكمة ومسلحة على حساب الكثرة التي غالباً ما تحرم من حقوقها الإنسانية، فإذا كان ظهور الملك الحربي قد حقق الأمن لنظامه الملكي ولحاشيته وعسكره فانه من جهة أخرى قد فرض نظاماً قاسياً على رعيته، وبقدر تعلق الأمر ببلاد ما بين النهرين يشير أحد الكتاب إلى أن (الإرهاب كان هو السمة العامة للمجتمع، وقد بلغت أعمال الوحشية ذروتها في شخص آشور بانيبال ملك آشور، وتضاعفت مظاهر القسوة هذه ووصلت الذروة في عهد متأخر كعهد حمورابي حيث كانت نصوص القانون الذي اشتهر به يحتوي على قائمة من الذنوب لا حصر لها، وكثير منها طفيف، لكنها كانت تستوجب العقاب بالموت، أو بالتشويه عملاً بالنص الحرفي لمبدأ العين بالعين والسن بالسن(14).
وربما كان لهذا الشكل من أشكال الإرهاب أسبابه المتعددة ومنها قسوة الطبيعة. ففي بلاد ما بين النهرين للطبيعة قسوة مميزة تمثلت في فيضان الأنهار المفاجئ والمدمر لمحاصيل الفلاحين بينما يمثل النيل سهولة الحياة وسلاستها فالفلاح المصري يعرف أوقات الفيضان، الأمر الذي يقود إلى استغلال المحاصيل الزراعية على أكمل وجه وهو ما يقود بدوره إلى حياة الأمن والاستقرار، ويمكن تفسير القسوة الإنسانية كنتيجة لقسوة الطبيعة في بلاد ما بين النهرين ونقيض ذلك في بلاد النيل من خلال الضغط والإرهاب الذي أدى إلى وحدة الأقاليم في المنطقة الأولى بينما أقيمت وحدة الأقاليم في وادي النيل على المنفعة العامة التي تجنى من مياه النيل.

وقد ازدادت الحياة قسوة عندما جاء رجل ووضع قدمه على قطعة أرض وقال هذه ملكي مما ترتب عليه تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء، ومع ذلك فان التقسيم الحقيقي للملكية لم يبدأ إلا عندما بدأ الحكام يوزعون هباتهم للمقربين منهم ولم تظهر حقوق الملكية بتفاصيل قانونية إلا في الألف الثاني قبل الميلاد وهو ما جاءت به شريعة حمورابي التي عالجت تفاصيل الملكية وحق نقلها، وهنا يمكن ملاحظة حقيقة أساسية، وهي أن معظم الحضارات القديمة قد قامت بشكل أو بآخر على أكتاف الرقيق، وبالمثل فانه يمكن القول أن الثروات الطائلة التي يجمعها أفراد مهيمنون لا تتم إلا عن طريق الاسترقاق والقسوة التي تخلو من الشعور بالإنسانية تجاه الآخرين، ومن ثم فإن الفترة الأولى التي شهدت عصر ما قبل التاريخ والحضارات القديمة لم تتعرض لقضية حقوق الإنسان بمعناها الحقيقي من حيث حقه في تقرير المصير وحقه في الوجود حتى أن القوانين التي وضعها حمورابي لا تؤدي إلا لأن يكون الناس جميعاً بلا عيون وبلا أسنان وبلا أطراف وفي نهاية الأمر فلا نجد في ظل هذه القوانين داخل المجتمع الإنساني سوى عقاب يتبعه عقاب وليس حقوقاً تليها حقوق.
عليه فان الحقوق التي أقرتها الشرائع القديمة لم تكن حقوقاً جماعية بالمعنى المعروف في الوقت الحاضر بل كانت حقوقاً فردية يتمتع بها الحاكم، ومن ثم فان تناقض الوعي وصراع الذات والموضوع لم تؤدي إلى تطور الوعي في الحضارات القديمة ولذا انعدمت الحرية فيها حيث لم يكن هناك سوى شخص واحد حر هو الحاكم(15) .
أن ما تقدم من أفكار يمثل وجهة نظر واحدة عن حقوق الإنسان وأصولها في المجتمعات القديمة على وجه العموم، وفي حضارة ما بين النهرين على وجه الخصوص، ومن ثم فانه يحق لنا ان نتساءل فيما إذا كانت الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟ فمن الضروري أن نلاحظ أن البدايات الحقيقية للتشريع والقانون إنما ظهرت في بلاد ما بين النهرين التي تكونت فيها أولى التجمعات البشرية المشكلة للأشكال الأولى للدولة بكل ما تعنيه من تنظيم سياسي واقتصادي واجتماعي.
عليه فان هناك وجه آخر فازدهار القوانين في بلاد ما بين النهرين أمر مؤكد بالمقارنة مع المدنيات الأخرى التي زامنت الحضارة العراقية القديمة، والحقيقة هي أن تطور القانون لا ينفصل عن تطور الفكر بشكل عام وهو بدوره يمثل انعكاساً للمديات المتقدمة في جوانب الحياة المادية، فالقانون في الأساس، منطلق لتنظيم العلاقات، وتثبيت حقوق وواجبات طرفي العلاقة في أشكال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ومن بين أوجه العلاقات تلك التي تقوم بين الناس، فرادى وجماعات في جانب، وبين الحاكم أو من يمثله من سلطات وإدارات وهيئات من جانب آخر، ولأن الملك في نظرة العراقيين القدماء شخص لا يختلف كثيرا ً عن بقية الناس، أوكلت الآلهة إليه مهمة حكم البشر وادارة شؤونهم، فهي من واجباته، مثلما له حقوق على الناس، لذلك برزت الحاجة الماسة إلى تعيين الحقوق والواجبات لطرفي العلاقة الرئيسيين الملك من جانب والمجتمع من جانب آخر.
وعلى الرغم من أن هذا التصور للعلاقة لم يصل إلينا مدوناً بشكل مباشر ولكننا نستشفه من أقوال الملوك وبعض النصوص الدينية، فالملك مكلف بنصرة المظلومين والاقتصاص من الظالمين وهو الراعي العادل، ولكنه لم يمثل صورة الحكم الإلهي (فإذا لم يحرص على تطبيق العدالة، فسيغير الإله ايا قدره) بمعنى أن مصير الملك كصاحب سلطان منوط بموقفه من العدالة وعمله على تطبيقها، لأنها إرادة الآلهة. وجانب من هذه الحقيقة تشير إليها قوانين حمورابي إذ نقرأ على لسان هذا الملك (انتدبني آنذاك آنو وانليل، أنا حمورابي الأمير الكريم عابد الالهة، لأنشر العدل في البلاد واقضي على الشر والغش وامنع القوي من اضطهاد الضعيف).
وبقدر تعلق الأمر بالجوانب الخاصة بحقوق الإنسان يلاحظ على القوانين العراقية القديمة إقرارها ببعض العقوبات الصارمة أو اعتمادها على بعض المبادئ الساذجة والتي لا تتوافق مع أعراف البشر المتمدنين في العصر الراهن، ومن أمثلة ذلك تعميم المسؤولية أو استنتاج البينة عن طريق الامتحان، وما إلى ذلك، ولكن إذا ما تذكرنا اننا نستعرض أعمالاً قانونية يقرب عمرها من أربعة آلاف عام، سنقبل بالضرورة بعض المآخذ التي تسجل على جوانب من القوانين، غير متناسين أن القوانين العراقية القديمة تشكل التجربة الأولى في تاريخ البشر، وانها بالمقارنة مع الكثير من الأعمال القانونية اللاحقة، تمثل الأساس الصحيح والسليم لتجربة الإنسان القانونية(16).
ومن النصوص القانونية التي جاءت بها شريعة حمورابي والتي لا تنسجم مع أسس حقوق الإنسان النص الذي يعالج حالة أي مواطن يتهم مواطناً آخر بجريمة يعاقب عليها بالإعدام ثم لم تثبت عليه فانه يعدم عوضاً عنه، كما تضمنت هذه المدونة النص على حق المحارب الذي يؤسر في ديار الأعداء في أن يسترد زوجته إذا عاد إلى بلده، حتى لو كانت قد تزوجت أثناء أسره برجل آخر، وهي تحتم على زوجة الأسير ان تلزم داره مادام فيها ما تقيم به أودها وإذا ما تزوجت رجل فانه يلقى بها في النهر، ومع ذلك فان هناك نصوصاً عبرت عن احترام بعض الأسس التي تعد من حقوق الإنسان حتى في العصر الحديث، فقد اعتبرت الدولة مسؤولة عن تقصيرها في حماية الأشخاص والممتلكات، ولهذا السبب، فانه إذا قتل مواطن ولم يتيسر معرفة قاتله تعاونت المدينة وحاكمها على دفع الدية إلى أهله، وإذا سرق مواطن ولم يتيسر القبض على سارقه واسترجاع المسروقات عوضته مدينته وحاكمها عما سرق منه.
فضلاً عما تقدم من أحكام تبرز ملامح أخرى لحقوق الإنسان يمكن الإشارة إليها كالإصلاحات المنسوبة إلى حاكم مدينة لجش أوروكوجينا التي تتمحور إصلاحاته على معالجة الوضع الضرائبي وشؤونه بصورة أساسية ومع ذلك فقد أكدت هذه الإصلاحات على بعض المبادئ المهمة كفكرة الحرية في حدود القانون وان المناصب الوظيفية العالية في الحكومة والإدارة لا تعفي صاحبها من الحدود القانونية، وهذا كله بهدف توفير أساس قانوني لمعاقبة الموظفين وجامعي الضرائب ممن خرقوا التقاليد وتجاوزوا على حقوق المواطنين وممتلكاتهم(17)، ومما تجدر الإشارة إليه ان إصلاحات اوروكوجينا هي الوثيقة الأولى في تاريخ البشرية التي وردت فيها كلمة الحرية(18).
القانون الآخر هو قانون اورنمو الذي يعد من اقدم القوانين المدونة في تاريخ البشرية وقد اعتمد مبدأ التعويض في العقوبات على خلاف المبدأ الذي يعتمده قانون حمورابي وهو القصاص.
وفي إطار عمل الأجهزة القضائية يمكن الإشارة إلى جريمة قتل اخبر القتلة الزوجة بمقتل زوجها فلما عرضت القضية على مجمع المواطنين في مدينة (نفر) صدر الحكم بان العقوبة ينبغي ان لا تشمل سوى القتلة والفاعلين وقد ترجمت تلك الوثيقة وعرضت على عميد كلية الحقوق بجامعة بنسلفانيا وعضو المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1930 – 1940 لبيان رأيه فيها فأجاب بان القضاة المعاصرين يتفقون مع القضاة السومريين القدامى في هذا الحكم، لأن تلك الزوجة لا يمكن أن تعد شريكة في الجريمة بموجب أحكام قوانيننا فان من ينبغي أن يعد شريكاً في الجرم ليس من علم بارتكاب الجريمة فقط، بل يجب أن يكون قد أوى المجرم القاتل أو أسعفه أو زين له أو ساعده.
ووثيقة أخرى تدل على العدالة القضائية اذ يستدل في تلك الوثيقة على أن المحاكم السومرية لم يكن يحق لها أن تصدر حكماً على شخص يرفع أمره إليها ما لم يكن حاضراً المحاكمة أو بلغ بالحضور فلم يحضر(19).
بناءً على ما تقدم فان الأصول القديمة لفكرة حقوق الإنسان يمكن أن تلاحظ بصورتها البدائية مع ظهور التشريعات العراقية القديمة والإصلاحات المالية والاجتماعية التي شهدها العراق القديم فلا يمكن الحديث عن الحقوق والواجبات ضمن المجتمع إلا في ظل القانون أو الأعراف المطبقة من جانب البشر، وقد عبر العراقيون القدماء بشكل أو بآخر عن فهم لهذه الحاجة الإنسانية فشرعوا القوانين التي كفلت لكل الأطراف حقوقها ضمن الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع البشري في ذلك الوقت، وإذا كانت المجتمعات القديمة الأخرى قد سنت بدورها قوانين خاصة بها وطبقت أعرافاً اجتماعية في علاقات أطرافها فانه مما لا شك فيه أن هاجس العدالة كان مسيطراً على المجتمع العراقي القديم بشكل متميز عن بقية المجتمعات القديمة، ومن ثم فان الأصول البدائية والأفكار الأولية لجوانب من مفهوم حقوق الإنسان كان معروفاً في المجتمعات العراقية القديمة وهو ما عبرت عنه القوانين التي طبقت في ذلك الزمان بشكل أو بآخر.
كذلك يتعرض الأستاذ جاكوبسن في بحثه الموسوم (الديمقراطية في بلاد ما بين النهرين) والدكتور عامر سليمان في كتابه الموسوم بالقانون في العراق القديم إلى جانب مهم يتعلق بالبحث المتقدم اذ يشير الكاتب الأخير إلى أن التناقض بين الحكم الديكتاتوري المطلق الذي تميزت به ممالك العراق القديمة في الآلف الثاني قبل الميلاد، وبين وجود بعض المظاهر الديمقراطية فيها حمل العلامة جاكوبسن على دراسة الأساطير الدينية، والملاحم والقصص السومرية والأكدية للتعرف على الحال الذي كان عليه العراق القديم في الألف الثالث قبل الميلاد وما قبل هذا التاريخ، وقد انتهى هذان الكاتبان وغيرهما إلى أن الحكم في بلاد ما بين النهرين يستحق أن يوصف بالديمقراطية البدائية، فقد كانت آلهة أولئك السكان القدماء مقيدة بقرارات مجلسها وكان لذلك المجلس صلاحيات دينية وعقابية معينة لتحديد الآجال ومحاكمة الإنسان على ارتكابه ما يغضب الآلهة، وانتخاب أحد الآلهة ليكون رئيساً، ومنحه السلطة المطلقة في حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية وإسباغ الصفة الملكية على إنسان ليحكم باسم الآلهة على الأرض، وخلع تلك الصفة عنه، كما أكد هؤلاء على أن الغاية من تخويل السلطة الملكية لإنسان على الأرض هي بهدف حماية الحقوق الأزلية التي خلق الكون بموجبها، وهذه حقائق تحكم الآلهة والبشر، أما السبيل إلى ذلك فنشر العدالة وإصدار القوانين ومراقبة حسن تطبيقها فان صدق كل ذلك فان أولئك القدماء هم أول من رسم مخططاً بدائياً للديمقراطية والعدالة وفلسفة القانون، وأول من ذهب إلى وحدة القانون العادل في السماء وعلى الأرض بين الآلهة وبين البشر(20).

ضمانات تحقيق العدالة
أما ضمانات تحقيق العدالة في حضارة وادي الرافدين فيمكن ردها إلى مبدأ خضوع الحكام لسيادة القانون، والقانون، والقضاء. فمبدأ خضوع الحاكم لسيادة القانون كان ولا يزال يعد من المبادئ الأساسية لتحقيق العدالة وهو من أهم الأهداف التي تسعى الدول إلى تحقيقها في الوقت الحاضر إذ تتحقق فكرة المساواة في جانب منها يتحقق المبدأ المذكور، وهو يعني خضوع السلطة إلى جانب الأفراد إلى حكم القانون الصادر عن الدولة والدولة التي يخضع فيها الأفراد والحاكم لحكم القانون يطلق عليها تسمية الدولة القانونية على أن خضوع الحاكم يكون بالاستناد إلى التقييد الذاتي، ومن ثم فان هذا الخضوع من جانب الحاكم للقانون يختلف عن خضوع الأفراد له، ويبدو أن هذا المبدأ كان معمولاً به بشكل أو بآخر في العراق القديم فإذا كان الملوك هم الذين يصدرون القوانين وإذا كانت أوامرهم وكلماتهم هي القانون فان خضوع سلطانهم كان مقيداً بقواعد العدالة فالقواعد الدينية والعرفية والقانونية كلها شكلت قيوداً على سلطة الحاكم، فالتزام الملك بضمان وتحقيق العدالة كان يعد من أبرز الأمور التي تقود إلى ازدهار مملكته وهناك نص من أدب الحكمة تضمن النصائح الموجهة إلى الحاكم إذ تلزمهم بتحقيق العدل بين المواطنين ويعود تأريخه إلى العصر الآشوري الأخير (911-612 ق.م) إذ جاء فيه (أن الملك إذا لم ينشر العدالة …. وإذا لم يستمع إلى نصح مستشاريه، فان حياته ستكون قصيرة وان رعيته ستثور عليه وان مملكته ستتهاوى).
ويبدو أن الحكام قد طبقوا شيئاً أو أشياء مما تغنوا به من أفكار عن العدالة ففي زمن حمورابي أرسل بعض الأفراد رسائل يشكون من تجاوز بعض الموظفين على حقولهم وأموالهم دون وجه حق فأرسل حمورابي إلى حاكم المدينة يخبره أنه أخذ من المدعي أرضه التي يمتلكها منذ ثلاث سنوات، كما سأله عن سبب أخذه للمحصول من الرجل وأمره بقراءة لوح التعليمات وإرجاع الحقل وغلتها طبقاً لهذه التعليمات. كما توجد وثيقة هامة أخرى إذ تشير سابقة حدثت قبل 3400 عام في مدينة نوزي (Nuzi) القديمة وهي تبعد حوالي عشرة أميال عن مدينة كركوك الحالية إلى مبدأ سيادة القانون من جهة التطبيق فقد سيق حاكم هذه المدينة المدعو (كوشي – حارب) إلى المحكمة لمحاكمته عن التهم التي وجهت إليه بأخذ الرشوة والغش وهتك العرض، وقد استمع القضاة وهم ثلاثة إلى دفاع الحاكم المتهم الذي كانت الأدلة ضده، إذ حضر مجموعة من الشهود وكان من بينهم أحد أعوانه فلم يجرأ الحاكم على نفي تلك التهم وأدين بهذه الجرائم ونال العقوبة القانونية عليها(21).
أما القانون بوصفه من ضمانات تحقيق العدالة في العراق القديم فهو يعد الوسيلة الأكثر ثباتاً في تحقيق هذا الهدف إذ انها كانت أشبه بتقارير ملكية موجهة إلى الآلهة، وتتضمن القضايا التي فصلت فيها المحاكم التابعة للملك والدولة واتخذت بخصوصها قرارات عادلة لتثبيت عدالة الملك واستقامته أمام الآلهة. ودراسة جانب من القوانين العراقية القديمة يظهر الهاجس الذي ظل مسيطراً على المشرع في بلاد ما بين النهرين وحلمه بتحقيق العدالة فعلى سبيل المثال أخذت القوانين في وادي الرافدين بمبدأ عدم التعسف في استعمال الحق الفردي، وهو مبدأ يستند إلى اعتبارات العدالة كما نصت المادة 137 في شريعة حمورابي على أن ضرورة التزام الزوج الذي يطلق زوجته التي أنجبت له أولاداً، أن يتنازل لها عن نصف ثروته لكي تقوم بتربية أولادها كما نصت المادتين 168 و 169 على عدم جواز حرمان الوارث ورثته من التركة، ولا إنقاص نصيب أي منهم ما لم يرتكب الوارث خطأ جسيماً، وتقدير الخطأ الذي يسمح للوارث حرمان ورثته من التركة يخضع لرقابة القضاء فلا يجوز للمورث حرمان ورثته من التركة إلا بعد صدور قرار قضائي وأن يكون ذلك الخطأ قد حدث منه للمرة الثانية(22).

كما ثبت قانون اشنونا المبدأ الذي يقضي بالتعويض عن الضرر الذي يلحقه الجاني بالمجني عليه بما يتناسب مع جسامة الضرر إذ نصت المادة (45) من القانون المذكور على أنه (إذا قطع رجل إصبع رجل آخر فانه يؤدي غرامة ثلثي المنا من الفضة) كما نصت المادة (47) على أنه (اذا كسر قدمه فانه يدفع غرامة نصف مناً من الفضة).
ومن الأحكام التي سعت إلى ايجاد نوع من الحقوق القائمة على التضامن الاجتماعي ما جاءت به شريعة حمورابي التي تجعل المدينة وحاكمها الجهة المسؤولة عن تعويض الضرر الذي يتعرض له الأفراد بسبب ارتكاب جريمة سرقة ضدهم، وعدم تمكن السلطات المختصة من التوصل إلى معرفة الفاعل، وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة قتل ولم يتم التعرف على الفاعل فعلى المدينة دفع دية إلى أقرباء القتيل.

يتبع >

__________________








 


قديم 2008-11-06, 18:48   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

عند هذا الحد يشير أحد الكتاب إلى أنه لا يعرف تشريعاً قديماً أو حديثاً يتضمن مثل هذا المفهوم المتقدم الذي يستهدف تحقيق نوع من التضامن الاجتماعي القائم على تحمل السلطة العامة المسؤولية في حماية المواطنين وأموالهم، ويعرف هذا المفهوم في العصر الحديث بنظرية الضرر الاجتماعي ولم يتم تطبيقها حتى الوقت الحاضر إلا في حدود ضيقة اقتصرت على التأمين الصحي والعجز. وهنا يقيِّم ول ديورنت في كتابه قصة الحضارة الإنجاز المتقدم إذ يقول (هل ثمة في هذه الأيام مدينة بلغ صلاح الحكم فيها درجة تجرؤ معها على أن تعرض من تقع عليه جريمة بسبب إهمالها مثل هذا التعويض، وهل ارتقت الشرائع حقاً كما كانت عليه أيام حمورابي أو أن كل الذي حدث لها أنها تعددت وتضخمت)(23).

أما القضاء وهو الضمانة الثالثة من ضمانات تطبيق القانون في بلاد الرافدين فضلاً عما أشرنا إليه فيما تقدم من أمثلة تؤكد على دور القضاء في تحقيق العدالة فان القضية التي نظر فيها في مدينة نفر تظهر وجود نوع من المحاماة في العراق القديم وأن لم يكن يوجد قانون ينظم هذه المهنة في ذلك الوقت إذ عرفت بابل طبقة من الحكماء كانت تقوم بالدفاع عن الغير والمطالبة بحقوقهم ويطلق عليهم وكلاء الغير وكانوا يتمتعون بمنزلة اجتماعية رفيعة وكان الملك يختار القضاة منهم وكان لحمورابي دور مهم في نقل القضاء كمهنة سامية من إطار المعبد حيث كان يقوم به الكهنة إلى قضاة مدنيين وان كانت هذه الخطوة قد سبقت حمورابي في العراق القديم وكان القضاء يحاول التخفيف من شدة القانون الصارم(24).

المطلب الثاني
حقوق الإنسان في الحضارتين اليونانية والرومانية
في إطار الوضع العام لحقوق الإنسان في الحضارات الأوربية القديمة فإن التعرض للموقف من هذه المسألة على المستوى النظري والتشريعي من خلال المدارس الفلسفية التي ظهرت في تلك البلاد والقوانين التي شرعت من الحكام والمشرعين هو أمر يمكن أن يوضح لنا الموقف من حقوق الإنسان ويبرز الصورة من هذه المسألة فإذا كان اليونانيون قد نجحوا في ميدان الفكر فإن الرومان قد أسسوا إمبراطورية مترامية الأطراف، فكيف كان يعيش الإنسان في تلك الفترة ؟ وما هو التنظيم القانوني الذي خضع له في تلك المجتمعات؟
الفرع الأول – حقوق الإنسان في الحضارة اليونانية
في إطار الحضارة اليونانية فان البحث او التعرض لمسألة حقوق الإنسان وأصولها الأولى يمكن ان تتم عبر منفذين: الأول يخص التشريعات اليونانية القديمة، والثاني يرتبط بالمدارس الفلسفية اليونانية التي أكدت على بعض الأسس أو المبادئ الرئيسية التي تعكس رؤية محددة لموضوعات لها علاقة بفكرة حقوق الإنسان إلى حدٍ ما فبموجب قانون صولون الذي صدر عام 594 ق.م منح الشعب حق المشاركة في السلطة التشريعية عن طريق مجالس الشعب، كما جعل القانون للشعب حقاً في المساهمة بانتخاب قضاته، وقد حرر صولون المدينين من ديونهم وأطلق سراح المسترقين منهم ومنع استرقاق المدين والتنفيذ على جسمه كوسيلة لإكراهه على الوفاء بالدين وقضى على نفوذ أرباب الأسر عن طريق تفتيت الملكيات الكبيرة(25).
والحقيقة أن المواطن الأثيني كان دائم الاهتمام بالشؤون العامة والمشاركة فيها دون قيد أو شرط اذ استطاعت أثينا أن تتغلب على قضية حق الفرد الواحد في الحكم والسياسة العامة والاقتصاد ونظرت إلى قضية حق المواطن في الحرية والحياة بشكل متطور عن الحضارات السابقة، فقد كان الإنسان محور الحياة وهذه هي الفترة التي امتدت بين صولون وبركليس(26) إلا ان المسالة بدأت تتغير بعد بركليس، فهذا الحاكم الذي حكم أثينا اعتباراً من عام 444 ق.م إلى عام 429 ق.م تمتع المواطنون أثناء حكمه بحق المساواة في حرية الكلام والمساواة أمام القانون كما أخذت الديمقراطية الإغريقية شكل الديمقراطية المباشرة التي تقوم على أساس فكرة مزاولة المواطنين للسلطة بأنفسهم دون أن يوكلوها إلى من يمثلهم(27)، وهكذا يعتبر بركليس خير من دافع عن النظام الديمقراطي في أثينا حيث أكتسب مكاناً بارزاً بين قادة الفكر الديمقراطي بسبب إصلاحاته ونجاحه في إدارة شؤون دولة المدينة وتخطيط سياستها العامة، فالديمقراطية كما طبقتها أثينا كانت تقوم في نظر بركليس على الأسس الآتية:
1. المساواة أمام القانون، وهي مساواة مدنية وسياسية، فالكل يخضع للقانون والديمقراطية هي نظام الشرعية ونظام المساواة.
2. حرية الرأي، فالكل يقول رأيه بحرية فيما يخص المصالح العامة، ولا يوجد في النظام الديمقراطي وجهة نظر رسمية، إذ أن كل مواطن في دولة المدينة يستطيع إبداء رأيه ورأي الأغلبية هو الذي تلتزم به الدولة.
أما أخلاقيات الديمقراطية كما يؤكد عليها بركليس فإنها تتلخص في الأخوة بين المواطنين والتسامح وتقديم المساعدة إلى الضعفاء والفقراء.
وكان سكان دولة المدينة الإغريقية ينقسمون إلى ثلاث طبقات تختلف كل واحدة منها عن الأخرى من الناحيتين السياسية والقانونية، إذ كان هناك طبقة المواطنين الذين لهم حق المشاركة في الحياة السياسية للمدينة وفي الشؤون والوظائف العامة، أما الطبقة الثانية فهي طبقة الأجانب المقيمين في المدينة، وهي محرومة من المساهمة في الحياة السياسية برغم كون أعضائها أحرارا، أما طبقة الأرقاء فتأتي في أدنى السلم الاجتماعي، فقد بقي الاسترقاق مشروعاً عند الإغريق وربما كان ثلث سكان أثينا من طبقة الأرقاء، وهذه الطبقة لا تدخل في حساب المدينة الإغريقية مطلقاً وكان الرقيق ملكاً لسيده وشيئاً من أشيائه، ولقد دعا ارسطو صراحة إلى أن يخصص المواطنون أنفسهم للشؤون السياسية تاركين كل الأعمال اليدوية للأرقاء، أما افلاطون فلا يقول شيئاً عن نظام الرق حيث يتحدث عن نظريته في الملكية الفردية ولكن يبدو أنه لم يقصد إلغاء نظام عالمي في ذلك الوقت هو نظام الرق دون أن يذكر ذلك صراحة.
عليه يمكن القول أن مسألة حقوق الإنسان لم تبلغ شأواً كبيراً عند الإغريق وهذا أمر يرجع إلى عوامل اجتماعية واقتصادية اشتركت فيها الحضارات القديمة عموماً ولكن بعض الفلاسفة الإغريق انتقد مع ذلك التقاليد القائمة والقوانين النافذة في المجتمع والتي تقصي العبيد والأجانب فقد اثر عن بعض هؤلاء قوله (اننا جميعاً متساوون في الميلاد وفي كل شيء إننا جميعاً نستنشق الهواء من الفم والأنف)، ولقد جاء في بعض النصوص على لسان أحد الأرقاء (أنني يا سيدي وان أك رقيقاً، اعد أنسانا مثلك، ولقد خلقنا من لحم واحد، فليس هناك من هم أرقاء بالفطرة).
وقد أنكر يوريبيدس صحة الفوارق الاجتماعية القائمة على أساس المولد حتى بالنسبة للرقيق إذ قال (ان هناك أمراً واحداً يجلب العار على الأرقاء وهو الاسم ولا يفضلهم الأحرار فيما عدا ذلك الشيء، فكل منهم يحمل روحاً سليمة).
أما السفسطائيون فقد أنكروا بدورهم أن الرق ونباله المولد أمران طبيعيان وقد نسب إلى واحد منهم قوله ان الله خلق جميع الناس أحرارا ولم يجعل أي واحد منهم عبداً، بل وقد أنكر السفسطائي أنطيفون في القرن الخامس قبل الميلاد وجود أي فارق طبيعي بين الإغريق والبرابرة(28).
وكان للسفسطائيون وجهة نظر من فكرة العدالة تربط بين العدالة وبين مصلحة الأقوى، وهذا معناه أن السفسطائيون لهم موقف من فكرة العدالة ذات الطابع الثوري فهم يشيرون إلى الصلة بين العدالة القائمة في كل دولة وبين ما تقدره الطبقة الحاكمة من مصالح اقتصادية واجتماعية تملي على المشرع تشريعه، فان الأقوى هو الدولة وحيث أن الدول متنوعة فان معنى العدالة بعيد عن الثبات بل هو في الدولة الديمقراطية ديمقراطي وفي الدولة المستبدة يحمي القانون مصالح الطبقة المستبدة.
أما افلاطون 427-347 ق.م فقد قبل مذهب المحافظين من هذه الفكرة القائم على فكرة الثبات في العدالة فهو يعتقد أن من أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلا من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره ومن ثم فان أحداً لا ينبغي ان يتعدى على ما يمتلكه الغير أو يحرم مما يمتلكه هو…. إن العدالة إنما هي ان يمتلك المرء ما ينتمي إليه فعلاً، ويؤدي وظيفته الخاصة به .. ان التعدي على وظائف الغير والخلط بين الطبقات الثلاث يجر على الدولة في نظر افلاطون أوخم العواقب بحيث ان المرء لا يعد الصواب اذ عد ذلك جريمة.
وهذا الموقف الافلاطوني من العدالة التي وضع لها حدوداً طبقية واضحة لا يسمح بتخطيها فتعرض بذلك لنقد القائلين بحرية العمل(29).
أما ارسطو فالحقيقة أن موقفه يستدعي الكثير من التأمل من مسألة الرق على وجه الخصوص فهو يتساءل فيما إذا كانت الطبيعة تعد اناساً أرقاء فيصبح الرق بالنسبة إليهم إجراءً مشروعاً ومناسباً وهو يجيب بالإيجاب فلا مناص طبقاً لرأيه من وجود فئة حاكمة وأخرى محكومة، فالأعلى منزلة يجب أن يحكم الأوطأ منزلة منه، والطبيعة، عادة تهب بدناً قوياً للرقيق بينما تودع في جسد الحر عقلاً أرجح وفكراً أنضج، ومن ثم يصبح الإنسان الحر مهيئاً لان يحكم تأسيساً على قاعدة الفكر يحكم البدن، ويقف ارسطو ضد مبدأ المساواة في الحقوق الطبيعية فهو يعتقد أن الطبيعة قد ميزت البعض بالعقل ووهبت آخرين القدرة على استعمال أعضاء البدن فالطبيعة تجعل أجسام الأفراد الأحرار مختلفة عن أجسام العبيد فتمد العبيد بالقوة اللازمة للقيام بالأعمال الشاقة بينما خلقت أجسام الأحرار بطبيعتها غير صالحة لأن تحني قوامها المستقيم للقيام بمثل تلك الأعمال الشاقة إذ أن الطبيعة تعد الأحرار لوظائف الحياة المدنية فحسب.
وتبدو صرامة موقف هذا الفيلسوف من فكرة الرق جلية وواضحة إذ يؤكد ان السبب الوحيد لانتفاع السيد بخدمات من يسترقهم هو معاونته على مباشرة الفضائل البشرية لا تنمية ثروته أو زيادة قوته، فان عجز السيد عن إدراك الفضل انتفى النفع الأصيل الذي يجنيه الرقيق من عبوديته، ألا وهو توجيه حياته توجيهاً مثمراً بفضل خضوعه لمن هو أفضل منه، وهنا تنفصم العلاقة بين التابع والمتبوع وقد واجه ارسطو نتيجة هذه النظرة نقداً شديداً خاصة وهو صاحب الفكرة التي تؤكد ان (من الأرقاء من هم أهل للحرية وان من الأحرار من يستحق الرق) والحقيقة أنه في أواخر حياته قد وضع بعض الشروط التي تكفل إدخال بعض الإصلاحات على حالة الرقيق فقد نادى بضرورة معاملة الرقيق معاملة حسنة، وبان يمد له الأمل في منح الحرية يوماً كما نصح بعتق الأرقاء وقرر في وصيته عتق عبيده(30).
أما المدرسة الرواقية وهي إحدى المدارس الفلسفية التي أسسها الفيلسوف زينو الفينيقي أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الثالث قبل الميلاد فقد كان لها موقف كذلك من بعض الأفكار العامة المرتبطة بحقوق الإنسان وإذا كان من الصعب اعتبار المدرسة الرواقية مدرسة إغريقية خالصة إذ أنها في حقيقة الأمر قد عكست التفاعل بين الشرق والغرب الذي ظهر نتيجة فتوحات الاسكندر المقدوني فجميع مفكري هذه المدرسة كانوا من خارج بلاد الإغريق، فالرواقيون الأوائل سوريون في غالبيتهم، والرواقيون المتأخرون من الرومان، وهذه المدرسة أكدت على مبدأ الأخوة الإنسانية، فالأفراد كمخلوقات عاقلة هم أساسا متشابهون أو متماثلون ويخضعون جميعهم إلى القانون الطبيعي ولهم حقوق متساوية كما آمن الرواقيون بمبدأ المساواة في رفع المستوى الأخلاقي وهم بذلك لا يتفقون مع افلاطون وارسطو بشأن وجود تباين بين الأفراد بسبب الجنس أو المواطنة فالعبد طبقاً لأفكارهم إنسان ولا يوجد عبد بالطبيعة، بل انه إنسان يجب معاملته من منطلق أنه عامل مستأجر مدى الحياة، ومع ذلك فان الانتقاد الذي يوجه إلى المدرسة الرواقية أنها قسمت البشر إلى عقلاء وحمقى وهذه التفرقة لا تقل قسوة وشدة عن تقسيم الإغريق العالم إلى إغريق وبرابرة فليس هناك ما يمنع من تعميم أي الصفتين- العقل والحمق على شعب دون آخر بأسره(31).
أولاً: تقييم مفهوم الحقوق والحريات العامة في أثينا
لا يمكن إنكار أن الديمقراطية المباشرة قد وجدت لها أرضاً خصبةً في أثينا، فقد تم الأخذ بمبدأ السيادة الشعبية إلا أن فكرة الشعب لم تكن تعني جميع المواطنين المكونين لشعب المدينة لكن المقصود بفكرة الشعب هو مجموع المواطنين الذكور، وبذلك حرم النساء والعبيد من المشاركة في ممارسة السلطة.
إن أسلوب الديمقراطية المباشرة الذي أخذت به أثينا كان يعني أن الشعب يحوز كل السلطة ويمارسها بنفسه فضلاً عن أن سلطة الشعب كانت مطلقة ولم تتمتع الحقوق والحريات بأية ضمانات في مواجهة هذه السلطة. والحقيقة أن مفهوم الحرية كان مختلفاً عن مفهومها في الديمقراطيات المعاصرة إذ أن الحرية عند قدماء الإغريق لم تكن تعني حرية الفرد، وإنما هي حرية المواطن باعتباره عضواً في المجتمع التي تسمح له أن يساهم في الشؤون العامة للمدينة دون أن يكون للأفراد الحريات المدنية الحديثة مثل الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية العقيدة، وانطلاقاً من هذا المفهوم الأثيني للحرية كان المواطن في مدينة أثينا يتمتع بمجموعة من الحقوق السياسية المتمثلة بالعضوية في جمعية الشعب، وحق تولي المناصب العامة، فضلاً عن تمتعه بحرية التفكير وحرية إبداء الرأي، وعلى ذلك لم يكن المواطن الأثيني يعرف الحرية الفردية الحقيقية نظراً لتمتع الدولة بسلطات واسعة وشاملة وعدم وجود ضمانات للأفراد في مواجهة دولة المدينة.

والجدير بالذكر أن أثينا لم تأخذ بفكرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما هي معروفة اليوم، على الرغم من أن بركليس قد اعتبر مساعدة الضعفاء والفقراء اقتصادياً من القواعد الأخلاقية التي يجب أن تفخر بها أثينا.
كذلك فقد عرفت أثينا نظام الإبعاد وبموجبه كان يجوز لجمعية الشعب أن تقوم بطرد أي مواطن خارج أثينا إذا ما ثبت أن لهذا المواطن أطماعاً خطيرة، أو كانت له شعبية قد تؤدي إلى الاستبداد، ونظام الإبعاد بهذا الشكل وإن كان يمثل ضمانة ضد الاستبداد، إلا أنه يتضمن في نفس الوقت اعتداءاً على حرية المواطن المبعد، وفي كل الأحوال فإن الحقوق والحريات التي تمتع بها المواطن في مدينة أثينا لم تكن تمثل قيداً على سلطة الدولة إذ أنها كانت عبارة عن حقوق أو حريات في مواجهة المواطنين بعضهم البعض، أما بالنسبة للدولة فكانت تستطيع أن تنكر هذه الحقوق والحريات إذ لم تكن هناك ضمانات مقررة لمصلحة الأفراد في مواجهة الدولة التي كانت تتمتع بسلطات شاملة قِبَلْ المواطنين ولا يحدها إلا قيد واحد هو معاملة المواطنين جميعاً على قدم المساواة، وهذا ما يتم بإعلاء كلمة القانون وخضوع الجميع لأحكامه وبهذه الطريقة كانت تتحقق الحرية والمساواة في أثينا.
الفرع الثاني – حقوق الإنسان في الحضارة الرومانية .
شهدت روما بعض المحاولات المحدودة في سبيل الحرية والمساواة وإذا كان القائمون بهذه المحاولات قد نجحوا في الحصول على جانب من هذه الحقوق فان هذا لا يعني مطلقاً ان الإمبراطورية الرومانية قد شهدت عصراً تمتع فيه الفرد بكامل حقوقه وحرياته تجاه الدولة التي كانت مسيطرة تماماً على الشؤون المختلفة في الحياة، وقد دوّن الرومان العادات والتقاليد والأعراف المرعية في قانون الألواح الاثني عشر 450 ق.م لكي تثبت وتستقر ويتساوى الجميع في معرفتها والخضوع لاحكامها واخذ الرومان ينادون بصورة تدريجية بحرية العقيدة في المسائل الدينية كما أن الفقهاء الرومان قد نظروا إلى الرق نظرة غير مشجعة، ورأى بعضهم أن نظام الرق مضاد للطبيعة، وقد أكد (اولبيان) أنه لا يجوز في القانون الطبيعي ان يولد الناس إلا أحراراً وان العبيد وان عدوا موجودين في نظر القانون الوضعي فانهم ليسوا موجودين في نظر القانون الطبيعي الذي يقرر ان الناس جميعاً متساوون(32).
ان المحاولات المتقدمة وان كانت تمثل خطوة في الإمبراطورية الرومانية باتجاه تنظيم الحياة فان واقع المجتمع والدولة في روما كان يتناقض تماماً مع الأفكار الحقيقية لحقوق الإنسان حتى في مفهومها البدائي فما كان يدور من قتل لحقوق الإنسان في روما واهدار لكرامته يمثل جانباً من مظاهر تلك الدولة وعلامة بارزة تعكس جانباً مهماً من طبيعة المجتمع الروماني. وبهذا المعنى يؤكد لويس ممفورد في كتابه تاريخ المدينة على انه لابد للمرء من ان يمر بأقسى تجربة عندما يمر بروما، إذ عليه (ان يسد انفه من الروائح الكريهة، ويصم آذانه عن صرخات الألم والفزع، ويغلق فكه حتى لا يتقيأ ما في جوفه، وفوق كل شيء يجب ان يحتفظ المرء بعواطف باردة، فيصر في غلظة رومانية حقه كل باعث على اللين والشفقة، وذلك لأن كل أنواع التضخم سوف تنشط أمامه في روما وليس الانحطاط والشر أقلها ضخامة)(33).
من جانب آخر اعتقد المشرعون الرومان ان الطبيعة جاءت بمبادئ محددة يجب أن تعبر عنها القواعد القانونية الوضعية، فالقانون الطبيعي طبقاً لما ذهب إليه هؤلاء، هو المفسر لمبادئ العدالة العامة باعتبارها المبادئ الطبيعية الخالدة التي تحتم احترام الاتفاقات وتنسجم مع قيم العدالة في المعاملات بين الأفراد وحماية القاصرين من الأطفال وحماية النساء والاعتراف بالمطالب التي تقوم على صلات الدم والقرابة، وأدت هذه المبادئ إلى ظهور تنظيم قانوني حطم سلطة الأب المطلقة على ابنائه، ومنحت المرأة المتزوجة مركزاً قانونياً يقترب من حقوق الزوج فيما يتعلق بإدارة الأملاك أو تربية الأطفال(34).
أن من ابرز المفكرين الذين اهتموا بجوانب عامة ترتبط بفكرة حقوق الإنسان وعاشوا في الفترة الرومانية هو شيشرون 106-43 ق.م وسنيكا 4ق.م– 65م فشيشرون اسهم في الحوار حول القانون الطبيعي، وهو يرى انه مرادف للعقل وان العالم هو عالم واحد له قانون واحد صالح لجميع الأمم وفي مختلف الأوقات لانه ذو طبيعة واحدة وان غاية هذا القانون تحقيق العدالة والفضيلة مادام قد أنبثق عن طبيعة إلهية عادلة وفاضلة، وان الأفراد متساوون في ظل هذا القانون جميعاً بالحقوق القانونية وبالمساواة أمام الله وأمام قانونه الأعلى وهو ما تبناه الفكر المسيحي بعد ذلك، وكان هدف شيشرون من كل ذلك إعطاء الأفراد شيئاً من الكرامة التي هي من أهم حقوق الإنسان، فحتى العبيد يجب ان يكون لهم حصة منها لانهم ليسوا مجرد آلات بشرية حية كما يذكر ارسطو يستخدمها السادة لغرض الإنتاج(35).
أما سنيكا فعبر عن الفكر الرواقي في السنوات الأولى من العصر الإمبراطوري وكانت أفكاره تعبر عن صبغة دينية واضحة وكان يعتقد ان الطبيعة هي التي تقدم الأساس الذي يعيش في ظله الأفراد واقر بمبدأ المساواة الإنسانية إذ ان الاختلافات بين السيد والعبد هي مسألة اصطلاح قانوني وان الحظ السيئ وحده الذي يجعل الإنسان عبداً، وعليه فقد رفض سنيكا كما رفض شيشرون والرواقيون الأوائل ادعاء ارسطو ان البشر غير متساوين بالطبيعة.
من جانب آخر فقد ادعى سنيكا أن الاعتماد على الطاغية يعد الخيار الأفضل إلى حدٍ كبير من الاعتماد على الجماهير، إذ ان جمهرة الشعب هي من الشر والفساد بحيث تغدو أكثر قسوة من الحاكم الطاغية(36).
أخيراً يمكن القول بأن الآراء التي نادى بها كل من شيشرون وسنيكا على وجه العموم قد ظلت الأساس الذي قاد إلى ظهور الأفكار الأولى بهذا الخصوص لآباء الكنيسة عبر فكرة المساواة العامة والأفكار الإنسانية والثورة على الدولة عند سنيكا والقول بوجود قوة فعالة تحاول تصحيح مسيرة الحياة وتخليصها من الشر على وجه الأرض(37).

تكملة فصول الكتاب

تابع القادم :

المدخل لدراسة حقوق الإنسان... (1)










قديم 2008-11-06, 18:50   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المدخل لدراسة حقوق الإنسان... (1)


تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها الأولى وموقف المسيحية منها
إذا كانت القوانين والمدارس الفلسفية القديمة قد تعاملت بشكل أو بآخر مع أفكار المساواة والعدالة حيث كان للعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الدور في إظهار مواقف معينة لتلك التشريعات والمدارس فان أمر تقييم بعض هذه الجوانب أو الأفكار يمكن ان يساعد على فهم الحال بشكل أفضل كما أن التطرق لموقف المسيحية من هذه المسألة يساهم في إسدال الستار على مرحلة تاريخية مهمة حول الموقف من بعض الأصول الفكرية التي تقوم عليها مبادئ حقوق الإنسان.

المطلب الأول
تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها التاريخية الأولى
إن الأسس العامة التي تبرر المجاهرة بحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لا تخرج عن مفاهيم العدل والحرية والمساواة وإذا كنا قد تعرضنا لمفهوم حقوق الإنسان من خلال التشريعات ومواقف بعض الفلاسفة والمدارس الفكرية التي ظهرت في العصور الأولى فانه يحق لنا أن نتساءل عن القيمة الحقيقية للأفكار التي طرحناها، وهذا يستدعي منا تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها التاريخية الأولى، وهي عملية تتطلب الإشارة إلى مجموعة العوامل المكونة للمجتمعات البشرية فالعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كلها عوامل مهمة في الوصول إلى تقييم متوازن لهذه الحقوق التي نسعى لمعرفتها وفهمها وتقييم مدى احترامها.
ان الإيمان بالإنسان والولاء أو الانتماء للإنسانية، هما اللذان يثيران في طبيعة الإنسان الخيرة أعمق الدوافع وأكثرها صدقاً باتجاه الارتقاء بمستوى الكائن البشري ولكي يكون المسخر لخدمة غيره إنساناً بشرياً نابهاً فهل عاملت الأمم والشعوب القديمة في الفترة التي أشرنا إليها بعضها البعض أو الطبقات الفقيرة والمستضعفة منها بشيء من الرحمة؟
ان الإجابة يمكن أن تكون واضحة من خلال الإقرار ان نظام الرق الذي كان قائماً في تلك الفترة ربما ظل أكبر الإهانات الموجهة للإنسان، هذا النظام الذي جعل من الإنسان موضوعاً ومحلاً للتصرفات القانونية وليس فقط طرفاً وشخصاً للقانون وكانت الحروب هي المسبب الأكبر لاستمراره بغية استمرار الحياة ونشاطها الاقتصادي الذي كان يعتمد عليها بشكل كبير، ومن ثم فان عدم المساواة بين طبقات أو فئات المجتمع ظل عاملاً من عوامل عدم احترام الأسس الضرورية لحق كل إنسان في العيش بشكل متساو مع غيره من بني البشر، وإذا كانت الآلات الحربية التي طورت بشكل مطرد على أيدي الأقوام القديمة وكانت تعد عاملاً من عوامل النجاح في الحروب من أجل تحقيق الأمن والاستقرار على الصعيدين الداخلي والخارجي فان التجارب التاريخية تؤكد أن تطبيق مفاهيم الحقوق الإنسانية من خلال قوانين الدولة تلعب دوراً مهماً في تحقيق الهدف المنشود فالتجربة الرومانية على سبيل المثال التي قدمت قوانينها أفكار الحرية والمساواة والديمقراطية بشكل أو بآخر ولكنها حصرت هذه المفاهيم في فئات معينة الأمر الذي أفقدها ولاء الأفراد. وبعد هزيمة الرومان على يد القبائل الغالية فقد اقتنع الرومان بتغيير تنظيم جيشهم الأرستقراطي وتطبيق مبدأ المساواة العامة بين الناس، ومن ثم فقد أصبح العامة مواطنون وكان عليهم الاشتراك في الجيش وقامت الدولة مقابل أعمال هذه الفكرة بتوزيع الأراضي على من لم يملك أرضاً وخول الدستور الجديد الجمعية الشعبية إجازة القوانين باتخاذ القرارات الخاصة بالحرب والسلم، ومع ذلك فان هذا لم ينفِ الصفة الإمبريالية لحروب الإمبراطورية الرومانية فالطبقة الأرستقراطية بقيت مسيطرة على المجالس الشعبية إذ كان العامة يدلون بأصواتهم لهذه المجموعات الأرستقراطية التي كانوا يشعرون معها بنوع من الأمن، أو لأنهم تعودوا الخضوع للسلطة أو لعلهم تعلموا التسلسل القيادي من خلال خدمتهم العسكرية ويصف أحد الكتاب عظمة القسوة التي وجدت في الإمبراطورية الرومانية حيث يقول (أن الفقراء الرومان المنبوذين، والأيامى والمنكوبات اللواتي تدوسهن الأقدام، وحتى الكثيرين من الرومان المتعلمين وأولاد الناس لاذوا بأعدائهم. لقد كانوا يبحثون عن الإنسانية الرومانية بين البرابرة (القبائل الجوالة) حتى لا يهلكو من قسوة البربرية بين الرومان… لقد انطلقوا ليعيشوا بين الهمج في جميع الأنحاء ولم يندموا على فعلتهم قط، وفضلوا أن يعيشوا أحراراً تحت مظهر العبودية على أن يعيشوا تحت قناع الحرية)(38).
ولم تكن معاملة العبيد على درجة واحدة عند الأمم فلدى الجماعات البدائية كانت معاملتهم حسنة، ولم تكن سلطة السادة مطلقة عليهم وكان يعتبر العبد فرداً من أفراد الأسرة، وتميزت روما عندما كانت مدينة صغيرة بمثل هذا النوع من المعاملة مع عبيدها، إلا ان الصورة تغيرت عندما أصبحت إمبراطورية، فقد أصبح العبيد عنصراً أساسياً في اقتصاد الدولة وبررت روما انحطاط العبد إلى درجة الحيوان لتقوم باستغلاله بالطريقة التي تناسبها، فكان للسيد الروماني كامل الحق في أن يتصرف بحياة عبيده ان شاء أحياهم وأن شاء قدمهم لمصارعة الأسود حتى الموت(39).

أما الرق لدى الشعوب الشرقية فقد كانت المعاملة التي يلقاها العبيد في الحضارات الشرقية أكثر رحمة من الغرب.
عليه فان ما يعرف بحقوق الإنسان من الناحية الواقعية لا يمكن أن يقال إنها كانت معروفة في تلك الحضارات القديمة بالشكل الذي يحفظ كرامة البشر بعيداً عن الجنس أو العرق أو اللون أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد.
أما القوانين أو التشريعات التي حاولت ان تؤكد على أفكار كالعدالة بوصفها هدف التشريع أو القانون فهي لم تخرج على وجه العموم من الإطار الاجتماعي القائم على وجود طبقات متعددة في المجتمع كما أنها لم تخرج عن الإطار الاقتصادي لتلك المجتمعات القائمة على الحرب بشكل أو بآخر، وهذا أمر لم تسلم منه حتى المدارس الفلسفية والأفكار التي دعت إليها.

المطلب الثاني
موقف المسيحية من فكرة حقوق الانسان
يمكن الإشارة إلى وجهتي نظر تتعلقان بموقف المسيحية من الأفكار العامة التي تقوم عليها فكرة حقوق الإنسان فيشير جانب إلى أن المسيحية قد ركزت على كرامة الإنسان وعلى المساواة بين جميع البشر على اعتبار أنهم أبناء الله، ووضعت حجر الأساس لتقييد السلطة إذ أن الأخيرة تقرر بالنتيجة من أجل خدمة الإنسان ويتوجب عليها بالتالي احترامه ولا يجوز للسلطة الزمنية أن تتجاوز اختصاصها فتتدخل في الأمور الدينية وإلا فانها في هذه الحالة ستخالف مبدأ (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) وتصبح مقاومتها أمراً مشروعاً(40).
وإذا كانت المسيحية التي نادت بمبدأ أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله وما يمثله ذلك من فصل بين السلطة الدينية والدنيوية فضلاً عن فكرة العدالة وباتخاذ الأسرة والكنيسة والدولة وسائل لتحقيق السعادة للإنسان واعتبار الناس أخوة متساوين أمام الله في الحياة الأخرى، وفتحت أبواب الكنائس للعبيد ودافعت عن الفقراء والمستضعفين ضد الأغنياء فتطبيق هذه المبادئ كان من الممكن أن يؤدي إلى نجاح المسيحية في تقليص التفاوت الطبقي وإشاعة العدالة والمساواة في المجتمع إلا أن هذه المبادئ لم تطبق.

وإذا كان المجال قد فتح في عصر قسطنطين لحرية الاعتقاد إلا أن ذلك قد زال بعد أن أصبحت المسيحية ديناً رسمياً للدولة وعوقب من يدين بغير دين الدولة بقسوة بالغة، وكان ذلك بداية الاستبداد الذي مارسته الكنيسة حيث عطلت إرادة الفرد وحرمته من أية مكانة له عندها(41).
ويؤكد أحد الكتاب على أن الأفكار ذات الطابع السياسي التي طرحها المسيحيون الأوائل لم تكن تعبر بأي شكل من الأشكال عن خصوصية محددة بهم اذ أنها في حقيقتها أفكار سبق أن طرحها غيرهم، فهم آمنوا شأنهم في ذلك شأن الرواقيين بالقانون الطبيعي ومبدأ المساواة بين البشر وبضرورة التزام الدولة بالعدالة فضلاً عن مبدأ مهم أضافوه أعتبر المحور الذي دارت بخصوصه المناقشات طيلة الفترة التي امتدت حتى القرن العاشر الميلادي وهو مبدأ إطاعة السلطة الشرعية واحترامها تطبيقاً لقول السيد المسيح (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) واطاعة لوصية القديس بولص القائلة (لتخضع كل نفس للسلاطين لأنه ليس هناك سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم الإدانة فان الحكام ليس أداة خوف للأعمال الصالحة بل للشريرة أفتريد ألا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فسيكون لك مدح فيه لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إذا فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الله المنتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل، أيضاً لمن له الإكرام)(42).
وطبقاً لهذه الكلمات فإن إطاعة السلطان كانت تعد فضيلة مسيحية لم ينكرها أي من زعماء الكنيسة، فهي طاعة يأمر بها الله، وهذا القول يسبغ على التعاليم المسيحية طابعاً يغاير النظرية الدستورية الرومانية التي ترى أن سلطة الحاكم مستمدة من الشعب(43).
عليه فان هناك من يرى أن معاملة الرقيق على سبيل المثال كانت أفضل عند الشرقيين منها عند الغرب وخاصة الإمبراطورية الرومانية فشرائع الشرق وقوانينه كانت على العموم أكثر رحمة بالرقيق من قوانين الغرب، وأن المسيحية، وهي رسالة إنسانية، اضطرت بتأثير الظروف التي عاشت في ظلها في أوربا أن تتأثر بالفكر الغربي في النظرة إلى الرقيق(44).
واستمر الحال على هذا المنوال حتى في العصور الوسطى المسيحية التي اعتبرت الرق نظام الهي وأوصت العبيد بتحمل ما يلقوه من سوء معاملة أسيادهم إلا أنها في الوقت نفسه دعت السادة إلى أن يرأفوا بعبيدهم المسيحيين دون غيرهم إلا إذا تنصروا(45).

هوامش الفصل الأول
1. د. محمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام، دراسة مقارنة مع الإعلان العالمي والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، دار الكلم الطيب، الطبعة الثانية، دمشق-بيروت، 1997، ص9.
2. د. توفيق حسن فرج، المدخل للعلوم القانونية، مؤسسة الثقافة الجامعية، الطبعة الثانية، 1981، ص438-440.
3. المصدر نفسه، ص450.
4. باسيل يوسف، دبلوماسية حقوق الإنسان، المرجعية القانونية والآليات، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص9.
5. د. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الفرنسية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، العدد الرابع، 1972، ص962.
6. د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، الطبعة الأولى، مكتبة الكندي، أربد، 1988، ص11.
7. المصدر نفسه، ص18.
8. المصدر نفسه، ص23-24.
9. إبراهيم السامرائي، الحماية الدولية لحقوق الإنسان في ظل الأمم المتحدة، رسالة
دكتوراه مقدمة إلى كلية القانون / جامعة بغداد، 1997، ص9.
10. د. توفيق حسن فرج، المصدر السابق، ص184-185.
11. المصدر نفسه، ص186.
12. إبراهيم السامرائي، المصدر السابق، ص29-30.
13. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، عمان، 1988، ص73.
14. المصدر نفسه، ص73.
15. المصدر نفسه، ص74-75.
16. حضارة العراق، الجزء الثاني، بغداد، 1985، ص63-71.
17. المصدر نفسه، ص72.
18. صلاح الدين الناهي، العدالة في تراث الرافدين وفي الفكرين اليوناني والعربي
الإسلامي، الطبعة الأولى، الدار العربية للموسوعات، بيروت-لبنان، 984، ص39.
19. المصدر نفسه، ص39-40.
20. المصدر نفسه، ص35-36.
21. د. عباس العبودي، ضمانات العدالة في حضارة وادي الرافدين، دراسات قانونية،
العدد الثاني، 2000، بيت الحكمة، بغداد، 2000، ص22-23.
22. المصدر نفسه، ص24-26.
23. المصدر نفسه، ص28-29.
24. المصدر نفسه، ص29-30.
25. د. محمد يوسف علوان، مذكرات في مقرر حقوق الإنسان، الكويت، ص3.
26. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص80.
27. د. محمد يوسف علوان، المصدر السابق، ص3.
28. المصدر نفسه، ص4-5.
29. د. صلاح الدين الناهي، المصدر السابق، ص44-54.
30. د. غانم محمد صالح، الفكر السياسي القديم والوسيط، جامعة بغداد، 109-110.
31. المصدر نفسه، ص131-133.
32. ان الفقهاء الذين طوروا القوانين الرومانية كانوا من أصول شرقية فكايوس من الشمال السوري وبابنيان من حمص وبولس واولبيان من الساحل الفينيقي ومودستيان من صور، فقد أعتمد حبستنيان على هؤلاء الفقهاء ولقبوا بالعلماء العالمين ولفب بابنيان بأمير الفقهاء وكان يطلق على مدرسة بيروت اسم الأم المرضعة للحقوق ومدة الدراسة فيها خمس سنوات.
د. عباس العبودي، المصدر السابق، ص19-20.
33. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص86.
34. د. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص167.
35. المصدر نفسه، ص157-158.
36. المصدر نفسه، ص159-160.
37. المصدر نفسه، ص163.
38. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص95-97.
39. المصدر نفسه، ص99.
40. د. محمد يوسف علوان، المصدر السابق، ص10.
41. أزهار عبد الكريم عبد الوهاب، الحقوق والحريات العامة في ظل الدساتير العراقية، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون والسياسة/ جامعة بغداد، 1983، ص3-4.
42. د. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص179.
43. المصدر نفسه، ص180.
44. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص100.
45. المصدر نفسه، ص99.

الفصل الثاني
حقوق الإنسان في الإسلام
سنتعرض في هذا الفصل الى المقصود بحقوق الانسان في الاسلام من حيث النظرية والتطبيق، وفي المراحل المختلفة التي مرت بها الدولة الاسلامية. فما هي الأسس التي تقوم عليها فكرة حقوق الانسان في الاسلام؟ وهل تتفق هذه الأسس مع الأسس العالمية التي ظهرت في العصر الحديث وهي تمثل بشكل أو بآخر هاجس الانسان الأول في تحقيق العدالة؟ فكيف حدد الاسلام حقوق الانسان كفرد وكعضو في الجماعة؟ وما هي المعادلة التي طرحها الاسلام لإخضاع الدولة للشريعة التي هي بمثابة القانون في الدولة الحديثة؟ ثم ما هي تفاصيل الحقوق الاساسية التي اعترف الاسلام بها للانسان؟
أن ما تقدم من تساؤلات يمكن البحث فيها والإجابة عنها من خلال دراسة الأسس الفكرية التي طرحها الاسلام لحقوق الانسان، والتطرق لمبدأ خضوع الدولة الاسلامية للقانون أو الشريعة، ثم البحث في تفاصيل الحقوق والحريات الاساسية التي أقر الاسلام بها للانسان.

المبحث الأول
المنطلقات الأساسية لحقوق الانسان في الاسلام
أن الكلام في هذا العصر كثير عن مبادئ حقوق الانسان وأن تعداد هذه الحقوق الاصلية والجزئية لا حصر لها، وإذا كان من الضروري فهم المقصود بحقوق الانسان في الاسلام بصورة صحيحة فإن البداية يجب أن تكون من المنطلقات الفكرية التي تمثل الجوهر أو الأساس لفكرة حقوق الانسان فهذه هي الخطوة الأولى باتجاه دراسة تفاصيل هذه الحقوق، وقبل ذلك معرفة موقف الدولة الاسلامية من هذه المسألة.

المطلب الأول
الأساس الإسلامي لحقوق الانسان
ترتكز مفاهيم حقوق الانسان في الشريعة الاسلامية على طابع الضرورة المؤسس على العقيدة، وهو طابع يقوم على ضمان معنى الإنسانية، فالإسلام دين عالمي ولم يرسل النبي محمد (ص) للعرب فقط فدعوته جاءت للناس جميعاً، وقد انطلق الاسلام من قاعدة أساسية ثابتة فيما يتعلق بحقوق الانسان، وهي أن أصل الانسان واحد ومصيره واحد. قال تعالى(ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين)المؤمنون، 12.
وقد تبنى الاسلام في نظرته للأمور كافة فلسفة وسطية حيث الاعتدال أبرز ملامحها، بمعنى مجانبة الإفراط والشذوذ والتفكك والتفريط والمبالغة والتسيب بل يقوم على الاتزان. قال تعالى(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) البقرة،143 (1)، وينظر الاسلام الى الانسان باعتباره أغلى الكائنات وأعظمها طالما كان مخلصاً لله تعالى الذي سخر له الكون ليحقق له السعادة. قال تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الجاثية13. والحقيقة ان تكريس الكون بما فيه للانسان إنما هو تكريم له من الله تعالى ومن تفضيل الله للانسان ان جعله خليفة في الأرض لما تمتع به من الطاقات والقدرة والاستعداد للقيام بمهام المسؤولية في الحكم. قال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة،30 .

مما تقدم يبدو جلياً أن الأساس الاسلامي لحقوق الانسان إنما يقوم على التكريم الإلهي للانسان فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ومحور الرسالات السماوية وله سجدت الملائكة وفضل على سائر المخلوقات وسخر له ما في الكون، وقد شرع الاسلام الكثير من الأحكام وبيّن الحقوق والواجبات في جوانب الحياة المختلفة وإلزام المسلمين أداءها والوقوف عندها، والتقيد بها فقال تعالى ( تلك حدود الله فلا تقربوها)، فالحدود هي الفواصل بين الحقوق والواجبات والأوامر والنواهي والحق والباطل، ومن ثم فإن الأساس في الاسلام لحقوق الانسان هو ما قرره الاسلام في تشريعاته وأحكامه وان هذه الحقوق هي منحة من الله تعالى ويمكن ان يعبر عن الأساس لحقوق الانسان في الاسلام بمبدأ (العبودية لله تعالى) فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالإسلام دين الفطرة وهو الحامي لها والمدافع عنها ومن مستلزمات هذا الحق أن يرعى كل فرد من الناس هذا الحق لأمثاله بمقدار ما يرعاه لنفسه ويكون هذا الحق الانساني المطلب الأساسي للناس جميعاً على مستوى الفرد والجماعات، ويرى آخرون أن حقوق الانسان في الاسلام تنبع من العقيدة وبشكل خاص من عقيدة التوحيد فالله الواحد خلق الناس أحراراً ويريدهم أن يكونوا أحراراً ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها، قال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(2).
والحقيقة أن مدلول هذه العبارات واحد فحقوق الانسان في الاسلام تنبع من التكريم الإلهي له بالنصوص الصريحة وهو جزء من التصور الإسلامي لهذه المسألة القائمة في جانب مهم منها على العبودية لله تعالى وفطرة الانسان التي فطره الله عليها فكرامة الانسان هي الأساس لكل الحقوق الأساسية، فهي دليل إنسانية البشر وإذا كانت الكرامة الإنسانية هي المنبع لحقوق الانسان جميعاً فقد كانت هذه المسألة ولازالت غاية جميع القوانين والدساتير وعماد حياة الفرد الاجتماعية وهذا ما عبرت عنه المواثيق والإعلانات والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان حيث جاء في الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 أن(الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية والثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم)، أن ما تقدم يظهر أن حقوق الانسان مرتبطة ارتباطاً جذرياً بالعقيدة الصحيحة وأن الإيمان بالله تعالى أولاً وبالشريعة المنزلة ثانياً هو مصدر الحقوق وأساسها(3).

أذن حقوق الانسان التي يقررها الاسلام هي في حقيقتها ليست منّةً من حاكم أو دولة أو اية جهة محددة وإنما هي حقوق أزلية فرضتها الإرادة الإلهية فرضاً كجزء لا يتجزأ من نعمة الله على الانسان حين خلقه في أحسن صورة وأكمل تقويم فحقوق الانسان في الاسلام موضوعة ومقررة سلفاً، وهي تتناسب مع كونه انساناً متميزاً على سائر المخلوقات إذ أوكل له دورٌ في الحياة مما يعني إعطاءه مقومات الحياة الكريمة.
إن الأسس التي تقوم عليها مفاهيم حقوق الانسان انما تجد اساسها في مفاهيم بنى عليها المسلمون حياتهم فمفاهيم العدل والحرية أساسية لتأسيس الافكار الخاصة بحقوق الانسان وقد جعل الاسلام من العدل اساساً للحكم. قال تعالى (ان الله يأمر بالعدل والإحسان) النحل،90، والعدل غاية في الاسلام الذي نادى بالحرية والمساواة ويختلف المفهومان عما هو عليه الحال بالنسبة للمدارس الغربية التي تنادي بالحرية الفردية على حساب المساواة أو المساواة على حساب الحرية الفردية، فالحرية والمساواة في الاسلام مقيدة وذلك بهدف تحقيق العدل العام المعبر عنه في الشريعة التي تنص على مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، والعدل ان يعطي الحاكم كل ذي حق حقه ويسمح الاسلام بدخول الافراد في سباق لتحقيق مصالحهم ولكنه يؤكد على ضرورة مساعدة الانسان لأخيه الانسان وعند عدم تحقيق هذه المساعدة تتدخل الدولة عندها، ومن ثم فان الشريعة تنص على تحريم القتل حفاظاً للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وتحريم الزنا حفاظاً للنسل، وتحريم السرقة حفاظاً للأموال، وتحريم القذف حفاظاً للعرض، وتحريم الخمر حفاظاً للعقل، ومعاقبة المرتد حفاظاً للدين وهذه كلها ضروريات تحقق العدالة الاجتماعية في جوانب اساسية منها، كما تقرر أحكام الاسلام المساواة بين افراد المجتمع وجعل التفضيل في العمل الصالح. قال تعالى ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(4) .

فتتميز حقوق الانسان وحرياته الاساسية في الاسلام بأنها ذو بعد أخلاقي عميق وهي ذات خصائص ثلاث
1- هي أنها منح ربانية الهية وليست منة من دولة أو حاكم.
2- انها شاملة من حيث الموضوع لكل الحقوق والحريات وعامة لسائر الجنس البشري، وبذلك فإن الشريعة الاسلامية تكون قد أدانت التفرقة العنصرية والنظم التميزية الأخرى على المستوى الوطني والمستوى الدولي.
3- انها كاملة وغير قابلة للإلغاء أو الوقف لمجرد ضيق الدولة أو الحاكم بمباشرتها لأنها جزء من الشريعة الإسلامية(5).

يتبع >









قديم 2008-11-06, 18:51   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المطلب الثاني
حقوق الإنسان والدولة الإسلامية
في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش قرونها الوسطى وقد سيطر على حياتها السلطان المطلق للحاكم والدولة بحيث تلاشت أية ملامح لفكرة الشرعية أو خضوع الدولة للقانون، نشأت في الجزيرة العربية أول دولة قانونية أقامها الرسول محمد(ص) بعد هجرته الى المدينة وقد وطد دعائمها الخلفاء الراشدون، وكانت دولة قانونية بالمعنى المعاصر، دستورها القرآن الكريم، وعرفت مبدأ التدرج في القيمة القانونية لقواعد القانون التي تنظم العلاقات بين سلطات الدولة بعضها مع البعض الآخر، وبين الأفراد وتم الإقرار بالحقوق والحريات الفردية ووضعت القواعد التي تكفل احترام الدولة وخضوعها للقانون مثل مبدأ الفصل بين السلطات وتنظيم الرقابة القضائية وتقرير السيادة الشعبية في قاعدة المبايعة أي اختيار الشعب للحاكم ومراقبته وعزله، وبذلك يكون القانون قد أرسى دعائم الدولة القانونية لأول مرة في تاريخ البشر، فالرسول (ص) اقام دولته في المدينة وباشر فيها اختصاصات الرئيس الأعلى للدولة بالمعنى المعاصر، من اعلان الحرب، وعقد الصلح، وإبرام المعاهدات، ورئاسة الجهاز التنفيذي والقضائي، والخلاصة أنه ما من مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية أو بالشؤون الداخلية إلا وكان النبي يلجأ فيها الى الشورى فيما لا وحي فيه(6).
والدولة الاسلامية قائمة على دستور ديني هو القرآن الكريم حيث الشريعة الاسلامية هي عماد الدولة والسيادة في الدولة الاسلامية ليست للحاكم أو للمحكوم. قال تعالى(انا نزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)النساء،105، وقد أكد بعض الفقهاء على أن دور الحاكم المسلم لا يزيد عن كونه يراقب تنفيذ أوامر الله وعندما يتحقق ذلك فقد وجب على المسلمين طاعة الله ورسوله وأولي الأمر، فضلاً عما تقدم فإن الشرع الاسلامي هو صاحب السيادة في سياسة الدولة الخارجية فالحرب والسلم والمعاهدات خاضعة للشريعة وأحكامها.

والشريعة الاسلامية عند فقهاء المسلمين نظام عند الله سابق لوجود الفرد والمجتمع والدولة وذهب بعضهم للتأكيد على أن الاسلام أعفى كل شريعة سابقة عليه وما الدولة إلا منفذة لأوامر المشرع الاسلامي وفي حالة عجزها عن القيام بهذه المهمة فإنها ستفقد مكانتها كدولة وفي كل الأحوال يظل المؤمن ملتزماً بالقوانين الدينية حتى في غياب الدولة(7).
وهدف الدولة الاسلامية إنما يتجسد من خلال إقامة العدل واستتباب الأمن والاستقرار لسكانها بصرف النظر عن أشكالهم وألوانهم وعقيدتهم وأعراقهم. قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنك شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة،8-9 . وليس للحاكم في الدولة الاسلامية سيادة على الشعب فهو لا يزيد عن كونه موظفاً يختاره أبناء الأمة وهو يستمد شرعيته من طاعته للقوانين الاسلامية التي يخضع لها الحاكم والمحكوم معاً(8).

ومن هنا فإن الدولة الاسلامية إنما تقوم طبقاً للفكر الاسلامي على أسس قانونية أو شرعية ويكفي أن نشير هنا إلى هذه الحقيقة التي عبر عنها أحد الحقوقيين بقوله (أول دولة قانونية في الأرض يخضع فيها الحاكم للقانون، ويمارس سلطاته وفقاً لقواعد عليا تقيده ولا يستطيع الخروج عليها بما للأفراد من حقوق وحريات نص عليها الاسلام، ونظمها، وقرر الضمانات التي تكفل حمايتها ضد اعتداء الحكام والمحكومين على السواء، فالإسلام عرف فكرة الحقوق الفردية المقدسة التي تكون حواجز منيعة أمام سلطات الحاكم، عشر قرون، قبل أن يظهر على السنة فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن السادس عشر، فمن الاسلام انتقلت فكرة الدولة القانونية الى مختلف النظم القانونية في العالم وهي الأفكار التي لولاها ما عرف العالم حقوق الانسان في أوربا في القرن السادس عشر بسبب المطالبة بحقوق الأفراد وحرياتهم نتيجة شيوع الأنظمة الاستبدادية الظالمة ونتيجة لها أصبحت السيادة تجد مصدرها في المجموع لا في فرد واحد، وهذه الفكرة بدورها ساهمت بالنتيجة في إبراز فكرة العقد الاجتماعي في نشوء الدولة، وهو العقد الذي انتقل بموجبه الأفراد من حياة الفطرة غير المنظمة الى العيش في مجتمع منظم غير أن الخلاف نشأ بين أنصار هذه النظرية بشأن تحديد مضمون هذا العقد الاجتماعي فمنهم من صوره باعتباره تنازل من الجماعة عن حقوقها السيادية لصالح الحاكم الذي اختارته وانتهوا الى المناداة بالسلطة المطلقة، في حين ذهب آخرون وبحق الى القول بأن السيادة غير قابلة للتصرف فيها، ومن ثم لا تملك الجماعة التنازل عنها للحاكم لكنها تفوضه ممارستها بالنيابة عنها وتحت مراقبتها وبشرط أن يكون الحق في مقاومته وإيقاع الجزاء عليه في حالة خرقه لنصوص العقد(9).

وفي الدولة الاسلامية ليس للحاكم سيادة على الشعب اذ أنه مجرد موظف يستمد سلطته من طاعته للشريعة الاسلامية وعلى الرعية مساعدته في الخضوع للشريعة فإذا تصرف الحاكم خلافها فالناس في حلٍ من ولائهم له ولعل في خطبة الخليفه أبي بكر تعبيراً واضحاً عن القضية حين قال (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن احسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني….. إلى قوله … أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)(10).
إن ما تقدم يعني أن ليس لرئيس الدولة الاسلامية أية قداسة شخصية يتميز بها عن أي مواطن عادي وسلوكه الشخصي كسلوكه الوظيفي عرضة للخطأ والصواب ويستوجب الحساب ولا خلاف بين المسلمين عموماً على أن رئيس الدولة في حالة إخلاله بواجباته يمكن عزله، ويجب عزله اذا قدر على ذلك، ولكن الخلاف ظهر فيما اذا لم يقدر على عزله فهل يجب الخروج عليه وخلعه بالقوة؟
أخيراً في حالة قيام ثورة ضده فإن من يقودها يصبح الرئيس الشرعي إذا انتصر على الأول وهؤلاء الذين قالوا بجواز الخروج والثورة. أما الذين رفضوا الثورة أو الخروج على رئيس الدولة في حالة إخلاله بواجباته لا حظوا في ذلك أمرين: الأول حرصهم على وحدة الأمة الاسلامية وتجنب الفتن إعمالاً للقاعدة الشرعية في تحمل الضرر الأدنى لتفادي الضرر الأكبر.
أما الأمر الثاني فهي السوابق التاريخية الثابتة ايام الصحابة والتابعين اذ امتنع الصحابة عن الخروج على سلطان الخلفاء الأمويين الذين فسقوا عن أمر ربهم وخالفوا الكتاب والسنة في كثير من أعمالهم.
والحقيقة أن الرأي الأخير ليس بالرأي الراجح في الفقه الاسلامي فضلاً عن أنه يعتمد على أساس مادي ويرتكز الى القوة المسلحة التي يتمتع بها الحاكم الجائر في الوقت الحاضر، وهو رأي ضعيف ويتجافى مع الأسس الدستورية في الاسلام التي انتهجها الخلفاء الراشدون(11).
مما تقدم يبدو لنا أن الإسلام قد قرر مجموعة من المبادئ العامة التي يعتبرها دعائم ضرورية يلتزم بها نظام الحكم في المجتمع الإسلامي وهذه المبادئ هي:-

1. الشورى: إذ ورد النص على الشورى في القرآن الكريم وفي أحاديث نبوية شريفة، كقوله تعالى(وشاورهم في الأمر) وقول رسول الله (ص) (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار)، ويذهب الرأي الراجح من علماء المسلمين إلى القول بأن الشورى تعد فرضاً واجباً.
2. العدالة: فقد اشتهر الإسلام بأنه دين العدالة وهو لا يطلب العدالة من رجال القضاء فقط بل يطلبها من كل من يملك سلطة أيا كانت إعمالا لقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
3. المساواة: وهي من المبادئ الأساسية المقررة في القرآن والسنة. قال تعالى(إنما المؤمنون أخوة)، ويقول الرسول (ص) في خطبة الوداع (ليس لعربي على اعجمي ولا اعجمي على عربي ولا أحمر على ابيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى). فالقرآن والسنة يقرران مبدأ المساواة بوصفه وسيلة لتحقيق العدالة.
4. الحرية : تضمنت أحكام الإسلام منهجاً يحقق حرية الفرد ويحفظ كرامته وإنسانيته ولم يضع من القيوم التي تحد من هذه الحرية إلا ما يتطلبه الصالح العام، وقد كفل الحرية دينياً فضلاً عن كفالة الحقوق والحريات التقليدية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
5. مسؤولية الخليفة: فهذا مبدأ معمول به في اطار النصوص الشرعية التي وردت في القرآن والسنة والتي توجب الشورى كما إن الاقرار بهذا المبدأ أمر يفهم من نهج الخلفاء الراشدين واعترافهم بمسؤوليتهم عن أعمالهم، ويترتب على تقرير مسؤولية الخليفة ما ذهب إليه بعض العلماء من جواز عزل الخليفة إذا فقد صلاحيته للمنصب لأسباب جسدية أو خلقية(12).
إن المبادئ المذكورة أعلاه تجعل النظام السياسي في الإسلام أكثر النظم السياسية قرباً لمفهوم الديمقراطية الغربية والعكس اصح على اعتبار أن الإسلام رسالة سماوية أولاً وأن النظام الإسلامي كان اسبق في الظهور والتطبيق ثانياً، ومع ذلك فعلى الرغم من وجود هذا التقارب فإن الاختلاف في بعض الجوانب موجود كذلك فالديمقراطية هي دولة فقط بينما الإسلام هو دين ودولة معاً، ويترتب على هذا بروز بعض الفوارق بين الديمقراطية ونظام الحكم في الإسلام وبالشكل الآتي:
1. تقترن الديمقراطية بفكرة القومية فالفكرة الأخيرة لعبت دوراً في بروز الدولة القومية إذ يتحدد شعبها بأنه الشعب الذي يعيش في اقليم واحد يجمع بين أفراده روابط الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة، بينما يتحدد شعب الدولة الإسلامية على أساس وحدة العقيدة.
2. تهدف الديمقراطية إلى تحقيق غايات دنيوية حيث تلعب الجوانب المادية دوراً مهماً بينما يهدف النظام الإسلامي إلى تحقيق اغراض روحية وأخرى مادية.
3. تقرر الديمقراطية سلطة مطلقة للشعب باعتباره صاحب السيادة، بينما الأمر ليس كذلك في الإسلام إذ أن سلطة الشعب مقيدة بالشريعة الإسلامية(13).
على مستوى العلاقات الخارجية يؤكد الاسلام على وحدة الجنس البشري، قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا)، النساء،1، ويحث الإسلام على ضرورة احترام حقوق الآخرين كحقهم في الحياة، والملكية طالما أن حقوقهم لا تضر بحقوق المسلمين.
وتقرر الشريعة الاسلامية بإمكانية الدفاع عن الدولة الاسلامية اذا اعتدى أحد عليها أو على أمنها واستقرارها كما أن هناك قوانين تلتزم الدولة الاسلامية بها في حالة الحرب، فالإسلام لا يسوغ اللجوء الى الحرب العدوانية ولا يجيز قتل الأبرياء أو حرق المنازل والأشجار ولا يقاتل الشيوخ والنساء والأطفال الذين لا يقاتلون ولا يجيز تعذيب سجناء الحرب أو إساءة معاملتهم(14).

المبحث الثاني
تصنيف حقوق الانسان في الإسلام
تتعدد حقوق الانسان بشكل لافت للنظر مع مرور الوقت إلا أن معالجة المسلمين للحقوق الأساسية بقي أمراً مطروحاً ومفهوماً في مصادر القاعدة الشرعية التي نستطيع من خلالها سواء عبر المصادر الأصلية أو المصادر التبعية أن نتلمس وجود العديد من هذه الحقوق التي بدأت الاتفاقيات الدولية ودساتير العالم تشير إليها بينما كان الاسلام قد تحدث عنها ونبه الى أهميتها قبل قرون عديدة، كما يمكن تصور وجود ضمانات قانونية وقضائية لحماية الحقوق التي أقرها الإسلام، ومن ثم سنبحث في تفاصيل بعض الحقوق الأساسية في الاسلام فضلاً عن الضمانات القانونية والقضائية.

المطلب الأول
صور من حقوق الإنسان في الإسلام
توجد العديد من الحقوق التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان لكي يعيش بكرامة وأمن ويمكن ردها الى مجموعات محددة سنتعرض إلى بعض منها من خلال استعراض موقف الإسلام بالشكل الآتي:
الفرع الأول – الحقوق الشخصية
إن حقوق الانسان والنظرة إليها يجب أن تتم في اطار واحد وككل لا يتجزأ، ومع ذلك فإن بعضها أهم من البعض، والحقيقة هي أن الحقوق الأساسية أو ذات الطابع الشخصي هي التي تحافظ على المصالح الضرورية شرعاً وبشكل خاص في الدين والنفس ومنها:
أ- حق الحياة: هذا الحق هبة من الله تعالى الى الانسان، وقد اجمعت على هذه الشرائع والأديان، وهو مأخوذ من الحديث الشريف (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه) وهو ما جاء في خطبة الوداع (إن دمائكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) وينبني على هذا الحق مجموعة من الأحكام الشرعية المهمة هي:
1. تحريم قتل الانسان، لقوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، الانعام،151، وأن هذا الحق يتساوى فيه الناس جميعاً بمجرد الحياة لا فرق بين شريف ووضيع وبين عالم وجاهل وبين عاقل ومجنون وبين بالغ وصبي وبين ذكر أو أنثى وبين مسلم وذمي.
2. تحريم الانتحار، فالحياة هبة الله والروح أمانة في يد صاحبها فلا يجوز له الاعتداء عليها بل ويعاقب من يحاول الانتحار، وقد روى الشافعي أن رسول الله (ص) قال ( من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذبَ به يوم القيامة).
ويلحق بالأمر المتقدم تحريم الاذن بالقتل حيث الله هو المحي والمميت فان اذن شخص لآخر بان يقتل الأول منهما الثاني فقد اختلف الفقهاء في العقوبة التي توقع على الجاني فاعتبر الحنفية ذلك شبهة تدرأ العقوبة، ولا يقتل الجاني، بل يلتزم بالعقوبة تعزيراً، وقال المالكية لا يعتبر الاذن شبهة لأنه باطل، ولا يبيح الفعل فالجاني يعد قاتلاً ويستحق القصاص.
3. وحرمت المبارزة، وهي الاقتتال بين شخصين بهدف إثبات حق أو لدفع عارٍ أو اهانة.
ولأجل المحافظة على حق الحياة لكل إنسان فقد اباح الشارع له بعض المحظورات للحفاظ عليها فأجاز له أكل المحرمات كالميتة والخنزير والخمر حفاظاً على حياته كما أجاز للمريض الفطر في رمضان حفاظاً على صحته ويتصل حق الحياة بالكرامة الانسانية وضرورة المحافظة عليها فالتكريم للانسان جاء من الله تعالى، وقد روي أن جنازة مرت بالنبي(ص) فقام، فقيل له إنها جنازة يهودي فقال أو ليس إنساناً؟)
كما يثبت حرمة أفناء النوع أو الجنس البشري تحت أي ظرف ولأي سبب ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا به في حدود ضيقة.
وحرم الاسلام انطلاقاً من الأفكار المتقدمة المثلة بالميت، والقتيل ولو كان من الاعداء المحاربين في المعركة وبهذا المعنى قال رسول الله (ص) (كَسْرُ عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم)، انطلاقاً من فكرة تكريم الإسلام للإنسان حياً وميتاً ثم حث الرسول (ص) على صيانة عرض الميت بقوله (اذكروا محاسن موتاكم) ومنع وطئ القبور والجلوس عليها حيث قال (لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحترق ثيابه فتخلص الى جلده، خير له من أن يجلس على قبر).
وقد نص الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان في المادة (2) فقرة (4) على (يجب أن تصان جنازة الانسان وألا تنتهك، كما يحرم تشريحه إلا بمجوز شرعي، وعلى الدولة ضمان ذلك)(15).
وقد نصت المادة 33 من مشروع الدستور الإسلامي الذي وضعته لجنة من العلماء في الشريعة على أن (تعذيب الأشخاص جريمة، ولا تسقط الجريمة أو العقوبة طول حياة من يرتكبها، ويلتزم فاعلها أو الشريك فيها بالمسؤولية عنها في ماله. فان كان بمساعدة موظف أو بموافقته أو بالسكوت عنها، فهو شريك في الجريمة جنائياً ومسؤول مدنياً، وتسأل معه الحكومة بالتضامن)(16).
فالإسلام انطلاقاً من احترامه للحق في الحياة يقرر تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملات غير الإنسانية.
ب- حق الحرية: يعتبر هذا الحق من أكثر الحقوق التصاقاً بحق الحياة فهو من الحقوق الاساسية للانسان ويعد حقاً عاماً شاملاً واصل لحقوق متعددة تدخل تحت عناوين مختلفة منها حرية الاعتقاد والتدين وحرية التفكير المرتبط بالعقل والبحث والاختيار لكشف الحقائق وحرية التعبير والدعوة الى الخير أعمالاً لقوله تعالى (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، آل عمران،3/104. وبقدر تعلق الأمر بالحرية الشخصية فهي محترمة في الاسلام بقيدين:
1. أن تتوقف حرية الشخص عند حرية الآخرين.
2. ضرورة تقييد هذه الحرية بالأنظمة والأحكام.
والقوانين العادلة التي تراعي المصالح العامة وقد كفل الاسلام حق الحرية الشخصية فالناس متساوون في هذا الحق اذ أن الأصل هو الحرية حتى يعلم أنهم غير أحرار.
أما موقف الاسلام من الرق فيجب أولاً أن نعترف بحقيقة وهي أن الاسلام لم يستحدث نظام الرق، لكنه شجع على القضاء عليه كما أن الاديان السابقة للاسلام لم تحرمه ولما جاء الاسلام كان المجتمع العربي وحاله في ذلك حال بقية المجتمعات الأخرى يأخذ بالرق اذ كان النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والقانوني لا يجد في اقرار مبدأ الرق جانباً سيئاً، وليس في القرآن الكريم نص صريح يدل على فرض نظام الرق على أي فئة من البشر حتى ولو كان مشركاً يقاتل المسلمين على الرغم من وجود آيات أخرى فيها اشارة الى الرق لكنها جاءت لبيان بعض الأحكام كقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)، المؤمنون،5/6، أو في الآيات التي تدعو الى تحرير الأرقاء كقوله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة)، سورة المجادلة،3، وهناك آيات تدعو الى تحرير الرق كقوله تعالى (حتى اذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فأما مناً بعد، وأما فداء)، سورة محمد،4.

ولم يفرض القرآن الرق على أسرى الحروب وإنما اضطر المسلمون الى اللجوء لفرض الرق على أسرى الحروب من باب المعاملة بالمثل أما التعذيب أو التنكيل بأسرى الحروب بعد استرقاقهم فقد أدانه الاسلام بشدة.
وقد وسع الاسلام من أبواب العتق من باب اعتباره من الكفارات حيث كانت منافذ العتق قبل الاسلام ضيقة تنحصر أو هي تكاد أن تكون كذلك في أرادة السيد وقد اتبع الاسلام في توسيع منافذ العتق عدة اساليب منها:
1. الحث والترغيب دون أن يقيد ذلك بكفارة الذنب كقوله تعالى (فلا أقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة فك رقبة)، سورة البدل.
2. الأخذ بنظام الكفارات بصدد الذنوب الكبيرة كالقتل الخطأ اعمالاً لقوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة الى أهله)، سورة النساء، 92(17).
فضلاً عما تقدم فقد أقر الاسلام حق الاعتقاد أو الحق في التدين والتفكير والضمير اذ يأتي هذا الحق بعد الحق في الحياة من حيث الأهمية لأن الدين أحد الضروريات الخمس وقد أكد القرآن الكريم هذا المنهج في قوله تعالى (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، البقرة،2/256، وقال تعالى (ولو شاء ربك لأمَنَ من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، يونس،10/99، وقد أقر الاسلام حرية الاعتقاد الديني والتسامح بشكل لم يعرف له التاريخ مثيلاً، وتمثل هذا بمظاهر عديدة منها احترام بيوت العبادة والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش وفي المعاهدات التي تم ابرامها من جانب المسلمين ووقت الفتوحات مع غير المسلمين كالوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس فالأساس في التعامل مع غير المسلمين هو البر والقسط مع الناس جميعاً إلا اذا قاتلوا المسلمين فهذا يشرع الجهاد ضدهم.
وقد أنفرد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان في مادته العاشرة بتثبيت حكم الردة وما قال به علماء المسلمون بهذا الخصوص اذ نصت على (لما كان على الانسان ان يتبع دين الفطرة، فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الاكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره، أو ضعفه، أو جهله لتغيير دينه الى دين آخر، أو الى الإلحاد).
فحرية العقيدة في الاسلام هي من جنس حرية الرأي مقيدة بعدم الردة، فالنظام الاسلامي الذي منح غير المسلمين حرية العقيدة وسمح لهم بالعيش في الدولة الاسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين فهو لم يسمح لهم ولا لسواهم أن يدخل أحدهم في الاسلام متى شاء بنية الخروج منه متى شاء بدعوى.

تابع القادم :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(2و3)









قديم 2008-11-06, 18:53   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(2و3)


حرية العقيدة أو الرأي فالإسلام
وضع هذا القيد حماية لمصلحة الجماعة ودرأً للمفسدة وبيان ذلك أن الردة عن الاسلام وإعلانها على وجه الخصوص انما هي مفسدة للجماعة وإضراراً بها مع سبق الاصرار لأن المرتد ما كنا نعرفه لولا اعلانه لردته المتعمدة بهدف التشكيك بعقائد الناس التي اتخذت الاسلام اساساً في قيامها وبقائها والدليل على أن المرتد المعلن ردته يقصد فعلاً هذا الاضرار بمصالح جماعة المسلمين قوله تعالى (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)، آل عمران،73، وهنا لابد من الاشارة الى أن الرسول (ص) قد أكد على حرية العقيدة في أول اعلان دستوري لحقوق الانسان عندما أسس دولته في المدينة اذ أكد هذا الاعلان على أن (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)(18).
أخيراً من المفيد ان نسجل شهادة المستشرق البريطاني الكبير السير آرنولد بهذا الصدد حيث يؤكد على (إننا اذا نظرنا الى التسامح الذي أمتد الى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الاسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس الى الاسلام بعيدة عن التصديق(19).

الفرع الثاني - الحقوق السياسية
والمراد بها الحقوق التي تنظم علاقة الانسان بالدولة والمجتمع وإذا كان اقامة الدولة من الضرورات فإنها لا تقوم إلا بالأنظمة والقوانين ومنها ما ينظم علاقة الأفراد بالدولة وقد تتعارض هذه الأنظمة والقوانين مع حقوق الانسان ذات الطابع الشخصي، ومن هنا تنشأ الحقوق السياسية للأفراد في الدولة.
إن ميدان الحقوق السياسية ميدان واسع وسوف يقتصر حديثنا هنا على ما تمنحه الدولة للأفراد من حقوق ذات صلة شخصية بهم ضمن مفهوم وحدود المصلحة العامة كحرية الرأي والتعبير والحق في الاشتراك في شؤون الحكم (الشورى).

أ- حرية الرأي والتعبير وحق الشورى
ان الاسلام يعتبر الحكم مشاركة بين الحاكم والمحكوم، وأن الحاكم انما يقوم وجوده على أساس تحقيق مصالح الناس ومن هذا المنطلق وضع الفقهاء القاعدة الفقهية التي تقول (تصرفات الأمام منوطة بالمصلحة).
ومن ثم فإن حرية الرأي والتعبير تتمثل في قدرة الانسان في ابداء وجهة نظره بوسائل مختلفة ومن بين المسائل التي يمكن أن يعبروا عن وجهة نظرهم بخصوصها المسائل المتعلقة بسياسة الحكم، وقد كان الخلفاء يطلبون نصيحة الناس وآرائهم في المسائل المختلفة.
أن الضمان لحرية التعبير انه يعد واجب من واجبات الأمة وهو واجب ديني كما أنه من جهة ثانية لا يعتمد على إذن من سلطان طالما أن القصد منه رضا الله تعالى والتذكير بطريق العدل والحق، كما أن لحرية التعبير حدوداً لا يجب أن يتم تجاوزها ومن ذلك أن تتقيد بالحق والحجة والبرهان كما ينبغي أن لا تؤدي الى حرمان الآخرين من إبداء رأيهم كما يجب أن يكون الرأي المعبر عنه بعيداً عن الظن والوهم وسوء النية. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، الحجرات، 49،6.
ويرتبط بالحق في حرية الرأي والتعبير ما يعرف بحق الشورى الذي يعني ضرورة التشاور بين المسلمين من الرعية والحكام، اذ أن أساس الشورى طبقاً للرأي الراجح في الفقه الاسلامي إنما يوجد في آيات قرآنية، قال تعالى (وشاورهم في الأمر) كما أن سيرة الرسول (ص) تؤكد هذا المنهج.
والحقيقة أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلفاء الراشدين، فما يذكر أن الأمام علي بن أبي طالب حين خرج عليه الخوارج وكانوا نحو ثمانية آلاف بعد قبوله تحكيم الحكمين في النزاع الذي قام مع معاوية اذ لم يعمد الأمام علي الى استعمال القوة معهم بصورة تلقائية بل بعث اليهم الصحابي الجليل أبن عباس ليناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف فبعث الى الآخرين أن ارجعوا فأبوا فأرسل اليهم (كونوا حيث شئتم بيننا وبينكم ألا تسفكوا دماً حراماً ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحداً فإن فعلتم نبذت الحرب معكم) كما قال لهم (لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فساداً) وهذه الحادثة تظهر أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلافة الراشدة، ومع ذلك فإنه لا يمكن الادعاء أن هذه الحرية كانت مكفولة في الغالبية العظمى مما تلا هذا العهد من تاريخ المسلمين، ولقد كان الخليفة منذ عهد الخلافة الأموية يطلب الى الناس قبل وفاته مبايعة ولي عهده وهذه المبايعة لم تكن في حقيقة الأمر تتم في حرية تامة إنما كان ( الاكراه فيها أكثر وأغلب) على حد تعبير أبن خلدون، وفي العهد العباسي قل من الوزراء من لم يلق حتفه على يد أحد الخلفاء ومع ذلك فقد عرف في بعض العهود بعض العلماء الذين تكلموا بشؤون الحكم وانتقدوا تصرفات الخلفاء والأمراء دون أن يصيبهم أذى كالحسن البصري في عهد الأمويين إلا أن هذه الحالة تمثل الاستثناء عن القاعدة(20).

ب- موقف مشروع الدستور الاسلامي من الحقوق السياسية
أن تقييم أية تجربة لابد أن يتم من خلال فهم النظرية أو الأسس الفكرية التي جاءت بها ومقارنتها مع الأسس العملية أو الجانب التطبيقي وبهذا الخصوص يمكن بحث ذلك من خلال مشروع الدستور الاسلامي الذي لم تعتمده بعد أية دولة اسلامية اذ يحتوي هذا الدستور على رؤية متكاملة في هذا المجال.
فالمادة الرابعة منه تنص على قيام الشعب بمراقبة الأمام ومساعديه ومحاسبتهم كما أن الشعب مصدر السلطات حيث تقر المادة 29 منه بحريات سياسية مهمة كحرية الفكر وإبداء الرأي وإنشاء الجمعيات والنقابات والانضمام اليها وحرية الانتقال والاجتماع، كما تقر المادة 41 منه حرية الصحافة وتمنع الدولة من محاربة وقتل خصومها السياسيين اقتصادياً اذ تنص المادة 17 منه على (حق العمل والكسب والتملك مكفول لا يجوز المساس به …) وفي المادة 42 على أن (للمواطنين حق تكوين الجمعيات والنقابات) وفي المادة 49 التي نصت على (لا جناح على من أبدى رأيه ضد البيعة للإمام قبل تمامها) كما لا يقر الاسلام بالحصانة المطلقة لرئيس الدولة إذ نصت المادة 45 على (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا للإمام في أمر مقطوع بمخالفته للشريعة) والنص في المادة 51 على (يخضع الأمام للقضاء وله الحضور بوكيل عنه) أما المادة 94 فقد أكدت على عدم جواز منع القضاء من سماع الدعوى ضد الامام والحاكم. كما يقر الاسلام ومشروع الدستور الاسلامي الحق في الشورى والرقابة على دستورية القوانين في المواد 61، 71، 83، 84(21).
فضلاً عما تقدم تمنع نصوص مشروع الدستور الاسلامي الحاكم من وضع يده على الأموال العامة أو قبول الهدايا، كما لا تجيز الشريعة، ومشروع الدستور الاسلامي العبث بالسلطة القضائية بهدف التنكيل سياسياً بالأفراد أو حقوقهم السياسية المكفولة لهم شرعاً كما لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية(22).

الفرع الثالث - حقوق الأسرة
تعد الأسرة النواة الحقيقية التي أقر الاسلام من خلالها منظمة الزواج والإنجاب وقرر فيها المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات، قال تعالى(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ولكن هذه المساواة ليست مطلقة في الجزئيات بل يفضل كل منهما الآخر في جانب، وقد جاء الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان فنظم جانباً من الاحكام المتعلقة بالأسرة والزواج بشكل موجز في مادته الخامسة وفي فقرتين هما:
(1. الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع والزواج أساس تكوينها، وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية. 2. على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها).
ويتفرع من حقوق الأسرة في الأمومة والأبوة اذ جاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان مذكراً بما تقدم في فقرته الثالثة من المادة السابعة منه التي نصت على (للأبوين على الأبناء حقوقهما، وللأقارب حق على ذويهم، وفقاً لأحكام الشريعة).
وهذا النص يحيل على الشريعة وقد انفرد بالإشارة الى الأقارب بينما ثبتت الفقرة الثانية من المادة السابعة الحق للأب باختيار نوع التربية لأولاده وهو ما انفرد به الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان حيث نصت هذه الفقرة على (للآباء ومن بحكمهم، الحق في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم، مع وجوب مراعاة مصلحتهم، ومستقبلهم، في ضوء القيم الأخلاقية، والأحكام الشرعية).
أما حق الطفولة فقد ثبت للأولاد في الشريعة الاسلامية اذ يجب على الوالدين رعاية الصغير منذ الصغر وتربيته وتوجيهه وتعريفه بالحلال والحرام وتعليمه ممارسة العبادات وإقامة الصلات الاجتماعية القوية وتحفيظه القرآن والتسوية بين الأولاد والحقيقة أن حقوق الأبناء المقررة شرعاً هي حق التربية وحق النسب وحق الرضاعة وحق الحضانة.
وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان هذه الحقوق في الفقرة الأولى من المادة السابعة التي نصت على أن (لكل طفل منذ ولادته حق على الأبوين، والمجتمع، والدولة في الحضانة، والتربية، والرعاية المادية، والعلمية، والأدبية، كما تجب حماية الجنين، والأم وأعطاءهما عناية خاصة)(23).

الفرع الرابع - الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
أكدت الشريعة الاسلامية على ضرورة ضمان مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويمكن الاشارة الى بعض منها بصورة موجزة وهي:

أ- حق العمل
أمر الله تعالى الانسان بالعمل، قال تعالى (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، وهناك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي حثت على العمل اذ قال الرسول (ص) (أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) وقال (ص) (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وضرب الرسول (ص) المثل بنفسه فكان يرعى الغنم قبل البعثة ويقول (ما من نبي إلا رعى الغنم)(24).
ولا تتقيد حرية الحق في العمل إلا بموجب القيود العامة في الحلال والحرام وضمن الاحكام الشرعية وألا يؤدي العمل الى الإضرار والضرر بالغير لقوله (ص) (لا ضرر ولا إضرار)(25).
وقد أفرد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان مادتين لتأكيد حق العمل إذ نصت المادة 13 على أن العمل حق تكفله الدولة والمجتمع وللإنسان حرية اختياره، وحق العامل في الأمن والسلامة، وحق كل فرد بأجر متساوٍ للعمل، دون أي تمييز بين ذكر أو أنثى، والحق بالأجر العادل والمرضي الذي يكفل العيشة اللائقة للعامل وأسرته مع طلب الإخلاص والإتقان في العمل، ووجوب تدخل الدولة لفض النزاع ورفع الظلم، كما نصت المادة 14 على حق الانسان بالكسب المشروع دون احتكار أو غش(26).

ب- حق الضمان الاجتماعي
عرف هذا الحق في الفكر الاسلامي المعاصر تحت عنوان (العدالة الاجتماعية في الاسلام) أو (التكافل الاجتماعي في الاسلام).
وأعلن رسول الله (ص) حق التكافل الاجتماعي لعمال الدولة على وجه الخصوص فقال (من ولي لنا عملاً، وليس له منزل، فليتخذ له منزلاً – أي من بيت المال – أو ليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة). وفي حديث آخر لرسول الله (ص) قال (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع الى جنبه، وهو يعلم)(27).
وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على الحق في الضمان الاجتماعي في المادة 17 التي نصت على (1. لكل انسان الحق أن يعيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية تمكنه من بناء ذاته معنوياً، وعلى المجتمع والدولة أن يوفر له هذا الحق. 2. لكل انسان على مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي يحتاج اليها في حدود الإمكانيات المتاحة. 3. تكفل الدولة لكل انسان حقه في عيش كريم، ويحقق له تمام كفايته، وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية)(28).

ج- حق التملك
يراد بحق التملك الاعتراف بحق الملكية الفردية للانسان وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء والاستفادة منه واستغلاله، والأصل في الملكية أن تكون للأفراد وهي الملكية الفردية وأقر الاسلام كذلك الملكية العامة للدولة في الأموال التي تعد أساسية لتلبية حاجات الأمة والتي تعد مصدر الثروة، وقد نصت المادة 15 من الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على هذا الحق بالشكل الآتي: (1. لكل انسان الحق في التملك بالطرق الشرعية والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة، ومقابل تعويض فوري وعادل. 2. تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي).
كما أكدت المادة 16 في الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على اقرار حقوق الملكية الفكرية اذ نصت على (لكل انسان الحق في الانتفاع بثمرة إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية الناشئة عنه على أن يكون هذا الانتاج غير منافٍ لأحكام الشريعة(29).
ان ما تم ذكره من تفاصيل لبعض الحقوق التي أقرت من جانب الشريعة الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال انها جميع الحقوق التي يتمتع بها الانسان في ظل آخر الرسالات السماوية.

المطلب الثاني
ضمانات حقوق الإنسان في الإسلام
لم يقم الإسلام بتأكيد حقوق الانسان المختلفة أو بيانها فهي ليست مجرد شعارات تطرح في مناسبات معينة، ومن هنا قرر الاسلام أنه لا فائدة من منح الحقوق أو النص عليها اذا لم تتوافر الضمانات القضائية اللازمة لحمايتها ووضعها موضع التطبيق وسواء تم ذلك عبر الايمان والقناعة أو من خلال الرهبة والقوة فلا ينفع التكلم بالحق اذا لم يكن هناك نفاذ له والدين بغير قوة تحميه فلسفة محضة.
ومن هنا فإن القضاء يعد وبحق من أهم الضمانات التي يمكن أن تحمي حقوق الانسان وتقيم الشرع وتطبق الأحكام العامة ولذلك فقد اعتبر الاسلام القضاء من أركان الدولة وهو من وظائف الأنبياء، قال تعالى (يا داود إنا جعلنك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ...)، الصف 83/26).

والإسلام مفتوح الأبواب لجميع الناس لا يدفع أحد المتنازعين أية رسوم مقابل الخدمة القضائية فالدولة تتحمل نفقاته اذ أنه لا يقل أهمية عن الأمن والتعليم والصحة العامة التي تتكفل الدولة بها، وقد رغب الرسول (ص) في القضاء العادل حيث قال (ليوم واحد من أمام عادل أفضل أو خير من عبادة ستين سنة) وقال (ص) كذلك (أن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه)(30).
وفي مقدمة الضمانات المقررة في الاسلام لحماية حقوق الانسان هي حق التقاضي المكفول في الشريعة لكل مواطن في الدولة الاسلامية مسلماً كان أم غير مسلم، وهنا روى وكيع عن شريح، قال (لما رجع علي من قتال معاوية وجد درعاً له افتقده بيد يهودي يبيعها، فقال علي: درعي، لم أبع، ولم أهب فقال اليهودي: درعي، وفي يدي، فاختصما الى شريح، فقال له شريح حين أدعى: هل لك بينة، قال نعم، قنبر(مولاه) والحسن أبني، فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال (علي): سبحان الله رجل من أهل الجنة(31).
والحقيقة أن المساواة بين الخصوم وإقامة العدالة بينهم مهما تفاوتت مكانتهم الاجتماعية والدينية، سبباً مباشراً لكثير من الناس في اعتناق الاسلام والانضواء مع المسلمين في العقيدة.
ومن الضمانات الأخرى لحقوق الانسان هي المساواة بين المتقاضين بغض النظر عن الغني أو الفقير أوالمكانة الاجتماعية أو اختلاف الدين والمذهب والجنسية والحاكم والمحكوم إعمالا لقوله (ص) (من ابتلى بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده)(32).
كذلك فالأصل براءة الذمة حيث لا يقام حد أو قصاص على أحد اذا اثبت ذلك أمام القاضي بالأدلة أما اذا لم يتحقق ذلك فلا مجال لفرض العقوبة عليه كما لا يجوز اللجوء الى ضرب أو تعذيب المتهم لانتزاع الاقرار منه وشملت ضمانات التقاضي فيما يتصل بحقوق الانسان جميع المشاركين في العمل القضائي ومنهم الشهود، قال تعالى(ولا يُضار كاتب ولا شهيد)، البقرة،2/282.
كما أقرت مبادئ الشريعة جوانب مهمة من حقوق الانسان عند تنفيذ الأحكام القضائية وبهذا يقول الرسول (ص) (أن الله كتب الاحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة).
أخيراً لابد من الاشارة الى حقيقة مضمونها أن قضية حقوق الانسان في الاسلام اذا ما كان هناك خلل فيها فان هذا الخلل كان مرده الدولة الاسلامية ابتداءاً من بدايات الحكم الأموي وهو بدوره ناتج عن المشاكل السياسية التي تولدت عن قضية الخلافة والحكم الأمر الذي انعكس بشكل أو بآخر على المسائل الانسانية الأخرى الخاصة بحقوق الانسان، أما الاسلام فالواقع أنه كنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي قد وضع الخطوط العريضة للعدالة داخل المجتمعات الاسلامية على المستوى النظري بهدف تحويل العالم الى مجتمع اسلامي موحد.

هوامش الفصل الثاني
1. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص132.
2. د. محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص131-132.
3. المصدر نفسه، ص133-134.
4. د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص188.
5. د. عبد العزيز محمد سرحان، المدخل لدراسة حقوق الإنسان في القانون الدولي، الطبعة الأولى، 1988، ص56-57.
6. المصدر نفسه، ص54.
7. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص138.
8. المصدر نفسه، ص140-141.
9. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص55-56.
10. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص141-142.
11. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص58-59.
12. د. أنور أحمد رسلان، الحقوق والحريات العامة في عالم متغير، دار النهضة العربية، القاهرة – 1993، ص31-32.
13. المصدر نفسه، ص33.
14. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص142-143.
15. د. محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص141-150.
16. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص122.
17. المصدر نفسه، ص132-133.
18. المصدر نفسه، ص163-164، الهامش رقم(100).
19. د. عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، منشأة المعارف، الإسكندرية،
ص389.
20. المصدر نفسه، ص284-285.
21. أنظر في مسؤولية الخليفة، المصدر نفسه، ص467-470.
22. د. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص176-177.
23. أنظر في حقوق الأسرة في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، المصدر السابق،
ص206-276.
24. المصدر نفسه، ص282-283.
25. المصدر نفسه، ص286.
26. المصدر نفسه، ص294.
27. المصدر نفسه، ص297-298.
28. المصدر نفسه، ص302-303.
29. المصدر نفسه، ص318.
30. المصدر نفسه، ص274-376.
31. المصدر نفسه، ص377.
32. المصدر نفسه، ص380.

الفصل الثالث
تطور الحقوق والحريات
لم تكن الحقوق والحريات التي حصل عليها الإنسان وليدة زمن واحد أو مكان واحد إذ ان تطور الحقوق والحريات عملية تمت في أماكن عديدة من العالم تبعاً لتطور تاريخ الأمم والشعوب وما مر عليها من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية وسوف نحاول في هذا الفصل ان نتتبع مراحل التطور التي مرت بها هذه الحقوق والحريات من خلال متابعة الاعلانات التي ظهرت نتيجة الثورات والأحداث السياسية، فضلاً عن المدارس والمذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية.

المبحث الأول
المذاهب والمدارس والنظريات الفلسفية والفكرية
ساهمت المذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية التي ظهرت منذ نهايات العصور الوسطى الأوربية في بلورة اتجاه يخدم بشكل أو بآخر بعض مفاهيم حقوق الإنسان أو الأسس التي قامت عليها هذه الأفكار في العهود اللاحقة.
ومن ثم فان التعرض لبعض التيارات أو الأفكار التي شهدتها هذه الفترة أمر يساعد في فهم جانب من الأصول الفكرية لتطور الحقوق والحريات.

المطلب الأول
العصور الوسطى
يقصد بالعصور الوسطى تلك الفترة التي تمتد من الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة فترات أساسية:

الفترة الأولى تمتد حتى القرن العاشر للميلاد شهدت أوربا خلالها غزو الجرمان من الشمال والفتوحات العربية في الجنوب، وفي هذه الفترة شهدت الكنيسة تأكيداً لمركزها في إطار الإمبراطورية، وكان هناك إصرار على ضرورة الطاعة للكنيسة والولاء لها كما تم تقبل أية سلطة حتى لو كانت ظالمة وترفض مقاومتها حتى لو جاءت من غير مؤمن، فضلاً عما تقدم فقد سعت الكنيسة إلى اكتساب امتيازات قبل السلطة الزمنية ومما ساعد الكنيسة في تركيز هيمنتها خلال هذه الفترة سيطرة الإقطاع.

الفترة الثانية هي التي تلت القرن العاشر والتي تمتد حتى القرن الثالث عشر للميلاد وخلالها تنامت واشتدت قوة الكنيسة حيث شهدنا صراعاً بينها وبين رجال الدولة بحيث أصبحت نظرية السيفين التي وصفها جلاسيوس الأول والتي تقرر نوعاً من المساواة بين السلطتين الدينية والدنيوية موضوعاً منتهياً.

الفترة الثالثة امتدت من بداية القرن الرابع عشر وخلالها نشهد المراحل الأولى لانهيار السلطة البابوية، وقيام النظام الاستبدادي مع دعوات لإقامة مجتمع عالمي وحكومة الهية واحدة في مقابل دعوات أخرى أساسها إقامة الدولة القومية(1) واعتبارها نظام مقدس، وان الملوك هم ظل الله فهم لا يخضعون لسلطة الكنيسة ولا يسألون أمام بابواتها، وقد أدى هذا الصراع بين الدولة والكنيسة إلى ظهور أفكار جديدة ذات طابع سياسي على يد بعض المفكرين.

فنحن نجد في كل مجتمع عقيدة سياسية وصياغة قانونية للأفكار السياسية المتبناة إذ تميل هذه الصياغة إلى جانب المحكومين في الدول الحرة بينما هي تنـزع نزعة عكسية في الدول الاستبدادية أو الشمولية، والعقيدة السياسية في الدول الحرة تعد مصدراً أساسياً من مصادر ضمانات الأفراد إذ انها تؤكد قيام النظام السياسي بأسره على احترام الشخصية الإنسانية الحرة لما تتميز به. ومن ثم يجب ان تتمتع بأوفر قسط ممكن من الحرية.(2)
والحقيقة ان العقيدة السياسية التي قامت عليها النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة انما ترجع إلى أصول تاريخية تمتد إلى القرون الوسطى الأوربية على الرغم من انها لم تتبلور بشكل كامل إلا في أواخر القرن الثامن عشر فالوضع العام في العالم القديم كان يعارض فكرة قيام حقوق للأفراد في مواجهة السلطة العامة وكان في مكنة الجماعة ان تأتي ما تشاء طالما كان ذلك إجراءاً عاماً، وقد نبتت بذور العقيدة الحرة الأولى خلال العصر الوسيط الذي تميز بطبيعته السياسية الخاصة من ناحية وبالحركة الفكرية التي نشطت فيه من ناحية أخرى(3) وبقدر تعلق الأمر بالحركة الفكرية يمكن الإشارة إلى أهم المفكرين الذين ظهروا خلال هذه المرحلة فضلاً عن التطرق لأهم الأحداث التي ساهمت في حصول الشعوب على حقوقها.

الفرع الأول- جريجوري
كان جريجوري من أقوى البابوات، وقد نُصب عام 573 عمدة على روما غير انه اعتزل هذا المنصب ليتفرغ كلية للدين، وفي عام 590 تولى منصب البابوية، وتضمنت كتاباته أقوى الحجج المؤيدة لواجب احترام السلطة الزمنية، فهو الوحيد من بين الشخصيات البارزة في الكنيسة الذي تكلم عن قداسة الحاكم السياسي بلغة تدعو إلى الطاعة السلبية وتتلخص وجهة نظره في ان للحاكم السيئ الحق ليس في الطاعة وحدها، وانما في ضرورة كون هذه الطاعة صامته وسلبية، والرعايا يجب عليهم ان يطيعوا كما يجب عليهم الامتناع عن محاولة الحكم على حياة حكامهم أو نقدها أو مناقشتهم فيما يقومون به، وكان جريجوري يحتج على أوامر الإمبراطور إذ كان يعتقد انها تناقض القانون، لكنه مع ذلك يطبقها، ويبدو ان نظريته تتلخص في اعتبار الإمبراطور يمتلك السلطة اللازمة لإصدار الأوامر التي يراها حتى ان كانت هذه الأوامر غير قانونية ما دام يتحمل مسؤولية ذلك وإذا قادت هذه المسؤولية إلى تعرضه للعنة روحية، فليست سلطة الحاكم مستمدة من الله فقط، لكنها أعظم سلطة على الأرض باستثناء سلطة الله(4).

يتبع >

__________________









قديم 2008-11-06, 18:54   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

لفرع الثاني- توماس الاكويني
هو من أعظم فلاسفة القرن الثالث عشر الميلادي، وتقوم فلسفته على التوفيق بين العقل والإيمان، وقد انصبت معالجات هذا المفكر على توضيح جوانب متعلقة بالدولة والمجتمع ونظم الحكم وعلاقة الدولة بالكنيسة وغيرها من المواضيع، وهو يرى ان السلطة السياسية حق من الحقوق الإنسانية، وان هذه الحقوق الإنسانية تعتبر جزءاً من الحقوق الطبيعية الصادرة عن الذات الالهية، كما ان الله لا يمكن ان يعد مسؤولاً عن أي شكل من أشكال الحكومات، لأنه لم يكون بفعل إرادي هذا الشكل أو ذاك، كما ان الله لم يقرر أفضلية أحد الأشكال على غيره من أشكال الحكومات، أي انه يرى ان السلطة السياسية تقوم على الحقوق الإنسانية، رغم ان الله هو مصدر السلطة(5)، ويعتقد بان فكرة الدولة وأصولها تتصل بشكل أساسي، بنزعة الاندفاع الاجتماعي للإنسان، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع العيش خارج اطار الجماعة وهذا يعني ان الدولة عبارة عن حدث طبيعي تقتضيه طبيعة الحياة الإنسانية، وتتمثل في كونها تنظيم ارتضاه الأفراد بحريتهم لتحقيق هدف الأفراد للحصول على السعادة.
ويقول الاكويني أيضاً ان السيادة هي سلطة عمل القوانين، وهي مركزة في جميع أفراد المجتمع السياسي أو فيمن يمثلونهم، وان الملك أو الأمير انما يستمد سلطته العليا من سلطة المجموع ويزاولها باسمهم، والحكومة الصالحة في نظر الاكويني هي الحكومة التي تشرك أصحاب السلطة وهم أفراد المجتمع في مظاهر الحكم، ويؤكد ان أفضل أشكال الحكومات هي الحكومة المختلطة التي تختلط فيها عناصر النظام الملكي والنظام الارستقراطي والنظام الديمقراطي(6).
ان الفكرة المتقدمة تتحقق من خلال أعمال مبدأ انتخاب الحاكم، فالملكية التي يريدها الاكويني تكون انتخابية على ان يعاون الملك مجلس ارستقراطي منتخب من قبل الشعب، فهناك ملك يعاونه مجلس ارستقراطي منتخب، والنظام المذكور هو ملكية معدلة بأرستقراطية وديمقراطية، كما يظهر الاكويني معارضته للحكم الاستبدادي، ويمنح الشعب الحق في مقاومة الحاكم المستبد الذي يتجاوز حدود سلطته بشرطين أساسيين هما: إلا تمارس هذا الحق طائفة معينة من الشعب بل يجب ان يمارسه مجموع الشعب، كما يجب ان يأخذ القائمون بالمقاومة على مسؤوليتهم الا ينتج عن حركتهم تلك مساوئ تفوق مساوئ الحاكم المستبد أو تعادلها وهو يقول (ان للشعب حق قانوني في ارغام الحاكم- الذي يستمد سلطته من الشعب- على التزام الشروط التي بموجبها تنازل له عن السلطة).(7)

الفرع الثالث- مارسليو بادوا
دوّن هذا الايطالي أفكاره في كتاب أصدره عام 1324 عنوانه (المدافع عن السلام) وكان هدفه هو هدم السيطرة البابوية، وصولاً إلى تحديد دقيق وفعال لما تدعيه السلطة الروحية من حق في السيطرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة على أعمال الحكومة الزمنية حيث ذهب الى وضع الكنيسة تحت سيطرة الدولة وبهذا يكون قد وصل إلى مرحلة متقدمة في دفاعه عن السلطة الزمنية(8)، وينسب إليه بعض الكتاب انه أول من نادى في العصور الوسطى بمبدأ حق الشعوب في السيادة، إذ ميز بين الأمة وهي مصدر السلطة، وبين الحكومة وهي الأداة المنفذة لإرادة الأمة، وقرر بادوا حق الشعب في السلطة التشريعية وسيادة هذه السلطة على السلطة التنفيذية، إذ انه طبقاً لآرائه يختار الشعب السلطة التنفيذية ويكون له حق الإشراف عليها وتكون هي مسؤولة أمامه، كما نادى بحق الشعب في معاقبة الحكام إذا انتهكوا القوانين التي سنها الشعب، ومن حق الشعوب خلع حكامها وإبعادهم عن السلطة(9).
ان نظرة بادوا إلى القانون باعتباره من الضروري ان يصدر عن هيأة دستورية (المواطنين) فالأفراد أو جميع المواطنين أو غالبيتهم هم الذين يقررون بإرادتهم، في جمعية عامة، وفي لغة معبرة لا لبس فيها ما هو المباح للناس وما هو المحرم من الأعمال المدنية مع تعرض المخالف للعقوبة، فالقانون البشري ينشأ نتيجة اشتراك الجماعة في تشريعه وصياغته، والحقيقة ان هذا المفهوم يقدم لنا فكرة عن سيادة الارادة العامة تذكرنا بروسو فنحن مع بادوا في عالم مختلف عن عالم القديس توماس الاكويني حيث لا نجد في أفكار بادوا أثر لفكرة الاكويني الخاصة بان الدولة تخضع لنظام أبدي مطلق من القيم يعبر عنه القانون الالهي والقانون الطبيعي، فالدولة هي مصدر القانون، وقانونها يجب طاعته ليس لأنه يقترن بالإكراه المادي لكنه في ذاته تعبير عن العدالة(10).

الفرع الرابع- وليم أوكام
ولد هذا الفيلسوف عام 1290 في مقاطعة أوكام التابعة لولاية بوركشارير وتوفي عام 1349 وقد عكست كتاباته عدم رضا جانب كبير من المسيحيين عن سيطرة البابا التي شاع الاعتقاد انها شر على الكنيسة وأوربا معاً ومن ثم فقد حاول أوكام ان يحدد مجال اختصاص كل من السلطتين الزمنية ممثلة بالإمبراطور أو الملك والسلطة الدينية ممثلة بالبابا إلا انه في كل الأحوال لم يكن يفكر في إلغاء أو تذويب سلطة الكنسية في الدولة وإنما أراد إصلاح الأوضاع القائمة عبر فصل مجال اختصاص كل من السلطتين الدينية والزمنية(11).

ان فلسفة أوكام السياسية عكست حالة الفكر السياسي الذي كان قائماً في القرن الرابع عشر بصورة واضحة، وهي لم تكن تخرج في جوهرها عن مناقشة طبيعة العلاقة بين السلطتين الدينية والدنيوية على الرغم من ان السلطة الفعلية لبابوات روما على الملوك كانت قد تلاشت تقريباً إلا ان الجديد في فلسفة أوكام انها طرحت في المناقشات السياسية العلاقة بين الملك ورعاياه، وكذلك حق هؤلاء الرعايا في مقاومته إذا ما أتخذ قراراً يمس ضمائرهم حول ما يعتقدون انه يمثل حقيقة العقيدة المسيحية(12).
أخيراً يمكن القول ان العصور الوسطى قد تميزت بأفكار طرحت من جانب مفكرين وفلاسفة ورجال دين عبرت عن وجود انواع مختلفة من الثنائية، فهناك رجال الدين وسلطاتهم في مواجهة السلطة الزمنية أو العلمانيين أو ما يمكن ان يعبر عنه بثنائية البابا إزاء الإمبراطور، الحقيقة ان نهايات العصور الوسطى خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر قد شهدت تحولات عميقة ومهمة إذ عصفت الأزمات الاقتصادية بالقارة الأوربية فضلاً عن انتشار الأوبئة التي قضت على ثلث سكان فرنسا وبريطانيا كما ان بذخ الكنيسة كلها عوامل قادت الى التفكير بأساليب مختلفة والقبول بآراء جديدة ساعدت على بروز الدولة القومية مع بدايات عصر النهضة التي وضعت الأسس الفكرية الأولى للنظام السياسي والاقتصادي لأوربا وما صاحب ذلك من صراع طويل للشعوب في سبيل الحصول على حقوقها لكن هذا الصراع تحول إلى صراع مباشر بين الملوك من جهة والشعوب من جهة أخرى بدل الصراع الذي كان قائماً بين البابا والإمبراطور.
وإذا كانت الأفكار المتقدمة هي التي مثلت أو عكست جانباً من الصراع الفكري في العصور الوسيطة فان سواد الشعب كان محكوماً بسيادة نظام الاقطاع الذي انشأ إلى جانب سلطات الدولة سلطات رؤساء الاقطاع، ولا غرابة ألا يزدهر سلطان الدولة في ظل النظام الاقطاعي كما انه ليس من الغريب ان لا يتم ترجيح الصالح العام في مواجهة مصالح الإقطاعيين إذ ان من شان سلطان زعماء الاقطاع ان يضعف من سلطات الدولة وان يقلل من سيادتها، والحقيقة اننا نجد في النظام الإقطاعي رؤساء يملكون الأراضي والمقاطعات ويتمتعون بسلطان واسع وحقوق متعددة، هذه الحقوق وذلك السلطان لا ترد عليهما قيود إلا تلك التي يقررها العرف أو تنشأ عن العقد المبرم بين رئيس الاقطاع والملك، وهذا هو الذي يحدد حقوق كل طرف تجاه الآخر، فإذا دفعوا ضريبة، فالأساس القانوني لدفعها هو العقد السالف الذكر وليس حق الدولة في فرض الضرائب على الأفراد الذين يعيشون في إقليمها كما ان رؤساء الإقطاع لم يخضعوا لقضاء الدولة، فإذا وجبت مسؤوليتهم فإنهم يحاكمون أمام قضاة من نفس درجتهم الاجتماعية، ومع ذلك فان هؤلاء أي رؤساء الإقطاع لم يكونوا ملزمين بالمثول أمام محكمة مكونة بهذه الطريقة لأنهم كانوا يملكون اعلان الحرب، ومن ثم فقد كان رئيس الإقطاع يفضل ان يصفي منازعاته عن طريق الحرب على ان يسويها عن طريق اللجوء الى المحاكم، ومن ثم فانه لن يعتبر أمراً مستغرباً ألا يكون هناك مجال للكلام عن حقوق الأفراد تجاه الدولة، لان رابطة الإقطاع القائمة على وجود إقطاعي متنفذ لم تترك مجالاً لتنظيم علاقة حقيقية واضحة بينهم وبين السلطة المركزية، كما انه ليس غريباً ألا تسود فكرة الصالح العام(13).

المطلب الثاني
الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في عصر النهضة والعصور الحديثة
إذا كانت العصور الوسطى في القارة الأوربية قد تميزت بالصراع الذي نشب بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء، والذي انتهى بانتصار الملوك والأمراء وفصل الكنيسة عن الدولة مما قاد إلى ان يصبح الملوك أو الأمراء الممثلين للسلطة الزمنية أصحاب النفوذ والسلطان بدون منازع وبشكل خاص بعد القضاء على نظام الإقطاع وقيام الطبقة الوسطى التي يمثلها التجار والصناع والحرفيون.
ومما ساعد في الوصول إلى هذه النتيجة حركة الاستكشافات الجغرافية التي دفعت مع عوامل أخرى إلى قيام الطبقة الرأسمالية التجارية فهي التي قامت بمقاومة النظام الإقطاعي القائم على الملكيات الكبيرة واقتصاد المدن المستقلة وقد نجحت هذه الطبقة في سعيها عندما حققت وحدة السلطة المتمثلة بالملك الذي تم دعم سلطاته في المراحل الأولى من جانب عدد لا بأس به من المفكرين.
ولهذا فقد شهد عصر النهضة ولادة النظام الملكي المطلق الذي ساد في القارة الأوربية وتركزت السلطات الثلاث بيد الملك، فقد مارس السلطة التشريعية بواسطة الأوامر التي كان يصدرها، كما استحوذ على السلطة التنفيذية بشكل كامل ودون شريك.

ولكي يمنع كبار النبلاء والأشراف من الاحتجاج والثورة فقد قام باختيار وزرائه من صغار النبلاء، كما ثبتت له ولاية القضاء بحيث كانت الأحكام تصدر باسمه وله حق التدخل في الدعاوى وفي أي وقت فضلاً عن صلاحيات أخرى أفقدت القضاء كل استقلال(14).
أما الأفراد فقد كانوا في هذه المرحلة محرومين من كل الحريات الفردية وكانت أقوى وسيلة لردع هؤلاء خطابات الملك المغلقة، وهي عبارة عن رسائل مختومة بختم الملك الشخصي وبموجبها توقع العقوبة دون حكم قضائي إلا ان هذا الحال لم يقدر له ان يستمر على المستوى الفكري إذ ظهرت حركات فكرية ناوئت الاستبداد الملكي وأخذت تبحث عن مصدر للسلطة في غير النظريات الثيوقراطية ذات الطابع الديني، ومن ثم فإننا سنحاول تتبع أكثر المفكرين والفلاسفة تأثيراً في هذا المجال سواء في عصر النهضة أو في العصور أو القرون التي أعقبت هذا العصر وبداياته.

الفرع الأول- الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في عصر النهضة
مع فجر عصر النهضة وبدايات العصور الحديثة حدث تقدم في مجالات مختلفة شهدتها القارة الأوربية وعلى وجه الخصوص في مجال الأفكار والنظريات السياسية الأمر الذي أثرى الجدل الفكري المتعلق بمفهوم الحقوق والحريات العامة ومن أبرز مفكري هذه المرحلة ميكافيلي وبودان وهوكر:-
1. نيقولا ميكافيلي
ولد المفكر الإيطالي ميكافيلي في مدينة فلورنسا سنة 1469 في وقت كانت قد قامت فيه الدولة القومية المستقلة في كل من انجلترا وفرنسا بينما ظلت ايطاليا تعاني من الانقسام مما أثر على وضعها المستقبلي في القارة الأوربية، وهو ما اثر بدوره على الفلسفة السياسية لهذا المفكر فنادى بسبب ذلك بإتباع سياسة واقعية مؤسسة على القوة والحذر وهما الصفتان اللتان اعتبرهما ضروريتان للحاكم(15).
آمن ميكافيلي ان (الأنبياء المسلحين هم الذين كانت لهم الغلبة والسلطة، بينما فشل غيرهم غير المسلحين) وهم الذين لم يمتلكوا القوة، وقد أسند الضعف الذي عانت منه ايطاليا في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر إلى الكنيسة الكاثوليكية ورجال دينها الذين صنعوا كما قال (الايطالي اللاديني الشرير) كما ان الكنيسة كانت السبب الأساسي في تقسيم ايطاليا إلى دويلات وإمارات مجزئة متقاتلة معاً والحل في نظره يكمن في ايجاد أمير قوي قادر على توحيد هذه الإمارات المتنازعة، ومن ثم فقد كانت دعوة هذا المفكر صريحة لحاكم فلورنسا الأمير مديسي لتحرير ايطاليا من الفرنسيين والأسبان وتوحيد هذا البلد بكامله وكانت نصيحته للأمير المذكور ان يكون ماكراً كالثعلب لا طيباً وان يكون قوياً كالأسد ولا يثق بأحد كما أشار عليه ان يكون مخادعاً ومدعٍ للتدين وحب الدين، أي ان الغاية تبرر الوسيلة وكل ذلك من أجل بناء دولة آمنة قوية ومستقرة يحكمها دستور يحفظ حقوق الأمير والنبلاء وبقية أفراد الشعب بنسب تتفق مع ما يتمتعون به من مراكز قوة(16).
يفضل ميكافيلي النظام الجمهوري بالمقارنة مع النظام الملكي فالأول هو نظام حر حسب رأيه تتحقق فيه الحرية والمساواة وإذا كان هذا المفكر من انصار الحكم المطلق في مؤلفه الأمير إلا انه وفي مؤلفيه الآخرين وهما المحاضرات أو الخطب ودستور فلورنسا دافع عن الحرية وأكد ان الحرية تتطلب المساواة إذ لا حرية دون مساواة وقال ان أعداء المساواة هم الأشراف الذين يعيشون مما تنتجه مزارعهم وممتلكاتهم دون ان يكون لهم عمل حقيقي فهم أي النبلاء سبب كل فساد على حد قوله ولا يمكن قيام نظام جمهوري إلا بالقضاء عليهم، ويعترف ميكافيلي للشعوب بالحق في استعمال القوة للحصول على حقوقها في الحرية والمساواة، فقد نادى كما ذكرنا في مؤلفه المحاضرات أو الخطب بالسلطة الجمهورية المعتدلة وعدل في هذا المؤلف عن فكرة الحكم المطلق(17).
وعند تقييم آراء ميكافيلي فمن الضروري الإشارة إلى وجود رأيين الأول يقول انه كان يدعو إلى الحكم المطلق عند انشاء الدولة، لكنه يؤيد الحكم الجمهوري للمحافظة على النظام وتأكيد دعائمه.
بينما ذهب رأي آخر إلى القول ان هذا الرجل كان وطنياً وهذا ما يبرر دعوته للحكم المطلق بهدف توحيد ايطاليا، ومن ثم فان ميكافيلي طبقاً لهذا الرأي من انصار الحكم المطلق الذي يعد وسيلته لتوحيد ايطاليا ومن انصار النظام الجمهوري الذي يحقق الحرية ويكفل المساواة بالنسبة للدول الأخرى(18).
2. جان بودان
ولد هذا الفقيه عام 1530 وتوفي عام 1596، في الفترة التي تميزت بانشقاق الكنيسة بعد ان ظهر المذهب البروتستانتي المنادي بحرية العقيدة وضرورة تخليص المسيحية من الشوائب والادعاءات التي علقت بها نتيجة الصراع بين الكنيسة والأمراء واستخدام بعض رجال الدين الأمير كوسيلة للتمتع بالثروة والسلطة وقد انتقل هذا الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت إلى فرنسا وبلغ ذروته بمذبحة سانت بارتليمي سنة 1572 وفي خضم هذا الصراع الدموي نشأ حزب سياسي أكد على ضرورة التعايش والاعتراف بحرية العقيدة لكل طرف من الأطراف المتنازعة وكان جان بودان فقيه هذا الحزب والمنظر الفكري لآرائه.
ألف بودان كتابه الشهير (الجمهورية) في ستة أجزاء عام 1576 وكان من انصار نظرية التطور العائلي في أصل نشوء الدولة، وبموجبها فان الأسرة هي أصل نشوء الدولة إذ ان الدولة تتألف من مجموعة من الأسر المرتبطة مع بعضها بمصالح مشتركة وتخضع لسلطة عليا واحدة، ويعتبر بودان من انصار النظام الملكي الذي يفضله على النظام الشعبي والنظام الارستقراطي فالملكية هي النظام الطبيعي المتفق مع الطبيعة، فالعالم يحكمه اله واحد والسماء لا توجد فيها إلا شمس واحدة والأسرة لها رئيس واحد، ومن ثم فان الدولة يجب ان يكون لها رئيس واحد كذلك يعترف الجميع به ويخضعون له(19).
والحقيقة ان بودان لم ينادِ بملكية مطلقة استبدادية بصورة كاملة فسيادة الملوك يجب ان تقيد بالقانون الطبيعي، ولا يمكن للملك ان يخرج على أحكام هذا القانون في أي أمر يأمر به أو أي قانون يسنه، والقانون الطبيعي الذي على الملك ان يتقيد به من صنع الإله، ومن ثم فانه يجب على الملك ان يحترم العقود ذات السبب الشرعي ويجب عليه ان يحترم الملكية الخاصة(20).
إذن الملكية التي نادى بها بودان هي ليست نظاماً يتنكر فيه الملك للقوانين الطبيعية والإلهية، ولعل أبراز بودان لفكرة السيادة يعد المساهمة المميزة له في المجال القانوني والسياسي فهي العنصر الذي يميز الدولة عن التجمعات البشرية الأخرى ويعرفها (بأنها السلطة المطلقة الدائمة في الدولة، وهي الخاصية الرئيسية التي تظهر الدولة على غيرها من التجمعات والتنظيمات البشرية الأخرى) فالسيادة هي سلطة عمل القوانين لكل أفراد الشعب وتتصف بأمرين الأول انها سلطة دائمة فعنصر الدوام هو الذي يربط السيادة بالدولة والأمر الثاني ان السيادة سلطة مطلقة نسبياً إذ لا تتقيد سلطة صاحب السيادة إلا بالقوانين الالهية والطبيعية، وقد لعبت فكرة السيادة دوراً في تحرر الشعوب(21).
3. ريتشارد هوكر
ولد ريتشارد هوكر عام 1544 وتوفي عام 1600 وهو يفترض وجود حالة الطبيعة الأصلية التي يخضع فيها الناس إلى القوانين الطبيعية فقط وقد أدرك الأفراد ضرورة إزالة الآثار الضارة الناتجة عن العلاقات فيما بينهم وهذا ما لم يكن من السهل إتمامه دون وجود اتفاق بينهم لتنظيم نوع من الحكومة العامة وإخضاع أنفسهم لها، وهو يشير بكلامه هذا إلى وجود شكل من أشكال العقد الاجتماعي(22).

الفرع الثاني- الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في القرنين السابع عشر والثامن عشر
في نهايات عصر النهضة الأوربية وبدايات العصور الحديثة كان هناك أساس لتقييد صاحب السيادة ببعض القيود التي أشرنا إليها كالقانون الطبيعي وأوامر الله والقوانين الأساسية للدولة، والحقيقة ان هذه القيود لم تكن حديثة النشأة وعلى وجه التحديد القيود المستمدة من القانون الطبيعي، بل هي تمتد في جذورها التاريخية الأولى إلى عهد الإغريق والرومان إلا انها عادت للظهور مرة أخرى لمقاومة الطغيان والاستبداد والحكم المطلق على يد الفقيهين جروشيوس وبفندورف إذ ظهر على يد الأول ما بات يعرف بمذهب الحقوق الطبيعية حيث نشر جروشيوس سنة 1625 كتابه الشهير (حقوق الحرب والسلم) أما الثاني فقد نشر سنة 1673 كتابه (حقوق الطبيعة والبشر) ثم توالت المؤلفات التي تتحدث عن الحقوق الطبيعية للبشر إذ نشر فولف سنة 1748 كتاباً في أصول الحقوق الطبيعية وفاتل الذي وضع كتابه المسمى (حقوق البشر أو مبادئ السنة الطبيعية) في الموضوع ذاته(23).
عليه فان القرن السابع عشر قد شهد انبعاث الحديث عن نظرية الحقوق الطبيعية التي ترجع الى قرون قديمة فهي من نتاج الفلسفة اليونانية إلا ان مفهوماً محدداً لم يتبلور إلا في هذين القرنين وتعرف هذه الحقوق كونها القواعد التي أملاها العقل والتي يجب ان تسود علاقات الأفراد وهم في الحالة الطبيعية، ففي حالة الطبيعة هذه كان الأفراد يتمتعون بكامل حقوقهم وحرياتهم التي يكفلها لهم القانون الطبيعي الذي يقف مانعاً أمام أي اعتداء عليها، وهذه الحقوق والحريات سبقت وجود الدولة، وان دخول الفرد أو الإنسان في الجماعة أو الشعب المكون للدولة لا يعني مطلقاً انه تنازل عن هذه الحقوق مما لا يعطي للدولة الحق بالاعتداء عليها(24).
عليه يمكن الإشارة إلى أبرز فلاسفة ومفكري هذين القرنين ممن كان لهم مساهمة متميزة في بلورة مفاهيم وأفكار تخص حقوق وحريات الأفراد أثرت في مسيرة الشعوب على المستوى السياسي والقانوني.

تابع القادم
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(4)









قديم 2008-11-06, 18:55   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(4)

1. جوهانس الثيوسيس
هو مفكر ألماني استعمل فكرة التعاقد الاجتماعي في بناء نظامه السياسي عام 1603 وقد طبقت هذه النظرية عملياً من قبل الآباء الحجاج على الباخرة (May Flower) عام 1620 حيث أشير إلى (ونحن أيضاً نقوم أحياناً بالاتفاق وإبرام العهد فيما بيننا أمام الله ونلزم أنفسنا معاً في رباط سياسي مدني).(25)
ويطرح هذا المفكر قيداً يرد على سلطات الدولة إذ يقرر عدم وجود فرد أو كائن ذو سلطات مطلقة لا حدود لها إلا الله الذي هو الإله الواحد، أما سلطان الرجال فلا يمكن ان يكون مطلقاً لا ترد عليه القيود، وطبقاً لوجهة نظره توجد قواعد ثلاث تحد من سلطات صاحب السيادة، وهي القوانين الإلهية وقواعد العدالة الطبيعية والقوانين الأساسية للدولة، مع انه لم يضع تعريفاً دقيقاً لما أطلق عليه القوانين الأساسية للدولة.
ويلاحظ على آراء Loyseas ان القيود التي ذكرها لا تنشئ للفرد حقاً خاصاً به يولد معه ويتصل بذاته، فالقيد الأول يستمد أصوله من واجبات الملك تجاه الله، والثاني عن القانون الطبيعي وهذا القيد في نهاية المطاف صورة من صور القيد الأول مادام القانون الطبيعي من صنع الله، وهذه الفكرة تؤدي إلى ضرورة ان يحترم الملك أوامر الله أو القانون الطبيعي باعتبارهما واجبات دينية، ولكن ليس للفرد إذا خالف الملك واجباته أي حق تجاهه، ومن ثم لا يملك أية دعوى قانونية تضمن له استيفاء حقه المسلوب، أما القيد الثالث الخاص بالقوانين الأساسية، فهو قيد غامض لان حدوده غير واضحة وماهيته غير ظاهرة(26).

2. جون ميلتون
ولد هذا الفيلسوف عام 1608 وتوفي عام 1674 وأشار إلى الطبيعة التعاقدية التي قادت إلى ظهور الدولة، ومن ثم فان افكاره بهذا الخصوص يمكن ان تمثل حلقة من حلقات نظرية العقد الاجتماعي التي طورت بعد ذلك على يد هوبز ولوك وروسو فميلتون يشير في كتاب له صدر عام 1649 إلى ان الناس ولدوا احراراً، وان الخطأ الأول كان قد نهض مع خطيئة آدم، ولكي يستطيع الأفراد الطيبون العيش بسلام وتجنب الأشرار والسيئين، فقد اتفقوا على صيغ عامة لربط أنفسهم بهدف الخلاص من الأذى المشترك، وليدافعوا عن انفسهم ضد أي معارض أو معتدي أو مخلٍ بهذا الاتفاق.(27)

3. توماس هوبز
ولد هوبز عام 1588 وتوفي عام 1679 حيث عاش هذا الفيلسوف الانكليزي خلال الحرب الأهلية 1642-1651 وربما كان لهذا الأمر تأثير على تأييده لفكرة الحكم المطلق إذ كانت أعظم الحاجات الملحة لإنكلترا في تلك الفترة تتمثل في حكومة قوية تحافظ على القانون والنظام،(28) والحقيقة ان هوبز كان قد بدأ التعبير عن آراءه في السياسة عندما ترجم أعمال ثيوسيديدس مشيراً إلى عيوب وشرور الديمقراطية إثر مطالبة أعضاء البرلمان الانجليزي سنة 1628 بتنفيذ وثيقة الحقوق، وفي سنة 1615 نشر كتابه التنين (Leviathan) الذي لم يلق القبول والترحيب به لا في فرنسا التي كان يعيش فيها بسبب هجومه على الكنيسة الكاثوليكية ولا من أقرانه الانجليز المقيمين في فرنسا مما أضطره للرجوع إلى انكلترا بعد ان وعد كرومويل ان لا يعمل في الحقل السياسي.(29)
وفي تبريره لكيفية قيام الدولة وما يتمتع به الحاكم من سلطان مطلق يؤكد هوبز على ان الإنسان ليس كائناً اجتماعياً بطبيعته كما تصوره أرسطو لكنه مخلوق اناني محب لنفسه لا يعمل إلا بالقدر الذي تتحقق فيه مصالحه الشخصية وهذا ما قاد إلى ان تكون حياة الإنسانية الأولى حياة صعبة تسودها الفوضى والاضطراب حيث سيطر الأقوياء فيها على الضعفاء وبما ان الفرد اناني بطبعه فان هذه الصفة قد ولدت لدى الأفراد ضرورة التعاقد على ان يعيشوا تحت رئاسة أحدهم يتنازلون له عن حقوقهم الطبيعية كافة وترتب على ذلك التعاقد ان تحول الأفراد للعيش في حياة اجتماعية بدل العيش في حياة الفطرة التي كانت تقود إلى حرب الكل ضد الكل، وفي الحالة الطبيعية يقرر هوبز، انه لا توجد ملكية ولا عدالة أو ظلم، لكن هناك حرب ضروس وقاسية، وفي مثل هذه الظروف لا يظهر من الفضائل إلا القوة والخداع، وهكذا فقد تخلص الأفراد من شرور حياة الفطرة الأولى عن طريق الانصياع لقوة مركزية قادرة على حفظ الأمن وتوفير الاستقرار لمصلحة الجميع، وهو ما تم عن طريق العقد الاجتماعي، وأساس هذا العقد عند هوبز انه تم بين الأفراد وحدهم حيث يتعاقد كل فرد مع غيره من الأفراد لمصلحة الحاكم الذي لم يكن طرفاً بهذا العقد، وهذا يعني ان العقد سيكون ملزماً للأفراد بما يتضمنه من التزامات دون ان يلتزم الحاكم بأي شيء طالما انه ليس طرفاً فيه ودون ان يتنازل الحاكم عن حقوقه الطبيعية التي كان يتمتع بها في حياة الفطرة، ومن ثم فان الأفراد عن طريق هذا العقد يحولون سلطتهم السياسية إلى الحكام، وهو ما سيجعل حقوق الأقلية والأكثرية تحت رحمة السلطة الحاكمة التي تستطيع ان تقرر لهم نوعية الحقوق التي يمكن ان يتمتعوا بها، ومن ثم فانه لا يحق للأفراد الثورة والخروج على السلطة الحاكمة لان الحاكم مجرد شخص مستفيد من العقد الذي تم بين الأفراد، وهذا يعني بالنتيجة انه لا مجال للحديث عن الديمقراطية في فلسفة هوبز،(30) طالما لا يمكن الحديث عن تقييد سلطة الحاكم أو سلطة الدولة فهوبز وضع الأساس النظري لدولة مطلقة السلطات مبنية على تعاقد وقبول حر، والأساس النفسي لهذه النظرية هو الخوف.(31)

4. جون لوك
ولد لوك عام 1632 وتوفي عام 1704 وهو أكبر أعداء الحكم المطلق وممثل الحركة الليبرالية في أوربا والذي جاءت أفكاره متطابقة مع آراء أنصار المذهب الحر فقد كرس حياته للدفاع عن الحرية ومعاداة الاستبداد والتحكم، كما يرجع إليه الفضل في إعطاء الثورة الانكليزية سندها الفكري والفلسفي ضد أسرة آل ستيوارت عندما عبر عن فلسفته في كتابه عن الحكومة المدنية الصادر سنة 1690 وقد أسهم في تحليله لفكرة العقد الاجتماعي في إقامة نظرية السيادة الشعبية كما شارك في اقامة مبدأ الفصل بين السلطات.(32)
ينطلق لوك من مبدأ ان الحكومة المدنية انما هي نتيجة عقد اجتماعي وهو يتفق مع هوبز في وجود حياة فطرية عاشها الإنسان قبل ان ينتقل إلى حياة الجماعة وان العقد الاجتماعي هو الذي نقل الأفراد للعيش من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة أو المجتمع المنظم سياسياً لكنه أختلف مع هوبز في ان حياة الفطرة لم تكن حياة فوضى سادت فيها سيطرة الأقوياء على الضعفاء إذ ان لوك يرى ان حياة الفطرة كانت حياة فاضلة يسودها القانون الطبيعي وأهم مبادئه الحرية والمساواة، وبما ان الأفراد أرادوا الانتقال إلى حياة أفضل فقد عمدوا إلى تنظيم الحريات التي يوفرها لهم القانون الطبيعي ودفع الاعتداء الذي يمكن ان يقع عليهم فقد تعاقدوا فيما بينهم على أن يقيموا سلطة تتمثل في شخص أو مجموعة من الأشخاص يمثلون المجتمع بأكمله وبناءاً على ما تقدم فالعقد الاجتماعي عند لوك قد تم بين الشعب من جانب والحاكم من جانب آخر من أجل إقامة العدل وتنظيم الحريات التي كان الأفراد يتمتعون بها في حياة الفطرة، فلوك يعتبر الحاكم طرفاً في العقد بعكس هوبز وترتب على العقد الاجتماعي طبقاً لمفهوم لوك ان الأفراد أو الشعب لم يتنازل للحاكم عن حقوقه كاملة ولكنه تنازل له عنها بالقدر الذي يقيم السلطة وهذا ما لم يقل به هوبز، كما أكد لوك على ان سلطة الحكام مقيدة وليست مطلقة وأساس التقييد هو ما تضمنه العقد من التزامات متبادلة إذ ان الحاكم مقيد باحترام حقوق الأفراد التي لم يتنازلوا عنها كما انه ملزم بإقامة العدل بينهم في مقابل التزام الأفراد بواجب الطاعة تجاه الحاكم في حدود العقد أما إذا تجاوز الحاكم صلاحياته بموجب العقد واعتدى على حقوق وحريات الأفراد فان الحق سيكون ثابتاً لهم في مقاومة الحاكم وعزله.(33)
عليه فان نظرية لوك هي نظرية ديمقراطية تُقر بمسؤولية الدولة أو الحاكم حيث يستطيع الأفراد معارضته لكن الشيء الوحيد الذي يقيد ويحد من ديمقراطية لوك هو انه يخرج من لا يملك عقاراً من قائمة المواطنين، ومن ثم فهو يقصر المواطنة على جزء معين من الشعب.
ويرى لوك ان من غير المقبول وهو يعد خطأ في ان تملك الدولة كل السلطات وتحكم حكماً مطلقاً، ولابد للسلطة القضائية ان تتمتع بالاستقلال عن السلطة التنفيذية(34) التي تكون سلطة خاضعة وتسمو السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية وهي تستمد هذه المكانة من حقيقة قيامها بسن القوانين المعبرة عن الصالح العام، فلوك يتصور الفصل بين السلطات على انه نوع من القانون الذي يتحقق عبر تحقيق التوازن بينها ولكن هذا التعاون يميل لمصلحة السلطة التنفيذية إذ ان هذا التوازن يتحقق عبر دور أساسي للملك.(33)

5. مونتسكيو
ولد مونتسكيو عام 1689 وتوفي عام 1755 وهو يعد صاحب الفضل الحقيقي في تقديم تحديد واضح لمبدأ الفصل بين السلطات عندما عرض فهمه لهذا المبدأ في كتابه الشهير (روح القوانين) الصادر سنة 1748. وهو يقر بوجود ثلاث سلطات حيث تتكون السلطة التشريعية من مجلسين باعتبار وجود اناس متميزون عن عامة الشعب بسبب المولد أو الثروة، ومن ثم فان لهم مصلحة خاصة من الضروري تمكينهم من الدفاع عنها وعنده فان اختصاصات المجلسين متساوية إلا انه عند التعارض سيقتصر اختصاص المجلس الثاني على الاعتراض فقط، أما السلطة التنفيذية فهي توضع بيد الملك ويسميها السلطة المنفذة للقانون العام، أما السلطة القضائية فيسميها السلطة المنفذة للقانون الخاص.(36)
ويؤكد مونتسكيو على ان الحرية تتحقق بتقييد السلطة أياً كانت هذه السلطة فجمع السلطة في يد واحدة يعد خطراً على الحرية ولا يمكن ان توجد الحرية مع جمع السلطات الثلاث، فالفصل طبقاً لرأيه هو الوسيلة الوحيدة الفعلية لتأمين الحرية وهو يبرر هذا المبدأ بثلاثة اعتبارات هي:

1. ان التجارب البشرية قد أثبتت ان من يتمتع بسلطات واسعة غير محددة سيسيء استعمالها، وهذا ما يجعل من الضروري ان يقوم النظام السياسي على أساس مبدأ الفصل بين السلطات.
2. ان مبدأ فصل السلطات هو الوسيلة الوحيدة التي تكفل احترام القوانين وتطبيقها بصورة صحيحة.
3. اعتقاد مونتسكيو ان النظام الانجليزي في عصره الذي كان معجباً به يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات.
ولتحقيق هذا المبدأ يشير مونتسكيو إلى ضرورة ان تتمتع كل سلطة بقدرة البت في الأمور التي تدخل في اختصاصها فالبرلمان يسن القوانين وهكذا بالنسبة لبقية السلطات، كما انه يجب ان تتمتع كل سلطة بقدرة المنع أي ان لكل سلطة سلطة منع السلطات الأخرى في ان تتدخل باختصاصاتها.(37)
والخلاصة ان آراء مونتسكيو تنتهي إلى إقرار أمرين:
الأول التخصص بالنسبة لكل سلطة في مباشرة وظيفتها فضلاً عن ضرورة التعاون مع السلطات الثلاث. أما الأمر الثاني فهو الرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث.(38)

6. جان جاك روسو
ولد روسو عام 1712 وتوفي عام 1778 وهو يمثل مرحلة مهمة في تأريخ الفكر الديمقراطي إذ يعد كتابه العقد الاجتماعي الصادر عام 1762 من أوضح وأقوى الكتب التي كتبت عن نظرية السيادة الشعبية ولهذا فانه لا يمكن انكار أثره على التطور الديمقراطي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما لعب روسو دوراً فكرياً مهماً في التمهيد للثورة الفرنسية فكثيراً من قادتها يعدون من مؤيدي روسو والمعتنقين لآرائه، وقد صدر إعلان الحقوق الفرنسي عام 1789، ليسجل الكثير من آراء هذا الفيلسوف كسيادة الشعب، والحريات الفردية، والقانون يعبر عن الإرادة العامة.(39)
فروسو دعا للديمقراطية المباشرة وأنكر نظرية الحق الإلهي للحكام وكان يعتقد ان الديمقراطية المباشرة هي النظام الأمثل للحكم أما الحكومة التمثيلية فيسميها انتخاب الارستقراطية.(40)
وهذا يعني انه لا يوافق على النظام النيابي وهذا الاتجاه يتفق مع ما كان يعتقده حول فكرة السيادة إذ انها عند روسو غير قابلة للتصرف كما انها غير قابلة للانقسام وعلى هذا الأساس فان السيادة لا يمكن نقلها لأنها تجد التعبير عنها في الإرادة العامة، ولا يتصور ان تحل إرادة شخص محل إرادة شخص آخر فروسو بالنتيجة يرفض النظام النيابي القائم على فكرة الديمقراطية غير المباشرة التي قال بها لوك ومونتسكيو.(41)
بدأ روسو كتابه العقد الاجتماعي بعبارة (ولد الإنسان حراً، إلا انه مكبل بالأغلال في كل مكان، وعلى ذلك فهو الإنسان يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية).(42)
يستهدف روسو إقامة ديمقراطية مباشرة من خلال فكرته عن العقد الاجتماعي فهو يقول بتنازل الأفراد عن جميع حقوقهم الطبيعية لا لشخص معين بالذات ولا لأشخاص معينين بالذات كما ذهب هوبز ولوك ولكن التنازل المذكور للمجتمع بأكمله وهذا هو أساس مبدئه الشهير ألا وهو مبدأ السيادة الشعبية.
يضاف إلى ذلك ان الأفراد حين تنازلوا عن حقوقهم الطبيعية لم يفقدوا جميع تلك الحقوق عملياً إذ انهم استعاضوا عنها بحقوق مدنية تضمن لهم حياة أفضل وهي حقوق أكثر فعالية من تلك الحقوق التي كانوا يتمتعون بها في حياة الفطرة فالحقوق المدنية مضمونة من جانب السلطة السياسية والتعاقد عند روسو وظيفته تتمثل في إحلال الإرادة العامة محل الإرادة الفردية، ويؤكد روسو على ان حياة الفطرة كانت حياة سعيدة وان السلطة لا يمكن ان ترتكز على القوة أو على حق الفتح وإلا فان هذا سيقود إلى انكار الحق بصورة كلية وطالما ان الأفراد في حياة الفطرة كانوا أحراراً متمتعين بكامل حريتهم ومتساوين مع بعضهم فهم لا يستطيعون الانتقال إلى حياة الجماعة أو حياة المجتمع المدني المنظم إلا بموجب اتفاق حر يتم بينهم وهذا ما حصل عندما تم الاتفاق بإجماع الإرادات الحرة للأفراد وهو اتفاق يتم لصالح الجماعة لا لمصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد وهدف هذا التعاقد تنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية لمصلحة المجتمع وما دام هذا التنازل يتم دون تحفظ من قبل الأفراد فليس لأحدهم ان يطالب بشيء وبهذا الشكل يتحقق مبدأ المساواة كما انه ما دام كل فرد قد تنازل عن حقوقه للمجتمع فانه لن يكون هناك من يدفعه الى التعدي على الآخرين وفي هذا تحقيق لمبدأ الحرية إلا ان التنازل عن الحقوق الطبيعية يقابله كما ذكرنا تمتعهم بحقوق مدنية حيث يقوم الشخص العام الذي أقاموه بحمايتهم وبذلك يكون روسو قد اختلف عن هوبز الذي جعل التنازل يتم بصورة كلية لصالح الحاكم، كما أختلف مع لوك الذي قصر هذا التنازل على بعض الحقوق دون البعض الآخر وبذلك فانه طبقاً للعقد الاجتماعي الذي طرحه روسو فان السلطة أو السيادة تكون للجماعة أي انه أقر بمبدأ السيادة الشعبية الذي يعبر عنه بمبدأ سيادة القانون بوصفه تعبيراً عن الارادة العامة.(43)
ويلاحظ على عقد روسو الاجتماعي ان هدفه الحرية ولكنه في حقيقة الأمر يعلي من شان المساواة حتى وان كان ذلك على حساب الحرية.(44)
والخلاصة ان النظام الذي جاءت به أفكار روسو يقوم على فكرتين
أساسيتين هما:
1. الحرية الديمقراطية، ويراد بها الاستقلال الفردي بمعنى خضوع الفرد للقانون الذي يشارك في صنعه كما انها تعني تأكيد حرية الفرد بشرط ان لا تتجاوز حرية غيره، ومن ثم فالحرية بهذا المعنى لا توجد في النظام النيابي.
2. المساواة، ويراد بها المساواة في الاستقلال الفردي والمساواة في الحريات فهي تفهم بمعنى رفض ان تكون الحرية امتيازاً للبعض دون البعض الآخر، ولاضمان في ان تكون الحرية للجميع إلا بالمساواة(45) وينتهي روسو إلى الربط بين الحرية والمساواة عن طريق عمومية القانون واستبعاد كل سلطة شخصية.(46)
أخيراً من الضروري الإشارة إلى ان الإرادة العامة الحرة التي يتحدث عنها روسو هي عبارة عن قوة ميتيافيزيقية خارجة عن نطاق الطبيعة، كما ان روسو لا يعتقد بمبدأ فصل السلطات.(47)

7. آدم سميث
ولد سميث عام 1723 وتوفي عام 1790(48) وهو اقتصادي اسكتلندي شهير نظر إلى المجتمع الانكليزي، خارج نطاق الطبقة المسيطرة وهو يعتقد انه مجتمع مليء بالصراع لا يحكمه قانون مستقر أو متزن وأخلاقيات أفراده سيئة جداً، فالنساء والأطفال يعملون في مناجم الفحم ويتقاضون أجوراً بخسة ولا يرون النور، والحقيقة ان الحياة الاجتماعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر كانت توصف بأنها من أسوء ما يمكن ان يشاهده ويعيشه إنسان.
أصدر سميث كتابه الشهير المعروف باسم (ثروة الأمم) الذي ناقش فيه قضية هامة تتلخص في كيفية استمرار المجتمع في مسيرة الحياة رغم التباين الموجود بين أفراده واختلاف توجهاتهم. بمعنى كيف يضع الفرد نصب عينيه البحث في منفعته الخاصة أولاً بحيث تأتي في النهاية مصلحة المجتمع؟(49)
يقول سميث ان الأفراد لا يتعاطفون معهم لأنهم إنسانيين ولكن التعاطف ناتج عن حب مصلحتهم الخاصة وهذه هي التي تدفع الأفراد إلى العمل إلا ان المجتمع الذي يعمل افراده بدافع المصلحة الخاصة هو مجتمع ضعيف ومتضعضع، ولكن المنافسة بين الأفراد هي التي تخلق المجتمع القوي، إذ ان الباحثون عن المصلحة الخاصة مقيدون بما تمليه عليهم اعتبارات المنافسة مع الآخرين التي تفرض عليهم تقديم أفضل ما عندهم أثناء العمل تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة على المدى الطويل، وهذه المصلحة الخاصة طبقاً للاعتبارات المتقدمة تولد بطبيعتها نتيجة للمنافسة في السوق نتائج لصالح المجتمع وهو ما يطلق عليه بالانسجام الاجتماعي.(50)

أما هدف سميث الأول في هذا الكتاب فكان إبعاد العوامل المؤثرة كسيطرة الدولة أو غيرها على فعاليات السوق التجاري فهو يؤكد على ان عدم التدخل في قوانين السوق أمر مهم لتأخذ عوامل التقدم مجراها من دون تدخل من أحد وبهذا الأسلوب ينتشر الغنى ولا يكون هناك هوة كبيرة بين الرأسمالي وبين الفقير وأفكار بهذا الشكل تنطبق على بريطانيا في القرن الثامن عشر.
سميث رأى كذلك ضرورة انتصار العقلانية فهو القائل (لا تحاول ان تعمل صالحاً، ولكن دع العمل الصالح يبرز من خلال الانانية) وقد ناصر سميث تحرير الرقيق ذلك ان هذه الخطوة أصح على المدى الطويل.(51)
مما تقدم يبدو واضحاً ان أفكار سميث قد لعبت دوراً مساعداً في بلورة النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة إذ انها تدعو إلى دور محدود أو ثانوي للدولة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، فالدولة التي أرادها سميث هي دولة حارسة توضع في خدمة المجتمع، فالدولة تمنح المجتمع شكله القانوني بإمساك النظام فيه، ويبقى للمجتمع أولويته على الدولة ويخضعها لسلطانه والتعبير الاقتصادي لهذه القاعدة (دعه يعمل، دعه يمر).(52)

8. جيريمي بينثام
ولد بينثام عام 1748 وتوفي عام 1832 وهو فيلسوف ورجل قانون بريطاني أهتم بدراسة طبيعة علم العقاب وأنظمة السجون، وقام عام 1776 بنشر كتابه (شيء عن الحكومة) هاجم فيه صيغة القانون في انكلترا في ذلك العهد، وقبيل عام 1780 صاغ بينثام نظرياته حول فلسفة التشريع، وتتسم فلسفته التي يطلق عليها اسم مذهب المنفعة بتحقيق أعظم الخير لأكبر عدد من الناس، وبان العقاب انما هو عمل من أعمال الشر أو هو عمل غير مشروع في ذاته ولا يمكن تبريره إلا إذا كان ذلك العقاب يحول دون وقوع شرور أكبر، وهكذا يبدو جلياً ان بينثام تمكن في العصر الذي عاش فيه من تحديد الحاجة إلى جمع القانون الجنائي وتنسيقه وإجراء الاصلاحات عليه، وكان لهذا الفيلسوف تأثيرا كبير في جيل من الحقوقيين الذين كانوا مثله دائمي الهجوم على سوء استخدام العدالة وأساليب الالتفاف حول القوانين.(53)

9. جون ستيوارت ميل
ولد جون ستيوارت ميل عام 1808 وتوفي عام 1873 حيث ربط بين الديمقراطية والدولة المثالية، فهو في كتابه (الدولة التمثيلية) يقرر ان أفضل أنواع الدول والحكومات هي التي تكون السيادة فيها أو القوة المركزية العليا لتسيير شؤون الدولة في يد أفراد المجتمع حيث لكل مواطن الحق في المشاركة السياسية، وهو يؤكد بان النظام الديمقراطي وان كان ليس النظام المثالي إلا انه أفضل الأنظمة الموجودة وهو ينطلق من ضرورة ان يتمتع الجميع بالحرية والمساواة.(54)
أخيراً يبدو من خلال استعراض الآراء المقدمة لفكرة الديمقراطية وارتباطها بحقوق الأفراد الخوف الكبير من حكم الطغاة هذا الحكم الذي لا يظهر فقط من خلال حكم الفرد الواحد أو المجموعة الصغيرة من الأفراد بل ان هذا الشكل من أشكال الحكم يمكن ان يظهر من خلال حكم الكثرة على حساب القلة.(55)

يتبع >









قديم 2008-11-06, 18:56   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

لمطلب الثالث-
النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة
تطرقنا في المطلب السابق إلى الأصول الفكرية للحقوق والحريات الأساسية للأفراد، وقد ظهر جلياً المحاولات المستمرة لإبراز القيمة العليا للفرد باعتباره الهدف النهائي وما الدولة إلا وسيلة لتأمين حقوق الأفراد والموازنة بينها ولتحقيق المصالح المشتركة أو الصالح العام، وهذه مسألة ارتبطت في قيامها بإعلانات حقوق الإنسان والمواطن وبظهور حركة الإصلاح الديني البروتستانتي قبل ذلك وظهور الطبقة البرجوازية فهناك علاقة متبادلة بين هذه العوامل وان كانت من الصعب تحديد طبيعة هذه العلاقة فيما إذا كانت مجرد علاقة تزامن تاريخي أم انها علاقة السبب بالنتيجة،(56) وهنا من الضروري الإشارة إلى أبرز الشخصيات الفكرية التي ذكرنا والتي مثلت أفكارهم الأسس الفكرية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية قد تأثر بعضهم بالآخر فروسو يعتبر جروشيوش أستاذ علم السياسة، وليس تأثير لوك في مونتسيكو بخافٍ على أحد، بل ان لوك قد أثر في روسو كذلك إلى حدٍ كبير كما تأثر الأخير بهوبز عندما اقتبس منه فكرة العقد الاجتماعي والمجتمع المدني ولكن الفرق يبقى قائماً بين علماء الحقوق الطبيعية وفلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر إذ تحاشى علماء الحقوق الطبيعية الوصول إلى النتائج المنطقية الجريئة لأفكارهم نتيجة تمتعهم بحماية أمراء أوربا إلا ان النتيجة قد أدت إلى تبلور مفهوم يمكن ان نطلق عليه النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة.(57)
عليه سنحدد في هذا المطلب مفهوم النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة والانتقادات الموجهة إليها:

الفرع الأول-
الأسس التقليدية لنظرية حقوق الأفراد العامة
إذا كانت البذور الأولى للمذهب الفردي قد ظهرت خلال العصر الوسيط من خلال طبيعة السياسة المتمثلة بانحلال السلطة المركزية فيه وإحلال الولايات محلها، والحركة الفكرية التي نشطت أثنائه عندما أورد اللاهوتيون المبادئ الطبيعية(58) إلا ان هذه الأفكار لم تتبلور بشكل كامل إلا في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر على يد مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين سبق لنا ان تعرضنا لأفكارهم.
ان المذهب الفردي التقليدي، ذو أسس متعددة فقد وجد أساسه أولاً في نظرية القائلين بالقانون الطبيعي ومضمونها وجود قانون يحمل بعداً أخلاقياً كبيراً ومفاهيم منطقية وهو سابق على كل تشريع وضعي ومستقل عنه، وهذا ما يرتب التزاماً على الدولة بضرورة احترامه ثم جاءت نظرية العقد الاجتماعي التي بلغت أوجها على يد جان جاك روسو، كما قدر الاعتراف بالحقوق الفردية من خلال ضرورة ان يتم النظر إلى كل إنسان باعتباره متمتع بالكرامة الإنسانية كونه أسمى مخلوقات الله عز وجل،(59) فالشخصية الإنسانية شخصية حرة وعاقلة، ومن ثم فهي تتمتع بحقوق تستمدها من ذات القيمة الإنسانية السامية ويتعين على كل نظام حكم ان يحترم هذه الأسس من خلال التعبير عنها في قوانينه، ولعل أكثر الأفكار شيوعاً في نطاق المذهب الفردي التقليدي هما حالة الطبيعة والعقد والاجتماعي، فالحقوق الطبيعية للإنسان واحدة بالنسبة لجميع أفراد الجماعة وفي كل زمان ومكان، وهذا يعني وجود قانون نموذجي واحد يسمى القانون الطبيعي وهو شبيه بتسميتنا لحقوق الإنسان بالحقوق الطبيعية ويرتب ذلك التزاماً على الفقه بضرورة البحث عن مضامين هذا القانون واستجلاء قواعده وعلى المشرعين تسجيل هذه القواعد في قوانينهم الوضعية وحيث ان الأفراد يولدون أحراراً فان القيود الواردة على حرية كل فرد التي تستلزمها الحياة الاجتماعية من الضروري ان تكون متساوية بالنسبة للجميع، لأنها إذا لم تكن في حقيقة الأمر بهذا الشكل أي متساوية فسيختلف ما لكل فرد من حرية عما لغيره فالمساواة إذن، وان لم تكن في الواقع حقاً طبيعياً إلا انها واجبة للإبقاء على حقوق الفرد الطبيعية، إذ ان القاعدة القانونية إذا لم تقم على المساواة فقد انتقصت بشكل أو بآخر من الحقوق الطبيعية لفرد من الأفراد.(60)
فالقانون الطبيعي هو المثل الأعلى الذي يراد الوصول إليه وتحقيقه، فباسم هذا القانون يدان الواقع الموجود بهدف اقامة نظام آخر بديل له، ففي القرن الثامن عشر كان القانون الطبيعي يمثل طموحات الطبقة الثالثة (الطبقة البرجوازية) فباسمه وانطلاقاً منه أريد إدانة النظام الملكي المدعوم من الطبقة الارستقراطية، والحقيقة ان هناك محاولات قد تمت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لإحياء فكرة القانون الطبيعي نتيجة المآسي التي تركتها الحرب في نفس الشعب الألماني ففي هذا القانون يجد الأفراد مثلاً أعلى وتكمن وراءه أيضاً آمال وطموحات الطبقات الجديدة التي تسعى إلى تحقيق نظام قانوني جديد، فالإنسان حين يجد نفسه مطوقاً ومحاصراً بالأوضاع الصعبة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فانه يسعى الى تجاوز هذه الأوضاع باسم البحث عن العدالة المطلقة وقد أحسن من قال (ان تاريخ القانون الطبيعي هو قصة بحث الإنسان عن عدالة مطلقة وفشله في ذلك).(61)
كما تجد النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة أساسها في العقد الاجتماعي إذ ان الجماعة لا تقوم على إرادة منفردة لكنها تفترض توافق أكثر من إرادة فرد على تأسيس الجماعة وهذا ما تم بواسطة العقد الاجتماعي وكما كان الفرد هو السابق في وجوده للجماعة أو هو علة الجماعة أو سبب وجودها فانه يجب اخضاع الغايات والأهداف الجماعية للغايات والأهداف الفردية، ومهمة الجماعة تقتصر على ضمان غايات الأفراد وترك إرادتهم حرة في تحقيقها، ومن ثم فان حرية الأفراد هي أساس وجود الجماعة وقوانينها،(62) فالنظرية التقليدية تخلص إلى:
1. ان سيادة الدولة وسلطتها العامة تجد الأساس القانوني لها في تراضي الأفراد المكونين لها والمعبر عنها بالعقد المبرم بينهم.
2. ان الجزء الذي يحتفظ به الفرد من حريته هو حق طبيعي له وهذا يعلو على سيادة الدولة وسلطتها العامة ويقيدها فلا سلطان مطلق للدولة أو من يمثلها سواء كان ملكاً أو أميراً أو غير ذلك من المسميات إلى ان هناك حدوداً لسيادة الدولة.
وإذا كانت النظرية الفردية ذات أسس متعددة فإنها تبقى ذات وحدة حقيقية تظهر من خلال النتائج الآتية:
1. ان الدولة ليست مطلقة السلطان وهذا يرتب نتيجة مضمونها عدم إمكانية ان تفرض قواعد قانونية للتطبيق كما تريد أو دون قيود وهذا الأمر يشمل كذلك الفئات أو المسميات الأخرى كالأمة والجنس والطبقة والأسرة.
2. يجب احترام الحقوق الفردية على مستوى الأهداف والوسائل فلا يمكن تبرير الاستبداد لمجرد السعي إلى خلق أوضاع أفضل في المستقبل لحياة تسودها مبادئ الحرية فالغاية لا تبرر الوسيلة.
3. ان كل عمل يستهدف تحقيق المصلحة العامة يفترض وجود تضحيات من جانب الأفراد ولكن هذه التضحيات مقيدة بضرورة مراعاة الحقوق الفردية.(63)
4. ان دور الدولة هو دور قانوني في العلاقات الاجتماعية وأساس هذه النتيجة بنيت على بعض الملاحظات الاقتصادية بمعنى وجود انسجام طبيعي يتحقق في حالة ترك نشاط الأفراد حراً دون تدخل من الدولة التي ربما يعرقل تدخلها النشاط الاقتصادي فتحقيق الانسجام الاجتماعي سيقوم عندما تعمل بالقاعدة الاقتصادية التي تقول دعه يعمل دعه يمر.(64)

الفرع الثاني-
الانتقادات الموجهة إلى النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة
يمكن إجمال أهم الانتقادات التي وجهت إلى النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة بالآتي:
1. حالة العزلة لا وجود لها، ففكرة الإنسان المنعزل الذي يعيش في حالة طبيعية سابقة على دخوله لحياة الجماعة هي فكرة ميتافيزيقية أي انها فكرة تعدو الطبيعة وتتجاوز المسلمات الفعلية.
2. الإنسان كائن اجتماعي بطبعه وهو لم يعيش منعزلاً قط إذ ان طبيعته لا تمكنه من ذلك فما يمكن ان يعتد به الباحث ليس هو الفرد في حد ذاته بل الإنسان في المجتمع.
3. المساواة المطلقة بين أفراد الجماعة غير واقعية فالأفراد يختلف بعضهم عن البعض الآخر ولا تعمل المدنية على إزالة هذه الاختلافات بل تزيدها.
4. ان فكرة وجود قانون مثالي عام هي فكرة من نسج الخيال ولا وجود لها.
5. فكرة الحق الطبيعي السابق على الجماعة غير صحيحة.
6. انتفاء الالتزامات الإيجابية على عاتق الدولة إذ ان الأخيرة هي عبارة عن دولة حارسة حسب النظرية التقليدية وقيام الدولة بأي عمل إيجابي يعتبر حسب معيار هذه النظرية اخلالاً بالأساس الذي قامت عليه.
7. عدم قدرة النظرية الفردية تقييد الدولة بالقانون.
8. انهيار فكرة المجال الفردي فلم يعد هناك في تطور الفكر القانوني الحديث مجالاً معيناً يمنع ان تنظمه الدولة.

المطلب الرابع
المفهوم الماركسي لحقوق الإنسان
بدأ ماركس وانجلز تأسيس التصور المتعلق بحقوق الإنسان في أفكارهما بإدانة ما وصفاه بالنظرة البرجوازية لحقوق الإنسان واصفين إياها بالزيف والخداع وتبدأ نقطة البداية في المذهب الماركسي بقضية حقوق الإنسان من تصور للحرية مضمونه ان الإنسان عاش أسيراً للطبيعة حتى استطاع ان يفهم بعض جوانبها وأسرارها عندما تمكن من تسخيرها أو جزء منها لمصلحته غير انه سرعان ما ظهرت مشاكل على المستوى الاجتماعي نتيجة نمو الملكية الخاصة وما أفرزته من طبقات اجتماعية، عاش أفرادها أسرى لوضع اجتماعي قائم على الاستغلال، وقد اعتقد ماركس وانجلز ان هذا الاستغلال يبلغ ذروته في النظام الرأسمالي ولمعالجة هذا الوضع فان النظرة يجب ان ترتكز على أسلوب الإنتاج إذ يشكل العامل المهم والذي يحدد مجموع الحياة الاجتماعية، فالحرية ليست قيمة في حد ذاتها لكنها ترتبط بحياة الإنسان الاجتماعية وتحقيق هذه الحرية يتم من خلال إزالة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وبالشكل الذي يتيح للفرد التأثير في مجمل مظاهر الوجود الاجتماعي فالحرية تنشأ في إطار المضمون الاجتماعي والاقتصادي للتنظيم الاشتراكي ويترتب على النظرة المتقدمة ان المعنى المتقدم للحقوق طبقاً للماركسية لا يمكن ان يقوم إلا في ظل السلطة الاشتراكية.(65)
والحقيقة ان الماركسية قد أوحت الى النظام الرأسمالي بضرورة مراعاة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما تم فعلاً حتى في المجتمعات الغربية لكن في مرحلة لاحقة وبأسلوب مختلف.(66)

المبحث الثاني
حقوق الإنسان في شرعات وإعلانات الحقوق والثورات والدساتير
لم تكن الحقوق والحريات التي حصلت عليها الشعوب وليدة منحة من الملوك لكنها كانت نتيجة لانتفاضات وثورات قامت ضد الملوك أصحاب السلطان المطلق تم من خلالها تقييد هذا السلطان بصورة تدريجية وسيكون من المناسب التعرض لتطور مسعى الشعوب في المطالبة بحقوقها وحرياتها في أشهر البلدان التي شهدت تطورات بهذا الخصوص وهي إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

المطلب الأول
إنكلترا
يميل الشعب الإنكليزي إلى التطور البطيء نظراً لطبيعة المحافظة ونتيجة لذلك يلاحظ ان الوثائق الدستورية في هذا البلد انما كانت عبارة عن ترديد وإحالة من جانبها إلى الحقوق والحريات التي يتمتع بها الإنكليز سابقاً.(67)
وفي ضوء تعريف العميد هوريو لفكرة الدستور الاجتماعي المقصود به (مجموعة القواعد التي تعلن وتؤكد تأسيس الحياة الاجتماعية، وتبين أنواع الحريات العامة التي يحرص المجتمع عليها وبالتالي تحدد علاقة المواطن بالدولة، فالدستور الاجتماعي يمس حياة كل فرد ويؤثر في سعادته الشخصية ويحظى باهتمام كل فرد يعيش في المجتمع) ومسلك الشعب البريطاني يبرز اهتمامه بفكرة الدستور الاجتماعي إذ حرص هذا الشعب على تدوين الدستور الاجتماعي في وثائق تاريخية عبرت أهمها عن قدرة هذا الشعب في مراحل مختلفة من تاريخه على انتزاع حقوقه من الملوك أصحاب السلطات المطلقة حيثما سمحت الظروف بذلك، ومن أهم هذه الوثائق يمكن الإشارة إلى المواثيق الآتية:

الفرع الأول-
العهد الأعظم 1215
من أقدم الوثائق التي ثبتت مجموعة من الحريات وارتبطت بالنزاع الذي نشب بين الملك جون والأشراف نتيجة قيام الملك بفرض الضرائب التعسفية وزج خصومه في السجن دون سبب مشروع مما أدى إلى ثورة الأشراف والقبض عليه حيث ألزم بتوقيع هذه الوثيقة المكتوبة وتم تجديد وتأييد العمل بما ورد فيها في الأعوام 1216، 1217، 1225، 1297 مع إدخال بعض التعديلات، وأهم نصين جاء بهما العهد الأعظم هما نص المادة (39) التي أكدت على عدم جواز القبض على شخص أو حبسه أو تجريده من حريته أو حرمانه من حماية القانون أو نفيه إلا بحكم قضائي صادر عن المحلفين طبقاً للقانون، أما نص المادة (40) فقد جاءت على لسان الملك ومضمونها (لن نرفض أو نتعصب أو نتساهل في تطبيق القانون وإيفاء العدالة).
ان قيمة هذه الوثيقة مستمدة من تسجيلها لمبدأ خضوع الملك لحكم القانون وان مقاومة استبداده لا يعتبر عملاً غير مشروع فضلاً عن ضرورة أخذ موافقة دافعي الضرائب عن أية ضريبة يراد فرضها.(68)

الفرع الثاني-
عريضة الحقوق 1628
أصبح وجود ممثلين لعامة الشعب في البرلمان إلى جانب الإشراف مقرراً منذ سنة 1311 وبذلك أصبح لدى البرلمان سلاح يشهره بوجه الملك عند مساسه بحريات الشعب ألا وهو الامتناع عن الموافقة على ما يحتاج الملك إلى جبايته من الضرائب.(69)
وقد صدرت عريضة الحقوق بتاريخ 7 حزيران 1628 بعد صراع بين الملك شارل الأول (1625-1649) والبرلمان، إذ اشترط البرلمان لقاء موافقته على المال الذي طُلب من جانب شارل الأول لتمويل حربه ضد اسبانيا ان يوافق على مضمون عريضة الحقوق التي تضمنت مجموعة من الحقوق والحريات الخاصة بالمواطنين وقد قبل الملك بهذا العرض، غير ان النزاع تجدد بين الطرفين بخصوص إمكانية قيام الملك بفرض الضرائب مما أدى إلى اتهامه بجريمة خيانة حقوق الشعب وحرياته وانتهى الأمر بإلقاء القبض عليه ومحاكمته أمام البرلمان الذي قضى بإعدامه.(70)
وأهم البنود التي تضمنتها هذه الوثيقة هي:
1. عدم قيام الملك بطلب الهبات والقروض الإجبارية.
2. عدم قيامه بسجن أي شخص إلا بتهمة حقيقية محددة.
3. عدم إعلان الأحكام العرفية وقت السلم.
4. احترام الحرية الشخصية.
5. عدم فرض ضرائب جديدة إلا بموافقة البرلمان.(71)

الفرع الثالث-
إعلان الحقوق أو قائمة الحقوق 1689
وثيقة إنكليزية مهمة أقرت من جانب البرلمان في شباط 1689 انتهت بها سلطة الملوك المطلقة إذ أعلن أعضاء البرلمان (من أجل اقرار وتأكيد حقوقهم وحرياتهم القديمة) بطلان سلطة الملك المزعومة في تعطيل القوانين أو عدم العمل بها أو الاستغناء عنها دون موافقة البرلمان، وإبطال العمل بالمحاكم الاستثنائية وعدم مشروعية جباية الملك للضرائب بدون موافقة البرلمان، وان من حق أفراد الشعب تقديم العرائض والتظلمات إلى الملك دون جواز تعرضهم للعقاب من أجل ذلك، وان الانتخابات البرلمانية يجب ان تكون حرة، وعدم عرقلة حرية الرأي والمناقشة وكافة الإجراءات ووجوب مراعاة العدالة وعدم الافراط في العقوبات والغرامات والرسوم التي تقتضى من الأفراد، وبهذه الوثيقة أرسيت دعائم الحرية الفردية في انكلترا(72) إذ يعتبر اعلان الحقوق في نظر الفقهاء الانكليز دستور انكلترا الحديث.
والحقيقة ان المناسبة التي دعت البرلمان إلى إصدار هذه الوثيقة كانت قد ارتبطت بدعوة الشعب الانكليزي للملك وليم أوف اورانج وزوجته ماري لتبؤ العرش بعد تنازل الملك جاك الثاني عنه حيث رأى البرلمان ان هذه مناسبة لتحديد الروابط بين الملك والشعب وتأكيد حقوق الأفراد.(73)

الفرع الرابع-
قانون الحرية الشخصية أو الهابياس كوربوس (عليك ان تخطر جده)
هي الوثيقة الرابعة التي وفرت ضمانة أساسية لحماية الحرية الشخصية من تعسف السلطة إذ صدرت عام 1679 وعدلت عام 1816 وبموجبها منع اعتقال أي شخص دون مذكرة قانونية، ومن حق الموقوف طلب إعادة النظر في توقيفه كما يلتزم القضاء بالتعامل مع الموقوف بحسن نية (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) وقد اقتصر تطبيق هذا القانون عند صدوره عام 1679 على المواد الجنائية ثم امتد بعد التعديل الذي جرى عليه عام 1816 إلى المواد الأخرى أي لو كان الاعتقال لسبب آخر عدا ارتكاب جريمة.(74)

الفرع الخامس-
السمات المشتركة لوثائق الحقوق الإنكليزية
1. لا تتطرق هذه الوثائق عند تثبيتها لمجموعة الحقوق التي تجيء بها لأية تبريرات فلسفية أو نظرية لكنها فقط تسجل على الملك مجموعة من التجاوزات والإساءات التي تعددها هذه الوثائق حصراً وتطلب من الملك أو السلطات الإقرار بعدم العودة إلى إتيانها لأنها لا تنسجم مع الحريات وعادات المملكة ويرضخ الملك لهذه المطالب تحت تأثير الظروف بتوقيعه للوثيقة التي تقدم إليه.
2. ان هذه الوثائق ذات صبغة إنكليزية بحته حيث لا تتوجه بخطابها إلى شعوب أخرى، وهذا ما تختلف فيه هذه الوثائق عن إعلانات الحقوق التي صدرت بعد الثورة الفرنسية في فرنسا.
3. تتجه الوثائق الإنكليزية إلى تقييد سلطات الملك دون البرلمان إذ ان الشعب الإنكليزي يعتبر ان البرلمان يمثله، ومن ثم فهو لا يفكر في اتخاذ أي تدبير يحد به من سلطاته المطلقة وهذه ميزة أساسية تميز الوثائق الدستورية الإنكليزية عن مثيلاتها في أمريكا وفرنسا، كما لا يعرف القانون العام الإنكليزي التفرقة المقررة بين القاعدة القانونية الدستورية والقاعدة القانونية العادية وما تقتضيه هذه التفرقة من علوية القاعدة الدستورية على القاعدة القانونية العادية، ولهذا السبب يقال في إنكلترا ان البرلمان يستطيع عمل كل شيء إلا تحويل الرجل إلى امرأة.
4. تعد هذه الوثائق نصوصاً تشريعية يجوز للأفراد التمسك والاحتجاج بها أمام القضاء لإلزام الإدارة بمضمونها.
5. تعد هذه الوثائق وكذلك الحال مع الوثائق الأمريكية التي تضمنت حقوق المواطنين من أكثر الوثائق المحترمة من جانب الجهات التي أصدرتها ذلك ان البرلمان مع سلطاته الواسعة لا يمس بهذه الحقوق بسبب التقاليد المعمول بها في إنكلترا أو نظام المجلسين كما ان أي حزب يمس بهذه الحريات سيجد نفسه قد خسر الانتخابات إذ ان الشعب الإنكليزي لا يقبل أي مساس بحرياته فضلاً عن أهمية وجود صحافة حرة كما يلعب القضاء الإنكليزي دوراً مهماً في المحافظة على هذه الحقوق والحريات.(75)










قديم 2008-11-06, 18:57   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المطلب الثاني
الولايات المتحدة الأمريكية
تعد آراء توماس جفرسون الأساس الفكري للديمقراطية في أمريكا فالديمقراطية عند جفرسون عبارة عن وسيلة لبلوغ غاية تتمثل في حرية الإنسان، ويمكن الإشارة إلى بعض الشرعات وإعلانات الحقوق الأمريكية للتعرف على مضامينها وهي:

الفرع الأول-
دستور أو شرعة فرجينيا
يكتسب هذا الدستور الصادر بتاريخ 12 حزيران 1776 أهمية خاصة في ميدان الحقوق الفردية فهو أول دستور تضمن اعلاناً معتبراً لحقوق الإنسان إذ تضمنت نصوصه تعداداً لغالبية الحقوق الفردية التي أقرت بها مدرسة الحقوق الطبيعية حيث يشير إلى (ان الأفراد بحسب الطبيعة، متساوون في الحرية والاستقلال، ولهم حقوق معينة لصيقة بهم لا يملكون عند دخولهم إلى حالة الاجتماع ان يحرموا بأية صورة من صور العقود ومن هذه الحقوق على الأخص الاستفادة من الحياة والحرية ووسائل اكتساب الملكية وكذلك تقصي السعادة والأمن والحصول عليهما) كما أشار هذا الدستور إلى ان الشعب مصدر السلطات، وعلى حرية الانتخابات، وعلى ضرورة ان تتم المحاكمة أمام قاضٍ حسن النية، وعلى حرية الصحافة، وعلى عدم جواز حرمان الفرد من حريته أو حياته إلا طبقاً للقانون وبعد محاكمة يتوافر فيها عنصر المحلفين، وعلى حرية كل فرد في التعبير عن آرائه على ان يتحمل مسؤولية إساءة هذه الحرية.
والحقيقة ان دستور فرجينيا قد عد النموذج الذي سارت عليه الدويلات الأمريكية الأخرى التي تضمنت دساتيرها نصوصاً مماثلة.(76)

الفرع الثاني-
إعلان الاستقلال 1776
جاء هذا الإعلان بعد الثورة الأمريكية حيث عهد الكونغرس بوضعه إلى لجنة مكونة من خمسة أشخاص بينهم جون آدمز وبنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون الذي كان له الأثر الكبير في وضع هذا الإعلان، ومن قراءة الإعلان يلاحظ انه مليء بالأفكار المعبرة عن نظرية الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي إذ قرر المساواة والإقرار بفكرة وجود حقوق غير قابلة للتخلي عنها في الحياة والحرية فضلاً عن تثبيت الحق للمحكومين في مقاومة الطغيان.(77)
إذ ان إعلان الاستقلال قد بيّن الأسباب التي دعت الشعب الأمريكي إلى الثورة مع التصريح بحقوقه السياسية المقدسة.(78)
فقد ورد في ديباجة الإعلان (اننا نعتبر الحقائق الآتية أمراً واضحاً من تلقاء نفسه، فان الناس كافة قد خلقوا متساوين، وان الخالق قد حباهم بحقوق مؤكدة غير قابلة للتخلي عنها، ومن ضمن هذه الحقوق، الحياة والحرية وتقصي السعادة، ولضمان هذه الحقوق شيدت الحكومات التي تستمد سلطتها المشروعة من رضاء المحكومين، فإذا أصبحت حكومة ما، مهما كان الشكل الذي تتخذه، هدامة لتلك الأغراض كان من حق الشعب ان يعدلها أو يلغيها، وان يقيم محلها حكومة جديدة.(79)

الفرع الثالث-
السمات المشتركة لإعلانات الحقوق الأمريكية
يمكن إجمال السمات المشتركة لإعلانات الحقوق الأمريكية ودساتير الولايات التي صدرت بعد نجاح الثورة الأمريكية بالآتي:
1. تمثل الدساتير الأمريكية الحالة الأولى التي عرف فيها التاريخ الدستوري دساتير مكتوبة ملزمة أما قبل ذلك فقد اقتصر الأمر على مجرد مجموعة قواعد عرفية أو تشريعات في مسائل معينة كانت تسمى القوانين الأساسية للمملكة.
2. قامت إعلانات الحقوق الأمريكية على أسس فلسفية وتبريرات عقائدية هي نظرية الحقوق الطبيعية للأفراد إذ رأى واضعوا تلك الإعلانات كما فعل جفرسون في إعلان الاستقلال الأمريكي الصادر عام 1776 ان لا تقتصر الإعلانات على مجرد تعداد للحريات الفردية بل اهتموا ببيان الأساس الفلسفي بها.
3. وجهت إعلانات الحقوق الأمريكية إلى الأمريكيين فقط حالها حال إعلانات الحقوق الإنكليزية، وهذا عكس ما ذهبت إليه إعلانات الحقوق الفرنسية بعد هذا التاريخ.
4. قيدت إعلانات الحقوق الأمريكية سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية تجاه الأفراد وهذا تقدم يسجل لصالحها في مواجهة إعلانات الحقوق الإنكليزية التي حدت من سلطات السلطة التنفيذية، وتعد الإعلانات الأمريكية المحاولة الأولى لتسجيل حقوق الأفراد في وثيقة دستورية وضمانها ضد استبداد الأغلبية البرلمانية لا ضد استبداد الملوك فقط، فهي ترفض ان الشعب هو صاحب السيادة المطلقة التي لا ضابط لها لكنها تؤكد بان الشعب رغم كونه صاحب السيادة فهو يخضع لقاعدة قانونية عليا مضمونها ضمان حقوق الإنسان.
5. اعتبرت إعلانات الحقوق الأمريكية قواعد قانونية ملزمة، ومن ثم فان لأي مواطن أمريكي الحق بالتمسك بها أمام القضاء فهي قواعد دستورية تعلو التشريعات العادية ولذا يمكن الطعن بأي قانون عادي يخالف هذه الإعلانات وما جاءت به من حقوق ثبتت بواسطتها لمصلحة الأفراد.(80)

الفرع الرابع-
الدستور الاتحادي 1787
أقر الدستور الاتحادي الأمريكي عام 1787 الذي وضعه ماديسن بعد ان اجتمع ممثلوا الولايات المنفصلة عن إنجلترا في مؤتمر فيلادليفيا وأقروا بتاريخ 17 ايلول 1787 استبدال ميثاق التعاهد القديم بدستور جديد باستثناء ولاية رود آيلاند التي لم تلتحق بالاتحاد إلا في سنة 1799، ولا يحتوي هذا الدستور اعلاناً لحقوق الأفراد إلا انه احتوى بضعة نصوص تتعلق بضمانات الحرية الفردية فقد سجلت المادة الأولى في فقرتها التاسعة ضرورة الهابياس كوربوس وعدم جواز سريان القوانين على الماضي، ونص على ضرورة توزيع الأعباء الضريبية تبعاً لقدرة المكلفين، وعلى عدم جواز إنفاق المال العام في غير الأغراض المحددة طبقاً للقانون، وعلى عدم منح الألقاب.(81)
وفي 25 أيلول 1789 تبنى الكونغرس الأمريكي دفعة واحدة عشرة تعديلات أقرت وفاءً لوعد قطع لبعض الولايات القلقة على استقلالها وحريات مواطنيها وقد أصبحت هذه التعديلات نافذة في 15 كانون الأول 1791 وفقاً للمادة الخامسة من الدستور وهذه التعديلات تتعلق ثمانية منها بضمانات الحقوق الشخصية والملكية الفردية والاثنان الأخيران بحقوق الدول في أمورها الداخلية.(82)
وقد نصت هذه التعديلات على انه ليس لمجلس الشيوخ سن قوانين تفرض اتباع دين معين، أو تمنع حرية النقد حديثاً أو كتابة أو تحد من حرية الصحافة أو تمنع أفراد الشعب من التجمع بهدف التعبير عن المطالبة بحقوقهم كما حظر على مجلس الشيوخ سن قانون يمنع المواطنين من حمل السلاح أو شرائه أو بيعه، كما لا يحق لممثلي الدولة دخول أحد بيوت المواطنين دون موافقته كما لا يحق للدولة البحث عن أوراق أو ممتلكات المواطنين ولا يجوز أخذ أموال الأفراد العقارية بدون تعويض مقبول من المواطنين وفي حالة ارتكاب جريمة فالمجرم يملك الحق في المطالبة بالإسراع في محاكمته، وله الحق في ان يعرف الجرم الذي ارتكبه أو المخالفة التي قام بها، وله الحق في مقابلة الشهود الذين يودون أداء الشهادة ضده وسماع أقوالهم، كما ان له الحق في الحصول على شهود لمصلحته، وله الحق في تعيين من يدافع عنه.(83)
وفي عام 1865 وأثر حرب الانفصال تم تبني التعديل الثالث عشر الخاص بإلغاء الرق وبهذا الخصوص أكد (أليكس دوتوكفيل) في كتابه الديمقراطية في أمريكا على ان إلغاء الرق في أمريكا لم يكن لمصلحة الزنوج فقط لكنه لمصلحة البيض أنفسهم في الوقت نفسه.(84)
أما التعديل الرابع عشر الذي تبناه الكونغرس عام 1868 فقد قضى ولو من الناحية الشكلية على مشكلة السود الدستورية بان نصت هذه الإضافة أو التعديل على ان كل من ولد أو توطن في الولايات المتحدة وخضع لسلطتها هو مواطن من مواطني الولايات المتحدة كما انه مواطن للولاية التي يقيم فيها.
ومضت الإضافة في فقرتها الثانية لتقول ان أية ولاية لا تملك ان تصدر أو تطبق أي تشريع من شانه ان يحد من المزايا أو الخصائص التي يتمتع بها المواطنون فلا يحق لأية ولاية ان تجرد شخص من حياته أو حريته أو حقه في الملكية دون مراعاة الضمانات الشرعية الكافية وبذلك توافرت الحماية الدستورية لحقوق المواطن المدنية ضد حكومة الولاية التي ينتمي إليها الشخص بعد ان كانت هذه الحماية قاصرة طبقاً للبنود العشرة الأولى من الدستور على حكومة الاتحاد، فالإضافة الرابعة عشر اهتمت بتقرير حريات السود وتقرير حقهم في المساواة التامة أيضاً.(85)

أما التعديل الخامس عشر فقد صدر عام 1870 وأقر مبدأ المساواة في الانتخابات بين البيض والملونين والتعديل التاسع عشر الصادر عام 1920 الذي منح الإناث حق الانتخاب على قدم المساواة مع الذكور.(86)

المطلب الثالث
فرنسا
تعد التجربة الفرنسية في مجالات إعلان الحقوق من أكثر التجارب ثراءً إذ ان مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور في فترة تاريخية ارتبطت في ظهورها على المستوى العالمي بالثورة الفرنسية إذ يعد إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر بتاريخ 26 آب 1789 الإعلان الأكثر شهرة لأنه أحرز قيمة عالمية كما ان أغلب دساتير دول العالم تتضمن قائمة في الحقوق الفردية التي صيغت بعبارات يبدو تأثرها بنصوص إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789.(87)
عليه يمكن الإشارة إلى بعض المراحل المهمة في التجربة الفرنسية المرتبطة بحقوق الإنسان وهي كالآتي:

الفرع الأول- إعلان حقوق الإنسان والمواطن (26 آب 1789)
هو الإعلان الأول لحقوق الإنسان والمواطن الذي صدر بعد الثورة الفرنسية الكبرى، والذي تصدر دستور 3 أيلول 1791.(88)
وقد جاءت عبارة حقوق الإنسان في عنوان الإعلان الفرنسي أو في مقدمته التي نصت على ان (تجاهل أو نسيان أو احتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات…).

كما جاءت عبارة حقوق الإنسان في هذا الإعلان في بعض مواده فالمادة الثانية التي نصت على ان (غاية كل اجتماع سياسي هي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية والتي لا يأتي عليها التقادم).
يتضمن هذا الإعلان مقدمة وسبع عشرة مادة والأسس التي تقوم عليها نصوصه تتلخص بالنقاط الآتية:
1. لكل إنسان حقوق طبيعية مقدسة خالدة غير قابلة للتغيير بسبب تبدل الزمان كما لا يمكن التخلص منها وهي الحياة والحرية والمساواة.
2. هدف المجتمع السياسي يتمثل في الحفاظ على حقوق الإنسان إذ ان الإنسان هو الغاية.
3. لا توجد حدود تقيد من حرية الإنسان إلا الحدود الناجمة عن ممارسة الغير لحقوقه الطبيعية.
4. القانون لا يمكن ان يؤثر في حريات الأفراد فهو لا يستطيع ان يضع حاجزاً إلا إزاء الأعمال المضرة بالمجتمع وعند الضرورة.
ضمن هذا الإعلان مجموعة من الحقوق، فقد أعلنت المادة الأولى إقرار المساواة المدنية بين المواطنين إذ نصت على ان (الناس يولدون ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق)، وهنا يؤكد العلامة إيسمن Esmein على ان المساواة المدنية تتضمن افتراض التساوي بين الأفراد في أهلية اكتساب الحقوق المحمية قانوناً فهي لا تعني المساواة في الثروة لكنها تعني حماية الجميع حماية متساوية بالنسبة لما يتمتعون به من حقوق أي ان المساواة المدنية تضمن حماية ما يتمتع به الأفراد من مزايا أو حقوق بنفس الطريقة وبنفس القوة، وهذه المساواة المدنية لا تتحقق إلا بالاعتراف بتكافؤ الفرص بالنسبة للمزايا الاجتماعية التي تقدمها الدولة.
والحقيقة ان وثيقة حقوق الإنسان الصادرة في السنة الثالثة للثورة قد تضمنت الإشارة إلى حق المساواة، وكذلك فعلت الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1793.(89)
ويترتب على المساواة المدنية النتائج الآتية:
1. مساواة جميع المواطنين أمام القانون، بمعنى ان المشرع يسن قوانينه دون تمييز بين شخص وآخر أو طبقة وأخرى.
2. المساواة أما المؤسسات العامة أي ان على مؤسسات الدولة عند قيامها بأداء واجباتها ألا تميز بين الأفراد من حيث الخدمات التي تقدمها أو المقابل لها، كما ان المساواة أمام المؤسسات العامة للدولة تؤدي إلى تحريم إقامة قضاء خاص لبعض الأفراد تمييزاً لهم عن الآخرين.(90)

تابع القادم :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(5)










قديم 2008-11-07, 10:24   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(5)


أما المادة الثانية فقد بينت ان هناك حقوق طبيعية لا يمكن التنازل عنها وهي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الطغيان، كما ان مبدأ السيادة يقوم بشكل أساسي على الأمة وأشارت المادة الثالثة إلى ان مبدأ مساواة الإنسان هو الأساس الوحيد الذي تقوم عليه هذه الحقوق.(91)
أما المادة الرابعة فقد عرفت الحرية باعتبارها (الحق في عمل كل ما من شانه ألا يضر بحقوق الغير، ومباشرة الحقوق الطبيعية لكل فرد ليس لها من حدود إلا تلك التي تكفل تمتع أفراد الجماعة الآخرين بنفس هذه الحقوق ويجب ان لا تقرر حدود الحقوق الطبيعية إلا بواسطة القانون).
والحقيقة انه بدون الحرية السياسية تصبح الحريات الأخرى مجرد منحة تستطيع السلطة أو من يمثلها استردادها بأي وقت، ولهذا فقد عبر مونتسكيو عن هذه المسألة خير تعبير عندما قرر ان أنظمة الحكم الديمقراطية هي مصدر ضمانات الحريات جميعاً، كما ان الحرية السياسية لا يمكن ان تتحقق بصورة فعلية إلا في ظل توافر الحريات الأخرى، فالانتخاب يقتضي قيام صحافة حرة والاعتراف بحرية الاجتماع.(92)
وهذا كلام يجعل من الصعب قبول ما عبر عنه نابليون حين قرر ان (الديمقراطية عندنا تتوج في شخص رئيس الدولة الذي اختارته الأمة).(93)
فضلاً عما تقدم فقد أشار الإعلان إلى حريات أخرى بينتها المواد السابعة والثامنة والتاسعة حيث لا يمكن اتهام أي إنسان أو توقيفه واعتقاله إلا في الحالات المحددة طبقاً للقانون، كما لا يمكن معاقبة أي إنسان إلا طبقاً للقانون وان المتهم برئ حتى تثبت إدانته، كما تمنع المادة العاشرة إزعاج أي إنسان بسبب آرائه الدينية، ونصت المادة الحادية عشرة على ان حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي من الحريات الأساسية، ومن ثم فان لكل مواطن الحق في التعبير والكتابة والنشر بحرية تامة بشرط عدم التجاوز على حريات الآخرين وفقاً للقانون والحقيقة ان السبب الذي جعل واضعوا الإعلان الفرنسي يركزون على حرية التعبير ويفردون لها مادة خاصة يعود إلى وضع الكنيسة المهيمن التي لم تكن تسمح بمثل هذا الحق فضلاً عن تسلط الإقطاع.
أما المواد الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة فقد أكدت على تأمين الحماية الضرورية لحقوق الإنسان، فضلاً عن الضرائب والنفقات العامة ومحاسبة الموظفين عن أعمال إدارتهم المتعلقة بشؤون الأفراد، بينما تكلمت المادة السادسة عشرة عن مبدأ الفصل بين السلطات باعتباره المعيار الحقيقي للنظام السياسي.
أما المادة السابعة عشرة فقد تحدثت عن الملكية عندما نصت على (لما كانت الملكية حقاً مصوناً ومقدساً فلا يمكن لأحد ان يحرم منها إلا حينما تقتضي الضرورة العامة الثابتة قانوناً هذا الأمر بصورة واضحة وشرط ان يمنح له تعويض عادل ومسبق).(94)

الفرع الثاني
حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في الدساتير الفرنسية
عرفت فرنسا منذ عام 1789 حتى عام 1875 ثلاثة عشر دستوراً مكتوباً ولا يكاد يخلو دستور فرنسي ابتداء من الدستور الأول الذي صدر بعد الثورة الكبرى وصولاً لدستور ديغول النافذ لعام 1958 من تسطير مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية، ومن أبرز هذه الدساتير التي يمكن الإشارة إليها:

1. دستور 3 أيلول 1791
هو أول دستور صدر بعد الثورة الفرنسية الكبرى ونص على ان السيادة للأمة وهذه الأخيرة تتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن شخصية الأفراد المشرفين على شؤونها إلا ان الاقتراع لم يكن عاماً وشاملاً ومباشراً، أي ان الأفراد لم يكونوا يتمتعون بحق شخصي بممارسة الانتخاب، لان السيادة هي في الأمة وليس بكل فرد، وقد نص هذا الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات بالشكل المعمول به في الدستور الأمريكي.(95)
ان واضعي دستور 1791 لم يبدلوا شيئاً في اعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 عندما جاء دستور 1791 لكنهم وضعوه كما هو في رأس هذا الدستور، وبهذا الشكل فقد جسد دستور 1791 اعلان الحقوق الصادر عام 1789 بصيغة دستورية ملزمة بعد ان أثار الإعلان مسألة القيمة القانونية الحقيقية لنصوصه، ونص الدستور المذكور على جملة من المبادئ الأساسية فالسيادة تعود للأمة كما ذكرنا (المادة الثالثة) وذكر هذا الدستور مبدأ الفصل بين السلطات في المادة السادسة عشرة، وقد بقي هذا الدستور نافذاً حتى تم التصويت على دستور 24 حزيران 1793.
2. دستور 24 حزيران 1793
أعلن عن حقوق الإنسان في مقدمة هذا الدستور الذي تألف من (35) مادة إذ تميز باتجاهه الاجتماعي فاعترف بحق العمل والحق في المساعدات الاجتماعية وبحق التعليم لجميع المواطنين، كما تبنى هذا الدستور فكرة الاقتراع العام دون ان تطبق بعد صدوره وثبت الحق في مقاومة الطغيان إذا ما قامت حكومة بانتهاك حقوق الشعب وادخل اسلوب الاستفتاء الشعبي في العملية التشريعية.
فهذا الدستور وصف بان جانباً مهماً منه قد استمد من أفكار روسو وقد وافق الشعب على هذا الدستور بعد ان عرض عليه غير انه لم يقترن بالتنفيذ نظراً لتمرد المدن الكبرى وخطر الغزو الخارجي مما دفع الساسة (المؤتمر) إلى اتخاذ القرار في العاشر من تشرين الأول 1793 بإرجاء تطبيقه وتشكيل حكومة ثورية اشتق من هذه الحكومة لجنة عرفت باسم لجنة السلامة العامة التي خضعت لسيطرة روبسبير وعرف هذا العهد بعهد الرعب إذ بقيت الحكومة الثورية في السلطة حتى السادس والعشرين من تشرين الأول 1795،(96) حيث صدر بعد دستور 1793 دستور 22 آب 1795 ثم دستور 13 كانون الأول 1799 الذي عكس طموح نابليون بونابرت وتميز بدكتاتورية السلطة التنفيذية التي جسدها الجنرال الشاب مع الاحتفاظ ببعض مظاهر الديمقراطية ثم دستور 4 حزيران 1814 الملكي الذي رفض الملك فيه مبدأ السيادة الوطنية وأصر على اعتبار نفسه مصدر السلطة لكنه مع ذلك أقر بالحريات العامة التي حصل عليها الشعب الفرنسي واعترفت بها الدساتير الفرنسية التي صدرت بعد الثورة الفرنسية الكبرى كحرية الصحافة، والحرية الشخصية، والحرية الدينية، والمساواة أمام القانون ثم جاء بعد هذا الدستور الملكي دستور ملكي آخر هو دستور 1830 وبموجبه عرفت فرنسا لأول مرة النظام البرلماني بصيغة معينة.(97)

3. دستور 4 تشرين الثاني 1848
تم سن هذا الدستور بعد ثورة 1848 البرجوازية التي قادت إليها مسألة التمسك بالأرستقراطية الانتخابية وتم القضاء مرة أخرى على النظام الملكي وما رافقه من ممارسات صنفت بأنها مضادة للديمقراطية ولحقوق الإنسان وحرياته.
يبدأ هذا الدستور بإعلان لحقوق الإنسان عبرت عنه مقدمته المؤلفة من ثماني مواد فضلاً عن فصله الثاني الذي يبدأ بالمادة الثانية وينتهي بالمادة السابعة عشرة.(98)
وبموجب هذا الدستور فقد تم ترسيخ مبادئ إعلان عام 1789 ومعالجة جوانب جديدة واستقر حق الاقتراع العام وخفض سن الانتخاب إلى 21 سنة وسن الترشيح إلى 25 سنة، كما بررت فكرة الجمهورية بالتقدم والعدالة الاجتماعية وثّبت مشرع دستور 1848 الحقوق التقليدية ووضحها وهي الحرية والأمن وأشار إلى إلغاء الرق في فرنسا، وبموجب المادة العاشرة أشير إلى مبدأ المساواة ونص الدستور على حق التعليم مع إشراف الدولة على المؤسسات التعليمية وأشير إلى حق التجمع فضلاً عن إلغاء عقوبة الإعدام عن الجرائم السياسية، كما أشار الدستور إلى ضرورة ان تقوم الحكومة بتقديم العون والمساعدة للمواطنين المحتاجين وللعاجزين عن العمل.(99)

4. دستور 27 تشرين الأول 1946
بعد ان أُلغي دستور 1875 في 10 تموز 1940 تم انتخاب جمعية تأسيسية عام 1945 كلفت بمهمة وضع دستور جديد لفرنسا حيث برز مشروع دستور نيسان 1946 الذي وافقت عليه الجمعية التأسيسية في العام نفسه وعرض على الشعب في 5 أيار 1946 إلا انه رفض وصادف انتقادات شديدة وبشكل خاص فيما يتعلق بحرية التعليم التي لم يتم الاعتراف بها في نصوص هذا الدستور بصورة صريحة فضلا عن المواد التي تناولت حق الملكية فإذا كانت الغالبية الطاغية من صغار الملاك لم يكن يعنيهم قيام الدولة بتأميم الصناعات والملكيات الكبيرة، إلا انهم لم يقبلوا ان يقال قانوناً ان المشرّع هو الذي يعطيهم الحق في الملكية أي ان حقهم في الملكية يستمد وجوده من المشرّع الذي يستطيع ان يجردهم منها في أي وقت وكان من الأسباب المهمة للرفض ان جزءاً مهماً من الناخبين الفرنسيين كان يطالب بالمزيد من الحريات والحقوق.(100)
والحقيقة ان مشروع دستور 19 نيسان المرفوض من قبل الشعب الفرنسي قد تضمن مقدمة أو ديباجة ثم إعلان للحقوق بدأ بفصل أول تحدث عن الحريات تلاه فصل ثان تحدث عن الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي وقام بتنظيم الحقوق والحريات في هذا المشروع على أساسيين الأول ضرورة تأكيد احترام الشعب الفرنسي وإيمانه بالمبادئ الحرة نظراً لما لاقاه الإنسان من عبودية وتسلط ثم الاعتداد بالتطورات التي أصابت مفاصل الحياة من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية وضرورة إيجاد نوع من التوافق بينها وبين المبادئ التقليدية التي قامت عليها نظرية حقوق الإنسان وحرياته العامة أي إيجاد صيغة توافق بين المبادئ الفردية الحرة والمبادئ الاشتراكية.(101)
أما بخصوص دستور 27 تشرين الأول 1946 الذي وافق عليه الشعب الفرنسي والموضوع بعد رفض مشروع دستور 19 نيسان المشار إليه انفاً فقد قامت الجمعية التأسيسية التي انتخبت بتاريخ 2 حزيران 1946 بمعالجة مشروع دستور 19 نيسان لكي تكفل له موافقة الشعب حيث لم تكن هناك تعديلات أساسية تغير من جوهر المشروع السابق فالمبدأ العام هو محاولة إيجاد صيغة توافقية بين الماركسية والأفكار التي يقوم عليها المذهب الحر.
والحقيقة ان الصراع قد احتدم بين الآيديولوجيتين عندما قامت الجمعية التأسيسية بمراجعة إعلان الحقوق ولتفادي الخلاف فقد تم العدول عن إيراد إعلان مفصل للحقوق في الدستور المراد إعداده مع القبول بإيراد القواعد الأساسية التي تضمنها الإعلان في مقدمة الدستور حيث بدأت المقدمة بالتأكيد على ان (يعلن الشعب الفرنسي من جديد ان لكل إنسان بلا تمييز بسبب الأصل أو الدين أو العقيدة حقوقاً مقدسة لا يمكن ان يجرد منها، ويؤكد رسمياً حقوق وحريات الإنسان والمواطن المقررة بإعلان الحقوق الصادر عام 1789 والمبادئ الأساسية المعترف بها في قوانين الجمهورية).

ثم تضيف المقدمة النص الآتي (وفضلاً عن ذلك يعلن-كضرورة خاصة لعصرنا-المبادئ الأساسية والاقتصادية والاجتماعية التالية:
1. يضمن القانون للمرأة حقوقاً مساوية للرجل في كافة الميادين.
2. كل فرد يضطهد في سبيل حريته له حق الالتجاء إلى أراضي الجمهورية.
3. عل كل فرد واجب العمل وله حق الحصول على العمل ولا يظلم فرد في عمله أو مهنته بسبب اصله أو آرائه أو معتقداته.
4. من حق كل فرد ان يدافع عن حقوقه ومصالحه بواسطة النقابة التي يختار الانضمام إليها.
5. حق الاعتصام تنظمه قوانين خاصة.
6. كل خدمة وكل مشروع تتسم ممارسته بطابع أهلي أو ينطوي على احتكار يجب ان تؤول ملكيته إلى الجماعة.
7. تكفل الأمة للأفراد وللعائلات الأسباب الضرورية لتقدمهم وتضمن للجميع ولاسيما للأمهات وللعمال المسنين حماية الصحة والضمان المادي والراحة والإجازة، وكل إنسان يجد نفسه عاجزاً عن العمل بسبب سنه أو عدم قدرته البدنية أو العقلية أو لسوء حالته الصحية له حق الحصول على المقومات الضرورية لمعيشته، وتضمن الأمة للصغير والكبير فرصاً متكافئة للتعليم والتثقيف والتدريب وتأخذ الدولة على عاتقها تنظيم التعليم ومجانيته في كافة مراحله.)(102)
القيمة القانونية لإعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789 ومقدمة دستور 1946 الفرنسي
أثير البحث أولاً في فرنسا حول القيمة القانونية التي تملكها إعلانات الحقوق ومنها إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789، ثم أثير الجدل بعد ذلك حول القيمة القانونية لديباجة أو مقدمة دستور 1946 الفرنسي التي تضمنت مجموعة من الحقوق والحريات العامة.
فبخصوص إعلان الحقوق الصادر عام 1789 رأى إيسمان عدم امكانية اعتبار نصوصه ذات طابع قانوني وضعي، ومن ثم فهي غير واجبة النفاذ إذ انها مجرد إعلان عن مبادئ لكنها تفتقر للصفة القانونية الملزمة.

فهذه المقدمة أو الديباجة هي عبارة عن إعلان وهي لا تعدو ان تكون قواعد فلسفية أو برامج لا شان للقانون بتنظيمها ولو أراد المشروع ان يسبغ عليها الصفة القانونية لنظمها في صلب الدستور خاصة إذا أراد ان يراعي الناحية الشكلية وليحسم أي خلاف قد يثار في المستقبل بهذا الشأن عن طريق نصوص وعناوين واضحة ومحددة لا ان يوردها في المقدمة إذ ان العبارات المنمقة والرنانة قد تثير مسامع الإنسان البسيط لا رجل القانون الذي عليه ان يستعمل منهجيته في التفريق بين ما هو ملزم وما هو اختياري غير ملزم وهذا الأمر ينطبق على إعلانات الحقوق وكذلك فهي ذات طبيعة فلسفية مثالية غير ملزمة وهذا في أقل تقدير بالنسبة للمدرسة الشكلية التي يمثلها (كاري دي مالبيرغ وإيسمان).
أما المدرسة الموضوعية التي مثلها (العميد ليون دوجي وموريس هوريو) فهما يذهبان إلى عكس ما ذهبت إليه المدرسة الشكلية(103) إذ يؤكد العميد دوجي على ان إعلان الحقوق أسمى مرتبة وأكثر قوة من النصوص الدستورية ذاتها، ولهذا فان الحقوق والحريات العامة التي لم ينص عليها دستور 1875 الفرنسي تعتبر أعلى شاناً من ذلك الدستور نفسه بل هي قيد على الجمعية التأسيسية التي وضعته.(104)
أما مقدمة دستور 1946 الفرنسي فهو لم ينص على الحقوق والحريات العامة في نصوصه لكنه أعلن عنها في ديباجة بعكس مشروع الدستور الذي رفضه الشعب الفرنسي في العام ذاته (مشروع دستور نيسان 1946) والحقيقة ان الفقهاء مختلفون حول القيمة القانونية لهذه الديباجة أو المقدمة رغم كونها جزء مرتبط بالدستور سواء عند وضعها من جهة واحدة أو عند الاستفتاء عليها من قبل الشعب حيث تم الاستفتاء عليها مع الدستور ولم تفصل عنه، وهي بذلك ليست وثيقة منفصلة كما كان عليه حال إعلان 1789.(105)
ويرى أحد الأساتذة الفرنسيين (رينيه) انه يجب التمييز بخصوص القيمة القانونية لديباجة دستور 1946 بين ثلاث حالات هي:
1. بعض نصوص الديباجة لا تتضمن أية مادة قانونية إذ انها لا تتضمن أمر أو نهي أو أي التزام حقيقي لكنها عبارة عن تأكيد لبعض الأفكار السياسية ومثالها العبارة التي وردت في الديباجة والتي تسجل ان الجمهورية الفرنسية تراعي قواعد القانون الدولي العام والعبارة التي تقدم تعريفاً للاتحاد الفرنسي.
2. توجد عبارات كحالة النص على الحق في العمل وضمان النماء الفردي والعائلي أي تلك الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي فهي تتضمن أكثر من وعد من جانب الدولة مضمونه قيامها بإصدار التشريعات الضرورية اللازمة بتحقيق مضامين هذه الحقوق إذا سمحت الظروف بذلك، (فلا يتأتى للفرد التمسك بها قبل الدولة أمام القضاء إلا إذا سمحت الظروف بذلك).
3. هناك فئة ثالثة من العبارات التي وردت في المقدمة تتمتع بالصفة القانونية، إذ انها تتضمن النص بصفة عمومية على الحريات السابق إعلانها في عام 1789 ويمكن ان يضاف إليها الحريات الجديدة وبعض الحقوق الأخرى التي وردت في دستور 1946 كالحق النقابي والحرية النقابية ومجانية التعليم والمساواة بين الرجل والمرأة، فهذه الحقوق تتمتع بصفة قانونية كاملة ولا يستطيع المشرع إصدار قوانين أو تشريعات تخالفها، وإذا كانت القاعدة المتقدمة تخلو من الجزاء طالما ان المحاكم الفرنسية لا تملك سلطة مناقشة دستورية القوانين فان الضمانة الوحيدة المكفولة للقوانين تتمثل في سلطة رئيس الجمهورية بان يرفض التوقيع على أي تشريع يكون مخالفاً للدستور ويعيده للبرلمان بهدف مناقشته مرة أخرى، ويؤكد الاستاذ (رينيه) ان هذه الكفالة واهية وغير فعالة في ضوء السوابق البرلمانية الفرنسية، فضلاً عن ان دستور 1946 قد أخرج صراحة المقدمة (الديباجة) من اختصاص اللجنة الدستورية التي انشأها لمراجعة دستورية القوانين طبقاً للمادة (92).(106)
5. دستور 4 تشرين الأول 1958
بعد اندلاع حرب التحرير الوطنية في الجزائر تأزمت أوضاع الجمهورية الرابعة التي جاء بها دستور 1946 مما قاد إلى بزوغ ما يعرف بالجمهورية الفرنسية الخامسة التي جاء بها دستور ديغول الصادر عام 1958 إذ وضع الجنرال الفرنسي الخطوط العريضة لهذا الدستور في خطاب ألقاه بتاريخ 15 حزيران 1944 وطوره بعد ذلك أثناء وجوده على رأس السلطة في فرنسا حتى عام 1969 ويتضمن دستوره هذا أثنتين وتسعين مادة.(107)
والحقيقة ان دستور 1958 لم يقدر له ان يقدم جديداً في مجال الحقوق والحريات العامة يتجاوز ما قدمه دستور 1946 لكنه أعلن تبنيه لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 فضلاً عن تبنيه مقدمة دستور 1946 التي قضت بالاعتراف بالحريات الجماعية في مجالات متعلقة بالعمل إذ أقر حق الإضراب وحق اختيار المندوبين كما تمت الإشارة إلى مسألة التخطيط الاقتصادي لضمان الاستخدام العقلاني للموارد كما أقر حق الحياة اللائقة لجميع المواطنين في مجالات الحماية الصحية والأمن والراحة والتسلية والتعليم المجاني.
ويلاحظ ان دستور 1958 قد تمسك بإعلان 1789 وما جاء به من مضمون يعبر عن الفردية وسلبية الدولة ولكنه بالمقابل أقر مقدمة دستور 1946 وما عبرت عنه من مضمون إيجابي للدولة حيث تم التوسع في مجال الحريات من مجالها الفردي السلبي والمحدد بثلاث مجالات تتعلق بحماية الفرد والمحافظة على ملكيته وتأمين ذهابه وايابه إلى مجالات وافق انصرفت إلى التوسع لحماية الجماعة ومقدراتها المادية والصحية والتعليمية بصورة تعبر عن الاهتمام بالفرد والجماعة في الوقت نفسه ضمن مفهوم الدولة القومية الحارسة والمرفهة والضامنة للحياة.(108)
المطلب الرابع- موقف الاتجاهات الدستورية من الحقوق والحريات العامة.
مثلت عملية ظهور الدساتير الطابع المميز للدولة في العصر الحديث وفي ضوء الشعارات المطروحة من جانب القابضين على السلطة فقد عبرت هذه الاتجاهات الدستورية عن طابع فهم معين للحقوق والحريات التي تبناها دستور كل دولة. وقد ساهمت الحروب والثورات التي شهدها العالم في صياغة العديد من دساتير الدول التي عبرت عن اتجاهات متباينة في ممارسة السلطة وفي الإقرار بحقوق وحريات للإنسان ذات طابع مختلف الواحدة عن الأخرى على انه يمكن تلخيص أهم الاتجاهات الدستورية التي ظهرت في دساتير العالم من خلال المراحل التاريخية الآتية:

المرحلة الأولى
مثلت هذه المرحلة موجة الدساتير التي ظهرت بعد حرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية وتميزت هذه المرحلة بظهور الدساتير المكتوبة وهذا عكس ما كان معمولاً به قبل ذلك إذ كانت الأعراف والتقاليد هي المتحكمة في عملية تنظيم ممارسة السلطة ومصدر هذه الأعراف والتقاليد هم الحكام ومن ثم فان الدستور الأمريكي الفيدرالي وقبله دساتير الولايات ومن أهمها دستور فرجينيا كان قد تضمن بعض الحقوق والحريات الأساسية أو الطبيعية.

أما في فرنسا فقد صدر أولاً إعلان للحقوق ثم صدر دستور 1791 الذي اعتبر الإعلان الصادر عام 1789 جزءاً منه، ومن ثم فقد بقي موضوع الضمانات أمراً مشكوكاً فيه طالما ان الإعلان بتفاصيله لم يكن في متن الدستور وقد تأثرت بعد ذلك دساتير العديد من الدول الأمريكية والدول والأوربية بالدستور الأمريكي والدساتير الفرنسية.

المرحلة الثانية
شهدت هذه المرحلة ظهور الدساتير في ألمانيا والأراضي المنخفضة وكان ورائها ثورتي عام 1830 الليبرالية وعام 1848 الاجتماعية في فرنسا إذ جاءت ثورة 1830 بدستور ملكي اعتمد النظام الليبرالي البرلماني بينما جاء دستور 1848 بمجموعة من المبادئ الاجتماعية.
المرحلة الثالثة
جسدت هذه المرحلة الدساتير التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى إذ انهارت إمبراطوريات ودول أدى إلى ظهور دول جديدة في العالم العربي وأوربا الوسطى، وهذه هي المرحلة ذاتها التي شهدت ظهور دول فاشيستية تميزت بتوجهاتها الاجتماعية التي انحسر فيها دور الفرد إذ قامت هذه الدول على تأليه الدولة فالفرد لا دور له ولا اعتراف به إلا في ضوء دوره المساند للدولة، وبالنتيجة تم تقليل دور الحريات الفردية في الدول الفاشيستية والنازية والبلشفية والاستعاضة عنها بمفاهيم الحريات ذات المضمون الجمعي، فالماركسية اللينينية تحدثت عن حماية الطبقية، والفاشيستية تحدثت عن حماية الأمة وصيانتها وإعلاء شانها لتحقيق مفهوم الأمة الرومانية، وفيما يتعلق بالنازية فان الأمر مرتبط بالاهتمام وتعظيم الشعب بمفهومه المنظم السامي لمجموعة متجانسة ومنسقة لا دور لحرية الفرد فيها في هذا الإطار كفرد.
ان هذه المرحلة طبقاً للتطبيقات المتقدمة عبرت عن تراجع في مفهوم الحريات العامة وضماناتها بالمقارنة مع المرحلة الأولى والحقيقة ان مضمون الحريات ذات الطابع الجمعي قد امتد الى البرتغال وإسبانيا والنمسا وبولندا بل حتى فرنسا التي لم تأمن من تدفق الأفكار الداعية إلى تبني حريات بمضمون جمعي على حساب المفهوم الفردي ولم تسلم من هذه الموجة إلا بريطانيا وبدرجة ما عندما تمسكت بالليبرالية.

المرحلة الرابعة
هي من أهم المراحل من جهة عدد الدساتير التي أشارت الى الضمانات للحريات الفردية إذ ظهرت العديد من الدول الجديدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء منظمة الأمم المتحدة، وهذه المجموعة من الدساتير توزعت بين مجموعتين الأولى عبرت عن توجهات ليبرالية بينما عبرت المجموعة الثانية عن توجهات ماركسية، أما المجموعة الثالثة فقد احتوت مضامين مشتركة من المجموعتين، ومع ذلك فعوامل الاشتراك بقيت قائمة من جهة المضامين التي عبرت عنها مجموعة من دساتير هذه المرحلة فالدساتير الاشتراكية تبنت مفاهيم ليبرالية والعكس صحيح.
أما دساتير دول العام الثالث فان أغلب هذه الدساتير احتوت على حقوق وحريات ذات طابع ليبرالي وأخرى ذات طابع جمعي إلا ان الطابع الجمعي كان أكثر بروزاً نظراً لطابع الأنظمة السياسية، ويمكن القول ان دساتير دول العالم الثالث تنقسم إلى فئتين أو اتخذت مرحلتين هما:

الفئة الأولى: اتسمت هذه المرحلة بطابع الاستنساخ أو النقل من دساتير الدول المستعمرة ولهذا فقد أخذت دول العالم الثالث المتحررة حديثاً بالضمانات الدستورية من دساتير الدول الغربية المستعمرة لها من الناحية الشكلية وهذا ما سارت عليه موريتانيا وتشاد إذ انها أخذت أو هي تنطبق إلى حد كبير مع الدستور الفرنسي فمقدمات بعضها تكلمت بعبارات إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي وطرحت ذات الشعارات (حرية، إخاء، مساواة)

الفئة الثانية: عبرت عن هذه المجموعة دساتير تونس والجزائر والكاميرون والسنغال حيث أبرزت المضامين الاشتراكية فضلاً عن تبنيها لنظام الحزب الواحد كما ان تفاصيل الحقوق والحريات ذات الطابع الفردي لم تكن غائبة عن نصوصها مع غلبة التوجه الجمعي بسبب حرص هذه الدول على سيادتها والمفاهيم التي سادت في تلك المرحلة كمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحق كل شعب في اختيار دستوره ونظامه السياسي وتراجعت على المستوى الفعلي الحريات الفردية بمفرداتها المعروفة في هذه الدساتير بسبب تأكيدها على مضامين جمعية حرصاً على الاستقلال وباسمه على حساب الحريات الفردية.

يتبع >









قديم 2008-11-07, 10:25   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

هوامش الفصل الثالث
1. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص 175-177
2. نعيم عطية، النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة، مجلة المحاماة المصرية، العدد(1) 1953، ص63.
3. المصدر نفسه، ص63.
4. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص189.
5. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص25.
6. المصدر نفسه، ص26.
7. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص206-207.
8. المصدر نفسه، ص213.
9. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص26-27.
10. غانم محمد صالح، المصدر السابق، ص217 والهامش رقم (1).
11. المصدر نفسه، ص221.
12. المصدر نفسه، ص224.
13. مصطفى كامل ليلة، شرح القانون الدستوري، الطبعة الثانية، دار الكتاب العربي، 1952، مصر، ص373-374.
14. أزهار عبد الكريم عبد الوهاب، المصدر السابق، ص6.
15. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص76.
16. أحمد جمال الظاهر، المصدر السابق، ص252-253.
17. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص77-78.
18. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص79.
أنظر ملخصاً لهذه الآراء في عبد الحميد متولي، الوجيز في النظريات والأنظمة السياسية ومبادئها الدستورية، الطبعة
الأولى، 1959، ص107-119.
19. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص81.
20. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص374.
21. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص82-83.
22. ابدوريا، ترجمة نوري محمد حسين، المدخل إلى العلوم السياسية، النظريات الأساسية في نشأة الدولة، وتطور الأحكام والنظم والقوانين والدساتير في أهم دول العالم، الطبعة الأولى، بغداد، 1988، ص22.
23. إيسمن، ترجمة محمد عادل زعيتر، اصول الحقوق الدستورية، المطبعة المصرية، ص157.
24. أزهار عبد الكريم عبد الوهاب، المصدر السابق، ص8.
25. أبدوريا، المصدر السابق، ص16.
26. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، 375.
27. ابدوريا، المصدر السابق، ص16.
28. المصدر نفسه، ص17.
29. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص254.
30. المصدر نفسه، ص254.
31. ابدوريا، المصدر السابق، ص20.
32. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص85-86.
33. احسان حميد المفرجي، محاضرات في القانون الدستوري ألقيت على طلبة المرحلة الأولى في كلية القانون/ جامعة بغداد، 1987-1988.
34. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص257.
35. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص87، 89-90.
36. المصدر نفسه، ص91.
37. المصدر نفسه، ص92-93.
38. المصدر نفسه، ص95.
39. المصدر نفسه، ص95.
40. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص257.
41. أنور أحمد رسلان المصدر السابق، ص95.
42. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص258.
43. احسان حميد المفرجي، المصدر السابق،
44. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص258.
45. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص96.
46. المصدر نفسه، ص96.
47. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص258.
48. (هو أحد الأساتذة المرموقين في جامعة جلاسكو وكان صديقاً لديفيد هيوم حيث كان الطلبة يقصدونه من روسيا ومن أرجاء القارة الأوربية لسماع أحاديثه أضف إلى ذلك انه كان له شخصية مميزة فهو معروف بانه لا يتذكر شيئاً وغائب الذهن في معظم الأحيان، فقد روى ان صديقاً له قدم له كوباً من الزبدة والخبز المغليان وقد علق سميث على ذلك بعد ان شرب الكوب بأنه أسوء كوب شاي شربه في حياته. على الرغم من هذه الصفات فان هذا لم ينقص من قدرته في البحث والتأمل، وقد تركزت محاضراته على الفلسفة الاخلاقية وقد تضمنت آراءه الفلسفية في الدين الطبيعي والأخلاق والقانون التشريعي والاقتصاد السياسي).
49. المصدر نفسه، ص214-215.
50. المصدر نفسه، ص318.
51. المصدر نفسه، ص319.
52. نعيم عطية، النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة، المصدر السابق، ص66.
53. آلان بالمر، ترجمة سوسن فيصل السامر، يوسف محمد أمين، موسوعة التاريخ الحديث، الجزء الأول، دار المأمون، ص105-106.
54. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص259-260.
55. المصدر نفسه، ص261.
56. سعد زيداني، إطلالة على الديمقراطية الليبرالية، المستقبل العربي، العدد 193، أيار-1990، ص16-17.
57. إيسمن، المصدر السابق، ص159.
58. نعيم عطية، النظرية التقليدية في حقوق الفراد العامة، المصدر السابق، ص63-64.
59. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص570.
60. أحمد أنور رسلان، المصدر السابق، ص104.
نعيم عطية، الأسس التقليدية لنظرية حقوق الأفراد العامة في الفكر الدستوري الفرنسي مجلة إدارة قضايا الحكومة العدد الثالث، 1976، ص572.
61. منذر الشاوي، مذاهب القانون، وزارة العدل، بغداد، 1986، ص38-39.
62. نعيم عطية، الأسس التقليدية لنظرية حقوق الأفراد العامة في الفكر الدستوري الفرنسي، المصدر السابق، ص570-571.
63. المصدر نفسه، ص572-573.
64. نعيم عطية، النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة، المصدر السابق، ص66.
65. اسكندر غطاس، حقوق الانسان في الدول الاشتراكية، مجلة السياسة الدولية، العدد 39، 1975، ص54-55.
66. أنظر في مفهوم الحقوق والحريات العامة في نظم الديمقراطية الماركسية، أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص120-150.
67. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، العدد الثاني، 1973، ص378
68. المصدر نفسه، ص380-382.
69. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص382.
70. المصدر نفسه، ص382-383.
71. فيصل شطناوي، حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، الطبعة الثانية، 2001، ص41.
72. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص384.
73. المصدر نفسه، ص384.
74. المصدر نفسه، ص385.
75. المصدر نفسه، ص387-388.
76. المصدر نفسه، ص426-427.
77. المصدر نفسه، ص424-425.
78. أدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري العام، الدول وأنظمتها، الجزء الأول، الطبعة الثانية، بيروت، 1968، ص435.
79. فيصل شطناوي، المصدر السابق، ص45.
80. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص428-429.
81. المصدر نفسه، ص431-432.
ادمون رياط، المصدر السابق، ص444.
82. المصدر نفسه، ص445.
83. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص145.
84. فيصل شطناوي، المصدر السابق، ص46-47.
85. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص439-440.
86. ادمون رياط، المصدر السابق، ص446.
87. عبد الحميد متولي، الوجيز في النظريات والأنظمة السياسية ومبادئها الدستورية، ص333.
88. إسماعيل الغزال، القانون الدستوري والنظم السياسية، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1982، ص47.
89. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص381.
90. المصدر فسه، ص381-382.
91. فيصل شطناوي، المصدر السابق، ص52.
92. مصطفى كامل ليلة، ص387.
93. المصدر نفسه، ص389.
94. فيصل شطناوي، ص53-54.
95. إسماعيل الغزال، المصدر السابق، ص269-270.
96. المصدر نفسه، ص271-272.
97. المصدر نفسه، ص272-278.
98. المصدر فسه، ص279.
99. فيصل شطناوي، المصدر السابق، ص61.
100. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الفرنسية،
المصدر السابق، ص1015.
101. المصدر نفسه، ص1007.
102. المصدر نفسه، ص1016-1017.
103. حسان محمد شفيق العاني، الحريات العامة، محاضرات ألقيت على طلبة الماجستير
في كلية القانون/ جامعة بغداد في السنة الدراسية 1996-1997.
104. عثمان خليل، القانون الدستوري، الكتاب الأول، القاهرة، 1956، ص136.
105. المصدر نفسه، ص136.
106. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الفرنسية،
المصدر السابق، ص1018-1019-1020.
107. إسماعيل الغزال، المصدر السابق، ص293.
108. حسان محمد شفيق، نحو تصنيف جديد للحريات العامة، مجلة القانون المقارن، ص55.

الفصل الرابع
أشكال وصور حقوق الإنسان والترابط بينها
توجد قائمة طويلة من الحقوق والحريات الأساسية التي تضمنتها الإعلانات والدساتير والتشريعات العادية الصادرة في دول العالم المتعددة، فهناك أولاً الحريات والمراد بها حقوق الإنسان التقليدية التي تمتنع فيها الدول عن التعرض للأفراد طالما هي تمثل مراكز قانونية يمارس الأفراد من خلالها خصائصهم الذاتية بقصد إشباع حاجاتهم الخاصة وقد عبرت عن هذه الحريات بصورة أساسية قائمة حقوق الإنسان والمواطن في الدساتير وإعلانات الحقوق التي بدأت بالظهور منذ أواخر القرن الثامن عشر، وهناك من جهة أخرى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية حيث لا تقف الدولة في مواجهة هذه الحقوق موقفاً سلبياً من الأفراد كما هو حالها في الحريات، لكنها ملزمة باتخاذ مواقف ايجابية تتمثل بتقديم الخدمات المختلفة في مرافق الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وهذه مجموعة من الحقوق بدأت تحتل مكاناً بارزاً في قائمة حقوق الإنسان منذ نهاية الحرب العالمية الأولى نظراً لتطور فكرة الحرية من كونها مجرد فكرة تستهدف تحطيم العوائق إلى فكرة تعمل على تنمية الكرامة الإنسانية وهذا كله نتيجة للترابط الذي ظهر بين فكرة الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية.(1)
ومع تطور الحياة ونمو المجتمع أضيفت حريات وحقوق أخرى للإنسان لم تكن إعلانات الحقوق والدساتير الأولى قد تضمنتها، ومن هنا فإنه سيصبح من الضروري التعرض لتفاصيل الحقوق والحريات المعروفة في بعض الدساتير ومنها الدساتير العراقية مع تحديد مضمونها أو معناها، فضلاً عن التطرق لتفاصيل هذه الحقوق والحريات في المعاهدات الدولية، أي على مستوى القانون الدولي لحقوق الإنسان في المبحثين الآتيين:

المبحث الأول- تصنيف الحقوق والحريات ودور الدولة في تحقيقها.
المبحث الثاني- صور الحقوق والحريات.

المبحث الأول
تصنيف الحقوق والحريات ودور الدولة في تحقيقها
ان وضع تصنيف للحقوق والحريات أمر لم يكن محل اتفاق في النظرة إلى هذا الموضوع بين القانونيين كما ان دور الدولة قد شهد تطوراً في هذا المجال.
وعموما تتضمن تسمية الحقوق والحريات امتيازات الافراد في مواجهة السلطة العامة من ناحية ، وعموميتها وتمتع جميع الافراد بها بصفة عامة وبدون تفرقة او تمييز بين المواطنين والاجانب من ناحية اخرى . (2)
والحقوق الحريات العامة عموما هي مراكز قانونية للافراد تمكنهم من مطالبة السلطة بالامتناع عن القيام بعمل مافي بعض المجالات ، او هو التزام السلطة بغل يدها عن التعرض للنشاط الفردي في بعض نواحيه المادية .(3)
وفكرة الحقوق والحريات العامة فكرة نسبية يختلف مضمونها بأختلاف الزمن وتبعا لطبيعة النظام السياسي القائم .
ففي ظل المذهب الفردي كانت الحقوق والحريات هي الحقوق والحريات الطبيعية التي يكتسبها الفرد بولادته وهي لصيقة به ولاتنفصل عنه . ووظيفة الدولة في هذا النظام تقتصر على حماية هذة الحقوق والحريات وضمان عدم المساس بها تماشيا مع وظيفتها الوحيدة في حراسة الامن الداخلي والخارجي .
اما في ظل المذهب الاشتراكي فقد تطورت فكرة الحقوق والحريات بحكم تطور وظيفة الدولة التدخلية فصار على الدولة ان تتدخل لتوفير اغلب تلك الحقوق كحق الافراد بالضمان الصحي والاجتماعي وتوفير العمل والتي عرفت فيما بعد بالحقوق الاجتماعية .
ولم تعد تقتصر وظيفتها على توفير الحقوق والحريات الفردية والتي تلقى على الدولة واجبا سلبيا بالامتناع عن التدخل فيها , الا ان هذا التدخل كان في كثرة من الاحيان على حساب الحقوق السياسية وحق الملكية .
ازاء ذلك اخذت الكثير من الدول موقفا وسطا بين النظم الفردية والاشتراكية وعالجت مساوئ المذهب الفردي من خلال توسيع مجالات تدخل الدولة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي دون ان يصل هذا التدخل الى حد الغاء الملكية الفردية الخاصة . (4)
وخلصت النظم الاقتصادية الى اقرار تدخل الدولة ايجابيا لتوفير الحقوق الاجتماعية للافراد بالاضافة الى دورها السلبي في الامتناع عن المساس بالحقوق والحريات التقليدية .

المطلب الأول
تصنيف الحقوق والحريات
اختلف الفقه في الاساس الذي يتم فيه تصنيف الحقوق والحريات العامة وسلكو في ذلك
مذاهب شتى ومن ابرز هذة التقسيمات:

اولاً:- تقسيم ايسمان
ذهب ايسمان الى ان حقوق الافراد وحرياتهم تتضمن فرعين رئييسين هما :

الفرع الاول :
الحريات ذات المضمون المادي : وهي تلك التي تتعلق بمصالح الافراد المادية ومنها حرية الامن ،والتنقل ، والملكية ، والمسكن ، والتجارة ، والصناعة .

الفرع الثاني
الحريات ذات المضمون المعنوي
وهي تلك الحريات التي تتضمن حرية العقيدة ، والعبادة ، وحرية الصحافة ، وحرية الاجتماع ، وحرية التعليم ، وحرية تكوين الجمعيات.
ولم يسلم هذا التقسيم من النقد من حيث انه لا يرتب اية نتائج قانونية او مزايا عمليه من جهة ولانه غير منطقي من جهة اخرى فهو يضع الحريات الفردية داخل اطار الحريات المادية لاسيما الحق في الامن .(5)
كما ان هذا التقسيم قد تجاهل الحقوق الاجتماعية كحق العمل والضمان الاجتماعي والصحي . (6)

ثانياً :-تقسيم دوجي :
يميز دوجي بين نوعين من الحريات ايضاً هما :

النوع الاول
يشمل الحريات السلبية وهي التي تظهر في صورة قيود على سلطة الدولة .

النوع الثاني
فيتضمن خدمات ايجابية تقدمها الدولة للافراد . (7)

ثالثاً:- تقسيم هوريو :
يقسم هوريو الحقوق والحريات الى ثلاثة اقسام يطلق على القسم الاول الحريات الشخصية ، وتشمل الحريات الفردية والحرية العائلية وحرية التعاقد وحرية العمل .
اما القسم الثاني ويسمى الحريات الروحية او المعنوية ويتضمن حرية العقيدة والتدين وحرية التعليم وحرية الصحافة وحرية الاجتماع في حين يحتوي القسم الثالث على الحريات المنشأه للمؤسسات الاجتماعية وهي الحريات الاجتماعية والاقتصادية والنقابية وحرية تكوين الجمعيات . (8)

رابعاً :- تقسيم بيردو :
قسم الاستاذ بيردوا الحريات الى اربعة مجموعات رئيسية هي :ـ
1- الحريات الشخصية البدنية وتتضمن حرية الذهاب والاياب وحق الامن وحرية الحياة الخاصة .
2- الحريات الجماعية وتشمل حق الاشتراك في الجمعيات وحرية الاجتماع وحرية التظاهر .
3-الحريات الفكرية وتشمل على حرية الرأي وحرية الصحافة وحرية التعليم والحرية الدينية .
4- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية : وتحتوي على الحق في العمل والملكية وحرية التجارة والصناعية.(9)
وعلى أي حال فأنه على الرغم من اختلاف الفقهاء في تقسيم الحقوق و الحريات فأنهم يشملون كافة الحقوق والحريات في ضمن تقسيماتهم تلك. وعموما يمكن تقسيم الحقوق والحريات من خلال تتبع المراحل التاريخية التي مرت بها طبقا للتفصيل الاتي:

الفرع الأول
التصنيف التقليدي للحقوق والحريات (الجيل الأول)
استند التصنيف التقليدي للحقوق والحريات إلى نظريتا القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي اللتان أكدتا على الطابع الفردي للحقوق والحريات في مواجهة الدولة، فالحرية الفردية هي الأصل وهذا ما يؤكد عليه (لوك) الذي يعرفها (بالحق المطلق في تقرير الفرد لمصيره وشؤونه)، فالفكر الغربي في عصر التنور (القرن الثامن عشر) الذي أكد فلاسفته على أهمية احترام الفرد باعتباره فرداً أو أنسانا، ومع انهم سلموا بضرورة وجود الدولة لكن على أساس احترامها للحقوق والحريات الفردية، وهذا ما يتحقق إذا لم تتدخل الدولة في تنظيم أمور المجتمع إلا في نطاق الحد الأدنى وعلى هذا الأساس يفهم تعريف (جون ستيوارت مل) للحرية إذ يذكر انها (الحد من سلطة الحاكم).
وبالاستناد لمل تقدم كرس إعلان حقوق الإنسان المواطن الصادر عام 1789 هذه الأفكار في معالجة الحقوق والحريات حيث أقرت المادة الثانية منه صراحة ان هدف كل تشكيل سياسي هو الحفاظ على الحقوق الطبيعية للإنسان التي لا يمكن إلغائها وقد أكدت الكتابات القانونية اللاحقة الفكرة المتقدمة التي مضمونها ان الحقوق والحريات الطبيعية هي لصيقة بالفرد عندما لا يكون هناك مجال لتدخل الدولة في شؤونه أي عندما لا تكون الدولة طرفاً فيها وقد ذهبت التقسيمات التقليدية المستمدة من المفاهيم المتقدمة إلى بيان الحريات ذات الطابع المادي والحريات ذات الطابع الروحي، وهناك تقسيمات أخرى سلمت بوجود حريات أساسية وحريات ثانوية أو غير أساسية.(10)
عليه فان الجيل الأول من الحقوق والحريات يراد بها مجموعة الحقوق السياسية والمدنية التي هي حقوق في مجموعها تتحقق بمجرد الامتناع عن الاعتداء عليها سواء من جانب السلطة العليا أو من أية جهة أخرى، ومثالها الحق في الحياة وحرية الرأي والتعبير.(11)

الفرع الثاني
التصنيف الحديث للحقوق والحريات (الجيل الثاني)
ظهر هذا المفهوم في بيئة مختلفة عن بيئة الجيل الأول من الحقوق والحريات التي طالب بها الإنسان فبعد ان تحولت المجتمعات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى مجتمعات صناعية وما رافق ذلك من خلق تجمعات سكانية مكتظة والمطالبة بظروف معيشة أفضل، وهو ما أدى إلى ظهور مضامين جديدة للحقوق والحريات ارتبطت بالمساواة السياسية فطالب المواطنون بالعدالة الاجتماعية من خلال توفير فرص العمل والتعليم والرعاية الاجتماعية، فالمطالبات المقدمة ارتبطت بالمجموع ولم تعد تؤكد على الفرد، وهذا يعني ان المضمون الحديث قد تحول إلى المطالبة بالحصول على عطاء، أو امتياز من الدولة ليشمل المجتمع بالرعاية والاهتمام وليس الفرد بهذا الوصف.(12)
إذن الجيل الثاني من الحقوق والحريات يراد بها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كالحق في العمل، والحق في المسكن والملبس، والحق في الغذاء، والرعاية الصحية، والتعليم ودور الدولة هو دور ايجابي فهي مطالبة بتحقيق هذه الحقوق وليس دوراً سلبياً كما هو الحال في حقوق وحريات الجيل الأول التي تكون الدولة مطالبة فقط بعدم الاعتداء عليها.(13)

الفرع الثالث
حقوق وحريات الجيل الثالث
اقترنت حقوق وحريات الجيل الأول بالفرد، بينما اهتمت حقوق وحريات الجيل الثاني بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أما حقوق وحريات الجيل الثالث فقد اقترنت بالدور الذي تلعبه الأمم المتحدة طبقاً لميثاقها وهذه الحقوق يرتبط بعضها بالفرد بينما يرتبط البعض الآخر بالجماعة، لكن ليس ضمن مفهوم الدولة القومية وإنما ينصرف الاهتمام بها إلى سائر البشر متخطياً الدولة القومية ليشمل الإنسانية كلها، وهي حقوق وليدة التطور القانوني على المستوى الدولي، والمثال على هذه الحقوق الحق في السلام، والحق في بيئة نظيفة، والحق في التنمية، وهذه الحقوق تفرض دوراً ايجابياً على كل الأطراف المعنية وهي الشعوب، والحكومات، والمجتمع الدولي.(14)

يتبع > :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(6)









قديم 2008-11-07, 10:26   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(6)


المطلب الثاني
دور الدول في مجال الحقوق والحريات
كثيراً ما تورد الدساتير الحديثة مجموعة من الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن ذكرها للحريات الفردية التقليدية، فنجد مقدمة الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 ودستور فرنسا النافذ لعام 1958 قد أكدا على "حريات الإنسان والمواطن المقررة في إعلان 1789" واعترافا بالمبادئ الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للعيش في الجماعة الحديثة، وفي حقيقة الأمر فان الحريات الفردية ليست في الواقع إلا حريات اجتماعية لأنها لا تمارس إلا في نطاق الجماعة، وهذا المعنى قد بدأ ظاهراً في المادة الرابعة من إعلان الحقوق الصادر عام 1789، إذ نصت على ان (الحرية تتضمن فعل كل ما ليس من شأنه الإضرار بالغير)، ثم أضافت ان (ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان ليس لها من حدود إلا ما يضمن لغيره من أعضاء الجماعة ممارسة هذه الحقوق ذاتها). (15)
ومع ذلك فإن الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي قد تم الاهتمام بمضمونها من الناحية القانونية والعملية في وقت متأخر عن الاهتمام والاحترام للحقوق الفردية ويمكن إجمال خصائص كل من هاتين المجموعتين من الحقوق وبالشكل الذي سيوضح القيمة الفعلية لكل منها.
1. الالتزامات الإيجابية والالتزامات السلبية
لا تفرض الحريات الفردية على عاتق الدولة إلا التزاماً سلبياً مؤداه الامتناع عن القيام بعمل في مجالات النشاط الفردي، فدور الدولة يقتصر (في العلاقة مع هذا النوع من الحريات) على توليها مرافق الأمن والقضاء والجيش، إذ انها دولة حارسة أما الحقوق الاجتماعية فهي على العكس من ذلك تتطلب من الدولة ان تتيح لكل مواطن عملاً لائقاً وأجراً معقولاً وان توفر للأم والطفل والشيخ والمريض العناية المطلوبة، فهذه الحقوق تفرض التزامات إيجابية على الدولة منها ان تتدخل في شتى نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد.
فالأحكام الخاصة بالحريات الفردية من الضروري ان تصاغ بهدف توفير حماية كافية للمواطنين من احتمال تعسف السلطة التنفيذية أو الحكومة، إذ يقيم المشرع حولها سداً منيعاً لحمايتها، أما الأحكام الخاصة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فتصاغ بطريقة تحقق حماية الحكومة للمواطنين وبهدف تقديم العون لهم في حياتهم، فإذا نص الدستور في باب الحريات على ان للمنازل حرمة، فهذا يرتب التزاماً سلبياً على عاتق الحكومة يفيد أنه ليس للحكام شأن بما يجري في المنازل، وهم لا يستطيعون اقتحام المنازل إلا طبقا للقانون وبأمر القضاء.
أما نص الدستور في باب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية على ان الدولة تكفل للمواطن المسكن والغذاء والكساء والعلاج والتعليم، فهذا يفيد ان للمواطن أن يطالب السلطات بان تقدم له العون في حياته الخاصة لترى في أي مستوى يعيش بهدف تقديم ما يحتاج له فهذا التزام إيجابي يقع على عاتق الدولة.
2. إن الحريات التقليدية في حقيقتها إنما هي تعبير عن واقع حاصل ولا يبقى بخصوصها إلا النصوص المنظمة لها والمرتبة للأوضاع التي تمارس بناءً عليها.
أما فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فالأمر يختلف، طالما ان النصوص الدستورية التي تسجلها لا تتضمن تقريراً لحالة واقعية بقدر ما تتضمن رسما لبرنامج يهتدى به مستقبلاً، وعلى ذلك فإذا ارتبطت الحريات الفردية بما هو كائن، ترتبط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بما يجب ان يكون.
عليه فالحرية بالنسبة للديمقراطية السياسية حرية طبيعية يكفي لحمايتها قيام الدولة بعمل سلبي يتمثل برفع يدها عن التدخل فيها.
أما بالنسبة للديمقراطية الاجتماعية فالحرية حالة مستقبلية لا يتوصل إلى تحقيقها إلا بإخضاع النشاط الاجتماعي لنفوذ الحكومة.
هذا وان القيمة الفعلية للحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي أمر يتوقف على جهود المشرع العادي والإدارة في كل دولة لمناقشة الخطوات التي تقود لتحقيق الوجود المادي لهذه الحقوق وصياغتها في تشريعات قابلة للتنفيذ.
3. الأعباء
إذا كانت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ترتب التزامات إيجابية فهذا يعني زيادة في أعباء الدولة، فضلاً عن تحمل الأفراد لواجبات لم تكن معروفة من قبل في ظل إعلانات الحقوق ذات الطابع الفردي الخالص ويتضح ذلك فيما يلي:

أ- بالنسبة لالتزامات الدولة
إن الاتجاه نحو إقرار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية يؤثر تأثيراً بعيداً في سياسة الحكم بأسرها، والدستور الذي يرتب على الدولة ان تقوم بأداء خدمات اجتماعية عامة يوجب عليها كذلك توفير الوسائل الاقتصادية لزيادة الثروة القومية لكي لا تصبح الضرائب باهظة فتعوق التقدم الاقتصادي والاجتماعي معاً، هذا ويتطلب التوسع في الخدمات الاجتماعية من جانب آخر وضع مالية الدولة على أسس جديدة بحيث توجه نفقات الدولة توجيهاً مثالياً باتجاه تحقيق فعلي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ب- بالنسبة لالتزامات الأفراد
إن تدخل الدولة لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يتطلب فرض التزامات ازاء الأفراد لكي يتحقق الهدف المنشود من وراء إقرار هذه الفئة من الحقوق، فعندما تلتزم الدولة قبل أفرادها بأداء الخدمات فهي تقدر مبلغ العبء الملقى على عاتقها، فتفرض واجبات معينة على الأفراد منها ضرورة الالتزام بعمل ما، وهكذا يتحول العمل من مجرد حرية إلى فرض إجباري على المواطنين.
ومن النصوص الدستورية التي يمكن الإشارة إليها بهذا الخصوص ما جاءت به المادة (53) من الدستور الإيطالي التي جاءت بالنص الآتي (على كل شخص ان يسهم في المصروفات العامة وفقاً لقدرته على الإسهام).
والحقيقة فإن كثيراً مما اشتملت عليه الدساتير الحديثة من التزامات لازالت مجرد التزامات اخلاقية أكثر منها التزامات قانونية، ومع هذا تبقى فائدتها السياسية قائمة باعتبارها عاملاً من عوامل الإرشاد وتوجيه الشعوب.
4.التزامات الدولة بالتنفيذ
تتباين الحريات الفردية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في فعاليتها أمام القضاء، إذ تقوم المحاكم بحماية الحريات الفردية فيستطيع الفرد رفع أمره إليها مبيناً أن حرية من حرياته قد لحقها اعتداء ما، لإيقاف هذا الاعتداء وطلب التعويض عن الأضرار التي لحقته من جرائه.
أما الحقوق الاجتماعية والاقتصادية فإن التخلف عن أدائها لا يصلح على وجه العموم أن يكون موضوعاً لدعوى أمام القضاء، على ان تحقيق مضمون هذه الحقوق يتطلب ان تكون الدولة قادرة مادياً على أدائها، ثم انها ستبقى في مرحلة الإعلان النظري ولا تبلغ الكمال في تطبيقها إلا تدريجياً حتى يتيسر لميزانية الدولة ان تمكن الحكومة من ان تقيم المجتمع الأمثل.

المبحث الثاني
صور الحقوق والحريات
توجد عدة تصانيف للحقوق والحريات كل منها يحمل اسماً مختلفا عن الآخر إلا انها تتداخل في حقيقة الأمر، فهناك حقوق الإنسان الفردية وحقوق الإنسان الجماعية، وحقوق الإنسان المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق التي تمثل الجيل الثالث، وسنتعرض لجانب من هذه الحقوق.

المطلب الأول
حقوق الإنسان المدنية والسياسية( الجيل الاول)
تعرف الحرية بانها تأكيد كيان الفرد تجاه سلطة الجماعة وهو ما يعني، الاعتراف للفرد بالإرادة الذاتية، مما يعني الاتجاه إلى تدعيم هذه الإرادة وتقويمها بما يحقق للإنسان سيطرته على مصيره، وقد فهمت الحرية انطلاقاً من المعنى المتقدم خلال القرن التاسع عشر باعتبارها وسيلة لمقاومة الدولة وتقييد سلطاتها لصالح الأفراد فهي ضمانة لاستقلال الفرد وتحقيق ذاته وحفظ كرامته الإنسانية وعلى هذا الأساس سارت الحريات الفردية في اتجاهين:

الاتجاه الأول
يتمثل في تحديد مجال خاص للنشاط الفردي حيث يعتبر هذا المجال منطقة مغلقة في مواجهة الحكومة، ومن ثم فان المجموعة الأولى من الحريات الفردية سيقصد بها الحريات المتعلقة بالنشاط الفردي التي لا تستطيع الدولة ان تباشر أي نشاط فيها.

الاتجاه الثاني
تمثل بالاعتراف بمجال محدد للنشاط الحكومي، مع الاعتراف للأفراد بحقيقة أساسية هي انهم يملكون وسائل متعددة لمنع الدولة من ان تبسط نفوذها وسيطرتها، وبالشكل الذي يمنع تهديدها للنشاط الفردي وهذه تمثل المجموعة الثانية من الحريات الفردية، وهي الحريات المقررة للأفراد باعتبارها وسائل لمعارضة الدولة داخل الحيز المسموح لها بالتدخل فيه، ومن ثم فان هناك مجموعة من الحريات الفردية حيث تشتمل المجموعة الأولى المشار إليها آنفاً باعتبارها تمثل الحريات أو الحقوق المدنية(16) وسنتعرض لبعض منها وهي:

الفرع الأول
الحقوق المدنية (الفردية)

أولاً: الحق في الحياة والحرية وفي أمان الفرد على نفسه
يعد الحق في الحياة أحد الحقوق الطبيعية التي يجب ان تضمن لكل إنسان، وحماية هذا الحق لا يقتصر على عدم المساس به من قبل الدولة وسلطاتها العامة، بل هو حق يتطلب ضمانهُ التزام الدولة بمنع حدوث الاعتداء عليه من جانب الأفراد، والهيئات، والجماعات، ووضع القوانين التي تحقق هذه الحماية بصورة فعلية، وتوقع الجزاء على من يعتدي على هذا الحق بأي شكل من الأشكال.(17)
ونصت أكثر من اتفاقية دولية على هذا الحق بشكل صريح، أما دساتير الدول العربية فلا يوجد دستور عربي واحد يضمن الحق في الحياة بأي شكل كان،(18) فيما عدا قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (م12)، فقد نصت المادة السادسة من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية على تفاصيل تتضمن مجموعة من الضمانات لهذا الحق إذ تشير هذه المادة إلى ((1- لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي)
أما الفقرات الأخرى من المادة ذاتها فقد جاءت بتنظيم قانوني لمسالة عقوبة الإعدام باعتبارها من أكثر المسائل التي يمكن ان تتعرض للحق في الحياة إذ تنص على: (2- يجوز ايقاع حكم الموت، في الأقطار التي لم تلغَ فيها عقوبة الإعدام بالنسبة لأكثر الجرائم خطورة فقط طبقاً للقانون المعمول به في وقت ارتكاب الجريمة وليس خلافاً لنصوص العهد الحالي والاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها، ولا يجوز تنفيذ هذه العقوبة إلا بعد صدور حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة. 3- ليس في هذه المادة، إذا كان حرمان الحياة يشكل جريمة إبادة جنس ما يخول أية دولة طرف في العهد الحالي التحلل بأي حال من أي التزام تفرضه نصوص الاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها. 4- لكل محكوم عليه بالموت الحق في طلب العفو أو تخفيض الحكم ويجوز منح العفو أو تخفيض حكم الموت في كافة الأحوال. 5- لا يجوز فرض حكم الموت بالنسبة للجرائم التي يرتكبها أشخاص تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً كما لا يجوز تنفيذه بامرأة حامل. 6- ليس في هذه المادة ما يمكن لأية دولة من الدول الأطراف في العهد الحالي الاستناد إليه من اجل تأجيل إلغاء عقوبة الإعدام أو الحيلولة دون ذلك الإلغاء).
وفي 15 كانون الأول 1989 أعلن البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهدف إلغاء عقوبة الإعدام وفيه تم التأكيد على ان إلغاء هذه العقوبة يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان وان التدابير الرامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام تمثل تقدماً في المتمتع بالحق في الحياة، وهذا البروتوكول يضع التزاماً على الدول الأطراف في مادته 1 / 2 بوجوب إلغاء الدولة لعقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.(19)
ان خلاصة موقف القانون الدولي يتجه إلى إلغاء هذه العقوبة باعتبارها تتنافى مع الحق في الحياة، إلا ان هذا الاتجاه يبقى غير معبر عن السياسات العقابية في بلدان العالم المختلفة والتي تنسجم على وجه العموم مع المجتمعات الوطنية لكل دولة، فضلا عن ان العديد من البلدان التي تعتمد هذه العقوبة توجد فيها ضمانات متعددة، فإيقاع الإعدام لا يتم بإجراءات سهلة ومن هذه الضمانات انه لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا على أكثر الجرائم خطورة، وهي تثبت الحق في الاستفادة من العقوبات الأخف في ظل ظروف معينة، والحق الإلزامي بالاستئناف مع إتاحة الوقت الكافي لإعداد الدفاع والتماس العفو، ووضعت استثناءات من عقوبة الإعدام بالنسبة للأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة والحوامل، والأمهات الحديثات الإنجاب، والأشخاص المخبولين أو الذين أصبحوا كذلك أو المتخلفون عقلياً، ونص على مقتضيات خاصة بالإثبات فيما يتعلق بالكشف عن الجرائم وأهلية المحاكم بغية ضمان محاكمة عادلة وعدم ترك أي مجال لتأويل الحقائق على غير ما هي عليه، ويحق للمتهمين الحصول على مساعدة قانونية خاصة تفوق ما يقدم في حالات الجرائم التي لا يعاقب عليها بالإعدام كما يحق للمتهمين الإطلاع على كامل التهم الموجهة إليهم والأدلة المستخدمة ضدهم وهناك التزام إنساني بأن يضمن عند تنفيذ هذه العقوبة ان تكون معاناة السجناء عند الحد الأدنى.(20)
من جانب آخر يشار إلى ان لجنة حقوق الإنسان التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قراراً في 3 نيسان 1997 طالب جميع الدول التي لم تُلغِ بعد عقوبة الإعدام بأن تدرس وقف تنفيذ الإعدام بغية إلغاء هذه العقوبة إلغاءً كاملاً وطالب القرار دول العالم بالانضمام إلى البروتوكول الاختياري الثاني الملحق باتفاقية الحقوق المدنية والسياسية كما ان نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتمده مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين في تموز 1998 لا ينص على فرض عقوبة الإعدام على أي من الجرائم الخطيرة الواردة في النظام الأساسي.(21)

موقف الدساتير العربية من عقوبة الإعدام
تخلو الدساتير العربية من أية تدابير تقيد من عقوبة الإعدام، كحظر إعدام من يقل سنه عن 18 عاماً أو حظر إعدام النساء الحوامل، وهذا ما قد يوحي بأن واضعي هذه الدساتير قد اختاروا ان يتجنبوه تماماً في دساتيرهم على اعتبار ان من حق الدولة استخدام هذه العقوبة وهذا أمر مسلم به طبقاً لهذا الاتجاه الدستوري ومع ذلك فهناك بعض الدساتير تتضمن إشارة إلى هذا الموضوع بطريقتين: الأولى تتعلق بتحديد حق طلب العفو من عقوبة الإعدام أو إبدالها وهذا أمر تتركه الدساتير لرئيس الدولة، بينما تنفرد الوثيقة الخضراء الليبية في منح المحكوم عليه الحق بطلب التخفيف أو الفدية (م8) ولا يتحدث أي دستور عربي آخر عن مفهوم الفدية في هذا المجال.
أما الطريقة الثانية فهي تتمثل في منع بعض الدساتير الوسائل غير المشروعة للعقوبات كالدستور اليمني (م33) ولا يبدو واضحاً إذا ما كان ذلك يشمل عقوبة الإعدام، وتمنع الوثيقة الخضراء الإعدام بوسائل تعتبرها بشعة كالكرسي الكهربائي والغازات السامة وهذه أساليب متبعة في الولايات المتحدة الأمريكية.(22)
أخيراً من الضروري التذكير بان الشريعة الإسلامية تأخذ بعقوبة الإعدام لبعض الجرائم وهي توفر مجموعة من الضمانات الكافية في إطار فلسفة التشريع والعقاب في هذه الشريعة، قال تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
أما الحق في الحرية وأمان الفرد على نفسه فهذه حقوق تتضمن مجموعة كبيرة من الحريات والحقوق التي تنضوي تحتها فلا يجوز استرقاق إنسان لأي سبب كان، وهذا أمر نصت عليه الكثير من الاتفاقيات الدولية وتنصاع له القوانين الوطنية، فضلاً عن تحريم السخرة ويعد العمل من أعمال السخرة أو مفروضاً في مفهوم حقوق الإنسان، كل عمل يفرض على الإنسان، دون ان تكون لإرادته دخل في قبوله، ولا يهم بعد ذلك ان يكون المرء الذي يقوم بهذا العمل يؤديه نظير أجر أو بدون مقابل.
وهناك حق لكل فرد في الحرية والسلامة الشخصية، ومن ثم لا يجوز القبض عليه أو إيقافه بصورة تعسفية دون اتخاذ الإجراءات القانونية السليمة بهذا الخصوص كما لا يجوز ان يحرم أحد من حريته ومن الضروري ان يتم إبلاغ كل من يقبض عليه بأسباب ذلك عند حدوثه، فضلاً عن إبلاغه فوراً بأية تهمة توجه إليه ويجب ان يقدم الشخص المقبوض عليه أو الموقوف بتهمة جزائية فوراً أمام القاضي أو أي موظف آخر مخول قانوناً بممارسة صلاحيات قضائية ويكون من حق المقبوض عليه أو الموقوف ان يقدم إلى المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة أو يفرج عنه ومن حق كل إنسان يحرم من حريته بسبب إلقاء القبض عليه أو توقيفه أن يلجأ إلى الإجراءات القانونية المتاحة أمام المحاكم المختصة لكي تقرر مدى شرعية الإجراءات القانونية التي اتخذت بحقه وتم إيقافه استناداً إليها كما ان له الحق في طلب التعويض عن الأضرار التي أصابته في حالة كون إجراءات إيقافه غير قانونية.

وتحتوي الدساتير العربية فيما عدا دستور دولة قطر على تدابير تتعلق باعتقال الأشخاص واحتجازهم لكن عدداً محدوداً من هذه الدساتير تتوافق نصوصها مع المعايير التي تتطلبها الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، فهناك عدد من الدساتير العربية تتحدث عن الحرية الشخصية بشكل عام على أنها مضمونة، بينما تشير دساتير أخرى إليها باهتمام أكبر فهي (حق طبيعي وهي مصونة لا تمس)، كما جاء في المادة (41) من الدستور المصري أو هي (حق مقدس) في الدستور السوري ( م25/1) ولا تسمح دساتير الدول العربية بحرمان أحد من الحق في الحرية والأمان الشخصي إلا وفقاً للقانون، وهذا نص يقترب إلى حدٍ ما من الصياغات الدولية لهذا الحق حيث (لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً) (م 9/1) من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية)، وهنا يلاحظ غياب مفهوم التعسف في الدساتير العربية، وهو مفهوم كان القصد من وراء استخدامه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حماية الأفراد من الأفعال غير المشروعة وغير العادلة بشكل متساوٍ فلو اقتصر الأمر على مجرد حماية الإنسان من الأفعال غير المشروعة فقط لما أمكن الطعن في كل أعمال الظلم التي تقوم بها الإدارة الحكومية طالما كانت تلك الأعمال متفقة مع القوانين الوطنية الموضوعة.(23)
كذلك يلاحظ ان معالجة الدساتير العربية للحقوق الأساسية المتعلقة بكيفية الاعتقال والاحتجاز تعكس وجود اختلافات عديدة تفرض متابعة ودراسة القوانين المطبقة في كل بلد للتأكد مما إذا كانت هذه الحماية للحق في الأمان الشخصي حماية فعلية أم لا، ويمكن القول ان دساتير الدول العربية توفر نوعاً من الحماية النسبية لهذا الحق إلا ان ما يؤخذ على هذه الدساتير ان نصوصها عامة، فدساتير الجزائر والبحرين ومصر واليمن مع المادة 9/3 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية 1966 هي التي يمكن ان تنجح في توفير شيء من الحماية المفصلة والضمانات الموسعة لهذا الحق وبشكل خاص عندما تكون السلطة القضائية هي المرجع في هذا الأمر، فالدستور المصري يشترط وجود أمر اعتقال تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع يكون صادراً عن القاضي المختص أو النيابة العامة طبقاً للقانون (م 41) وتتطابق معها المادة (32/5) من الدستور اليمني مدعومة بالفقرة السابقة التي تضع شرطاً مضمونه عدم جواز تقييد حرية أحد إلا بحكم من محكمة مختصة، كما توفر مجموعة أخرى من الدساتير دوراً أخر للقضاء بحظر تمديد الاحتجاز إلا بأمر قضائي كالمادة (45) من دستور الجزائر والمادة (42/ج)من دستور اليمن.(24)

ثانيا: تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية
ويرتبط بالحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية والحقيقة أن تحريم هذه الممارسات قد جاء مباشرة بعد النص على الحق في الحياة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان مما يعكس أهمية النص على تحريم التعذيب وضروب المعاملة القاسية وغير الإنسانية، وتعرضت اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان إلى هذا الموضوع في الطعن الفردي الذي قدمه مواطن نمساوي حكم عليه بالسجن في بلده وكان يتعرض للنوم على أشياء صلبة مرة واحدة كل ثلاثة أشهر كعقوبة تكميلية حكمت بها المحكمة النمساوية وعلى الرغم من ان الطاعن لم يُشِرْ إلى هذه المسألة باعتبارها معاملة غير إنسانية فقد تعرضت الجنة لها تلقائياً وذكرت في قرارها الصادر عام 1959 (انها لاحظت جسامة العقوبة التي وقعت على الطاعن بمقتضى نظام النوم على أشياء صلبة، ولكن مع ذلك، فان هذه العقوبة التكميلية لا يتعرض لها الطاعن إلا مرة كل ثلاثة شهور، ولا تعد نظراً لذلك عقوبة غير إنسانية بالمعنى الوارد في الاتفاقية).(25)
وربما كانت اللجنة ستعد مثل هذه العقوبة غير إنسانية أو استثنائية لو كان الطاعن يتعرض لها يومياً أو خلال مدة طويلة من فترة السجن المحكوم بها عليه، ويؤيد هذا الفهم ان اللجنة لاحظت من تلقاء نفسها جسامة هذه العقوبة.(26)
ان النصوص الدستورية التي تؤكد على تحريم التعذيب والمعاملة غير الإنسانية أو القاسية أو الاستثنائية، توفر بشكل خاص منهجاً لحماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية ولا توجد في عدد من دساتير الدول العربية أية إشارة إلى التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة، فالدساتير العربية التي ترحم التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة لا تتجاوز نصف الدساتير العربية وعلى درجات متفاوتة من التحديد والوضوح حيث تستخدم مصطلحات مثل (الإيذاء والإساءة أو المعاملة بشكل يوصف بالتعذيب بدنياً أو جسمانياً أو معنوياً أو نفسياً أو استخدام مصطلح المعاملة الحاطة بالكرامة أو المهينة أو وضع عقوبات جزائية ضد من يرتكب التعذيب أو ينتهك الحظر المفروض عليه (م28/3 من الدستور السوري)، فضلاً عن اعتبار ما انتزع بسبب التعذيب لاغياً وباطلاً (م 19 و 42 من الدستور المصري)، أما المادة (45) من الدستور الجزائري فهي توفر ضمانة جيدة بهذا الخصوص إذ تنص على (لدى انتهاء مدة التوقيف للنظر، يجب ان يجرى فحص طبي على الموقوف ان طلب ذلك، على ان يعلم بهذه الإمكانية)، ومع ان الفحص الطبي من الوسائل الرادعة أو العملية لمنع اللجوء إلى التعذيب إلا ان ما يلاحظ عليه أنه يُلقي بعبء المطالبة بالفحص الطبي على عاتق الموقوف وعند انتهاء مدة التوقيف فقط وليس قبل ذلك ويقع الالتزام على الدولة بإعلامه ان له الحق في ذلك في نهاية المدة المذكورة.(27)
وتوجد نصوص دستورية أخرى في دول العالم تنص على تحريم التعذيب والمعاملات القاسية أو غير الإنسانية كالمادة (38) من دستور اليابان لعام 1967 التي نصت على (لا يجوز إكراه أحد على الإدلاء بأقوال تسيء إلى مصالحه، والاعتراف الذي يتم نتيجة للإكراه أو التعذيب أو التهديد أو القبض أو الحبس لفترة تتجاوز ما يقتضي به القانون لا يجوز ان ينهض دليلاً في الإثبات، كما لا يجوز إدانة أحد أو توقيع عقوبة جنائية عليه إذا كان اعترافه هو الدليل الوحيد القائم ضده).(28)
اما الدستور العراقي لعام 2005 فقد نص على تحريم جميع انواع التعذيب والمعاملة غير الانسانية فجاء في المادة (37) (( يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية ولا عبرة باي اعتراف انتزع بالاكراه او التهديد او التعذيب ، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي او المعنوي الذي اصابه وفقاً للقانون)).

يتبع >









قديم 2008-11-07, 10:27   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

ثالثاً: الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية
هو أيضاً من الحقوق المدنية حيث لا يجوز التدخل بصورة تعسفية أو بشكل غير قانوني بخصوصيات أحد أو بعائلته أو بيته أو مراسلاته كما أنه لا يجوز التدخل بشكل غير قانوني بشرفه وسمعته ويثبت لكل شخص الحق في الحماية القانونية ضد مثل هذا التدخل أو التعرض، ونصت على هذا الحق جميع الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان كاتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي أكدت مضموناً آخر يتعلق بهذا الحق عندما أشارت إلى عدم جواز ان تتدخل السلطات العامة في مباشرة هذا الحق، إلا إذا كان هذا التدخل ينص عليه القانون، ويعد اجراءاً ضرورياً، في مجتمع ديمقراطي للأمن الوطني أو الأمن العام، أو الرفاهية الاقتصادية للدولة، أو لحماية النظام أو لمنع الجرائم، أو لحماية الصحة والآداب، أو لحماية حقوق وحريات الغير، وهذا يعني ان حماية الحياة الخاصة والعائلية والمحافظة على حرمة المسكن وسرية المراسلات ليست مطلقة إذا ما توافرت الشروط المذكورة آنفاً أي إذا كان تدخل المشرع ضرورياً لمباشرة الحقوق المذكورة في مجتمع ديمقراطي وتوافر أسباب ضرورية تبرر التدخل، وعلى هذا الأساس فان الطعن الذي قدم إلى اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان من جانب بعض الأشخاص الذين أرادوا اعتبار مباشرة بعض العلاقات غير المقبولة من الناحية الاخلاقية معترفاً بها أو مقبولة بالاستناد إلى الحق في حماية الحياة الخاصة لكن اللجنة أكدت أن هذا الحق يجوز تقييده بما يفرضه المشرع من حماية للآداب والأخلاق العامة.(29)
والحقيقة ان اللجنة قد أكدت في قرار آخر ان عبارة الصحة والآداب المنصوص عليها في المادة 8/2 لا تشمل الحماية العامة لصحة أو آداب المجتمع بل يراد بها كذلك حماية صحة وآداب أفراد المجتمع ويقصد بها الرفاهية النفسية والمادية للفرد وحماية توازنه النفسي من كل خطر قد يهدده.(30)
وتعتبر عملية مراقبة مراسلات المسجونين من الاستثناءات الجائزة في نطاق النظام الاقليمي الأوربي لحقوق الإنسان بالاستناد إلى المادة 8/2 وينطبق المعنى ذاته على جواز الاحتفاظ بملفات تضم وثائق خاصة بالمسجونين وصوراً لهم وبصمات أصابعهم التي تتعلق بقضايا جنائية سابقة بهدف حماية المجتمعات الديمقراطية من الجريمة واستتباب الأمن العام.(31)
ومن الدساتير التي نصت على هذا الحق ما جاء في المادة 52 من دستور يوغسلافيا السابق الذي حدد شروط انتهاك حرمة المسكن وحرمة السر حيث نص على (للمساكن حرمة، ولا يجوز انتهاك حرمة المساكن وما في حكمها أو تفتيشها على الرغم من ارادة اصحابها إلا بموجب أمر بذلك وفقاً للقانون، ولاصحاب المساكن والمحال التي يجري تفتيشها ولأفراد أسرهم ووكلائهم حق حضور التفتيش ولا يجوز إجراء التفتيش إلا في حضور أثنين من الشهود).
أما الدستور المصري لعام 1971 فقد نصت المادة 44 منه على ان (للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقاً لأحكام القانون).
ونصت المادة 45 من الدستور ذاته على ان (لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التلفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو مراقبتها إلا بأمر قضائي ولمدة محددة وفقاً لأحكام القانون)، ونصت المادة 57 على ان (كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية والمدنية عنها بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الاعتداء).(32)
في حين اوردت المادة (17) من الدستور العراقي لعام 2005 ( اولاً : لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين او الاداب العامة . ثانياً : حرمة المساكن مصونة ، ولا يجوز دخولها او تفتيشها او التعرض لها إلا بقرار قضائي ، وفقاً للقانون).
ان الحق في الحياة الخاصة قد يتعارض مع حقوق وحريات أخرى منها مثلاً التنازع الذي يحدث بين الحق في حماية حرمة الحياة الخاصة وضرورة العيش بسلام وأمان مع الحق في التعبير والتجمع، ومن ثم فانه يجب ممارسة هذين الحقين بطريقة معتدلة ومنصفة لكي لا يطغى احدهما على الآخر.(33)

رابعاً: حرية التنقل (الغدو والرواح)
بموجب هذا الحق يصبح لكل انسان مقيم بصفة قانونية داخل اقليم دولة معينة الحق في حرية الانتقال من مكان إلى آخر، وفي اختيار مكان اقامته ضمن ذلك الاقليم وله الحرية في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده، ولا يجوز حرمان أحد من حق الدخول إلى بلاده، ويذكر هنا ان الحقوق المشار إليها أعلاه يمكن ان تخضع لقيود ينص عليها القانون إذا كانت هذه القيود القانونية ضرورية لحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق وحريات الآخرين، فعلى سبيل المثال منع قانون الاقامة العراقي الملغى لسنة 1961 الأجانب من الاقامة والمرور والتجول في بعض المناطق فمنع الاقامة في محافظات الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك عدا حدود بلدية مركز المحافظة وأخضع سفر الأجانب من العاصمة إلى المناطق المحرمة المذكورة آنفاً على استحصال موافقة وزارة الداخلية ومديرية الأمن العامة ومنع الأجانب من الاقامة في المؤسسات النفطية باستثناء العاملين فيها،( 34) اما اليوم فقد حرص الدستور العراقي لعام 2005 على ان يؤكد حرية المواطن العراقي في التنقل والسفر فنص في المادة (44) منه (اولاً : للعراقي حرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه . ثانياً : لا يجوز نفي العراقي ، او ابعاده او حرمانه من العودة الى الوطن ) .
كذالك فعل الدستور الاردني النافذ في الماده (9) منه ( 1- لايجوز ابعاد اردني عن ديار المملكه .
2- لايجوز ان يحظر على اردني الاقامه في جهه ما ولا ان يلزم بالاقامه في مكان معين الا في الاحوال المبينه في القانون).
ومن الجدير بالذكر انه يمكن ابعاد الأجنبي المقيم بصورة قانونية من اقليم الدولة إذا كان ذلك الأمر بالإبعاد صادراً طبقاً للقانون، ويستطيع ان يعترض على هذا القرار إلا إذا كانت هناك أسباب اضطرارية تتعلق بالأمن الوطني تتطلب غير ذلك، وهذا ما نصت عليه المادة 13 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية.

خامساً: الحقوق الأسرية
تعد العائلة الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية لكل مجتمع وبهذه الصفة يقع على كاهل الدولة والمجتمع حمايتها، وإذا كانت النصوص القانونية تقر بهذه الحقيقة فقد تم الاعتراف كذلك للرجال والنساء الذين هم في سن الزواج بتكوين الأسرة باعتبارها الخلية الاجتماعية الأساسية في جميع المجتمعات البشرية وهي تتشكل نتيجة الرضا الكامل لأطراف العلاقة ويقع على كاهل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتأمين المساواة في كافة الحقوق والمسؤوليات في المراحل المختلفة للزواج كما يجب حماية الأطفال باعتبارهم قاصرين ويقع الالتزام الأخير على الأسرة والدولة والمجتمع ويجب تسجيل كل طفل فور ولادته ويكون له اسم.
وترتبط بحقوق الأسرة حقوق وواجبات الأبوة وقد لاحظ المجلس الاقتصادي والاجتماعي سنة 1955 تبني بعض الأنظمة القانونية لمبدأ يحصر السلطة الأبوية أو هي تجعل هذه السلطة في المرتبة الأولى من حق الزوج ولا يوجد أي حق للزوجة في مباشرتها وان حضانة الأطفال في حالة انتهاء الزواج تكون للزوج بصرف النظر عن ظروف القضية، ورأى المجلس ان هذا الوضع لا يتفق مع مبدأ المساواة بين الزوجين وأوصى الدول الأعضاء باتخاذ تدابير تضمن تحقيق المساواة بين الأب والأم في مباشرة الحقوق والالتزامات تجاه الأفراد وهذه تشمل المساواة في مسائل حضانة الأطفال القصر وتعليمهم ورعايتهم وإدارة أموالهم سواء عند الزواج أو أثنائه أو بعد الانفصال.(35)
والحقيقة ان الحق في تكوين الأسرة أي حق الفرد في ان يتزوج ويؤسس عائلة دون تدخل الدولة وله بالنتيجة ان يربي أطفاله ويعلمهم بالشكل الذي يريده، كل هذه تعد من الحريات المانعة التي يراد بها تلك الحريات التي يكون مضمونها أو ميدانها خاصاً بالأفراد ومحفوظاً لهم بحيث يحرم على الحكام التدخل فيه.

سادساً: مبدأ المساواة المدنية
يطغى على نظريات الحريات مبدأ أساسي في كل ما تقرره من حقوق وحريات لمصلحة الأفراد وهو مبدأ المساواة ويعني ان جميع الأفراد متساوين في التمتع بالحريات الفردية دون أي تفرقة أو تمييز بسبب الجنس أو اللون أو الدين، ولذلك فان الديمقراطيات التقليدية ترى في اقرار هذا المبدأ ضمانة أساسية من ضمانات الحريات الفردية وهو يتضمن:
أ- المساواة أمام القانون.
ب- المساواة أمام القضاء.
ج- المساواة أمام الوظائف العامة.
د. المساواة أمام التكاليف العامة، كأداء الضرائب أو أداء الخدمة العسكرية.(36)
ومبدأ المساواة يعد واحداً من خصائص الديمقراطية الغربية ويراد به تحديداً المساواة أمام القانون وتسمى كذلك بالمساواة المدنية لكنها ليست مساواة فعلية أي مساواة من الناحية المادية والاقتصادية، والمقصود بمبدأ المساواة أمام القانون ان يكون القانون واحداً بالنسبة للجميع ودون تمييز بين طبقة وأخرى، ولا بين الأفراد بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة وليس المقصود بهذه المساواة المساواة الفعلية التي نادت بها المذاهب الاشتراكية لكن المقصود بالمساواة أمام القانون ان تلك الميزات الاجتماعية التي يحظى بها المواطنون يجب ان يحميها القانون دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى، وقد تقرر هذا المبدأ على الصعيد الرسمي لأول مرة في الديمقراطيات الغربية الحديثة في وثيقة إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789، حيث أشار الإعلان إلى ان الحقوق الفردية أو الحقوق الطبيعية للإنسان هي الحرية، المساواة، الملكية، حق الأمن، حق مقاومة الظلم.(37)
ولكن ما هو أساس المساواة المدنية بين الأفراد؟
يذهب أنصار نظرية العقد الاجتماعي إلى ان هذا العقد هو مصدر المساواة المدنية وهم يبرهنون على ذلك بان شروط العقد كانت واحدة بالنسبة لجميع المشتركين فيه، وهذا يعني انه أبرم بين أطراف متساوين وان الدولة التي تكونت نتيجة لإبرام هذا العقد يقع عليها التزام بمعاملة أطرافه معاملة متساوية باعتبارهم متساوون.
وقد استنتج بعض فقهاء القرن الثامن عشر ان المساواة المدنية بين الأفراد مصدرها أحكام القانون الطبيعي وهم يقولون ان الناس حين كانوا يعيشون في الحالة الطبيعية الأولى كانوا متساوين لا يفرق بينهم فارق ولا يميز بينهم مميز، وقد أكدوا هذا المساواة على الرغم من اعترافهم بان الافراد غير متساوين من حيث كفاءتهم الجسمية والمعنوية، وأنصار مدرسة القانون الطبيعي يؤيدون فكرة المساواة بين الأفراد على اعتبار انها تقوم على أساسين: الأول ان كل فرد يشترك مع غيره من الأفراد في الطبيعة الانسانية، والثاني ان كل فرد يجب ان يحترم احكام القانون الطبيعي إذا أراد ان يحترم غيره من الأفراد أحكام هذا القانون في علاقتهم مع هذا الشخص، وهذا الالتزام المتبادل بين الأفراد سيقود إلى تحقيق المساواة بينهم(38)

ويترتب على المفهوم المتقدم ان المساواة بين الأفراد تكون حقيقية كما هي واقعة فعلية من غير الممكن انكارها، وهذا لا يعني تحقيق المساواة المادية أو المساواة في الثروة تلك المساواة التي تنادي بها الماركسية التي تستهدف ضمان ان يكون للأفراد قدراً متساوياً من الثروة، والدراسة التاريخية للوقائع تظهر ان الديمقراطية التقليدية لم تكن تستهدف تحقيق المساواة المادية بين الأفراد فالنضال في عهد الثورة الفرنسية كان يستهدف الوصول الى الحرية السياسية لإشراك الشعب في إدارة شؤون البلاد وبشكل متساوي بين الأفراد ولم تخطر فكرة المساواة المادية ببال منظري تلك الفترة، والحقيقة المهمة ان المساواة المدنية لا تتحقق إلا إذا تم الاعتراف بتكافؤ الفرص بالنسبة للمزايا الاجتماعية التي تقوم الدولة بتقديمها.
يتضمن مبدأ المساواة المدنية كما أشرنا آنفاً مساواة الأفراد أمام القانون وهو يتطلب من الشارع ان يسن تشريعاته دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى ففي مجال القانون الجنائي ان ينص على توقيع العقوبة ذاتها بالنسبة لنفس الجريمة على الجميع ولا يعد وجود حدٍ أدنى وحدٍ أعلى للعقوبة على ذات الجريمة وبالشكل الذي يقود إلى تطبيق أو فرض الحد الأدنى على حالة والحد الأعلى على حالة أخرى، إخلالاً بمبدأ المساواة أمام القانون أو المساواة في العقاب.(39)
المبدأ الثاني الذي تشتمل عليه المساواة المدنية هو مبدأ المساواة أمام القضاء بمختلف جهاته ودرجاته، والمقصود به: ألا يكون هناك تمييز لأشخاص على غيرهم من حيث القضاة أو المحاكم التي تفصل في جريمة ولا من حيث العقوبات القانونية التي تقرر على مرتكبيها وعلى أساس هذا المبدأ (المساواة أمام القضاء) قضت الثورة الفرنسية على المحاكم الخاصة بالنبلاء وعلى المحاكم الخاصة الأخرى أو الاستثنائية التي تحاكم مرتكبي بعض الجرائم الخاصة، كما قضت على التفريق في العقوبة الذي كانت هذه المحاكم تتبعه، وفي طرق تنفيذ العقوبة حيث كان الأشراف يعدمون بضرب العنق (المقصلة) في حين كان يتم اعدام غير النبلاء شنقاً.(40)
أما المساواة أمام الوظائف العامة فهي تلزم مؤسسات الدولة بعدم التمييز بين المواطنين عند تقديمها للخدمات أو عند استيفائها للمقابل عنها ويدخل ضمن هذا الأمر عدم جواز اقامة قضاء خاص لبعض الأفراد تمييزاً لهم عن الآخرين ولا يجوز اقامة أي تمييز فيما بين المواطنين بخصوص قبولهم في الوظائف والأعمال العامة طالما كانوا متساوين في الشروط التي يتطلبها القانون، ومع ذلك يمكن قبول استثناءات محدودة جداً وهذه الاستثناءات التي ترد على المبدأ المذكور محددة للغاية، ففي فرنسا مثلاً قرر قانون صدر عام 1886 منع أبناء العائلات التي سبق لها تولي عرش فرنسا من تقلد الوظائف العامة أو النيابية.(41)

أما المساواة في التكاليف فهي تشكل جانباً من المساواة أمام المصالح والمؤسسات العامة حيث لا يجوز ان تفرض الضرائب مثلاً على فئة اجتماعية دون أخرى بمعنى ان الضرائب يجب ان لا تثقل كاهل طبقة من الأفراد أكثر من طبقة أخرى(42) فمن التجاوزات غير المشروعة على هذا المبدأ الاعفاء الكلي من الضرائب قبل ثورة 1789 الفرنسية بالنسبة للأشراف ورجال الدين(43) وكذلك الحال فيما يتعلق بأداء الخدمة العسكرية إلا انه يلاحظ ان من المقبول فرض بعض الشروط للانتفاع ببعض المؤسسات العامة ذلك ان من المصالح العمومية ما لا يمكن للأفراد ان يطالبوا بخدماتها إلا إذا توافرت فيها شروط معينة أو قاموا بإجراءات خاصة تحددها القوانين والتعليمات وعلى ذلك لا يمكن لجميع المواطنين دخول الجامعة إلا إذا كانوا حاصلين على شهادة الدراسة الإعدادية ولا يمكن لجميع الأفراد ان ينتفعوا بمياه الشرب أو الكهرباء إلا إذا دفعوا مقابل هذه الخدمات.(44)
ولا خلاف في الوقت الراهن على ان المساواة أمام مؤسسات الدولة أو المساواة المدنية عموماً أصبحت واجبة الاحترام ولذا فان كل قانون يخرج على مقتضياتها سيكون مخالفاً للدستور وإذا خالفت دائرة من دوائر الدولة مبدأ المساواة فمن حق الفرد الذي أصابه الضرر ان يرفع دعوى أمام القضاء طالباً التعويض من الدائرة المخالفة، فإذا امتنعت مؤسسات الاتصالات عن ايصال خدمة الهاتف إلى أحد المواطنين فانه يجوز له ان يرفع أمره إلى القضاء للحكم له بالتعويض المناسب إلا انه لن يكون هناك مجال للتعويض إذا كان الرفض مبنياً على خطأ طالب الاشتراك نفسه أو كان مبنياً على مسوغ شرعي كعدم توفر الخطوط الكافية مثلاً،(45) وقد لا تمتنع المؤسسة الحكومية عن اداء الخدمة وإنما تميز فقط في المعاملة بين اشخاص كانت تجب المساواة فيما بينهم فان من حق المتضرر المطالبة بالتعويض أو الغاء الأمر الذي بني على تميز في المعاملة.(46)
وتتضمن الدساتير العربية جميعها مبدأ المساواة أمام القانون الذي يقضي بان كل المواطنين سواسية أمام القانون فقد ورد في المادة 40 من الدستور المصري ان (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة).
كما نص الدستور العراقي في المادة (14) منه : ( العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي).
وفي الاتجاه ذاته جاء الدستور الاردني في الماده (6) منه لينص :
( 1- الاردنيون امام القانون سواء لاتمييز بينهم في الحقوق والواجبات وان اختلفوا في العرق او اللغه او الدين .
2- تكفل الدوله العمل والتعليم ضمن حدود امكانياتها وتكفل الطمأنينه وتكافؤ الفرص لجميع الاردنيين ) .

والحقيقة ان معظم الدساتير العربية اتفقت في نصوصها التي أوردتها بهذا الشأن مع اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية مع فروقات بسيطة في التعابير المستخدمة ويستثنى من ذلك ما تذكره هذه الاتفاقية من منع التميز على أساس الرأي السياسي وغير السياسي وأحوال الملكية والميلاد وغيرها وتستبدل هذه في بعض الدساتير العربية بالكلام عن حظر التمييز على أساس الحالة الاجتماعية أو محل الاقامة أو المهنة بينما يورد الدستور اللبناني نصاًَ مبسطاً إذ يذكر فيه (كل اللبنانيين سواء لدى القانون ... دونما فرق بينهم)(47)
ولا يشكل النص في دساتير العالم على المساواة وعدم التمييز مجرد مبدأ توجيهي أو مجرد توصية، لكنه نص أساسي ودقيق ومهم للغاية وهو يفرض على الأجهزة القضائية واجب اكتشاف ان السلطات التشريعية والإدارية قد أخذت بنظر الاعتبار هذا المبدأ في تعاملها مع المواطنين وعند انتهاك هذا المبدأ فانه يجب على القضاء ان يأمر هذه الجهات بعدم تطبيق القوانين والقرارات والتعليمات الأخرى غير المنسجمة مع هذا القانون.(48)

يتبع >









قديم 2008-11-07, 10:28   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

الفرع الثاني
الحقوق السياسية
يقع تحت هذا العنوان مجموعة من الحقوق والحريات التي توصف بانها ذات مضمون سياسي بشكل أو بآخر، منها حق المواطنة (الجنسية) وحق المشاركة في الشؤون العامة وحق الاجتماع وتشكيل الجمعيات والعضوية فيها والحق في حرية الرأي والعقيدة والدين وسنتعرض لهذه الحقوق بالشكل الآتي:

أولاً: حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات
يتكون هذا الحق من قدرة الفرد للاجتماع بغيره بهدف عرض آرائه، ويذهب أحد الكتاب إلى عدم جواز الخلط بين حق الاجتماع وحق تشكيل الجمعيات، فالأول هو اجتماع مجموعة من الأشخاص بشكل مؤقت وفي مكان معين بهدف عرض بعض الأفكار ومناقشتها، أما الحق الثاني فهو يتكون من اتفاق مجموعة أشخاص على تكريس نشاطهم بهدف الوصول إلى تحقيق غرض معين، والاجتماع في هذه الحالة له صفة الدوام ولا يستطيع المشرع المساس بهذا الحق أو جوهره إلا انه يستطيع ان يتخذ الاجراءات التي تضمن عدم مساس هذه الاجتماعات أو التجمعات بحرية الآخرين أو الأمن العام، ومن ثم فان من الممكن تنظيم الحق في الاجتماع وذلك باخطار الإدارة قبل انعقاد الاجتماع أو التجمع وقد ضمنت الدساتير هذا الحق إذ نصت المادة (11) من الإعلان حقوق الإنسان الفرنسي والصادر سنة 1789 ضمناً على احترام حق الأفراد في الاجتماع وكذلك الحال في دستور 1791 ودستور 1848 الفرنسيين.(49)
أما الحق في تشكيل الجمعيات فلا نجد إشارة له في إعلانات الحقوق وكذلك الحال مع الدساتير التي صدرت في فترة الثورة الفرنسية حتى ان واضعي إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789 كانوا يرون ان الحق في الاشتراك في تكوين الجمعيات يتضمن اعتداء على الحرية الفردية لذلك فقد أصدروا قانوناً سنة 1791 يقضي بمنع الجمعيات المهنية إلا ان الوضع لم يستمر على هذا النحو فهناك أول إشارة للحق في تكوين الجمعيات وردت في المادة (8) من دستور 1848.(50)
ان اهمية الحق في تكوين الجمعيات تبرز من خلال الإقرار بوجود وسيلة واحدة للحرية تتمثل بحرية تكوين الجمعيات، فالفرد يكون حراً مادام قوياً وهو كذلك بالقدر الذي لا يكون فيه منفرداً.
في انكلترا يعد النظر إلى حرية الاجتماع طبقاً للقانون الانكليزي مثالاً للصورة التي تنظر فيها العقلية الانكليزية إلى حرية الفرد، فالفقيه الانكليزي دايسي يقول ان القانون الانكليزي، على العكس من القانون الفرنسي والبلجيكي لا يعرف حقاً متميزاً قائماً بذاته يرعى حق الاجتماع لكن هذا الحق عبارة عن امتداد للحرية الشخصية ولحرية التعبير حيث يستطيع مجموعة من الأِشخاص التجمع للتعبير عن آرائهم ولكن هذا الحق في الاجتماع للتعبير عن الرأي لا يمكن ان يمارس بطريقة مخالفة للقانون، إذ ان عقد الاجتماع بطريقة تنطوي على جريمة أو تعكير للأمن بشكل أو بآخر ففي هذه الحالة سيكون الاجتماع غير مشروع وهنا يجوز للسلطات العامة فض الاجتماع وتحميل المجتمعين المسؤولية عنه، إلا انه يلاحظ ان القضاء الانكليزي ومنذ سنة 1882 حكم بعدم جواز ان يتحول اجتماع مشروع إلى اجتماع غير مشروع لمجرد أثارته لمعارضة عنيفة ومخالفة للقانون وإفضائه بذلك عن طريق غير مباشر إلى اضطراب الأمن.(51)
أما القيود التي يوردها القانون الانكليزي على حرية الاجتماع فهي:
1- إذا قام في سلوك القائمين بالاجتماع ما يجعله غير مشروع وأثار هذا السلوك غير المشروع مناوئي الاجتماع مما أدى إلى التصادم والاشتباك فانه يجوز اعتبار المشتركين في الاجتماع مسؤولين عن نتائج الاصطدام، فمثلاً إذا عقد أحد دعاة البروتستانتية اجتماعاً في مكان عام يكثر فيه الكاثوليك واستعمل في خطبه ألفاظاً نابية وسباً للكاثوليك مما دفع بعضاً منهم إلى الاعتداء بالقوة على المجتمعين فان هذا الاجتماع يعد غير مشروع.
2- إذا كان هناك اجتماع مشروع من حيث الهدف وسلوك المشتركين فيه إلا انه أثار اضطرابات من غير الممكن إعادة النظام والأمن إلى المجتمع دون فض هذا الاجتماع فان الإدارة يجوز ان تأمر المجتمعين بالتفرق أما إذا استمر الاجتماع رغم ذلك فسيعد اجتماعاً غير مشروع.
3- هناك قوانين عديدة تنظم عقد الاجتماعات في انكلترا منها قانون الطريق العام الذي يعاقب على عقد الاجتماع في الطريق العام دون الحصول على اذن من الإدارة، فادعاء المجتمعين بحقهم في الاجتماع بأي عدد ولأي مدة يريدون الاجتماع فيها على الطريق العام فيه إضرار بحقوق الآخرين، ولا يمكن ان ينسجم مع حق المرور إذا ترك الأمر على اطلاقه دون تنظيم.(52)
أما الاجتماعات المتحركة (المظاهرات) فالقضاء الإنكليزي يقدر الظروف والملابسات التي تحيط بكل اجتماع وفي عام 1936 صدر قانون المحافظة على النظام العام الذي خول سلطة محددة للإدارة على المواكب التي يخشى من تأثيرها السلبي على النظام والأمن العام، كما يعاقب القانون الإنكليزي على جريمة التجمهر (Riot) والمقصود به اجتماع ثلاثة أشخاص أو أكثر في طريق أو مكان عام بهدف تحقيق غرض مشترك بالقوة ويتسم سلوكهم بالعنف، ففي حالة كون هدف المتجمهر ارتكاب جناية أعتبر التجمهر جناية،(53) أما حول تكوين الجمعيات فالقانون الإنكليزي كقاعدة عامة يعطي حرية كاملة في تكوين الجمعيات طالما كان الهدف الذي تسعى إليه أو محلها مشروعاً، والحقيقة ان الجماعات المهنية كانت غير مشروعة إلى منتصف القرن التاسع عشر ثم صدر تشريع عام 1871 اعترف بشرعية تلك الجماعات.(54)
المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى حرية الاجتماع باعتباره شكلاً من أشكال حرية الرأي والتعبير عنه، وقد حكمت عام 1939 بعدم جواز اخضاع أي اجتماع في النية عقده ويكون عاماً لشرط الحصول على أذن سابق من إحدى الجهات الإدارية باعتبار ان حرية الاجتماع هي واحدة من الخصائص والميزات التي يحظى بها المواطن في أمريكا وهي مظهر مهم من مظاهر الحرية التي لا يمكن التعرض لها إلا بالطرق القانونية اللائقة، وبخصوص تسيير المواكب في الطرقات قضت المحكمة العليا عام 1941 بضرورة الحصول على إجازة مسبقة، والحقيقة ان منح هذه الإجازة كان هو الأصل وهي لا تمنح إلا إذا كانت هناك مجموعة من الاعتبارات المتعلقة بحسن سير المرور أو تفادي الاصطدام بين المظاهرات المتعارضة، فضلاً عن التقليل من أخطار الاضطرابات.(55)
وتضمن جميع دساتير الدول العربية حرية تكوين الجمعيات عدا دستور قطر والقانون الأساسي السعودي إذ لا توجد أية إشارة لهذا الحق ويختلف تعريف تكوين الجمعيات أو مفهومه من دولة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال يلاحظ في بعض هذه الدساتير إشارة عامة إلى حق تشكيل الجمعيات بينما تشير دساتير أخرى فضلاً عما تقدم وبإشارة خاصة إلى حق تكوين الأحزاب السياسية أو الجمعيات ذات الطابع السياسي كجزء من ضمان حرية تكوين الجمعيات وهناك أحد عشر دستوراً عربياً تضمن الحق في تكوين الجمعيات أو النقابات المهنية أو العمالية.
وعند استعراض الدساتير العربية يلاحظ ميلها إلى التقييد من هذا الحق، فيلاحظ مثلاً ان المادة 16 من الدستور الأردني تنص على (للاردنيين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية على ان تكون غايتها مشروعة ووسائلها سليمة وذات نظم لا تخالف أحكام دستورها)، أما المادة 26 من دستور البحرين فقد ضمنت حرية تكوين الجمعيات بشرط ان تكون قائمة على أسس وطنية ولأهداف مشروعة، ويلاحظ كذلك عدم إجازة أي قانون أو دستور إقامة تجمعات تقود إلى تهديد سلامة وأمن البلد والحقيقة ان استخدام عبارات مثل (أهداف شرعية) أو (أسس وطنية) هي عبارات تميل وتفسر غالباً لمصلحة السلطة ضد حقوق وحريات الأفراد.
وقد اكد الدستور العراقي لعام 2005 على حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب السياسية فقد تضمنت المادة (39) : ( اولاً :- حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب السياسية ، او الانضمام اليها مكفولة و ينظم ذلك بقانون.

ثانياً :- لا يجوز اجبار احد على الانضمام الى أي حزب او جمعية او جهة سياسية او اجارة على الاستمرار في العضوية فيها ).
كما اورد الدستور الاردني في الماده (16) منه :
( 1- للاردنيين حق الاجتماع ضمن حدود القانون .
2 - للاردنيين الحق في تاليف الجمعيات والاحزاب السياسيه غلى ان تكون غاياتها مشروعه
ووسائلها سلميه وذات نظم لاتخالف القانون .
3 -ينظم القانون طريقة تاليف الجمعيلت والاحزاب السياسيه ومراقبة مواردها ).

واذا كان هذا الدستور وكثير من الدساتير العربية الاخرى تكفل حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب ، فان القوانين التي تنظم هذه الحرية تحضر على الافراد عموماً تكوين هذه الجمعيات ما لم تستحصل على اجازة او اذن مسبق من السلطة التنفيذية ، ولا يتم الحصول على هذا الاذن مالم يتم التأكد من ولاء اعضاء هذه الجمعية للنظام السياسي القائم .
لذلك فان اعمال هذه الحرية يتطلب العدول عن موضوع الاجازة او الاذن الى الاخبار او الاشعار ومقتضاه ان يعمل اعضاء الجمعية على اخبار السلطة التنفيذية بتأسيس جمعيتهم دون ان يتوقف تأسيس الجمعية على اذن هذه السلطة .
والخلاصة ان دساتير الدول العربية تضمن هذا الحق المتمثل بتكوين الجمعيات أو الروابط الأخرى بمفهومها الاجتماعي أو المهني إلا انه يلاحظ زيادة القيود التي تفرض على تشكيل الجمعيات أو الروابط كلما اقتربت هذه التشكيلات من العمل السياسي، فضلاً عن استخدام صياغات وعبارات عامة يسهل تفسيرها لصالح السلطة.(56)

ثانيا: حرية الرأي والتعبير
هي واحدة من الحقوق المعنوية ذات الطابع السياسي ولقد أكدت الدساتير جميعها تقريباً على تمتع الأفراد بها، فنجد المادة العاشرة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر سنة 1789 تنص على عدم جواز ان يضايق شخص بسبب آرائه، وقد قامت الجمعية الوطنية الفرنسية بتكريس هذا الحق في المادة 7 من دستور 1793 بالنص على (لا يجوز منع الأفراد من اظهار آرائهم ومعتقداتهم)، كما ينص دستور السنة الثالثة على عدم جواز منع أي شخص من الكلام أو الكتابة أو طبع أو نشر آرائه كما لا يجوز اخضاع المحررات قبل نشرها لأية رقابة ولا يمكن مسائلة أي شخص عما عبر عنه كتابة وقام بنشره إلا في الأحوال التي يحددها القانون.(57)
والحقيقة ان حرية الرأي تشمل مجموعة من الحقوق كحرية الاعتقاد بدين معين وحرية الاجتماع وحرية التعليم والصحافة، وسنتعرض لهذه الحقوق بعد ان تعرضنا سابقاً للحق في حرية الاجتماع.
فالحق في حرية الرأي يراد به (ان كل انسان يستطيع التعبير عن آرائه وأفكاره للناس سواء كان بشخصه أو برسالة أو بوسائل النشر المختلفة أو عن طريق الروايات أو الأفلام وغيرها من وسائل النشر أو الاتصال).(58)
ويبرز جيفرسون أهمية حرية الرأي والتعبير حيث كتب عام 1789 يقول (هناك حقوق من العبث التخلي عنها إلى الحكومة وان كانت الحكومات قد استباحت لنفسها الجور عليها على الدوام، هذه الحقوق هي الحق في حرية الفكر، وحرية القول والكتابة، والحق في تجارة حرة، والحق في الحرية الشخصية)، فالدولة المستبدة التي تمنع حرية الأفراد في التعبير والتصرف من شأنها كما كتب جيفرسون إلى الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1782 (ان تدمر نعمة الحياة) وهي تجعل من الأفراد يشعرون بأنه (كان من الأفضل لهم إلا يولدوا).(59)
وهكذا وضعت الفلسفة السياسية لجيفرسون قناعتها إلى حدٍ كبير بطبيعة الإنسان التي كان يرى انها مبنية على ما هو خير وحسن، ومن ثم فانه إذا كان الشعب يحكم نفسه بنفسه ويمكن ان تخطيء أثناء المسيرة فان امكانية اصلاح الخطأ ستكون متوافرة طالما كان من المتاح لهذا الشعب وأجهزة الدولة ان تعرف الحقيقة عن طريق حرية الرأي، أما اولئك الذين لا يحكمون أنفسهم ويعيشون في دول لا تحترم حرية الرأي سيبقون عرضة للوقوع في الخطأ دون وجود فرصة للاصلاح لعدم احترام حرية الرأي.(60)
وقد تأكد احترام حرية الرأي والتعبير في العديد من الأحكام التي صدرت عن المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة ففي حكم صدر عام 1937 رفضت المحكمة إدانة شخص بسبب حضوره ومشاركته في اجتماع عقد من قبل حزب يدعو إلى قلب الحكومة واستعمال العنف إذ اكدت المحكمة ان من حق الحكومة حماية نفسها ضد استعمال حرية الرأي والتعبير والاجتماع بطريقة سيئة إلا انه في الوقت ذاته من حق الأفراد ألا يمنعون من ممارسة الحريات التي يكفلها القانون لهم بصورة اعتيادية، وفي العام ذاته اصدرت المحكمة حكماً آخر يظهر مدى الحماية التي توفرها المحكمة للأفراد في مواجهة الإدارة فأكدت عدم جواز معاقبة شخص لمجرد حيازته لعدد من النشرات الهدامة طالما لم يثبت بمقتضى القانون قيامه بتوزيعها أو شيء مثلها من قبل، وفي حكم صادر عام 1948 ذهبت المحكمة إلى ان القاء محاضرة تدعو إلى تعدد الزوجات لا يعد دعوة أو تحريضاً خالقاً لخطر وشيك وواضح لكي يتحرك القانون ضده، ولم تسمح المحكمة في حكم آخر بالقاء القبض على خطيب إلا إذا كانت خطبته أو أقواله تدعو إلى العنف وكان حصول هذا العنف وشيك الوقوع.(61)
على مستوى موقف الدساتير العربية من حرية الرأي والتعبير يلاحظ وجود حوالي أربعة دساتير عربية هي التي تقدم ضمانات لإطلاق حرية الفكر أو الرأي دون ان توجد قيود واضحة في نصوصها، وهي دساتير الجزائر (م36) والبحرين (م23) ومصر (م47) وموريتانيا، أما بقية دساتير الدول العربية فهي تخضعه لشروط يتم إيرادها طبقاً للقانون مع عدم وجود تفصيل أكبر لهذا التنظيم أو معايير واضحة وما تقدم أعلاه يمثل الحق في اعتناق الرأي.
أما بخصوص التعبير فالدساتير العربية تضمن الحق في التعبير عن الرأي بصياغة متواضعة وعامة وبعيدة عن التفصيل وتخضعه للتنظيم بموجب القانون، وهي تستخدم صيغ متنوعة فيلاحظ ان هذا الحق يشار إليه باعتباره مضموناً في القانون (وليس في نص دستوري) أو تستخدم عبارة (في حدود القانون) أو (بما يتفق مع القانون) أو (بالشروط التي يحددها القانون) مما يؤدي إلى مصادرة هذا الحق باستخدام حجج مثل حماية النظام العام أو حماية الآداب العامة مما يؤدي إلى فرض وصاية النظام السياسي على هذا الحق أو الحقوق الأخرى.
أما الوثيقة الخضراء الليبية فتؤكد مادتها الخامسة على (سيادة كل فرد في المؤتمر الشعبي الأساسي، وتضمن حقه في التعبير عن رأيه علناً وفي الهواء الطلق .....).(62)
أما الدستور التونسي الصادر عام 1959 فهو ينص في الفصل الثامن منه على ان (حرية الفكر والتعبير، والصحافة، والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطه القانون) ويطلب الفصل الثامن كذلك من الأحزاب السياسية احترام حقوق الإنسان وبانه (لا يجوز لها إرساء مبادئها، أو أهدافها، أو أنشطتها أو برامجها على اعتبارات الدين، أو اللغة، أو العرق، أو الجنس أو الجهة)(63).
بينما اورد الدستور العراقي الحالي في المادة (38) منه ( تكفل الدولة ، بما لا يخل بالنظام العام والآداب: اولاً :- حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل . ثانياً :- حرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر. ثانياً :- حرية الاجتماع والتظاهر السلمي ، وتنظم بقانون) .
في حين جاء في الماده (15) من الدستور الاردني :
( 1- تكفل الدوله حرية الرأي , ولكل اردني ان يعرب بحريه عن رايه بالقول والكتابه والتصوير
وسائروسائل التعبير بشرط ان لايتجاوز حدود القانون .
2- الصحافه والطباعه حرتان ضمن حدود القانون .
3- لايجوز تعطيل الصحف ولا الغاء امتيازاتها الا وفق احكام القانون .
4- يجوز في حالة اعلان الاحكام العرفيه او الطوارئ ان يفرض القانون على الصحف والنشرات والمؤلفات والاذاعه رقابه محدوده في الامور التي تتصل بالسلامه العامه واغراض الدفاع الوطني
5- ينظم القانون اسلوب المراقبه على موارد الصحف ) .

من ذالك يتبين ارتباط حرية الرأي والتعبير بحرية الصحافة التي هي من الحقوق المهمة وتعني حق الأفراد في التعبير عن آرائه ومعتقداته في محررات مطبوعة بصرف النظر عن الاسم أو العنوان الذي تحمله والتي قد تصدر بشكل أساسي في صيغة مجلة أو صحيفة أو منشور، وتتطلب هذه الحرية احترام حقوق الغير وحرياتهم عند ممارستها إذ يسأل من يسيء استعمال هذا الحق في الأحوال المنصوص عليها في القانون، وقد نصت المادة 11 من اعلان 1789 على حرية الصحافة وإذا كانت هذه الحرية مصونة بشرط عدم الاضرار بالغير فان المشرع لا يستطيع ان يتدخل بشكل وقائي قبل وقوع الاعتداء على الغير وتوقيع الجزاء عند التدخل هو من اختصاص القضاء لا السلطة الإدارية (ويرى بعض فقهاء القانون العام ان حرية الصحافة لا تتحقق في العمل بدون تنظيم قضاء المحلفين كي يكون هذا القضاء هو السلطة الوحيدة التي تختص في جرائم الصحافة، عدا جرائم القذف والسب في حق الأفراد، ومرجع هذا الرأي ان الصحافة هي الأداة التي تعبر عن إرادة الرأي العام، فإذا أريد تقرير ما إذا كانت صحيفة من الصحف قد خرجت عن حدودها أي خرجت عن دائرة تعبيرها عن إرادة الرأي العام، فان هذا الرأي يكون بوساطة ممثليه من الحلفين، هو السلطة الطبيعية للحكم في هذا الموضوع، فقضاء المحلفين هو- والحالة هذه- أجدر أنواع القضاء بالحكم في القضايا الصحفية، وهو في نهاية الأمر الضمان الحقيقي لحرية الصحافة(64).

يتبع >

__________________









قديم 2008-11-07, 10:29   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

ثالثاً: حرية الضمير والعقيدة الدينية
بموجب هذا الحق يكون لكل انسان حرية اختيار الدين الذي يؤمن به وحقه في ان يعبر بصورة منفردة أو مع آخرين بصورة علنية أو غير علنية عن الديانة أو العقيدة التي يؤمن بها سواء تم ذلك عن طريق العبادة أو الممارسة أو التعليم أو التقيد بتعاليم هذا الدين.
وينبني على ما تقدم عدم جواز اخضاع أي انسان لوسيلة من وسائل الإكراه تؤدي إلى تعطيل حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي يختارها، إلا انه يجوز اخضاع حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو معتقداته للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستهدف حماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية والمضامين المتقدمة نصت عليها المادة 18 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، والحق ان الحرية الدينية كانت دائماً محلاً لاعتداءات صارخة أكثر من الاعتداءات التي تقع على بقية الحريات المعنوية الأخرى كحق الرأي أو النشر وذلك ان كل مؤمن بدين معين يعتقد انه قد اكتشف الحقيقة الوحيدة في هذا العالم والتي لا يتطرق إليها الشك مطلقاً، وهذا النمط من التفكير يقود إلى البعد عن التسامح والمرونة في التعامل مع الأمور، ومن ثم فان إيمان الدولة بدين يقودها في العصور التي مرت على وجه التحديد إلى اضطهاد الأديان الأخرى أو النظر إليهم نظرة غير متساوية.
من جانب آخر يلاحظ ان الحرية الدينية كانت أول الحريات التي أُعتُرِف بها للإنسان في العصور الحديثة فحركة الإصلاح الديني التي ظهرت في أوربا وقادت إلى اختلافات واضطهادات أدت في النهاية إلى الأخذ بمبدأ حرية الفرد أو الإنسان في الاعتقاد بالدين أو بالمذهب الذي يؤمن به وحريته في مباشرة الطقوس الدينية، وقد اعتبر كرومويل هذه الحرية قاعدة أساسية من قواعد الدستور الذي أراد ان يضعه، بينما يعلن فاتيل وهو من أنصار مدرسة القانون الطبيعي ان الحرية الدينية هي حق طبيعي وغير قابل للاعتداء عليه ونصت المادة العاشرة من إعلان حقوق الإنسان الصادر سنة 1789 على أنه (لا يجوز ان يضايق شخص بسبب آرائه ومعتقداته الدينية)(65).
أما في إنكلترا فقد تم إقرار الحرية الدينية حيث لا تعتبر ممارسة أية ديانة أو انكار الدين جريمة ما عدا القذف في حق دين معين فهذا يعد جريمة من جرائم النشر كما ان الممارسة العلنية للطقوس الدينية المختلفة أمر مسموح به وان العقيدة الدينية لا دخل لها في ممارسة الحقوق المدنية والسياسية وهكذا استقر الحال بإقرار الحرية والمساواة الدينيتين في هذا البل(66).

وفي استراليا لا يوجد ميثاق عام للحقوق والحريات لكن المادة 116 من الدستور تكفل الحرية الدينية بنصها على ما يلي (لا يصدر الاتحاد أي قانون يؤسس ديناً أياً كان أو يفرض التقيد بدين أو يمنع الممارسة الحرة ولا يطلب اجتياز أي امتحان ذي طابع ديني كشرط للأهلية لتقلد مناصب أو مهام عامة تحت سلطة الاتحاد) ويكفل هذا النص مبدأ الحياد فيما يتعلق بالدين والحرية الدينية، على المستوى الاتحادي، بيد أنها تقتصر على توفير حماية قانونية محدودة نظراً لأنها لا تسري إلا على السلطات التشريعية للاتحاد وليس على السلطات والأنشطة الأخرى وبخاصة التنفيذية والقضائية. فضلاً عن ذلك، فان الحماية الدستورية تسري على الاتحاد لا على الولايات والأقاليم التي تتمتع، من الناحية القانونية، بحرية التصرف في ميدان الحرية الدينية بما في ذلك فرض القيود.
وفي عام 1988، أوصت اللجنة الدستورية الاسترالية المكلفة بالاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للاستيطان الأوربي بتعديل المادة 116 من الدستور لكي تصبح الضمانات الممنوحة للحرية الدينية على المستوى الاتحادي سارية أيضاً في جميع ولايات الاتحاد وأقاليمه، وفي الاستفتاء الذي أجري عام 1988 رفضت مسألة مد نطاق الضمانات الممنوحة للحرية الدينية على المستوى الاتحادي إلى مجمل ولايات الاتحاد وأقاليمه بأغلبية 69% من مجموع الأصوات لكن هذه الحماية المحدودة الممنوحة للحرية الدينية سيقابلها التقدم المحرز في مجال الحماية القانونية للحرية الدينية نتيجة للاحكام التي اصدرتها المحكمة العليا لاستراليا فيما يتصل بتعريف مصطلح الدين وبتفسيرات الأحكام الدستورية المتعلقة بتأسيس دين فقد طلب من المحكمة العليا في عام 1983 في قضية كنيسة العقيدة الجديدة ضد لجنة الضرائب على الرواتب ان تفصل في نزاع على موضوع الضرائب وعرفت الدين بانه (لا يمكن ان تقتصر صفة الدين على عقائد التوحيد وحدها، وأوضح القاضي ميسون والقاضي برنين ان المعيار الخاص بتقرير وجود دين يقوم على معيار مزدوج وهو: الإيمان بكائن أو شيء أو مبدأ خارق للطبيعة والخضوع لقواعد سلوك تجسد هذا الإيمان، ورأى القاضي مورفي انه يجوز لأي منظمة تدعي أنها منظمة دينية وتشكل عقيدتها وشعائرها استعادةً أو انعكاساً لعبادات قديمة ان تطالب بحقها في الإيمان بكائن خارق للطبيعة أو أكثر بإله أو بكيان معنوي، وستعد ديناً(67).

فيما يتعلق بالموقف من الحرية الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية فقد فُسِرَتْ الحرية الدينية أوسع تفسير إذ أدخلت في معنى الحرية الدينية بالإضافة إلى حرية العقيدة وحرية العبادة، حرية الدعاية الدينية حتى في حالة كون هذه الدعاية من جانب مجموعات دينية متطرفة، ففي عام 1938 حكمت المحكمة الاتحادية العليا ببطلان قرار إداري يمنع توزيع منشورات دينية تبشيرية من دون إذن سابق، وقالت المحكمة ان حرية الصحافة مكفولة في الدستور الأمريكي، وهي لا تشمل فقط طبع المطبوعات بل أيضاً نشرها، فضلاً عن توزيعها، وفي حكم آخر صدر عنها عام 1943 حكمت بإعفاء بيع الكتب الدينية في الطرق العامة من الرسوم المقررة لغلبة الطابع الديني على الطابع التجاري، وفي حكم صادر عام 1944 أكدت المحكمة عدم جواز منع أشخاص من دخول مدينة أنشأتها شركة خاصة لسكنى عمالها ومستخدميها وحدهم متى كان دخول هؤلاء الأشخاص إليها لأغراض الدعاية الدينية لعقيدتهم، وفي عام 1948 قضت المحكمة بجواز استخدام مكبرات الصوت وان القول بعدم امكانية استخدامها إلا بموافقة سابقة من الإدارة هو اجراء مخالف للقانون، وأكدت المحكمة على ان الجهة الإدارية لا تملك إلا تنظيم الساعات التي تستخدم فيها تلك المكبرات، ومكان استخدامها، ومدى ارتفاع صوتها.(68)

عليه يبدو واضحاً ان المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية قد حمت الحريات الدينية وقضت بضرورة احترام العقائد والديانات التي تتنوع في المجتمع الأمريكي إلا انه من الضروري ملاحظة ان حرية التعبير الديني يجب حمايتها إلا انه في الوقت نفسه لا توجد حماية بنفس المستوى للدين في مواجهة حرية الرأي والكتابة والتعبير، وعلى هذا الأساس لم تسمح المحكمة العليا عام 1952 باخضاع عرض فلم سينمائي لموافقة الرقيب الذي يمكن ان يرفض عرض الفلم متى عده خارقاً للمعتقدات الدينية.(69)

أما في فرنسا فان للمجلس الدستوري موقفاً معروفاً من حرية المعتقد فهو يعتبرها من المبادئ الأساسية التي تعترف بها قوانين الجمهورية وكذلك الحال مع مبدأ حرية التعليم فمنذ ان أعلنت فرنسا بموجب القانون الصادر عام 1905 بانها دولة علمانية وفصلت بين الكنيسة والدولة، واعترفت بمبدأ حياد الشارع، يلاحظ صدور قرارات من السلطات الإدارية تقيد من خلالها الحريات الدينية وكان المجلس الدستوري هو الملاذ في فرنسا الذي يوفر نوعاً من الحماية لهذه الحريات(70) وقد ظهرت في فرنسا أول مشكلة تتعلق بارتداء الحجاب في المدارس عام 1989 حيث طردت فتاتان مسلمتان من مدرستيهما ورفض وزير التربية البت في القضية وطلب رأي مجلس الدولة الفرنسي الذي بين في فتواه (ان حمل التلاميذ للشعارات التي تظهر انتمائهم لديانة ما، لا يشكل بذاته تعارضاً مع مبدأ العلمانية ومنذ هذه الفتوى استقر اجتهاد مجلس الدولة على قاعدة ان للتلاميذ الحق في اظهار انتمائهم الديني سواء بلبس الحجاب أو حمل الصليب أو رفع القلنسوة ... وفي حالات أخرى كان مجلس الدولة الفرنسي يوافق المؤسسة التعليمية على قرارها بحظر حمل الشعارات الدينية أو لبس الحجاب وذلك في الحالة التي يترافق فيها ارتداء الحجاب مع اضطراب في النظام العام والمساس بمعتقدات وحريات الطلاب أو يحدث اضطراباً في القطاع التعليمي، أو لا يتوافق مع السير الطبيعي للدروس....)(71).
والحقيقة ان مجلس الدولة لم يقم بابطال قرار المدرسة الصادر عام 1989 والقاضي بطرد الفتاتين المسلمتين.
ويبدو من هذه العبارات التي استخدمها المجلس اللجوء إلى مفاهيم وصياغات عامة تتعلق بالأمن العام والمصلحة العامة للتقييد من الحريات الدينية للمسلمين.

عليه يمكن تلخيص حرية العقيدة والعبادة باعتبارها تمثل حرية الشخص وقناعته في اعتناق مبدأ أو عقيدة محددة أو عدم اعتناقها وحريته في التعبد طبقاً للعقيدة التي يؤمن بها داخل مسكنه أو خارجه، ومن ثم فان دين الدولة الرسمي أو دين أغلبية الشعب يجب ان لا يخل بالاحترام الذي يجب ان يضمن لابناء الأديان الأخرى الاعتقاد والتعبد والحقيقة ان حرية العبادة نسبية تخضع لمعايير النظام العام والآداب.

رابعاً: حق المواطنة (الجنسية)
تعد الجنسية رابطة قانونية وسياسية بين شخص ودولة تترتب عليها مجموعة من الالتزامات والحقوق المتبادلة، فالجنسية هي التي تكفل للفرد التمتع بالحقوق الأساسية التي يتطلبها كيانه الإنساني فالحق في العمل بنواحيه المختلفة داخل الدولة رهن بتمتع الفرد بجنسية هذه الدولة كما ان الجنسية هي الطريق الوحيد لحماية الفرد في المجتمع الدولي، فضلاً عن مباشرة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كلها تعتمد إلى حدٍ كبير على رابطة الجنسية وقد أكدت المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ان (1-لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. 2-لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو انكار حقه في تغييرها)، أما المادة 24 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فقد نصت على (لكل طفل الحق في ان تكون له جنسية).

والحقيقة ان قلة من تشريعات الدول العربية تقر بحق الفرد في تغيير جنسيته دون شروط أو قيود بالصيغة التي عبر عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فالعدد الأكبر من التشريعات العربية تخضع حق الإنسان في تغيير جنسيته إلى قيود منها ضرورة موافقة دولته إلا ان لهذا الاتجاه ما يبرره فمن الظواهر التي تهدد نمو هذه الدول ظاهرة هجرة العقول وذوي التخصصات إلى الدول الصناعية التي تحاول استقطابهم بشتى الأساليب مما يبرر تشدد الدول التي تهاجر هذه العقول منها حول مسألة خروج رعاياها عن جنسيتها.

كذلك تثبت الحق لكل شخص في عدم قيام الدولة التي يحمل جنسيتها بتجريده من هذه الجنسية بصورة تعسفية ويؤكد القانون الدولي الخاص على وجود ما يعرف بمبدأ استمرار الجنسية ومضمونه عدم جواز نزع الجنسية عن الفرد قبل دخوله في جنسية دولة أخرى حتى لا يصبح بلا جنسية والحالة الأخيرة حالة شاذة وغير مرغوب بها، ومع ذلك يلاحظ وجود نصوص في قوانين دول العالم المختلفة تجيز اسقاط الجنسية أو فقدها ومنها قانون الهجرة والجنسية الأمريكي الذي يمكن ان يفقد مواطنو الولايات المتحدة جنسيتهم بموجبه كحالة أداء مواطن أمريكي يمين الولاء لدولة أجنبية أو لأي من تنظيماتها السياسية، وانضمام الفرد إلى القوات المسلحة لدولة أجنبية أو العمل فيها كضباط أو كضباط صف أو انضمامه إلى القوات المسلحة أو العمل في القوات المسلحة لدولة أجنبية تكون في حالة حرب مع الولايات المتحدة وغيرها من الحالات(72).

وقد اعترفت احدى المحاكم السويسرية بآثار قرارات التجريد الصادرة من الدول الأخرى دون البحث في مشروعيتها الدولية حيث أكدت في قراراها (انه لا جدوى من القول بمخالفة قرار الاسقاط الصادر من الدولة الأجنبية لالتزاماتها الدولية طالما لا يوجد لدينا من الوسائل القانونية ما يمكننا من إجبار هذه الدولة على الرجوع عن قرارها بحرمان رعاياها من جنسيتها، ولن يغير عدم اعترافنا بقرار الاسقاط الصادر من الدولة من الحقيقة، وهي ان الشخص الذي أُسقطت عنه الجنسية لم يعد يعتبر من المواطنين في نظر دولته الأصلية)(73).
ومن الجدير وبالذكر ان الدستور العراقي لعام 2005 قد حظر اسقاط الجنسية العراقية عن العراقي بالولادة لاي سبب ، كما سمح بتعدد الجنسية للعراقي دون شروط فقد ورد في المادة (18) منه (( ثالثاً :أ- يحضر اسقاط الجنسية العراقية عن العراقي بالولادة لاي سبب من الاسباب ، ويحق لمن اسقطت عن طلب استعادتها، وينظم ذلك بقانون .
ب- تسحب الجنسية العراقية من المتجنس بها في الحالات التي نص عليها القانون .
رابعاً : يجوز تعدد الجنسية للعراقي ، وعلى من يتولى منصباً سيادياً او امنياً رفيعاً ، التخلي عن اية جنسية اخرى مكتسبة وينظم ذلك بقانون ..) .

الفرع الثالث
حقوق وحريات أخرى
سبق ان تعرضنا في الصفحات السابقة لمجموعة من الحقوق المدنية والسياسية إلا ان هذا لا يعني عدم وجود حقوق أخرى كالحقوق ذات الطابع القانوني (الحقوق القانونية والقضائية)، فضلاً عن حق جماعي هو الحق في تقرير المصير.

أولاً: الحقوق القانونية والقضائية
من الحقوق الأساسية ذات الطابع القانوني وهو يتوافر في معظم دساتير دول العالم العربي ضمان افتراض البراءة لحين الادانة في محاكمة قانونية، والحق في الدفاع عن النفس، وهناك بعض الاستثناءات حيث لا تشير بعض الدساتير العربية إلى هذه الضمانات أو الحقوق، أما حق الدفاع عن النفس فهو منصوص عليه كذلك في الدساتير العربية اما مع مواد تتضمن عدة حقوق كما هو الحال في دستور الكويت والبحرين او في مواد مستقلة أو فقرات فرعية وبلغة واضحة، وهذا حال دساتير مصر والجزائر وقطر وسوريا، بينما تؤكد دساتير أخرى على وجوب (ان يكون لكل منهم في جناية محام يدافع عنه بموافقته) ويوفر دستور مصر دعماً مالياً للمتهم بهدف المساعدة في تحقيق العدالة ويقدم الدستور اليمني حقاً إضافياً هو (الحق في الامتناع عن الادلاء بأقوال إلا بحضور محاميه).

الحق الآخر هو الحق في محاكمة عادلة ويلاحظ ان الدساتير العربية لا تتضمن الكثير من الحقوق ذات الطابع القانوني في الفصول التي تتحدث عن حقوق وحريات المواطنين لكن هذه الضمانات تكون موزعة على مجمل نصوص هذه الدساتير كتلك الأقسام التي تتناول السلطة القضائية ، باستثناء الدستور العراقي لعام 2005 الذي اورد هذه الحقوق في الفصل الاول الخاص بالحقوق وفي المادة (19) منه، كذلك تسمح جميع الدساتير بمحاكمات سرية في احوال استثنائية أو إذا قررت المحكمة جعلها سرية وذلك لحماية الأمن والنظام العام كدستور مصر والاردن والعراق عدا بعض الدساتير التي تشترط ان يصدر الحكم علناً ومنها دستور الجزائر ومصر والاردن والكويت والبحرين، ويلاحظ وجود نصوص تثبت مبدأ استقلال القضاء وعدم جواز التدخل في شؤونه وان القضاة يخضعون للقانون فقط كما تكفل معظم الدساتير العربية حق اللجوء إلى القضاء لحماية حقوقه ومصالحه المشروعة(74).

ثانياً: الحق في تقرير المصير
أشير إلى هذا المعنى من جانب الثورة الفرنسية سنة 1789 وضمنه الرئيس وليس في نقاطه الأربع عشرة التي أعلنت من جانبه بعد الحرب العالمية الأولى، وهو يتضمن عدة معاني منها حق الشعوب في ان تقرر شكل النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تراه ملائماً لها، فضلاً عن حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في التحرر وحكم نفسها بنفسها وان ضم أي جزء من دولة إلى دولة أخرى أمر لا يجوز ان يتم دون استفتاء السكان القاطنين للجزء المراد ضمه، إلا انه لم يكن قد اكتسب صفة القاعدة القانونية الملزمة، فالتقرير المقدم من جانب لجنة الفقهاء بتاريخ 5 أيلول 1920 بخصوص جزر الآند أكد على ان (اقرار هذا المبدأ في عدة معاهدات دولية لا يكفي لاعتباره من قواعد القانون الدولي الوضعي).

والحقيقة ان هذا المبدأ قد أشارت إليه قرارات عديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة منها القرار 1514 الصادر عام 1960 بخصوص منح الاستقلال للأقطار والشعوب المستعمرة والقرار المرقم 1803 الصادر عام 1962 حول السيادة الدائمة للدول على مصادرها الطبيعية(75).

المطلب الثاني
الحقوق والحريات ذات المضمون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي (الجيل الثاني)
تتضمن الحقوق والحريات ذات المضمون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي قائمة من المضامين التي تعد الجيل الثاني من الحقوق والحريات، فمع مطلع القرن العشرين اهتزت أركان المذهب الفردي نتيجة للتأثير المتزايد الناتج عن توسع دور الطبقة العاملة على المستوى السياسي، فضلاً عن انتشار المذاهب الاشتراكية التي نادت بالعدالة الاجتماعية مما قاد إلى اعتناق فكرة التدخل من جانب الدول على درجات مختلفة ترتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في كل دولة، وسنتعرض في هذا المطلب للحقوق التي تحقق أهداف المذاهب التي أكدت عليها أو طرحتها في مواجهة المذهب الفردي، ومن أهم هذه الحقوق يمكن الإشارة إلى المجموعة الآتية:

الفرع الأول
الحق في العمل والضمان الاجتماعي
تعد فكرة العمل في الفكر الغربي من المضامين الجديدة التي جاءت بها البروتستانتية، فالعمل كما نادت بذلك الكنيسة في العصور الوسطى ليس فضيلة ولكنه عقاب بينما نظرت البروتستانتية إلى العمل نظرة مقدسة وأعلت من شأنه وكان لهذه النظرة دور في التقدم الرأسمالي، فالبروتستانتية أكدت على ان الله يحب العاملين من البشر الذين يعبدونه ولا يحب الكسالى كما نادى بذلك كالفن، ويلاحظ كثرة الأعياد الدينية لدى الكاثوليك وقلتها لدى البروتستانت(76).

وقد أغفلت الدساتير المكتوبة الأولى إلى حدٍ ما الإشارة إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصورة مباشرة إلا ان هذا الإغفال لم يقدر له ان يستمر وبشكل خاص في الدساتير التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى سواء تلك التي ظهرت في أوربا الشرقية أو أوربا الغربية أو بقية أصقاع العالم، ومثال ذلك الدستور الألماني الصادر سنة 1919 والدستور الاسباني الصادر سنة 1931 والدستور الإيطالي لعام 1947(77)، إذ سعت النصوص الدستورية التي تناولت موضوع العمل والضمان الاجتماعي إلى تحقيق فكرة الأمن الاقتصادي للمواطن التي قادت بدورها إلى الاعتراف بحق العامل في عمل نافع وملائم يحفظ له كرامته ويتناسب مع احتياجاته الإنسانية التي تتمثل في حياة لائقة فعمل الإنسان وجهده لا يمكن ان ينظر اليهما باعتبارهما مجرد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب، لكن الأجر الذي يدفع يجب ان يؤمن للعامل متطلبات حياة إنسانية كريمة له ولأسرته في حدود ما تسمح به ظروف المجتمع وهذا ما يتطلب بدوره ترتيب نظام للتأمين ضد العجز والشيخوخة وحوادث العمل، وبالاستناد للأفكار المتقدمة نصت المادة 118 من الدستور السوفيتي الصادر عام 1936 على حق مواطني الاتحاد السوفيتي في العمل من زاوية تأمينه لكل مواطن مع ما يقابله من أجر يتناسب مع كميته ونوعيته وكذلك الحال مع الدستور البولندي الصادر عام 1952 حيث كفل الحق في العمل لكل مواطن وهذا الحق المضمون دستورياً (تؤمنه الملكية الاجتماعية للوسائل الأساسية للانتاج، وتنمية نظام اجتماعي تعاوني خال من كل استغلال في الريف، وكذلك الزيادة المخططة للقوى الانتاجية، والقضاء على اسباب الأزمات الاقتصادية وتصفية البطالة)، كما أشار هذا الدستور في المادة 60 منه إلى الحق في توفير الحماية الصحية من المرض والمساعدة في حالات العجز عن العمل عن طريق تنمية التأمينات الاجتماعية للطبقة العاملة وتحسين المستوى الصحي في الأرياف والمدن وخلق ظروف آمنة للوقاية والصحة أثناء العمل والتوسع في تقديم الخدمات الطبية المجانية(78).

وهناك نصوص حملت المضمون ذاته وبصياغات قاطعة في دستور الصين الصادر عام 1954، وأمنت هذه النصوص الدستورية المُنَظِمَةْ لحق العمل والضمان جانباً مهماً من اهتمامات الإنسان وحاجياته في العمل والتأمين الصحي بما ينطوي عليه من علاج مجاني وتلقي العامل لأجره كاملاً أو الجزء الأكبر منه طوال المدة التي يتغيب فيها عن العمل نتيجة المرض، فضلا عن التأمين ضد العجز عن العمل نتيجة الاصابة أو الشيخوخة وتأمين الأمومة بمنح الأمهات الحوامل العناية الطبية والاجازات المناسبة للوضع وإنشاء دور الحضانة والمراكز الطبية، وتكررت هذه الإشارات في دستور الصين الصادر عام 1978(79).

ان ضمان حق العمل لا يقتصر على توفير أو ضمان تحقيق أجر عادل للعمال في ظل ظروف عمل ملائمة فقط إذ ان هناك حقوق أخرى مكملة، كالحق في تكوين النقابات، والحق في الاضراب، والحق في المشاركة بإدارة المشاريع التي يعمل فيها العامل، والحق في الضمان الاجتماعي ضد المرض والعجز والشيخوخة واصابات العمل، والحق في الراحة والتمتع بأوقات الفراغ ولم تكن هذه التطورات قد تمت بخطوة واحدة لكنها كانت نتيجة لتغيرات عديدة تناولت مفاهيم مختلفة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فمفهوم الحرية لحقه تغيير جوهري بعد الحرب العالمية الأولى إذ حل الأجر محل الملكية نتيجة نشوء الصناعات الكبيرة في أوربا فأكثر المواطنين من العمال ويكفي ان يغلق أحد المصانع أبوابه ليجد العامل نفسه في مواجهة البطالة وقادت هذه النتيجة إلى ان أصبحت فكرة الأمن المادي هي شاغل الغالبية من الناس حتى لو كان ذلك على حساب الحرية التقليدية فأصبح الفرد مستعداً للتخلي عن جزء من حريته للوصول إلى تحقيق أمنه الاقتصادي وبهذا الشكل عدت الحرية الأداة التي تمكن الفرد من الوصول إلى الرفاهية من خلال تحقيق الأمن المادي(80).

تابع القادم > :
المدخل لدراسة حقوق الإنسان...(7)









 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 21:53

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc