ورأى بعضُ العلماء أن لا يؤحذَ العلم عن أمثال هؤلاء ولا يؤتمَّ بهم، تقريعًا وتأديبًا.
فهذا عالمُ أهل الشَّام الحافظُ هشامُ ابنُ عمَّار رحمه الله، مع جلالةِ قدْره وسَعةِ علمه، تكلَّم فيه بعضُ الحُفَّاظ لأنَّه كان يأخذ أُجرةً على الحديث، ففي «تهذيب الكمال» للمِزِّيّ (30 /249) قَال مُحَمَّدُ ابنُ وارَة: عزَمت زمانًا أن أُمسِكَ عَنْ حديث هشامِ بنِ عمَّار لأنَّه كان يبيعُ الحديث، وقَال صَالِحُ جَزَرَةُ: كان هشامُ ابن عمَّار يأخذ عَلَى الحديث، ولا يحدِّثُ ما لم يأخذ، فدخلت عليه يومًا، فَقَالَ: يا أبا علي حَدِّثْنِي بحديث لعليِّ بنِ الجَعْد، فقلت: حَدَّثَنَا ابن الجعد قال: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيُّ عَن الرَّبيع بن أنس عن أبي العالية قال: علِّمْ مجَّانًا كما عُلِّمت مجَّانًا، قال: تعرَّضتَ بي يا أبا علي؟ فقلت: ما تعرَّضتُ بك، بل قصدتُك.
قال الذَّهبي في «السِّير» (11 /426): «العَجَبُ مِن هَذَا الإِمَامِ مَع جَلاَلَتِهِ، كَيْفَ فَعَل هذَا ولَم يَكُن مُحْتَاجًا، وَلَهُ اجْتِهَادُهُ».
وفي «السِّير» (11 /369): «سُئل إسحاق بن رَاهَوَيْهِ عَمَّنْ يُحَدِّثُ بِالأَجْرِ؟ قَالَ: لاَ تَكْتُبْ عَنْه».
ومن قال لا أعلِّم ولا أصلِّي بكم ولا أأذِّن ولا أخطُب حتَّى تُعطوني كذا وكذا، فقد اتَّخذ الدِّينَ وسيلةً للدُّنيا، فلا يكونُ له في الآخرة من خلاق، قال أبو داود كما في «مسائل أحمد» له (ص 91): «سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ إِمَامٍ قَالَ لِقَوْمٍ: أُصَلِّي بِكُمْ رَمَضَانَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا؟ قَالَ: أَسْأَلُ الله العَافِيَةَ، مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ هَذَا؟!»، قال ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (26 /19): «والارْتِزَاقُ بِأَعْمَالِ البِرِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِين، أَعْنِي إذَا كَانَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْعَمَلِ اكْتِسَابَ المَالِ».
وإنَّ مِن أغرب المظاهر المنافية للإخلاص في الدَّعوةِ والإمامة اختيارَ المساجد للخَطابة وصلاةِ التَّراويح على أساسٍ دنيويٍّ بحْتٍ، فتُفضَّل ولو كانت الدَّعوةُ في غيرها أجدى نفعًا وأحسنَ عاقبةً، فبعضهم* يبحث عن المسجد الَّذي يظفَر فيه بالشُّهرةِ والسُّمعة وكثرةِ الأتباع، ومنهم من يحرِص على المسجد الَّذي يتردَّدُ عليه الأغنياءُ والوُجهاء ويختَلفُ إليه ذوو المناصب ورجالُ الأعمال الدُّنيويَّة، طمعًا فيما لديهم ورجاءَ نيل الحُظْوة عندهم.
ومن العجائب أنَّ هناك من تأتيه «عروضٌ»، فيختار الَّذي يَدْفعُ أغلى ويَجْمعُ أكثر، فأضحى الأمرُ شبيهًا بالأندية الرِّياضيَّة الَّتي تتنافس في أحسنِ اللاَّعبين وتُزايدُ فيهم، ثمَّ يتبجَّح بعضُهم بأنَّ هذا من تكريم حفَظَة القرآن وتبجيل أهلِ العلم وطلبتِه، وأنَّهم أولى بذلك من الرِّياضيِّين والفنَّانين والمغنِّين.
فأنَّى لهؤلاء أن يوفَّقوا ويسدَّدوا ويُوضعَ لهم القَبول، وقد دعَوْا لأنفسهم، وأكلوا بالعلم والقرآن واستكثروا به من المال والجاه ونحوِهما من الأعراضِ الدُّنيويَّة، روى أحمد (15529) وصحَّحه الألباني في «الصَّحيحة» (260) أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قال: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ وَلاَ تَغْلُوا فِيه وَلاَ تَجْفُوا عَنْهُ وَلاَ تَأْكُلُوا بِه وَلاَ تَسْتَكْثِرُوا بِهِ»، وروى أحمد (21220) وصحَّحه الألباني في «صحيح التَّرغيب» (23)؛ وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ»، والجملة الثَّانية «كالاحتراز عمَّا يفيده عمومُ البشرى وإبانة أنَّها لمن عَمِل عمَلَ الآخرة للآخرة»(3)، فلا يفوزُ بالتَّوفيق والرِّفعة والنَّصر إلاَّ أهلُ الإخلاص والتَّقوى والصَّلاح، قيل لأحمد في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فيه: «مَنْ نَسْأَلُ بَعْدَكَ؟ فَقَال: سَلْ عَبْدَ الوَهَّاب، فقيل له إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي العِلْم، فَقَال: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، مِثْلُهُ يُوَفَّقُ لإِصَابَةِ الحَقِّ»(4).
إنَّ الإمامةَ والدَّعوة ـ حقًّا وصدقًا ـ دعوةٌ إلى تقوى الله وتعظيمِه ومرضاته والاستسلامِ لأحكامِه وإخلاصِ الدِّين كلِّه له ونُصرته والرَّغبةِ في الآخرة والزُّهدِ في الدُّنيا، وأصبحت اليوم عند قوم مباهاةً وتكاثرًا وحِرفةً للحصول على الأعراض الدُّنيويَّة، فهان العلمُ وزُهِد فيه وقلَّت بركتُه وانعدم التَّوفيقُ فيه، ودَبَّ إلينا داء الأمم قبلَنا الحسدُ والبغضاء، وهذه فتنة ـ لَعَمْرُ الله ـ من أعظم الفتن الَّتي بُلِيت بها الأمَّة ورُزِئ بها العباد، وصدق عَبْد الله ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ»،* قَالُوا: وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: «... وَالتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ»(5).
وما أحسن ما قاله الشيخ حافظ حكمي في «منظومته الميمية»(6):
والنُّصحَ فابذُلْه للطُّلابِ محتسِبًا في السِّرِّ والجهرِ والأُستاذَ فاحْترِمِ
ومــرحـبًـا قــل لـمــن يأتـيك يَطلُبُهُ فيهمُ احفَظْ وصايا المصطفى بهِمِ
والنِّـيّـةَ اجـعـل لوجه الله خالصــةً إنَّ الـبـنــاءَ بـدون الأصـــلِ لـم يـقُمِ
ومَـن يكُـن لـيـقـولَ الـنّـاسُ يـطـلـبُـهُ أَخْـسِـرْ بصَفـقـتِه في موقفِ النَّدمِ
ومَــــن بـه يبـتـغي الدُّنيا فـلـيـس لَـهُ يـوم الـقيــامة مِـن حـظٍّ ولا قـســمِ
كفى بـ (من كان) في شورى وهود وفي الـ إِســراء مـوعـظةً للحــاذِقِ الـفَـهِـمِ
ولا يفوتُني أن أنبِّه على أنَّ جمهور العلماء يقولون بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ونحوهما من أعمال البرِّ(7) أحذًا بعموم قوله: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ الله» رواه البخاري (5737).
فالمعلِّم والإمام والدَّاعي من أولى النَّاس بالعطاء والإكرام، فيأخذون العطاء أو المكافأة أو الجُعل أو الرَّاتب على تفرغهم، وبخاصَّة إذا كان أحدهم محتاجًا أو ذا عيال، فيأخذون الرِّزق ليستعينوا به على نفقاتهم واحتياجاتهم، لكن يجب عليهم أن يجعلوا عملهم ذلك خالصًا لله، ويكون مقصودُهم الدِّين، وأمَّا الدُّنيا فوسيلة فقط، لا العكس، وعلى هذا يأخذون ليعلِّموا، ولا يعلِّمون ليأخذوا، فمن سار على هذه النِّيّةِ الحسنةِ فقد أخذ طيِّبًا وأكل طيِّبًا، والله الموفِّق والمعين، والحمد لله رب العالمين.
جمادى الأولى 1438 - فيفري 22017
عمر الحاج مسعود
https://www.rayatalislah.com/index.ph...m/4645-05-1438