.أنهم قالوا أنَّ علم الجرح والتعديل لا يوجد في أدلة الكتاب والسنة، وقالوا: علم الجرح والتعديل انقطع في هذا الزمان، وقالوا: الجرح والتعديل وجهته المرويات، وقالوا: موضوع الجرح والتعديل المعاصر ليس له علاقة بموضوع الجرح والتعديل الماضي، وفرَّق بعضهم بين جرح الرواة وجرح المبتدعة من حيث لزوم ذكر أسباب الجرح، فزعموا أنَّ جرح الرواة يلزم فيه ذكر أسباب الجرح، أما جرح المبتدعة فلا يلزم، وقال بعضهم: أنَّ علم الجرح والتعديل المعاصر مرتبط بالبدع لا بالرواية، وقال آخر: ينبغي التفريق بين عالم حديث وعالم عقيدة؛ فعالم الحديث أعلم بعلم الجرح والتعديل المرتبط بالرواية، وعالم العقيدة أعلم بعلم الجرح والتعديل المرتبط بالبدع، وفرَّق آخر بين الإمامة في السنة والإمامة في الحديث، وأنَّ الواجب أخذ قواعد المنهج والتعامل مع المخالف من أئمة السنة لا من أئمة الحديث، وقال آخر: أنَّ موضوع الجرح والتعديل خاص لأهل العلم، وعامة طلبة العلم ليس لهم علاقة بالجرح والتعديل، وزعم أنَّ موقف عامة الطلبة إذا أجمع أهل العلم على تبديع واحد لا يسعهم أن يخالفوا؛ لكن بشرط إذا أجمعوا؛ وذلك بدعوى أنه لا يُترك الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه، وهذا يعني أنه في حال الخلاف لا إلزام بالجرح، بل صرح بعضهم قال: لا إلزام بالجرح المفسَّر المعتبر ولو كان بالأدلة الصريحة والبراهين القاطعة، وإنما شرط الإلزام هو الإقناع، وأغلق بعضهم باب الجرح تماماً فقال: نصحح ولا نجرِّح، أو نحذِّر من الأخطاء ولا نتعرض للأشخاص، ومنهم مَنْ يشكك في قاعدة وجوب قبول خبر الثقة، فزعم أنَّ خبر الثقة قد يقبل وقد لا يقبل، ومنهم مَنْ فرَّق بين خبر الثقة وبين حكم الثقة، أو بين خبر الثقة وجرح الثقة، أو بين خبر الثقة في المسائل الشرعية وخبر الثقة في قضايا الأعيان، ومنهم مَنْ يزعم أنَّ كلام علماء الجرح والتعديل من قبيل الأحكام المبنية على الرأي والاستنباط، فأحكامهم في الرواة جرحاً وتعديلاً ولو كان مفسَّراً فلا إلزام فيه على المخالف لهم، وصرَّح بعضهم: أنَّ الخلاف في الحكم على الرجال كخلاف الفقهاء في المسائل الاجتهادية؛ فلا إنكار ولا تشنيع، بل الأمر واسع.
والذي يظهر أنَّ هؤلاء منهم مَنْ يحاولون إيقاف العمل بباب الجرح كلياً، من قبيل تطبيق قاعدة ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ومنهم مَنْ يحاول تعطيل أثره والإلزام به، ليبقى الأمر على الخيار!، من قبيل قاعدة: لا نجعل خلافنا في مبتدع أو سني وقع في بدعة سبباً للخلاف فيما بيننا، وهذه المحاولات يسعى إليها دعاة التمييع المعاصر بعد أن طالهم الجرح أو خشية أن يطولهم، وقد أشار إلى ذلك العلامة الشيخ مقبل رحمه الله تعالى في أثناء رده على عبد الله الأهدل الذي كان يقول: ((ليس عند السلفيين في منهجهم تعديل!, بل في منهجهم الجرح فقط))، فقال له الشيخ مقبل في كتابه [فضائح ونصائح /ص144-147/ دار الحرمين بالقاهرة]: ((مسألة الجرح قصمت ظهورهم, وكل واحد حتى وإنْ لم نجرحه فهو متوقع أن نجرحه اليوم أو غداً أو بعد غد!.
في الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: "لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ"، فهل معنى الجرح والتعديل مقصور على القرن الثالث وما بعده يكون حراماً؟!
فأين دليلك؟ والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، والجرح له أصل أصيل في الكتاب والسنة, فموسى يقول لصاحبه: "إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ"، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث", فلما لم يقل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية حدها إلى القرن الثالث!, وما بعد القرن الثالث مثله كمثل الذي ألف كتاباً بعنوان: [أشد الجهاد في إبطال الاجتهاد], فما بقي اجتهاد بعد أصحاب المذاهب الأربعة, وفضل الله واسع ولا ينبغي أن ينكر.