الرّد على الشبهة
الكفر لغة هو السّتر والتّغطية ,لهذا يطلق على الفلاّح كافرا ,لأنّه يغطّي الحبّة بالتّراب ,ويسمّى اللّيل كافرا ,لأنّه يغطّي النّهار ويستره ,وكل من ستر شيئا وغطّاه فهو قد كفره , قال الله تعالى ,"كمثل غيث أعجب الكفّار نباته "وشرعا تطلق على كلّ ما يخالف الإيمان ويضاده ,سواء كان بالإعتقاد أو بالقول أو بالعمل ,أو كان جحودا للرّسالة ,أو للوحدانية ,و كلّ عمل أطلق عليه الشّارع كفرا فهو كفر ,ولا ينبغي وصفه بخلاف ما وصفه الله ورسوله ,لأنّ فيه تكذيب لله ورسوله , واستخفاف بالأحكام الشّرعيّة.
فكما أنّ الإيمان حقيقة مركّبة من اعتقاد وقول وعمل , فعلا وتركا ,لا تنفصل هذه العناصر عن بعضها ,فحيث وجد الإعتقاد ,سواء كان فاسدا أو صالحا ,لا بدّ أن يظهر أثره على الجوارح ,لأنّها تابعة له ,منقادة له ,لا تتخلّف عمّا يريده القلب ولا تضاده ,فكذلك الكفر ,هو عكس الإيمان وضدّه ونقيضه ,فالإعتقاد الصّحيح يكون شعبة من شعب الإيمان ,ويكون ما يضاده ويخالفه شعبة من شعب الكفر ,ومثال على ذلك ,التّصديق فهو شعبة من شعب أصل الإيمان ,الذي لا يتحقّق أيمان العبد من غير تحقّق هذه الشّعبة من شعب الأيمان في قلبه ,قال الله تعالى , والتّكذيب ,هو ضدّ ونقيض التّصديق ,وهو شعبة من شعب الكفر الّتي تهدم أصل الإيمان في قلب العبد ,وتنشئ بدلا منه أصل الكفر ,والحب ,وهو شعبة من شعب أصل الإيمان ,وقلنا أنّ هذه الشّعبة هي من أصل الإيمان ,لأنّه لا يتخيّل أن يكون الرّجل مؤمنا وهو يبغض الله ورسوله ,ويبغض دينه ,أو شريعته ,أو يبغض الإنتصار لهذا الدّين ,وبالتّالي فبغض الله أو رسوله أو دينه أو شريعته أو صحابته الذين أثنى عليهم الله ورسوله كفر أكبر مخرج من الملّة ,ولا يلتفت وقتها لما في القلب من تصديق , قال الله تعالى "ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ",فأحبط الله أعمالهم بسبب كرهم لما أنزل الله وليس لتكذيبهم , ولا يحبط العمل إلاّ الكفر , "ذلك بأنّهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر " فهؤلاء كفروا بمجرّد قولهم للّذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر ,فهم لم يفعلوا الكفر ولم يبغضوا ما نزّل الله ,لكن كان قولهم ذلك للمشركين ,فكان ذلك منهم كفرا ,وهذا شيئ آخر غير التّكذيب التي تصرّ المرجئة في حصر الكفر فيه .
وتعظيم دين الله وشرعه ورسوله شعبة من أصل الإيمان
, والإستخفاف بدينه أو برسوله أو بشريعته ,أو الإنتقاص منها أو الطّعن فيها كفر أكبر مخرج من الملّة ,وهي شعب من أصل الكفر تنقض شعب أصل الإيمان ,قال الله تعالى " ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أبالله و آياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد أيمانكم " فهؤلاء كفروا لمجرّد الإستهزاء والسّخرية والإنتقاص من صحابة رسول الله ,وليس لما في قلوبهم من اعتقاد , أو استحلال للسبّ , قال الإمام إسحاق بن راهويه "أجمع المسلمون أنّ من سبّ الله أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو دفع شيئا ممّا أنزل الله أنّه كافر بذلك و إن كان مقرّأ بكلّ ما أنزل الله "ولو كان غير ذلك لنصّ عليه الشّارع الكريم .ونحن بدورنا نسأل هؤلاء المرجئة عن حكم من يقول أنا ربّكم الأعلى ,أنا الخالق الرّازق ,وأنا الذي بيدي ملكوت كلّ شيئ ,على سبيل الخوض واللّعب والسّخرية بدين الله ,هل يكفر بذات القول ? أم لما في قلبه من اعتقاد واستحلال لما يقول ? فإن كان يكفر لذات القول ,فلا عبرة إذن لاشتراط الإستحلال والإعتقاد في الأعمال المكفّرة بذاتها ,و إن كان لا يكفر حتّى يستحلّ القول الكفري ,فهو خلاف الآية الكريمة ,وتقوّل على الله ,واشتراط شرط بدعي لم ينصّ عليه الشّارع الكريم ,بل هو من بنات أفكاركم ,بل جعلهم الله كفّار بذات القول مع أنّهم اعتذروا أنّهم كانوا يخوضوا ويلعبون ويمرحون بالتّنقيص من دين الله والإستهزاء بصحابته الكرام ,ولم يكذّبهم في اعتذارهم
قال ابن حزم رحمه الله في المحلّى 13/498" وأمّا سبّ الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنّه كفر مجرّد إلاّ أنّ الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتدّ بها يصرّحون بأنّ سبّ الله تعالى و إعلان الكفر ليس كفرا ,قال بعضهم ولكنّه دليل على أنّه يعتقد الكفر لا أنّه كافر بيقين بسبّه الله تعالى " فمن يجعل كلّ الكفر العملي لا يكون كفرا حتّى يعتقده بقلبه ويستحلّه , ولا يفرّق بين الكفر العملي والكفر بالعمل ,فهو يقول بقول غلاة المرجئة ,والله المستعان .قال الله تعالى "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " فهؤلاء قالوا كلمة الكفر وكفروا بذات القول المكفّر ولم تنصّ الآية الكريمة على الإعتقاد والإستحلال ,فكيف علموا أنّ في قلوبهم جحود واعتقاد للكفر ,هذا رجم بالغيب والعياذ بالله ,ثمّ إنّنا لم نؤمر أن ننقّب على قلوب النّاس ونغوص في أعماقهم لنعرف هل هم مستحلّون للكفر أو معتقدون له لتكفيرهم ,بل يكونون كافرين لما أظهروه لنا من الكفر ,قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "أشققت عن قلبه " وقال عليه الصّلاة والسّلام "لم نؤمر أن نشقّ على قلوب النّاس "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "إنّ سبّ الله ورسوله كفر ظاهرا وباطنا ,سواء كان السّاب يعتقد أنّ ذلك محرّم ,أو كان مستحلاّ له ,أو كان ذاهلا عن اعتقاده ,هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنّة القائلين بأنّ الإيمان قول وعمل. فمذهب الفقهاء وسائر أهل السنّة هو تكفير من سبّ أو تنقّص من دين الله ,أو طعن فيه ,قال الله تعالى "و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون " ,ولا عبرة باستحلال السبّ إلاّ في سبيل الزّيادة في الكفر ,لأنّ السبّ هو في ذاته كفر ,وهو نقض لأصل الإيمان الذي في القلب.قال القرطبي في التّفسير "من أقدم على نكث العهد والطعن في الدّين يكون أصلا ورأسا في الكفر ,فهو من ائمّة الكفر على هذا .
وقال القاضي أبو يعلى "من سبّ الله أو سبّ رسوله فإنّه يكفر سواء استحلّ السبّ أو لم يستحلّه ,فإن قال لم استحلّ ذلك لم يقبل منه " وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " ويجب أن يعلم أنّ القول بأنّ كفر الساّب في نفس الأمر إنّما هو لاستحلاله السّب ,زلّة منكرة وفهوة عظيمة ... وإنّما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقّوه من كلام طائفة من متأخّري المتكلّمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوامذهب الجهمية الأولى في أنّ الإيمان هو مجرّد التّصديق الذي في القلب "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك و إن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد أحد الكفر إلاّ ما شاء الله " "وممّا أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد ,فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى ,وبما جاء من عنده , ثمّ قتل نبيّا , أو أعان على قتله ,ويقول قتل الأنبياء محرّم ,فهو كافر"ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر " فهؤلاء القائلون بقول جهم والصّالحي قد صرّحوا بأنّ سبّ الله ورسوله وتكلّم بالتلثيث ,وكلّ كلمة من كلام الكفر ,ليس كفرا في الباطن ,ولكنّه دليل في الظّاهر على الكفر ,و يجوز مع هذا أن يكون السّاب الشّاتم في الباطن مؤمنا عارفا بالله موحّدا له مؤمنا به "
وهذا موضع المعركة بين أهل السنّة والجماعة ,وبين المرجئة ,الذين حصروا الإيمان في التّصديق ,فجرّهم ذلك إلى حصر الكفر في التّكذيب ,ومقتضى قولهم ,أنّ العبد يكون مؤمنا بالله ورسوله وهو يبغض الله ورسوله ويكنّ الكراهية لهذا الدّين ,فخالفوا صحيح المنقول و صريح المعقول ,بإصرارهم حصر الكافر في المكذّب فقط ,مع أنّ عشرات النّصوص الصّريحة تدلّل على كفر من أتى قولا أو فعلا مكفّرا مع وجود التّصديق في القلب إلى درجة اليقين ,كقوله تعالى عن إبليس الرّجيم "إلاّ إبليس أبى و استكبر وكان من الكافرين " فكفر إبليس لاستكباره وليس لتكذيبه ,بل النّصوص الشّرعية تؤكّد أنّ إبليس كان مصدّقا إلى درجة اليقين "قال ربّي فأنظرني إلى يوم يبعثون " "قال وبعزّتك لأزيّننّ لهم في الأرض ثمّ لأغوينّهم أجمعين " ,بل إنّ الشّرط الذي اشترطه بعض غلاة المرجئة وهو التّصريح قولا باعتقاد أو استحلال العمل المكفّر للتّكفير بالمكفّرات القولية والعملية ,لم يأتي بها حتّى إبليس الرّجيم ,وعلى شرطهم هذا لا يلزم من تكفيره ,وهذا من العجب العجاب,وكذلك كفر اليهود جاء من جهة تولّيهم عن الخضوع والإنقياد لله ورسوله مع وجود التّصديق في قلوبهم "يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون " وقوله تعالى "فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " وهو ما يؤكّد أنّ الإنقياد لله ورسوله هي شعبة من شعب أصل الإيمان ,و التولّي عن الخضوع وإتّّباع الرّسول جملة هي شعبة من شعب أصل الكفر ,الذي لا تنفع معه وجود باقي شعب الإيمان في قلب العبد ,ولو كانت المعرفة والتّصديق ينفعان أحد مجرّدا عن باقي شعب أصل الإيمان لنفعا اليهود وغيرهم ممّن صدّقت قلوبهم وتولّت جوارحهم عن الإتّباع لما جاء به الرّسول الكريم ,صلّى الله عليه وسلّم ,فكانت دوافع اليهود في عدم الإيمان والإنقياد لشريعة الله هو البغض والحسد أن لا يكون النبيّ الذي كانوا ينتظرونه من غير يهود ,فكفروا بعدم الإنقياد مع علمهم ويقينهم بصحّة نبوّته ,وهذا مناط آخر في الكفر غير التّكذيب
وكفر أبي طالب عمّ رسول الله ,لم يكن من جهة تكذيبه بخبر السّماء ,بل كان تصديقه بكلّ ما أخبر به الرّسول الكريم إلى درجة اليقين ,فكان يقول في أشعاره " ولقد علمت بأنّ دين محمّد من خير أديان البريّة دينا لولا الملامة أوحذار مسبّة لوجدتني سمحا بذاك مبينا " وكان يوصي أبناءه باتّباع الرّسول الكريم ,وكان يحقّر عقول المشركين وعبادتهم ,لكن بقي على كفره ,لعدم التزامه الخضوع والإنقياد لدين الله ,وعدم تبرّئه من ملّة آبائه و أجداده ,خوفا من مسبّة قومه له ,و إيثار المكانة الّتي كان فيها بين قومه ,فاختار ذلك على أن يدخل في الإسلام ,وهذا مناط آخر في الكفر غير التّكذيب
وكفر من يجالس المستهزئين بدين الله من غير إكراه ,مناط كفره هو عين الرّضى والقعود معهم ,وليس لما في قلبه من استحلال أو اعتقاد لذلك ,والآية الكريمة تؤكّد على هذا المعنى ,قال الله تعالى "وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديث غيره إنّكم إذا مثلهم إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنّم جميعا " فمن جلس مع الكافرين المستهزئين بدين الله يكفر بذات القعود وهو ما يدلّ على رضاه واستحسانه وعدم استنكاره ,واستخفافه بدين الله وعدم تبجيله وتعظيمه له ,وهو مناط آخر في الكفر غير التّكذيب الذي تصرّ المرجئة في حصر الكفر فيه .
ثمّ إنّ من الكفاّر من يعلم علم اليقين بصدق الرّسالة وبكلّ ما أخبر به الأنبياء ثمّ هو يجحد ذلك ظاهرا بلسانه وبعمله ,قال الله تعالى "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا " فهم جحدوا وتولّوا عن الإنقياد لما علموا صحّته ويقينه في قلوبهم ,وكفروا بذات التولّي وعدم الإنقياد مع أنّ قلوبهم لا تستحلّ ذلك ولا تكذّبه ,ومع هذا كفروا لذات التولّي ولم يكن تصديقهم الذي كان إلى درجة اليقين مانعا يمنع من تكفيرهم ,والقول بخلاف هذا هو ردّ لمثل هذه الآيات الكريمات ,قال الله تعالى "فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون " والجحود لا يختصّ بالقلب فقط , بل يكون بالقلب وباللسان وبالقلب ,بل أنّ من أهل اللّغة من حصر الجحود في العمل والقول فقط ,وقال "الجحود هو كتمان الشيئ وإنكاره بعد العلم به
قال الله تعالى "إنّ الذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى الشيطان سوّل لهم و أملى ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفّتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم ذلك بأنّهم اتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم "قال ابن حزم رحمه الله "فجعلم تعالى مرتدّين كفّارا بعد علمهم الحق. وبعد أن تبيّن لهم الهدى ,بقولهم للكفّار ما قالوا فقط. واخبرنا تعالى أنّه يعرف إسرارهم ,ولم يقل تعالى أنّها جحد أو تصديق ,بل قد صحّ أنّ في سرّهم التّصديق ,لأنّ الهدى قد تبيّن لهم ,ومن تبيّن له شيئ فلا يمكن البتّة أن يجحده بقلبه أصلا .
قال الله تعالى
"يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون "إذا كان رفع الصّوت فوق صوت النبيّ يحبط العمل من غير جحد أو استحلال أو اعتقاد ,فكيف بمن يرفع كلامه على كلام الله ورسوله ,ونظامه على نظام الإسلام ,وأحكامه وقوانينه على أحكام وشرائع الإسلام !!
وقال حنبل "حدثّنا الحميدي قال "و أخبرت أنّ ناسا يقولون "من أقرّ بالصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ ولم يفعل من ذلك شيئا حتّى يموت ,ويصلّي مستدبر القبلة حتّى يموت ,فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أنّ تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرّا بالفرائض واستقبال القبلة ,فقلت هذا الكفر الصّراح وخلاف كتاب الله وسنّة رسوله وعلماء المسلمين .... قال حنبل "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول "من قال هذا فقد كفر بالله وردّ على الله أمره وعلى الرّسول ما جاء به
يقول ابن حزم رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى "إنّما النّسيئ زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطؤوا عدّة ما حرّم الله " وبحكم اللّغة الّتي نزل بها القرآن أنّ الزّيادة في الشّيئ لا تكون إلاّ منه لا من غيره ,فصحّ أنّ النّسيئ كفر ,وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرّم الله تعالى وهو عالم بأنّ الله حرّمه ,فهو كافر بذلك الفعل نفسه ,وكلّ من حرّم ما أحلّ الله تعالى فقد أحلّ ما حرّم الله عزّ و جلّ ,لأنّ الله تعالى حرّم على النّاس أن يحرّموا ما أحلّ الله
تبين من خلال النصوص السابقة أن القول والفعل الكفري لا يشترط الإستحلال أو الجحود أو الإعتقاد لتكفير صاحبه إلا غلاة المرجئة ,الذين يحصرون الإيمان في التصديق ويخرجون العمل من مسماه ومقتضاه ,ويرون الكفر هو التكذيب أو الجحود أو الإستحلال,ولهذا فهم لا يكفرون من أتى قولا أو عملا كفريا حتى يستحله بقلبه ,وزاد عليه مرجئة العصر شرطا آخر وهو أن يصرح باستحلاله القلبي بلسانه واعتقاده لذلك القول أو العمل الكفري ,وإلا فهو لا يكفر عندهم حتى يصرح باعتقاده العمل المكفر ,وهذا شرط بدعي ما أنزل الله به من سلطان
قال الشيخ محمد ابن ابراهيم رحمه الله
" وتحكيم شرع الله وحده دون كلّ ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له , و أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , هو المتّبع المحكّم ما جاء به فقط , ولا جرّدت سيوف الجهاد إلاّ من ذلك , والقيام به فعلا وتركا ,وتحكيما عند النّزاع "
وقال الإمام الشّنقيطي رحمه الله
" الإشراك بالله في حكمه ,والإشراك به في عبادته كلّها بمعنى واحد , لا فرق بينهما البتّة , فالذي يتّبع نظاما غير نظام الله ,وتشريعا غير تشريع الله , كالذي يعبد الصّنم ويسجد للوثن ,ولا فرق بينهما البتّة بوجه من الوجوه ,فهما واحد ,وكلاهما مشرك بالله "
.
وقال رحمه الله
" لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنّه باطل فهذا لا أثر له , بل هو عزل للشّرع , كما لو قال أحد , أنا أعبد الأوثان و أعتقد أنّها باطلة "
ويقول الشنقيطي رحمه الله
" لمّا كان التّشريع وجميع الأحكام شرعية كانت أو كونية قدرية , من خصائص الرّبوبية ..كان كلّ من اتّبع تشريعا غير تشريع الله قد اتّخذ ذلك المشرّع ربّا , وأشركه مع الله "
فإذا قال الذي يشرّع القوانين للنّاس ويعبّدهم لها من خلال إخضاعهم لها و إلزامهم الإنقياد لها ,أنا لا أستحلّها بقلبي ,فكلامه مردود وهو معارض لأفعاله ,فقوله كقول الذين قال الله عنهم
"ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا ألى الطّاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشّيطان أن يضلّهم ضلالا بعيدا "
فهذا كمثل من يقول أنا أعبد الأوثان و أعتقد أنّها باطلة ,وأسجد للشّمس والقمر و أعتقد أن ذلك السّجود لا يجوز لغير الله ,كذلك يكفر من أباح الزّنى وهو يزعم أنّه لا يستحلّه بقلبه ,
فأهل السنّة والجماعة يستدلّون على فساد المعتقد بفساد الجوارح ,فبحجم فساد الأعمال الظاهرة ,يكون الباطن فاسدا وبنفس القدر ,فيربطون بين القول والفعل الظاهري وبين الباعث على فعله وهي الإرادة القلبية ,فيكون الرّجل كافرا ظاهرا وباطنا بحسب الفعل أو القول الكفري الذي ظهر منه على الجوارح
قال الله تعالى "ولا تقولوا لما تصل ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الكذب
الذي يقيم للناس احكاما ويشرع لهم شرائع يكون بذلك قاهرا لهم مذلاّ لهم ولاراداتهم ,مستعبدا لهم بقمتضى ملكه وسلطانه وقوامته على من تحته ,وهذه هي احد خصائص الملك القهار المذل ,المنعم المتفضل على خلقه ,ومنازعته في هذا الحق هو تقمص زائف لخصائص الربوبية ,والخضوع والانقياد والاستسلام للاحكام هو لبّ العبودية والذل ,ولهذا لا يجوز الخضوع لشرع غير الله ,لانه عبادة له ,فكما انه لا يجوز الصلاة لغير الله والدعاء لغير الله ,كذلك لا يجوز الاستسلام والانقياد والخضوع لاحكام هي من صنع غير الله ,لانه الشرك الذي جاء الاسلام ليحطمه ,وهي العبودية التي جاء الاسلام ليحرّر الناس منها ,ليدخلهم في دين الله ,احرارا من كل القيود التي وضعتها الارباب الزائفة والالهة المنحطة القذرة ,الى عبادة الله الواحد الاحد ,الملك المتفرد بكمال السلطان والخلق
قال الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله
" أجمع المسلمون على أنّ من سبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو دفع شيئا ممّا أنزل الله عزّ و جلّ , أو قتل نبيّا من أنبياء الله عزّ و جلّ , أنّه كافر بذلك و إن كان مقرّا بكلّ ما أنزل الله "
قال الشيخ محمد ابن ابراهيم رحمه الله في أنواع الحكم بغير ما أنزل الله المخرج من الملّة
" وهو أعظمها وأشملها و أظهرها معاندة للشّرع ,و مكابرة لأحكامه و ومشاقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومضاهاة بالمحاكم الشرعية ,إعدادا و إرصادا و تأصيلا وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما و إلزاما ... فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة ,مفتوحة الأبواب والنّاس إليها أسراب إثر أسراب , يحكم حكّامها بينهم بما يخالف لحكم السنّة والكتاب , من أحكام ذلك القانون ,وتلزمهم به وتقرّهم عليه , وتحتّمه عليهم , فأيّ كفر فوق هذا الكفر , وأيّ مناقضة للشهادة بأنّ محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة "