(عنوان1 فصل: في ما يطلب ممن رام النصيحة والإنكار ؟! )
لاشك أن الناظر إلى حال المجتمعات اليوم يلحظ التغير الشديد ، والتدني الفاضح لموقف العامة من قضية حجاب المرأة واحتجابها !! ، حتى أصبح القرار في البيوت ، والتمسك بالحجاب الشرعي للمرأة في أنظار البعض : هي ميزة العجائز اللواتي أكل عليهن الزمن وشرب !! ، أو مجموعة من الفتيات المتشددات اللواتي تأثرن ( بالتيار الديني المتشدد !! ) على حدّ تعبيرهم !! ، ويقولون : (( إن المرأة الانفتاحية هي : تلك المرأة التي تسهم في بناء المجتمع !! )) ، وكأن هذا البناء لا يتم إلاّ بكشف الوجه!! ، وقيادتها للسيارة !! ، وابتعاثها في الخارج !! ، وتوليها للمناصب !! ، ومزاحمتها للرجال في أعمالهم حتى في ساحات القتال والمعركة في الأرض والجو والبحر !! .
هذه مزاعمهم إن كانت عليكم تخفى !! ، والله يعلم سر نواياهم وأخفى ، وهم دعاة الفاحشة والرذيلة من حيث علموا أم لم يعلموا ، وليذكروا قول الله تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون } ، فلم نرَ المرأة الانفتاحية إلاّ في أعفن الأوساط كالوسط الفني الغنائي والتمثيلي !! ، ولم نلحظ لتلك المرأة الانفتاحية مشاركة في الدعوة إلى الله وتعليم التوحيد والصلاة وواجبات المرأة في الإسلام ، لم نشاهد هذه المرأة الانفتاحية تحارب الأفكار المنحرفة المستوردة بل هي بالعكس من ذلك ، فهي الأرض الخصبة للفلاّح، والرحم المتأهب لنطفة اللقاح !! ، يلعب بهن الرجال ، وكل يستمتع بها بالمباشرة والمشاهدة في الحل والترحال !! .
وعلى هذا المنظار ( للمرأة الانفتاحية !! ) ، تكون خديجة وعائشة وأسماء وأم حرام وأم سليم ، وغيرهن من نساء الصحابة ، جنين على بناء الإسلام بالهدم والتحطيم !! ، وحاشاهن والله فهن اللواتي نصرن الإسلام باليد واللسان ، فقد شدّ الله أزر الإسلام منذ شروق شمس النبوة بالمرأة المسلمة ، فهي مع الرجل في الدعوة إلى الله ، وهي معه في الحرث والنسل ، وهي معه حتى في الجهاد على القدر المشروع لها من تطبيب المرضى ومساعدة المحتاج ، وإلاّ فجهادهن الشرعي هو الحج والعمرة مرة واحدة في العمر ثم ظهور الحصر ، كما قاله صلى الله عليه وسلم (1) .
إذا تقرر ما حركنا به سواكن الهمم في قلوب قاصدي القمم ، وما سبق الوعظ به من الترهيب من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما هو المطلوب منّا بعد إذ هدانا الله لاتباع سبيل الحق القويم ، والصراط المستقيم ؟! ، وكيف نؤدي واجب النصيحة والإنكار ؟! ، فيقال : هذا سؤال وارد ممن رام السلامة وشمّر عن سواعد الجدّ في إنكار المنكر ، وبذل النصيحة لعموم المسلمين مما يكاد بهم وبدينهم ، ويجاب عليه :
بأن الواجب على من امتثل للتصدي للمنكرات والرد عليها ، ونصيحة الناس وإرشادهم أن يراعي ستة أصول :
الأصل الأول : الإخلاص لله تعالى .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة من أجل العبادات ، والقاعدة الشرعية تنص على أن قبول العبادة متوقف على الإخلاص لله وحده ، كما قال تعالى : { وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقال تعالى : { ألا لله الدين الخاص } ، وقال : { إلاّ الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } .
بل النصرة والتأييد لا تكون إلا بإخلاص العبادة لله كما قال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه كان من عبادنا المخلصين } .
روى النسائي في " السنن " وأصله في " صحيح " البخاري عن مسعد بن مصعب عن أبيه رضي الله عنه أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم )) .
فبالإخلاص تنكشف الغمة ، وتلتهب الهمّة ، وتنجوا الأمة ، ولا يخفى علينا حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار فدعا كل منهم بصالح عمله وخالصه ، فكشف الله عنهم تلك المحنة والبلية بفضل صلاحهم وإخلاصهم ، والحديث رواه البخاري ومسلم .
قال سهل بن عبدالله التستري رحمه الله : ( الناس موتى إلاّ العلماء ، والعلماء سكارى إلاّ العاملون ، والعاملون مغرورون إلاّ المخلصين ، والمخلصون على وجل حتى يُعلم ما يختم الله لهم به ) .
وهو ضرب من الجهاد الذي أمر الله به ، ولهذا عامة من يذكر أصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يذكره تحت أبواب الجهاد وأحاديثه ، ولا يقبل الله جهاد مجاهد في غير سبيل الله عز وجل .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ، وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أخلصه وأصوبه ، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً ، أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .
فالعمل الصالح لابد أن يراد به وجه الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلاّ ما أريد به وجهه وحده ، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برئ وهو كله للذي أشرك )) .
وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام ، وهو دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله ، ومن أجله خلق الخلق ، وهو حقه على عباده ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحاً ، وهو ما أمر الله به ورسوله وهو الطاعة ، فكل طاعة عمل صالح ، وكل عمل صالح طاعة ، وهو العمل المشروع المسنون ، العمل المشروع المسنون هو : المأمور به أمر إيجاب أو استحباب ، وهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر ، وهو الخير ، وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة والفجور والظلم.
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين : النية والعمل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أصدق الأسماء حارث وهمام )) ، فكل أحد حارث همام ، له عمل ونية ، لكن النية المحمودة التي يقبلها الله ويثيب عليها هي أن يراد الله وحده بذلك العمل ، والعمل المحمود هو الصالح ، وهو المأمور به ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا وأجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئا .
وإذا كان هذا حد كل عمل صالح فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون ذلك ، هذا في حق الآمر الناهي نفسه . ) انتهى كلامه رحمه الله .
الأصل الثاني : اتباع السنة في الإنكار ، وهذا من فقه السيرة .
لأن أعظم نجاح كان في هداية الخلق وإزالة ما هم عليه من منكرات هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوية ، حيث آمن به من الخلائق عدد لا يحصون ودخل الناس في دين الله أفواجاً كما قال تعالى ذكره : { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } .
فلا بدّ لمن امتثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتفقه بها ، فيجد أن سيرته متنوعة بتنوع الأشخاص والمواطن الزمانية والمكانية ، فما أنكره وهو في مكة غير ما أنكره وهو في المدينة ، وما أنكره وهو في أرض الحرب غير ما أنكره وهو في أرض السلم ، كذا إنكاره على المتعلم غير إنكاره على الجاهل ، وإنكاره على حديث العهد بالكفر غير إنكاره على من رسخ في الإسلام ، وإنكاره على ذوي الهيئات غير إنكاره على عامة الناس ، وإنكار المنكر على الحدث الصغير غير إنكاره على الشيخ الكبير ، كذا يتنوع بتنوع المنكر فإنكاره للشرك غير إنكاره لسائر الذنوب .
كل هذه مواطن سجل عن النبي صلى الله عليه وسلم صور شتى من قوة الإنكار ولينه ، والردع والهجر وعدمه ، وهذا هو عين السياسة الشرعية النبوية ، ولولا أن يخرج الكتاب عن مقصود تأليفه لذكرت على كل ما تقدم شاهد ذلك من السنة النبوية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، وكتب السيرة قريبة الوصول ، لا يمل من قراءتها المجتهد ولا تعيي الكسول .
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالإتباع من جميع طرائق الرجال والله تعالى يقول : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } وقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } .
وهو القائل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) رواه الإمام أحمد وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه بإسناد صحيح .
فطريقته عليه الصلاة والسلام أسلم الطرق وأحكمها ، ولهذا تجد أن أهل السنة هم الذين سلكوا الطريق المستقيم في إنكار المنكر من بين أهل الأهواء من الخوارج والمرجئة وغيرهم .
الأصل الثالث : العلم الشرعي الذي به ينكر المنكر .
وذلك لأن العلم سلاح بتار ، وشعلة من نار ، يحارب به ويستضاء ، والجاهل يفسد أكثر من أن يصلح . وكما قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( كم مريد للخير لم يدركه )، وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : ( من عبد الله بغير علم ، كان ما يفسد أكثر مما يصلح ) .
وقال سفيان الثوري : ( لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من كان فيه ثلاث خصال : رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر عدل بما ينهى ، عالم بما يأمر عالم بما ينهى ) .
ولهذا اتفقت العقول السليمة على أن هلاك الناس من ثلاثة أشخاص : نصف فقيه ، ونصف طبيب ، ونصف نحوي ، فالأول يفسد الأديان والثاني يفسد الأبدان والثالث يفسد اللسان .
وهؤلاء هم أنصاف المتعلمين ، لا ظهراً أبقوا ولا أرضاً قطعوا ، فلا هم بالجهل اعترفوا ، ولا بالعلم والتحقيق شرفوا ، فما يفسدون أكثر مما يصلحون ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
فكم من مُنْكرٍ للمنكر لا يعي وجه الإنكار ، ولربما تسرع متسرع بإنكار ما ليس بمنكر !! ، فأورث على الإسلام عاقبة وخيمة ، وأحدث منكراً أخطر وأشد .
قال النووي رحمه الله في شرح "صحيح مسلم " : ( ثم إنه يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به ، وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء ) .
قلت : وقوله ( دقائق الأفعال والأعمال ) معناه مسائل الاجتهاد وهو معنى قول بعض أهل العلم : ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) ، ولا يصح أن يقال : ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، لأن الخلاف منه ما هو مستساغ ومنه ما لا يكون كذلك ، والثاني لا عبرة به و لا يؤخذ باجتهاده ذلك ، فعامة أهل الأهواء والبدع خرجوا وخالفوا باجتهاد ، ولكنه غير مستساغ عند أهل العلم ، فليس كل خلاف يعذر فيه المخالف حتى يكون هذا المخالف خالف باجتهاد مستساغ عند أهل العلم ، قال الشاعر :
وليس كل خلاف جاء معتبر ** إلاّ خلاف له حظ من النظر
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : ( وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ، فإن الإنكار إمّا أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل ، أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقاً وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف الفقهاء . وأمّا العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً ، بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء .
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً ، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ له ـ أي الاجتهاد ـ ) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .
الأصل الرابع : مراعاة المصلحة والمفسدة .
وهذا لا يعيه إلا من ألمّ بالأصل السابق بتوفيق من الله وهداية ، ولا شك أن معرفة مصالح العباد ومفاسدها من أوجب ما يجب على من امتثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحكم للغالب منهما لا مطلق تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، فتارة تكون المصلحة لا تتحقق إلاّ مع وقوع المفسدة ولكنها أهون من شأن المصلحة المتحققة ، وتارة تكون المفسدة لا تدرأ إلاّ بدفع المصلحة المتحققة ولكنها أهون من خطر المفسدة المدفوعة ، أمّا عند تساوي المرتبتين فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وهذا المراد بهذه القاعدة عند أهل العلم .
ومن صورة جلب المصالح المقدمة على درء المفاسد عند علو المصلحة على المفسدة ما حصل من صنيع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية .
ومن صورة دفع المفسدة المقدم على جلب المصلحة عند علو المفسدة على المصلحة ما حصل من امتناعه صلى الله عليه وسلم من هدم البيت وبناءه على قواعد إبراهيم .
ومعرفة علو أحد الجانبين على الآخر لا يحصل إلاّ بالعلم والعدل ، ثم وجدت بحمد الله شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى يقرر هذا فقال : ( لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلاّ اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون بها خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .
وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً ، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا ينهوا عن منكر ، بل ينظر ، فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وزوال فعل الحسنات .
وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون المر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه آمراً بمنكر وساعياً في معصية الله ورسوله .
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ، لم يأمر بهما ولم ينه عنهما ، فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي ، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة .. ) إلى آخر كلامه رحمه الله .
الأصل الخامس : الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، والترهيب من الحماس المفرط .
وقد جاء الأمر بذلك في محكم التنزيل كما قال تعالى : { أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } وقال : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } وقال تعالى : { فقولا له قولاً لينا } وقال : { ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } .
وروى الإمام أحمد ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما كان الرفق في شي إلاّ زانه ، ولا نزع من شي إلاّ شانه )) .
وروى الإمام أحمد وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف )) .
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى وأنس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا )) .
وعندما أوذي النبي صلى الله عليه وسلم من قريش قال : (( ربّي اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )).
وقال الإمام أحمد : ( الناس محتاجون إلى مداراة ورفق ، والأمر بالمعروف ، لا غلظة ، إلاّ رجل معلن بالفسق فلا حرمة له ) .
و الشكاية اليوم من قطّاع الطريق بين الناس وبين الله عز وجل الغفور الرحيم كما قال صلى الله عليه وسلم : (( إن منكم منفرون )) ، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( كم مريد للخير لم يدركه ) ، فلربما أساء منهم مسي في الإنكار وأغلظ على العاصي فيتولى الآخر كبره ويتحقق منه الإعراض والاستكبار ، بعدما كان داءه مجرد الغفلة التي يستطيع الداعي أن يدعوه بالرفق واللين في القول .