موقف الإسلام من العنف والشدة
كنا قد بينا في أول هذا البحث موقف الإسلام من الإرهاب.. ومعنى الإرهاب.. وهانحن نبين هنا موقف الإسلام من العنف والشدة لارتباط هذا الموضوع وتعلقه بما تقدم من حديث عن الإرهاب!
هل الإسلام دين يدعو إلى العنف والشدة؟!
هذه مسألة قد جنح فيها كثير من الناس والكتاب - كما هو شأنهم في كثير من المسائل - بين الإفراط والتفريط.. ففريق منهم قال بأن الإسلام دين عنف.. ويدعو إلى العنف والشدة واستدل على ذلك بأدلة، وفريق آخر ينفى ذلك مطلقاً، واستدل بأدلة!
فما هو الحق والصواب في هذه المسألة؟!
أقول: العنف هو ما يُقابل الرفق ويُضاده، وهو في الشرع خُلُق مذموم.. لم يرد فيه نص واحد من الكتاب أو السنة بصيغة المدح.. بخلاف خُلُق " الرفق " فقد جاءت فيه نصوص عديدة تحض على التخلق والتمسك به، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من يحرم الرفق يُحرم الخير كله".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق ويُعطي عليه مالا يُعطي على العنف".
وقال صلى الله عليه وسلم: "عليك بالرفق؛ إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يُحب الرفق في الأمر كُلِّه " وهذه صيغة عامة تفيد كل شيء بما في ذلك الجهاد في سبيل الله، حيث لا بد من أن ينضبط ويتقيد بضوابط وقيود الشرع المعروفة..
فهذا هو رفقه!
وعن قُرَّة قال: قال رجل يا رسول الله إني لأذبح الشاة فأرحمها. أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها؛ أي أمتنع عن ذبحها رحمة بها! قال صلى الله عليه وسلم: "والشاة إن رحمتها رحمك الله.. والشاة إن رحمتها رحمك الله " مرتين.
هذا فيمن يُرفق ويرحم الشاة أو البهائم فكيف بمن يرحم الناس.. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرحم اللهُ من لا يرحم الناسَ".
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو والتشدد في الدين؛ وهو كل ما زاد عن المشروع.. فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم هدياً قاصداً؛ فإنه من يُغالب الدين يغلبه". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنه من يُشاد هذا الدين يَغلبه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
وقال صلى الله عليه وسلم: "سيُشَدَّد هذا الدين برجالٍ ليس لهم عند الله خلاق".
هذا هو ديننا.. فهو دين رفق ورحمة للعالمين كما قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء: 107.
وهذا لا يعني مطلقاً أن الإسلام يقبل أن يُعطي الدنيَّة أو الذل لأعداء الملة والدين.. أو يرضى أن يُصيبه ضيم من ملل الكفر والشرك من دون أن ينتصر لنفسه.. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} الشورى: 39. فهذا من أبرز خصال وصفات المؤمنين المجاهدين وهو أن ينتصروا لأنفسهم وحرماتهم إذا ما أصابهم البغي والعدوان.
وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} الفتح: 29. فكما أن المؤمنين رحماء رفقاء على من يُسالمهم ويدخل في سلمهم وأمنهم أو دينهم.. فهم أشداء غلاظ على من يتجرأ على قتالهم ومنابذتهم ومحاربتهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} التوبة: 123. أي قوة وشدة!
فهذا موضع يستلزم الشدة والغلظة على كل من ينابذ الإسلام والمسلمين الحرب والقتال أو يتجرأ على الاعتداء.. وذاك موضع يستلزم الرفق والرحمة على كل من يدخل في هذا الدين وسلمه، أو عهده وأمنه، وجواره.. حيث لا يجوز الخلط بين الموضعين، وحمل نصوص كل موضع على الموضع الآخر.. كما يفعل ذلك عديد من الكتاب والباحثين!
ولكن يمكننا القول أن مواطن الجهاد والقتال التي تستلزم الشدة والقوة والغلظة.. هي كذلك مقيدة بقيود وضوابط الشرع التي تمنع المجاهد المقاتل من أن يُعمل هواه في قتل وقتال من شاء، وبالطريقة التي يشاء.