تابع /كتاب اخطاء المؤرخ بن خلدون للدكتور خالد علال كبير
و ثانيا إن ما وعد الله به العرب المسلمين قد تحقق على أيديهم على أرض الواقع ، فحققوا انتصارات باهرة ، و هزموا دولتي الفرس و الروم ، و ملكوا أراضيهم و أموالهم ، و كانت لهم دول في المشرق و المغرب ، كدولة الراشدين ، و دولة بني أمية بالمشرق و الأندلس ، و دولة بني العباس ، و كانت لهم أيضا انتصارات باهرة في مقاومتهم للاستعمار الغربي الحديث ، فهل أمة تلك هي انتصاراتها يُقال فيها إنها لا تتغلب إلا على البسائط ؟ و هل الذي حققته هو من البسائط ؟ ، و أليس ما حققه العرب المسلمون من انتصارات لم تحققه شعوب إسلامية أخرى ؟ ، فمال بال ابن خلدون يخص العرب بذلك الحكم الجائر ، دون غيرهم من باقي شعوب العالم الإسلامي؟ ! .
و أما الحكم الثاني الذي أصدره ابن خلدون في حق العرب فهو أن (( العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب )) ، لأنهم أمة وحشية استحكمت فيهم عوائد التوحش و أسبابه ، فصار لهم خلقا و جبلة ، همهم نهب ما عند الناس ، و رزقهم في ظلال رماحهم ، و عندما تغلبوا و ملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه ، و أقفر ساكنه ، و عندما اجتاح عرب بنو هلال و بنو سليم بلاد المغرب خرّبوها ، و كان ذلك في القرن الخامس الهجري[57] .
و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و هو مجازفة من مجازفاته ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إن العرب أنشئوا أوطانا و مدنا قبل الإسلام ، و بعضها ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، كاليمن و مدنها القديمة ، و أخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية ، كمكة المكرمة و المدينة المنورة . و أنشئوا أخرى في العصر الإسلامي ، و هي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا ، كمدينة البصرة ، و الكوفة ، و الفسطاط ، و القيروان ، و بغداد و سامراء .
و الشاهد الثاني هو إن العرب أقاموا دولا بعضها عمر طويلا ، و بعضها الآخر لم يعمر طويلا ، شأنهم في ذلك شأن باقي دول شعوب العالم الأخرى ، فمن دولهم التي لم تعمر طولا الخلافة الراشدة عمرت 30سنة ، و دولة بني أمية بالمشرق ، عاشت 91سنة ، و أما التي عمرت طولا ، فمنها الدولة الأموية بالأندلس ، فقد عاشت أكثر من 200سنة ، و الدولة العباسية عمرت 524سنة . و مقابل ذلك هناك دول أخرى كثيرة ليست عربية عاشت أقل من قرن من الزمن ، كدولة القرامطة ، و الدولة المرابطية ، و الدولة الأيوبية . و بذلك يتبين أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح تماما ، و لا يختلف العرب عن غيرهم في مسألة سقوط الدول و استمرارها ، لأن الأمر يتوقف على أسباب و ظروف بشرية داخلية و خارجية كثيرة ، و لا دخل فيها للأعراق و الأجناس .
و الشاهد الثالث هو إن قوله بأن التوحش جبلة في العرب و متأصل فيهم مهما تحضّروا هو قول باطل من أساسه لا يصدق على العرب ،و لا على غيرهم من الأمم ، لأن البشر كلهم لهم استعداد للتحضر و النهوض و الرقي ، كما لهم استعداد للسقوط و التدهور و الانعزال و التخلف ، فالظروف البشرية الداخلية و الخارجية هي السبب الأساسي في نهوض أمة و سقوط أخرى . كما أن العرب لم يكونوا كلهم بدوا أجلافا ، فقد كانت لهم حضارات عامرة قبل الإسلام ، في جنوب الجزيرة العربية و شمالها ، و الإسلام ظهر بين الحضر بمكة و المدينة ، و لم يظهر بين الأعراب ، و نهى الصحابة عن التعرّب و العودة إلى حياة البادية ، مما كان له الأثر البعيد في دفع العرب المسلمين إلى إنشاء المدن و الإقامة فيها ، و ما يزالون يقطنونها إلى يومنا هذا بالجزيرة العربية و العراق و الشام و غيرها من البلاد .
و الشاهد الرابع هو إن مثال بني هلال و بني سليم الذي ذكره ابن خلدون ، لا يصدق على كل العرب ، و لا يخص بني هلال و بني سليم دون غيرهم من قبائل شعوب العالم ، و لا يصدق عليهم في كل زمان و مكان. فالأعمال التي صدرت عن هؤلاء في تخريبهم لكثير من مظاهر العمران بالمغرب الإسلامي ، ليست خاصة بهم و لا بالعرب عامة ، و إنما هي موجودة في كل بدو العالم تقريبا ، ببلاد المغرب و فارس و خراسان و الصين وغيرها . و مثال ذلك قبائل المغول ، فهي قبائل بدوية متوحشة ، اجتاحت المشرق الإسلامي و دمرته تدميرا خلال القرن السابع الهجري و ما بعده . و كذلك قبائل الغجر في أوروبا المعاصرة ، فهم يُفسدون و يُقلقون و ليسوا عربا . و عليه فإنه من الخطأ الفاحش إصدار ذلك الحكم على العرب بطريقة فيها تأكيد و تأبيد .
و أما الحكم الثالث ، فهو قوله : (( إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة))، بسبب خلق التوحش الذي فيهم ،و هم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة ، و المنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم ))[58] .
و ردا عليه أقول: أولا إن ذلك الحكم لا يصح إطلاقه على أية أمة من الأمم ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الدين و الدولة ، فقد تظهر الدولة و يتخلف الدين ، و قد يظهر الدين و تتخلف الدولة ، و قد كانت للعرب دول في جنوب الجزيرة العربية و شمالها قبل أن يظهر الإسلام ، هذا إذا كان ابن خلدون يقصد بالدين الإسلام فقط ، أما إذا كان يقصد مطلق الدين ، فلا شك أنه كانت للعرب أديان قبل الإسلام ، مع العلم أن كل الدول المعروفة التي ظهرت في العصور القديمة كانت تقوم على الدين ، و لم يكن ذلك خاصا بالعرب دون غيرهم من الأجناس .
و ثانيا إن للعرب في العصر الحديث دول كثيرة معظمها لا يقوم على الدين ، و إن تظاهر به بعضها ، فهي لا تحتكم إليه في سياستها ،و لا في اقتصادها ، و لا في اجتماعها ، و لا في قانونها ، و لا في علاقاتها الخارجية ، و بعضها يُحارب الدين و أهله علانية ، فكيف إذن تمكنت هذه الدول من تكوين دول عربية بعيدا عن الدين في معظم أحوالها ؟ .
و يتبين مما ذكرناه إن ابن خلدون في استخدامه لمصطلح العرب كان يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، و لم يخص البدو بأحكامه القاسية دون الحضر ، و قد ناقشناه فيها و بينا أنه كان مخطئا في إطلاقها عليهم جميعا ، و إن صدقت على بعضهم فلا تصدق عليهم كلهم ،و لا تخصهم دون غيرهم ، و لا تصدق عليهم –إن صدقت- في كل زمان و مكان .
سادسا : في دفاعه عن هارون الرشيد و المأمون و مدحه لهما :
دافع ابن خلدون عن الخليفتين هارون الرشيد و ابنه المأمون و مدحهما بحماس ، فقال عن الأول : إن ما يُروى من معاقرته للخمر و سكره مع الندماء، هو مُنكر لم يثبت ، فقد رُوي أنه كان مصاحبا للعلماء و الأولياء ، و يغزو عاما و يحج عاما ، و يصلي في اليوم مائة ركعة . و مما يُبعد ذلك عنه أنه كان قريبا من جده أبي جعفر المنصور و ابنه المهدي ، فجده كانت له مكانة في العلم و الدين ، و والده كان يتورع في كسوة جديدة لعياله ، فكيف يليق بالرشيد معاقرة الخمر ،و هو قريب من جده و أبيه ، و حتى أشراف العرب كانوا يتورعون من شرب الخمر في الجاهلية ،و الرشيد و أباؤه كانوا يتجنبون المذمومات في دينهم و دنياهم ، و يتصفون بالمحامد و أوصاف الكمال[59].
و ردا عليه أقول: أولا إن مسألة تضارب الروايات في أخلاق هارون الرشيد و سلوكياته معروفة في كتب التراجم و التواريخ ، و هي تحتاج للنقد و التحقيق إسنادا و متنا ، للوصول إلى أمر صحيح في هذه القضية . لكن الذي يهمنا نحن هنا ليس إثبات ذلك أو نفيه ، و إنما الذي يهمنا هو هل أصاب ابن خلدون في طريقة استدلاله في دفاعه عن الرشيد و مدحه له ، أم لم يُوفق في ذلك ؟ ، فهو لم يحقق روايات ،و لا جمع كل ما ثبت عن سلوكيات الرشيد لكي نحتكم إليها ، و لا احتكم إلى النصوص الشرعية ، و إنما معظم ما قاله هو دعاوى و تهويلات و مزاعم وجهها كما يريد ، و الدعوى –كما نعلم- لا يعجز عنها أحد ، أما الدليل الصحيح فلا يقدر على الإتيان به كل أحد .
ثانيا إن أحوال الرشيد المروية عن ترفه و زهده و لهوه ، هي أحوال كلها تدخل في إطار الإمكان العقلي ، ،و لا نستطيع ترجيح حالة على أخرى دون دليل صحيح ، لأنه لا يغيب عنا أن كثيرا من الخلفاء و الملوك و الأمراء عُرفوا في تاريخنا الإسلامي بجمعهم بين مظاهر التدين و اللهو و الانحراف ، لأسباب و أغراض كثيرة ، الله أعلم بها و بنوايا أصحابها . و عليه فإن احتجاج ابن خلدون بما رُوي عن زهد هارون الرشيد ليس دليلا قاطعا لإثبات ما ذهب إليه ، لأنه رُويت عنه أيضا أحوال أخرى مخالفة لذلك ، و الفيصل هنا هو تحقيق كل ما رُوي عن أخلاقه ، قبل اتخاذ موقف نهائي منه ؛ مع العلم أن جمع الرشيد بين تلك المظاهر يبقى ممكنا في حقه ، و ليس مستحيلا ، لأنه قد يُثبت التحقيق العلمي صحة تلك الروايات على اختلافها .
و ثالثا إن قوله بأن مما يدفع عن الرشيد تلك الاتهامات قربه من جده و ابنه المعروف عنهما بعض التدين ، هو قول لا يصلح أن يكون دليلا ، لأن الإيمان و التقوى و الزهد و الصلاح ، هي صفات لا تُورث، و إنما هي تُكتسب بالإخلاص و اليقين و العمل الصالح ، و ليس بالضرورة أن الرجل الصالح يكون أهله مثله صالحين ، فها هو نوح-عليه السلام- كانت زوجته و ابنه غير صالحين ، و لوط-عليه السلام- لم تكن زوجته صالحة ، و إبراهيم –عليه السلام- كان والده كافرا ، و رسولنا الكريم-عليه الصلاة و السلام- كان عماه أبو طالب و أبو لهب كافرين .
و رابعا إن دفاعه عن هارون الرشيد في مسألة معاقرته للخمر ، هو دفاع ضعيف جدا ، لأنه لا يُوجد مانع يمنعه من شرب الخمر إلا التقوى ، أما الاحتجاج بما كان عليه جده فهذا ليس دليلا أصلا . و أما قوله إن أشراف العرب كانوا يتورعون عن شرب الخمر في الجاهلية ، فهذا غير صحيح ، فقد كان العرب-في الغالب الأعم- يشربونها هم و أشرافهم و مواليهم و عبيدهم ، و حتى الصحابة كانوا يشربونها قبل التحريم ، و من المعروف أن قريشا لما خرجت إلى غزوة بدر ، خرج معها كل أشرافها ، و قال أبو لهب –لما جاء خبر نجاة العير- و هو من كبار أشرافها ، قال : (( و الله لا نرجع ، حتى نرد بدرا ، فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزور ، و نطعم الطعام ، و نسقي الخمر ، و نعزف القيان ))[60]. و قد شرب أحد الصحابة الخمر حتى بعد تحريمها , و أُقيم عليه الحد[61] . و عليه فإن شرب هارون الرشيد للخمر ممكن ، و دليل ابن خلدون في دفعه عنه ضعيف .
و خامسا إن قوله بأن الرشيد و أجداده كانوا يتجنبون المذمومات في دينهم و دنياهم ،و التخلق بالمحامد و أوصاف الكمال ، هو قول ليس صحيحا على إطلاقه ، فقد يصدق على بعض سلوكياتهم ، أما عامتها فلا يصدق عليها بحال ,و الشواهد على ذلك كثيرة ، منها إنهم من أجل الملك قتلوا بحق و بغير حق، و سفكوا الدماء ،و هتكوا الأعراض، و نقضوا العهود، و ارتكبوا مجازر رهيبة ، قُتل فيها خلق كثير لا يُحصيهم إلا الله تعالى[62] . و معروف عنهم-على ما يُروى- أنهم أعطوا الأمان للأمويين بالعهود و المواثيق ، ثم لما جمعوهم نقضوها و قتلوهم شر قتلة[63] .
و الشاهد الثاني هو أن العباسيين لما استولوا على الحكم بالقوة ، توارثوه فيما بينهم ، و هذا ليس سلوك من يتجنب المذمومات في دينه و دنياه ، لأنهم أولا أخذوا الحكم بالقوة و لم يعطه لهم المسلمون . و ثانيا إنهم توارثوا الحكم و حرموا المسلمين من حقهم الشرعي في اختيار من يحكمهم ، لمدة 524سنة ، و هو حق أعطاه إياهم الشرع الحكيم . و ثالثا إنهم أداروا ظهورهم للعلويين الذين تعاونوا معهم ،و قتلوا كثيرا منهم بحق و بغير حق .
و أما موقفه من المأمون ، فقال مدافعا عنه : (( و أين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه و علمه ، و اقتفاء سنن الخلفاء الراشدين من آبائه ،و أخذ بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة ، و مناظرته للعلماء و حفظه لحدود الله تعالى في صلواته و أحكامه ، فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهزئين ))[64] . و قوله هذا غير صحيح في معظم جوانبه ، و هو من مجازفاته الغريبة ، و الشواهد الآتية تثبت ذلك قطعا .
أولها إن قوله بأن المأمون أخذ بسير الخلفاء الراشدين الأربعة ،و تسميته لبعض أجداده بالخلفاء الراشدين ، هو قول مبالغ فيه جدا ، و لا يصدق عليه-أي المأمون- في أهم ما تميز به الخلفاء الراشدون ، فهم وصلوا إلى الحكم بالشورى و البيعة و الاختيار ، و أما العباسيون فوصلوا إليه بسفك الدماء ، ثم توارثوه بدون اختيار من المسلمين و لا مشورة منهم ، و فرضوا أنفسهم عليهم بالقوة ؛ فدولتهم دولة ملك لا دولة خلافة ، و أنما سميت خلافة مجازا و تجاوزا و تضليلا ، بدليل أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- صحّ عنه أنه قال : (( اقتدوا بالذين من بعدي ، أبو بكر و عمر ))، و قال (( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) ، و (( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون بعد ذلك ملكا ))[65] . فدولة بني العباس مُستثناة من الخلافة الراشدة الممدوحة المطلوب الاستنان بها ، فهي إذن مذمومة . و كيف يكون المأمون على سنة الخلافة الراشدة ،و قد أعلن جهارا نهارا أن أفضل الناس بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- ، هو علي ابن أبي طالب[66] ، مخالفا بذلك النصوص الشرعية ، و أقوال علي و غيره من الصحابة ، و حقائق التاريخ الثابتة ، و أقوال السلف ، في أن أفضل الناس بعد رسول الله هو أبو بكر ثم عمر[67] .
و الشاهد الثاني هو أ ابن خلدون مدح المأمون في علمه و مناظراته ، و سكت عن انحرافاته الفكرية ،و أعماله الخطيرة التي أثّرت سلبا على الحياة العلمية عند المسلمين ، فقد كان معتزليا يقدم الشرع على العقل ، و ينفي صفات الله تعالى ، و ينكر تكلّمه ، مخالفا بذلك صريح القرآن الكريم و السنة النبوية ،و ما كان عليه السلف الصالح[68] . و هو الذي أشرف على ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية ، و صرف عليها أموالا طائلة من أموال الأمة ، فترجم كثيرا من ضلالات و كفريات و انحرافات اليونان و الفرس و الهنود[69] ، و لم يُفرق بين ما ينفع الأمة و ما يضرها ، و ما يصح ترجمته و ما لا يصح ، فكان عمله في عمومه كارثة على جوانب كثيرة من الحياة الفكرية عند المسلمين ، ضرره أكثر من نفعه ، فأحدث نزاعا مريرا بين علماء الإسلام ، و الفلاسفة المشائين المسلمين ، ما تزال آثاره السلبية قائمة إلي يومنا هذا .
و الشاهد الثالث هو أن ابن خلدون بالغ في مدح المأمون في دينه و سلوكه ، و نسي الأخطاء و الجرائم التي ارتكبها في حق الرعية ، فقد ذهبت طائفة منهم ضحية سياسته الخرقاء ، عندما فرض على الناس القول بخلق القرآن بالقوة ، و من عارضه و لم يستجب له عاقبه ، فامتحن العلماء ، و سجن بعضهم ، و بعضهم مات في السجن ، و عندما حضرته الوفاة أوصى خليقته المعتصم بمواصلة امتحان الناس بالقول بخلق القرآن[70] .
و الشاهد الرابع هو أن ابن خلدون كال المديح للمأمون و وصفه بصفات لا يستحقها ، و نسي أو تناسى أنه –أي المأمون- كان من رؤوس المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، و كبار علماء السلف قد ذموهم ، و كفروا القائلين بخلق القرآن ، منهم : سفيان الثوري، و سفيان بن عيينة ، و يحيى بن معين ، و وكيع بن الجراح، و احمد بن حنبل، و يزيد بن هارون ، و عبد الله بن المبارك ،و علي بن المديني ، و غير هؤلاء كثير[71] ، فتدبر ذلك . و عليه فلا يصح لابن خلدون المبالغة في مدح المأمون و إلحاقه بالخلفاء الراشدين في الأخذ بسيرهم ،و قد ذكرنا طرفا من أخطائه و جرائمه سكت عنها ابن خلدون .
سابعا : دفاعه عن إدريس بن عبد الله العلوي:
دافع ابن خلدون عن نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله العلوي، و قال إن الطاعنين فيه قالوا إن إدريس هذا هو ابن مولاهم راشد ،و ليس ابن إدريس الأكبر ، و هؤلاء الطاعنون في نسبه هم العباسيون و من أيدهم ، محاولة منهم لوضع حد لدولة الأدارسة العلوية بالمغرب الأقصى ، ثم قال ابن خلدون : (( على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان ، فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس ، و طهرهم تطهيرا ، ففراش إدريس طاهر من الدنس ،و منزه عن الرجس بحكم القرآن))[72] .
و ردا عليه أقول: أولا إنني لا أناقش مسألة صحة نسب إدريس من بطلانه ، و إنما أناقش ابن خلدون و أرد عليه في طريقة الاستدلال التي اتبعها في إثبات صحة نسب إدريس، لأنني أرى أن دليله كان ضعيفا جدا، و استدلاله بالقرآن كان خطأ.
و ثانيا إن آية التطهير لا تدل على ما ذهب إليه ابن خلدون ، و يجب فهمها ضمن سياقها الذي وردت فيه ، فالله تعالى يقول: (( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، و قلن قولا معروفا ،و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، و أقمن الصلاة و أتين الزكاة ، و أطعن الله و رسوله، إنما يُريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يُطهركم تطهيرا ،و اذكرن ما يُتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة ، إن الله كان لطيفا خبيرا)) –سورة الأحزاب/32-34 –
فهذه الآيات خاطبت زوجات الرسول-عليه الصلاة و السلام- و أمرتهن بجملة أوامر، فبدأها الله تعالى بالأوامر و ختمها بها ، و أثناءها قال الله تعالى: (( و إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت و يُطهركم تطهيرا )) فجاءت الآية بصيغة المذكر لأن رسول الله داخل معهن ، و هو أول أهل البيت ، كما أن الآية قالت أهل البيت و لم تقل آل البيت ، و الأهل أخص ،و الآل أعم ، فالآية ليس فيها توسيع لتشمل الآل .
و واضح أيضا أن آية التطهير مُعلق تحقيقيها بتطبيق الأوامر و لا تتحقق إلا بها ، لذلك قال تعالى : (( إنما يُريد الله ليذهب )) ، فهذه الإرادة متوقفة على الالتزام بتلك الأوامر ، فمن التزم بها طهّره الله تعالى ،و من لم يلتزم بها لا يُطهره .
و هذا التطهير الموعود ليس خاصا بأهل البيت فقط ، بل هو يعم كل المسلمين ، فكل مسلم قام بتلك الأوامر يُطهره الله تعالى ، لقوله : (( خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها ))-سورة التوبة/ 103- ،و (( و لكن يُريد الله ليطهركم و يتم نعمته عليكم )) –سورة المائدة /6- .
و عن تلك الآية يقول ابن تيمية ، إنها كقوله تعالى(( ما يُريد الله ليجعل عليكم من حرج ،و لكن يريد ليطهركم ،و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) ، و الله تعالى لم يُخبرنا أنه طهر جميع آل البيت ، و أذهب عنهم الرجس ، فإن هذا كذب على الله ، فكيف و نحن نعلم أن من بني هاشم من ليس بمطهر من الذنوب، و لا أذهب عنهم الرجس . و معنى تلك الآيات هو أن الله تعالى يحب ذلك لعباده ، و يرضاه لهم ، و يأمرهم به ، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب ، و من لم يفعل لم يحصل له ذلك ، كقوله تعالى (( يريد الله ليُبين لكم ،و يهديكم سنن الذين من قبلكم ،و يتوب عليكم ))[73]-سورة النساء/26- .
و بناء على ذلك فإن ما ذهب إليه ابن خلدون غير صحيح ، عندما زعم أن إدريس بن إدريس مُطهر سلفا ، لأنه من آل البيت ، و هذا فهم خطأ لآية التطهير ، فلا يتطهر إلا من آمن و اتقى ، سواء كان من أهل البيت ، أو من آل البيت ، أو من أبناء الصحابة ، أو من باقي المسلمين .
و ثالثا إن مما يُبطل زعم ابن خلدون من طهارة آل البيت لمجرد أنهم من آل البيت ، هو أن التاريخ يشهد بأن في آل البيت الصالح و الطالح، و أنهم تقاتلوا فيما بينهم مرارا ، و ما حدث بين العلويين و العباسيين من اقتتال و خيانات في صراعهم على الملك معروف في التاريخ لا يحتاج إلى توثيق . و ما ارتكبه العباسيون من قتل وسفك للدماء ، للوصول إلى السلطة معروف في كتب التواريخ ، فلما استحوذوا عليها توارثوها و حرموا المسلمين من حقهم في اختيار من يحكمهم ، و قطعوا الطريق أمامهم لممارسة ذلك الحق المكفول شرعا .
ثامنا : دفاعه عن نسب العُبيديين الإسماعيليين:
دافع ابن خلدون عن العبيديين الإسماعيليين المعروفين بالفاطميين ، في ادعائهم للنسب العلوي ،و صحح انتسابهم إليه ، و خطّأ العلماء الذين أنكروا ذلك ، و قال إنهم غفلوا عن الشواهد و الأدلة التي تُثبت صحة دعوى العبيديين في انتسابهم لعلي بن أبي طالب[74] . و ذكر خمسة أدلة لإثبات ما ذهب إليه ، نذكرها فيما يأتي تباعا .
أولها إنه قال إن العبيديين لو كانوا كاذبين مدعين للنسب العلوي لانكشف أمرهم سريعا ، ثم قارن حالهم بالقرامطة في ادعائهم للنسب العلوي ، كيف تلاشت دعوتهم ،و تفرق اتباعهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، فساءت عاقبتهم و ذاقوا وبال أمرهم ، فلو كان حال العُبيديين كحال القرامطة لأنكشف أمرهم بسرعة[75] .
و ردا عليه أقول : أولا لا يوجد دليل من النقل و لا من العقل يقول إن الكاذب لا بد أن ينكشف أمره بسرعة في هذه الدنيا و يعرفه الناس و يفشل في تحقيق مراده ، فكم من أكاذيب و أباطيل موجودة في الأديان و المذاهب و الدعوات و الأحزاب السياسية ، و لا يعرفها أكثر أتباعها , و لم ينكشف أمرها لديهم ، و هم يعتقدون أنها صحيحة و يموتون من أجلها ، و لهذا أخبرنا الله تعالى أنه هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه بحق و بغير حق ، رغم أنه سبحانه أنزل كتابه المعجز المؤيد بالبراهين الدامغة ، لأن الكذابين نجحوا في نشر أكاذيبهم لحجب نور الإسلام عن أكثر شعوب العالم ، و هي شعوب مُغيبة و مُخدرة ، و مُغرر بها ، و لا تعلم حقيقة الإسلام ، و هي على ضلال بسبب أعمال هؤلاء الماكرين الأفاكين الذين نجحوا قرونا طويلة في ممارسة لعبتهم القذرة في صد شعوب العالم عن الإسلام ، باستخدام الكذب و الشبهات و المغالطات و غيرها من أساليب الصد عن سبيل الله تعالى .
و ثانيا إن ما قاله عن القرامطة من أنهم لما كانوا كاذبين في ادعائهم للنسب العلوي ، تلاشت دولتهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، هو كلام غير صحيح ، و مغالطة مفضوحة ، لأن القرامطة أسسوا دولة كغيرهم من كثير من مؤسسي الدول ، فاستمرت دولتهم نحو قرن من الزمن ، بجنوب الجزيرة العربية ، و حققوا انتصارات كثيرة على العباسيين و شكّلوا عليهم خطرا داهما ، حتى إنهم دخلوا الحرم المكي سنة 317 ، و قتلوا بداخله الحجيج ، و أخذوا الحجر الأسود إلى عاصمتهم بالبحرين ،و بقي عندهم عدة سنوات ، و لم تقدر الدولة العباسية على استرجاعه ، و لا على القضاء عليهم ، و قد وصل نفوذ هؤلاء إلى بلاد الشام[76] . فهؤلاء على كفرهم و زندقتهم دامت دولتهم نحو قرن من الزمن ، و هي فترة ليست بالقصيرة ، فدول أخرى غير مطعون في نسبها عاشت نفس الفترة ، فالدولة الأموية عاشت 91 سنة ، و الدولة المرابطية عاشت نحو 91 سنة ، ، و أكثر من ذلك ، فإننا نجد الدولة الراشدة المؤمنة لا يزيد عمرها عن 30 سنة ، و دولة الصحابي عبد الله بن الزبير استمرت نحو13 سنة .
و ثالثا إن قوله بأن العبيديين لو كانوا كاذبين لانكشف أمرهم سريعا كما انكشف حال القرامطة ، هو قول غير صحيح ، و من مغالطاته ، لأن العبيديين هم أيضا انكشف أمرهم و خبثهم و زندقتهم ضلالهم بسرعة ، فإنهم لما ظهرت دولتهم بالمغرب الإسلامي(سنة 296ه) و أظهروا ادعاءهم للنسب العلوي ، أنكر عليهم ذلك العارفون بالنسب العلوي بمكة و المدينة ، و قد كان هذا (( الإنكار لباطلهم شائعا في الحرمين ، و في أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يُدلّس أمرهم على أحد ، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه ))[77] . و قد ألف الزاهد الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن الحسن العلوي الدمشقي(ت ق: 4ه) كتابا عن العلويين ، نفى فيه زعم عبيد الله المعدي انتمائه للبيت العلوي ، و بالغ في نفيه ، و قال إنه دعي و نحلته خبيثة ، مدارها على المخرقة و الزندقة[78] .
و ضلالاتهم و منكراتهم هي أيضا ظهرت مبكرا ، فما إن أسسوا دولتهم حتى أظهروا ذلك جهارا نهارا ، فسبوا الصحابة و اضطهدوا أهل السنة ، و قتلوا منهم الآلاف ، مما حدا بعلماء السنة بالقيروان إلى إصدار فتوى بارتداد و زندقة هؤلاء ،و الدعوة إلى حمل السلاح لمقاومتهم[79] .
و رابعا إنه لا توجد علاقة حتمية بين الكذب و سرعة الانكشاف ، فقد ينكشف الكذب و قد لا ينكشف لمعظم الناس و يستمر قرونا عديدة ، فالأرض تموج بالعقائد و المذاهب الباطلة ، و لم ينكشف كذبها و زيفها لمعظم أتباعها ، كما هو حال اليهود و النصارى و الهنود و البوذيين ، و معظم الفرق الإسلامية على نفس ذلك الحال ، لأن القائمين عليها هم على قدم وساق لضمان استمرار أكاذيبهم و مفترياتهم .
و خامسا إنه لا توجد علاقة حتمية بين سرعة السقوط و الكذب ، و لا بين طول الأعمار و الصدق ، لكن مقتضى زعم ابن خلدون هو وجود هذه العلاقة ، و هي بلا شك علاقة باطلة بدليل الشواهد الآتية ، منها أن هناك رجالا صادقين مؤمنين أسسوا دولا فلم تُعمر طويلا ، كدولة الراشدين ،و دوله الصحابي عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- . و أن هناك رجالا كاذبين هم أيضا أسسوا دولا لم تعمر طويلا ، كدولة بابك الخرمي ،و دولة صاحب الزنج .
و منها أيضا دولة الحشاشين الإسماعيلية بقلعة ألموت ببلاد فارس، كانت دولة رافضية ضالة منحرفة مفترية على الله و رسوله و المؤمنين ، و مع ذلك عمرت أكثر من 170 سنة . و كذلك دولة برغواطة البربرية بجنوب المغرب الأقصى ، فقد كذب ملوكها على الله و رسوله الأكاذيب الكبار ، و فيهم من ادعى النبوة ، و أحلوا لرعيتهم المحرمات ،و شرعوا لهم صلوات من أهوائهم ، و مع هذا دامت دولتهم نحو 300 سنة[80] ، على كفرها و زندقتها ، و قد عمرت أكثر من دولة العبيديين الإسماعيليين ، التي دامت 271سنة .
و يتبين مما ذكرناه أن التاريخ يُثبت عكس ما زعمه ابن خلدون ، و هو أن الكذابين هم الذين عمرت دولهم مدة طويلة ، و أن الصادقين المؤمنين لم تعمر دولهم –على قلتها-إلا قليلا ، حتى إن تاريخنا الإسلامي الطويل ، على كثرة دوله لم تتكرر فيه الدولة الراشدة إلى يومنا هذا .
و أما الدليل الثاني –الذي اعتمد عليه ابن خلدون – فمفاده أن مما يدل على صحة نسب العبيديين في ادعائهم للعلوية ، هو أن أتباعهم بعد سقوط دولهم ظلّوا يوالونهم ،و خرجوا مرارا للمطالبة بالخلافة ، و يقولون بالوصية لأئمتهم ، فلو ارتاب هؤلاء في (( نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم ، فصاحب البدعة لا يُلبس في أمره ، و لا يشبه في بدعته ،و لا يكذب نفسه فيما ينتحله ))[81] .
و قوله هذا غير صحيح ،و فيه تمويه و مغالطة ، تُبطله المعطيات الآتية : أولها إن كل أصحاب الأديان و المذاهب ، ما صح منها و ما بطُل ، لا يرتابون-في غالبهم- في عقائدهم و يركبون الأهوال من أجلها ، لكن هذا لا يدل بالضرورة على أن أفكارهم صحيحة ، لأن الحق لا يُعرف –بالضرورة- بتلك التصرفات ، و إنما الحق يُعرف أساسا بذاته و بالدليل الذي يحمله ، لذا فإن ثورة هؤلاء العبيديين للمطالبة بعودة دولتهم ليست دليلا على صحة نسبهم ، و إنما قد يدل ذلك على صدق ولائهم للعبيديين ، و هذا ليس دليلا على صحة نسب هؤلاء ، لأن كل الأديان و المذاهب لها أتباع مخلصون لها ، لكن إخلاصهم هذا ليس دليلا على صحة تلك العقائد و صوابها ، فكم من طوائف و ملل ضالة متحمسة لباطلها و ضلالها ! ، كحال اليهود في فلسطين ، فهم يدافعون عن دولتهم و يموتون من أجلها ،و مع ذلك فهم مغتصبون لفلسطين ، و لا يدل تعصبهم و موتهم من أجلها ، أنهم أصحاب حق في فلسطين .
و ثانيها إن صاحب البدعة الضال المنحرف الكذاب قد يلتبس أمره على كثير من الناس ، فيصدقونه و يُؤمنون بفكره ، و يضع لهم عقائد و تشريعات و ينشئ لهم مذهبا جديدا مزيفا ، و مع ذلك لا ينكشف أمره عند معظم أتباعه ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا قديما و حديثا ، منها السبئية ، و الخرمية ، و الإسماعيلية ، و الإثنى عشرية ، و البهائية ، و القاديانية ، و غيرها كثير ، فثورة هؤلاء الأتباع انتصارا لمذاهبهم و تحمسهم لها ليس دليلا على صحتها ، فكذلك ثورة أتباع العبيديين بمصر لاسترجاع دولتهم ، فإنها لا تدل على صحة النسب العلوي ، على حد زعم ابن خلدون .
و الدليل الثالث مفاده أن عبيد الله المهدي الإسماعيلي لما دخل بلاد المغرب و استقر بسجلماسة عند المدراريين بجنوب المغرب الأقصى ، أرسل الخليفة العباسي إلى الأغالبة و المدراريين يُخبرهم بذلك و يحثهم على القبض على عبيد الله ، و هذا عند ابن خلدون دليل شاهد على صحة نسب العبيديين العلوي[82] . فهل ما ذهب إليه صحيح ؟ ، كلا إنه ليس حجة مقنعة ، لأن الخليفة لما سمع بانتقال عبيد الله المهدي إلى المغرب سعى إلى القبض عليه ، لأنه يمثل خطرا عليه و على الأغالبة و المدراريين على حد سواء ، لذلك أغراهم به ،و حثهم على وضع حد له ، لأنه يهدد الجميع ، و تصرّفه هذا لا يدل على صحة نسب عبيد الله المزعوم ، و قوله –أي الخليفة- لهؤلاء بأن الذي دخل بلادهم هو المهدي ، يعني أنه عرّفهم بأنه هو الذي يدعي المهدوية و يرفع شعار العلويين ،و تصرّفه هذا طبيعي و ضروري ، كان يتصرّفه مع أي خطر يتهدده من أي جهة كانت .
و دليله الرابع هو أبيات شعرية للشاعر الشريف الراضي الشيعي العلوي ، يقول فيه :
أليس الذل في بلاد الأعادي + و بمصر الخليفة العلوي
مَن أبوه أبي و مولاه مولاي + إذا ضامني البعيد القصي
و هو –أي ابن خلدون- في اعتماده على هذا الشعر متناقض مع نفسه ، لأنه استدل هنا بشعر للراضي لإثبات صحة نسب العبيديين العلوي ، ثم هو في موضع آخر من مقدمته يُشير إلى المحضر الذي كتبه العباسيون للطعن في العبيديين المدعين للنسب العلوي ، و يذكر من بين الأعيان الذين وقّعوا على المحضر الأخوان الشيعيان الراضي و المرتضي[83] . و قد أكدت ذلك مصادر تاريخية أخرى من أن الأخوين الراضي و المرتضي كانا من الموقعين على المحضر[84] . مع العلم أنه لما انتشر ذلك الشعر بين الناس ،و تكلّموا في قائله أنكر الراضي ذلك و حلف أنه لم يقله[85] .
و لا ندري هل تعمد ابن خلدون ذكر ذلك التناقض ، أم لم يتنبه له ؟ كما أن ذلك الشعر المنسوب للراضي ، إما أنه منحول عليه ، و إما أنه قاله نكاية في العباسيين قبل كتابة المحضر أو بعده ، بحكم العداء الموروث بين العباسيين و العلويين بسبب الحكم . مع أن موقفه الذي ذكره في المحضر هو الصحيح ، لأن أعيان بغداد من مختلف الطوائف وافقوا عليه ، و لأن الأدلة الكثيرة التي سبق ذكرها ، و التي سيأتي بعضها لاحقا ، كلها تؤيد ذلك ، و بذلك يتبين أن اعتماد ابن خلدون على ذلك الشعر في تصحيح نسب العبيديين ، هو اعتماد ضعيف جدا و لا يصح .
و دليله الأخير –أي الخامس- في تصحيحه لنسب العبيديين ، هو قوله بأن الانقياد للعبيديين و ظهور كلمتهم هو أدل شيء على صدق نسبهم[86] . و دليله هذا هو أيضا غير صحيح ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الصدق و قيام الدول ،و بين الكذب و عدم نجاحها ، لأن قيامها يخضع لأسباب كثيرة جدا ، أهمها حسن التنظيم ،و توفر القوة المادية و المعنوية ، و حسن اختيار الظروف المناسبة داخليا و خارجيا . كما أنه لا يوجد دليل نقلي و لا عقلي و لا تاريخي يدل على أن ظهور الدول و انتصارها يدل بالضرورة على أنها و أصحابها على صدق و صواب ، فالله تعالى يعطي الدنيا لمن يُحب و لمن لا يُحب ، قال سبحانه (( كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك ،و ما كان عطاء ربك محظورا )) –سورة الإسراء /20- ،و (( تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/140- ، لكنه سبحانه لا يُدخل الجنة إلا من يُحب، و لا يُخلّد في النار إلا من لا يُحب ، و هذا معروف من دين الإسلام بالضرورة .
و الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا ، فمن الدول التي أسسها كذابون ضالون منحرفون : دولة القرامطة ، و دولة الحشاشين ، و دولة العبيديين ، و دولة البرغواطيين ، و دولة اليهود . و منهم أيضا كذابون فشلوا في تكوين دول لهم ، كزعيم الحركة الرواندية ، و صاحب الزنج ، و أستاذ سيس ،في ثوراتهم على العباسيين في القرنين الثاني و الثالث الهجريين .
و في مقابل هؤلاء هناك صادقون كثيرون أسسوا دولا ، كدولة الخلافة الراشدة ، و دولة عبد الله بن الزبير ، و دولة الزنكيين ، و دولة الأيوبيين ، و دولة المرابطين ، و منهم أيضا صادقون فشلوا في تكوين دول لهم ، كالحسين –رضي الله عنه- ،و العلويين السنيين الذين فشلوا في خروجهم على الأمويين و العباسيين .
و النصارى في زماننا هذا ظاهرون ،و يُهيمنون على العالم ، و يزعمون أنهم على دين المسيح-عليه السلام- ، فهل هذا الظهور دليل على صدق ديانتهم و صوابها ؟ ، طبعا لا ، لأنهم على دين محرف بشهادة القرآن الكريم ،و السنة النبوية ، و البراهين العقلية و العلمية الكثيرة ، فالظهور الدنيوي إذن ، ليس دليلا بالضرورة على الصدق و لا على الكذب ، و إنما صدق الدعوات و صحة أفكارها يقوم أساسا على الحق الذي تحمله المؤيد بالأدلة النقلية و العقلية و العلمية الصحيحة .
و بذلك يتبين أن أدلة ابن خلدون في إثبات صحة انتساب العبيديين للعلويين ، هي كلها لا تصح ، و فيها كثير من المغالطات و التمويهات و المخالفات لكثير من حقائق المنقول و المعقول و التاريخ . و في مقابل ذلك نجد أدلة إثبات كذب هؤلاء في انتسابهم للعلويين ، قوية و راجحة ، نذكر منها ما يأتي :
أولها إن كثيرا من البيوتات العلوية أنكرت ما زعمه العبيديون من انتسابهم للعلويين ، و قالت إنهم خوارج كذبة[87] . و ثانيها هو إن هؤلاء العبيديين –لما أقاموا دولتهم- أظهروا كفرا بواحا ،و ادعى بعضهم الألوهية ، و سبوا الأنبياء و الصحابة ،و سفكوا الدماء ، و أحلوا الخمر و أباحوا الفروج[88] . و من كان هذا حاله فهو كذاب في انتسابه للإسلام ، و كذاب أيضا في زعمه أنه على منهاج علي بن أبي طالب و بنيه- رضي الله عنهم- ، فما كان علي و أولاده على مذهب هؤلاء العبيديين الزنادقة ، و إنما كان هو و بنوه على مذهب أهل السنة و الجماعة . و إذا كان ذلك هو حال العبيديين فإنهم على الأرجح هم أيضا كذبة في انتسابهم للعلويين .
و الدليل الثالث هو أن العبيديين لما كوّنوا دولتهم ارتكبوا في حق أهل السنة بالمغرب الإسلامي جرائم نكراء ، و أقاموا لهم دار النحر ذبحوهم فيها كالكباش ظلما و عدوانا ، مما دفع علماء القيروان إلى إصدار فتوى بكفرهم و زندقتهم و الدعوة لحمل السيف لجهادهم[89] . فهذه التصرفات التي قام بها هؤلاء العبيديون ، هي دليل قوي على أنهم ليسوا من العلويين ، لأن العلويين الذين انتسبوا إليهم و هم علي و أولاده ، كانوا من أهل السنة و لم يكونوا رافضة أصلا ، فهذه المخالفة دليل قوي علىكذبهم .
و الدليل الرابع هو أن هؤلاء العبيديين عندما ادعوا النسب العلوي كانوا في مرحلة التستر و الكتمان ، نظموا خلالها جماعتهم و ادعوا فيها ما شاءوا ، بعيدين عن أعين الناس ، و عليه فنحن من حقنا أن نشك في كل ما زعموه ،و ننكر الدعاوى التي لا دليل عليها و تردها الشواهد التاريخية ، خاصة و أنه قد ثبت أنهم بالفعل كانوا كذبة ضالين منحرفين .
و الدليل الخامس يتمثل في المحضر الذي كتبه كبار علماء بغداد و قضاتها و أعيانها ، في سنة 402 هجرية ، أنكروا فيه دعوى العبيديين انتسابهم للبيت العلوي ، و شهدوا عليهم بالكذب و
[1] ابن خلدون : المقدمة ، ص: 73 .
[2] الألباني: الأحاديث الضعيفة ، ج3 / 1198 .
[3] المقدمة ، ص: 74 .
[4] ج 2 ص: 116 .
[5] ابن خلدون : المصدر السابق ، ص: 310 .
[6] النرمذي: سنن الترمذي ، ج 4 ص: 494 ، 495 . و الألباني: الأحاديث الضعيفة ، ج3 / 1171 ، 1727 .
[7] علي القاري: الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، ط2، بيروت ، المكتب الإسلامي، ص: 236 . و محمد ظافر المدني: تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة ، ط1 ، دمشق ، دار ابن كثير ، 1405ه ، ص: 139 .
[8] البخاري: الصحيح ، ج 3 ص :1349 .
[9] المقدمة ، ص: 99 .
[10] صحيح البخاري، ج 4 ص: 1600 .
[11] المقدمة ، ص : 84 .
[12] مسلم : صحيح مسلم ، ج4 ص: 1773 . و ابن ماجة : السنن ، ج 2ص: 1285 . و ابن حجر: فتح الباري ، ط12 ص: 369 .
[13] المقدمة ، ص: 245 ، 352 .
[14] محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، الجزائر ، دار رحاب، دت ، ص: 147 . و أصول التخريج و دراسة الأسانيد ، ص: 143 .
[15] المقدمة ، ص: 245، 353 .
[16] ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح ، ص: 18 .
[17] النووي : شرح النووي على صحيح مسلم ، ج 1 ص: 27 .
[18] منهاج السنة النبوية ، ج 4 ص: 25 ، 59 .
[19] ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج1 ص: 250 ، 256 ، 257 .
[20] نفس المصدر ، ج 1 ص: 257 ، ج 18 ، ص: 70 .
[21] المنار المنيف ، ص: 72 .
[22] البداية و النهاية ، ج 1 ص: 17 .
[23] ابن حجر: مقدمة فتح الباري، حققه محب الدين الخطيب ، بيروت ، دار المعرفة ، 1379، ص: 246، 346 .
[24] يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع السنة النبوية ، الجزائر ، دار المعرفة ، ص: 97، 98 .
[25] ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، مقدمة الألباني ، حققه نخبة من العلماء ، ط9 ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، ص: 23 .
[26] القرضاوي : المرجع السابق ، ص: 97، 98 .
[27] أنظر مقدمة الصحيحين .
[28] المقدمة ، ص: 90 ، 301 .
[29] محمود عبد المولى : ابن خلدون و علوم المجتمع ، ليبيا-تونس ، الدار العربية للكتاب، 1980، ص: 89 .
[30] علي بن هادية : القاموس الجديد ، ص: 1206-1207 .
[31] للتوسع في ذلك انظر : عماد الدين خليل : التفسير الإسلامي للتاريخ ، ص: 255 و ما بعدها .
[32] انظر ص : 255 و ما بعدها .
[33] نقلا عن الطالب : زهير ديلمي : النظرية السياسية عند الماوردي ، رسالة ماجستير في التاريخ الإسلامي ، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية ، قسم التاريخ ، جامعة الجزائر ، 2004-2005 , ص: 210 .
[34] ولي الله الهلوي: الانصاف ، ص: 68و ما بعدها ، و 87 و ما بعدها .
[35] المقدمة ، ص: 361 .
[36] نفس المصدر ، ص: 355 .
[37] أبو زهرة :تاريخ الجدل ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1980، ص :296 .
[38] نفس المرجع ص: 297 .
[39] انظر مثلا: عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس .
[40] أبو شامة : مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، ضمن مجموع هدى المدرسة السلفية ، الجزائر ، دار الشهاب ، 1988 ، ص: 217، 218 ، 227 . و المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط و الأثار ، القاهرة ، مكتبة الثقافة الدينية ، دت ج2 ص: 344 . و ابن خلدون: المقدمة، ص: 361 . و عمر سليمان الأشقر: المدخل إلى دراسة المدارس و المذاهب الفقهية ، ط2 ، الأردن ، دار النفائس ، 1998، ص: 176 .
[41] انظر مثلا : عبد القادر النغيمي: الدارس في تاريخ المدارس .
[42] راجع مثلا علماء القرنين الخامس و السادس الهجريين ، في كتاب شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي .
[43] المقدمة ، ص: 354 .
[44] الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 2 ص: 630-631 .
[45] هؤلاء الذين ذكرناهم معروفون بالاجتهاد ، لكن انظر مثلا : ابن ردب البغدادي: الذيل على طبقات الحنابلة، ج1 ص: 148، 190 ، 192 . و ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ، ج 7 ص: 155 و ما بعدها .
[46] للتوسع في ذلك انظر: ابن كثير : البداية و النهاية ، الحوادث ما بين سنتي: 700-728ه .
[47] المقدمة ، ص: 454 .
[48] انظر : ابو شامة : ذيل الروضتين ص : 18 . و السبط بن الجوزي : مرآة الزمان ، ج 8 ص : 414 .و ابن كثير: المصدر السابق ج 12 ص : 249 ، و ج 13 ص :119 ، 120 .و ابن الجوزي : المنتظم ج 10 ص: 22 ، 33 . و ابن تيمية : خلاف الأمة في العبادات و مذاهب أهل السنة الجزائر دار الشهاب 1988 ، ص : 111 ، 113 .
[49] السيد سابق : فقه السنة ، ج 1 ص : 10 .و جابر فياض العلواني : أدب الاختلاف في الإسلام ص : 147 .
[50] فاروق النبهان : الفكر الخلدوني ، ص: 370 .
[51] الألباني: الأحاديث الصحيحة ، ج 5 / 2244 .
[52] المقدمة ، ص: 118 .
[53] نفس المصدر ، ص: 119 .
[54] نفسه ، ص: 119 ، 120 .
[55] البسائط التي يقصدها ابن خلدون هي الأمور غير المعقدة السهلة التناول ،و هو قد فسرها بذلك عندما شرح ذلك الحكم الذي أطلقه في حق العرب . المقدمة ، ص: 117 . و علي بن هادية : القاموس الجديد ، الجزائر ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، ص: 149 .
[56] نفس المصدر ، ص: 117 .
[57] نفس المصدر ، ص: 118 – 119 .
[58] نفسه ، ص: 119 .
[59] نفس المصدر ، ص: 14 .
[60] البوطي: فقه السيرة ، ص: 157 .
[61] البخاري: الصحيح ، باب ما يُكره من لعن شارب الخمر و أنه ليس بخارج عن الملة ، ج 6 ص: 2489 .
[62] الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 1 ص: 158 .
[63] انظر مثلا : عبد العزيز سالم: تاريخ المسلمين و آثارهم في الأندلس ،بيروت ، دار النهضة العربية ، 1981، ص: 174، 175 .
[64] نفس المصدر ، 16 .
[65] الألباني: الصحيحة ، حديث رقم : 1142 ، 2735 . سنن أبي داود من تحقيق الألباني ، حديث رقم : 4607 .
[66] ابن كثير : البداية ، ج 10 ص: 177 .
[67] للتوسع في هذا الموضوع انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية .
[68] عن أعمال المأمون انظر البداية و النهاية ، الحوادث بين سنتي : 212 – 218 هجرية . و عن عقائد السلف انظر مثلا : صديق حسن خان : قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر .
[69] للتوسع في ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية ،و أشهر الذين ترجموها أنظر : ابن النديم : الفهرست . و ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء .
[70] انظر مثلا : ابن كثير: البداية ، ج 10 ص: 267 . و الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ، ج 8 ص: 216 ، ج 19 ص: 313 ، ج 24 ص: 299، 300 .
[71] انظر مثلا : الذهبي: السير ، ج 12 ص: 506 .و تذكرة الحفاظ ، ج 2 ص: 428 . و عبد الله بن احمد بن حنبل : السنة ، ج 1ص: 102، 103 ، 108، 110 ، 111، 112 ، 115 ، 122، 124 ، 128 .
[72] المقدمة ، ص: 20 .
[73] منهاج السنة النبوية ، ج 2 ص: 173 .
[74] المقدمة ، ص: 17 ، 18 .
[75] نفسه ، ص: 17 .
[76] أخبار هؤلاء معروفة في كتب التواريخ ، انظر مثلا : ابن كثير : البداية ، ج11 ص: 73 .
[77] نفس المصدر ، ج 11 ص: 421 .
[78] الذهبي: السير ، ج 6 ص: 269-270 .
[79] نفس المصدر ، ج 15 ص: 151 .
[80] ابن خلدون : العبر ، ج6 ص: 276، و ما بعدها . و السلاوي: الاستقصاء ، ج 1 ص: 170 .
[81] المقدمة ، ص: 17 .
[82] كتاب العبر ، ج 3 ص: 449 .
[83] المقدمة ، ص: 30 .
[84] انظر مثلا : الذهبي: السير ، ج 15 ص: 132 . و ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 421 .
[85] ابن الأثير : الكامل ، ج 6 ص: 447 .
[86] كتاب العبر ، ج 3 ص: 449، 450 .
[87] ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 421 . و الذهبي: السير ، ج 6 ص: 269 – 270 .
[88] ابن كثير : نفسه ، ج 11 ص: 421 .
[89] الذهبي: المصدر السابق ، ج 15 ص: 151 .