بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لأقوام السبيل, ونسأله أنيمدنا بعزم لا يأخذه فتور ولا ملل, وأن ينفي عن قلوبنا اليأس ويقوي منا الأمل, والصلاة والسلام على نبينا محمد المؤيد بأجل آية وأستطع برهان , الداعي إلى الدينالحق بأقوم حجة وأبلغ بيان , وعلى آله وأصحابه السادة الأمجاد والذين فتحو بحكمتهمالقلوب, وبأسنتهم الوهاد والنجاد.
أمّا بعد :
فإن رمضان شهر الصبر, ومدرسة الصبر, فالصوم تعويد على الصبر, وتمرين عليه, ولهذا ورد عن النبي صلى اللهعليه وسلم أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر, وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال :
«الصوم نصفالصبر» [أخرجه الترمذي].
ثم إن الصبر ثلاثة أنواع :
صبر على طاعة الله, وصبر عن محارم الله, وصبر على أقدار الله المؤلمة, وتجتمع هذه الثلاثة كلها في الصوم, فإن فيه صبراً علىطاعة الله, وصبراً عما حرم الله على الصائم من الشهوات, وصبراً على ما يحصل للصائممن ألم الجوع والعطش, وضعف النفس والبدن.
وهذا الألم الناشئ من أعمالالطاعات يثاب عليه صاحبه, كما قال تعالى في المجاهدين : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌوَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاًيَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمبِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَالْمُحْسِنِينَ} [التوبة : 120] .
بل إنالصوم يضاعف مضاعفة خاصة, ذلك أن الله عز وجل يتولى جزاء الصائمين, فقد ثبي فيالصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدمله الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائةضعف».
«قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأماأجزي به, إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي».
قال ابنرجب - رحمه الله – في الحديث : " فعلى هذهالرواية يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة, فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشرأمثالها إلّا. الصيام فإنّه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد, بل يضاعفه الله عز وجلأضعافاً بغير حصر عدد, فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَايُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10] " ا هـ.
وهكذايتبين لنا عظم الإرتباط بين الصوم والصبر وأن الصوم سبيل إلى اكتساب خلق الصبر ذلكالخلق العظيم الذي أمر الله به وأعلى منارة, وأكثر من ذكره في كتابه, وأثنى علىأهله القائمين به, ووعدهم بالأجر الجزيل عنده.
قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَاصَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} [النحل: 127], وقال: {وَلَمَنصَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43], وقال عز وجل:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ} [آل عمران:200], وقال : {وَبَشِّرِالصَّابِرِينَ} [البقرة : 155].
وقالالنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : «ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءاًأعظم ولا أوسع من الصبر ».
وقالأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " وجدنا خير عيشنا بالصبر " .
وقال : " أفضل عيش أدركناه بالصبر , ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً ".
وقالأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه : " الصبر مطية لا تكبو ".
وقال الحسن- رحمه الله -: " الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلالعبد كريم عنده ".
فالصائم المحتسب يفيد دروساً جمة في الصبر من جراء صيامه, فهو يدع الطعام والشراب والشهوة حال صيامه, فيفيد درساً عظيماً في الصبر, حيث يتعودفطم نفسه عن شهواتها وغيها.
والصائم المحتسب إذا أوذي أو شتم لا يغضب, ولايقابل الإساءة بمثلها, ولا تضطرب نفسه, فكأنه بذلكيقول لمن أساء إليه :افعل ما شئت فقد عاهدت ربي بصومي على أن أحفظلساني وجوارحي, فكيف أخيس بالعهد, أو أسيء إليك كما أسأت إلي, {لَئِن بَسَطتَإِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَلَأَقْتُلَكَ...} [المائدة:28].
الصائمالمحتسب لا يثور لأتفه الأسباب كحال لم يتسلحوا بالصبر, ممن يظنون أن الصوم عقوبةوحرمان, فيخرجون عن طورهم, وتثور نفوسهم, وتضطرب أعصابهم.
أما الصائمالمحتسب فتراه هادئ النفس, ساكن الجوارح, رضي القلب.
والصائم المحتسب يطردروح الملل, لأن صيامه لله وصبره بالله, وجزاءه على الله.
والأمة الصائمةالمحتسبة تتعلم الإنضباط الصبر على النظام, والتحرير من أسر العادات.
وهكذايتبين لنا أثر الصيام قي اكتساب خلق الصبر, فإذا تحلى الإنسان به كان جديراً بأنيفلح في حياته, وأن يقدم الخير العميم لأمته, ويترك فيها الأثر الكبير. وإن عطل منالصبر فما أسرع خوره, وما أقل أثره.
ثم إن الإنسان - أي إنسان - لابد له منالصبر إما اختياراً وإما إضرارا, ذلك أنه عرضة لكثير من البلاء في نفسه بالمرض, وفيماله بالضياع, وأولاده بالموت, وفي حياته العامة بالحروب وتوابعها من فقدان كثير منحاجاته التي تعودها في حياته, فإذا لم يتعود الصبر على المشاق وعلى ترك ما يألف وقعصريع تلك الأحداث.
وكذلك حال الإنسان مع الشهوات, فهي تتزين له وتغريه, وتتمثل له بكل سبيل, فإذا لم يكن معه رادع من الصبر, ووازع من الإيمان أوشك أنيتردى في الحضيض.
ومن كان متصدياً للدعوة إلى الإصلاح, منبراً للدفاع عنالحق فما أشد حاجته إلى الصبر, وتطين نفسه على المكاره, فإن من ذلك السبيل عقبةكؤوداً لا يقتحمها إلا ذو الهمم الكبيرة, فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساًطاغية, وأحلاماً طائشة وألسنة مقذعة, وربما كانت فيه أيد باطشة, وأرجل إلى غير الحقساعية .
وإنّما تعظم همة الداعي إلى الحق والإصلاح بقدر صبره, وبقدر مايتوقعه من فقد محبوب, أو لقاء مكروه, فلابد لأهل الحق من الصبر على دعوة النّاس, ولابد لهم من الصبر في انتظار النتائج, لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسيةتضر أكثر مما تنفع, فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة للداعية من الإنقطاع, وتفجرتبسببه ينابيع العزم والثبات .
إنّه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض, بمنبيده ملكوت كل شيء, ليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر, ولا صبر الخاضعالذليل لغير ربه جل وعلا.
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق, وأجلالعبادات, وإن أعظم الصبر وأحمده عاقبة الصبر على امتثال أمر الله, والإنتهاء عمّانهى الله عنه, لأنّه به تخلص الطاعة, ويصح الدين, ويستحق الثواب, فليس لمن قل صبرهعلى الطاعة حظ من بر, ولا نصيب من صلاح.
ومن الصبر المحمود الصبر على مافات إدراكه من رغبة مرجوة, وأعوز نيله من مسرة مأمولة, فإن الصبر عنها يعقب السلومنها, والأسف بعد اليأس خرق.
ومن جمل الصبر الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبةيخافها, أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها, فلا يتعجل هم ما لم يأت, فإن أكثر الهمومكاذبة وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن ذلك أيضاً الصبر على ما نزل منمكروه, أوحل من أمر مخوف, فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء وتستدفع مكائد الأعداء, فإن من قل صبره عزب رأيه, واشتد جزعه, فصار صريع همومه, وفريسة غمومه .
وكما أن الأفراد بأمس الحاجة إلى الصبر فكذلك الأمّة, فأمة الإسلام - كغيرها من الأمم - لا تخرج عن سنن الكونية, فهي عرضة للكوارث, والمحن. وهي - فيالوقت نفسه - مكلفة بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة, ونشر الدعوةوتحمل جميع ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر, وقوة ثبات ويقين بأن العاقبة للتقوىوللمتقين.
وهي مطالبة بالجهاد في سبيل الله, لإعلاء كلمة ونشر دين الله, وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات, فلابد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحققإلّا بمجاهدة النفس والهوى.
وهذا الجهاد لا يتحقق إلّا بخلق الصبر, ومغالبةالنفس والشيطان والشهوات, فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهل للجهاد الخارجي, لأنّالنّاس إذا تركوا وطباعهم وما أودع فيهم من حب للراحة, وإيثار للدعة, ولم يشيدأزرهم بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم ويثقون بحسن نتائجه عجزت كواهلهم عن حمل أعباءالحياة, وخارت قواهم أمام مغرياتها, وذاب احتمالهم إزاء ملذاتها وشهواتها, فيفقدونكل استعداد لتحصيل العزة, والسمو, والمنزلة اللائقة.
فلهذا اختار الله لهممن شرع دينه ما يصقل أرواحهم, ويزكي نفوسهم, ويمحص قلوبهم, ويربي ملكات الخير فيهم.
ومن أعظم الشرائع التي يتحقق بها ذلك المقصود شريعة الصيام في شهررمضان.
فيا أيّها المسلمونهذا رمضان يعلمنا الصبر, ويربينا علىخلق الصبر, فليكن لنا منه أوفر الحظ والنصيب, وليكن زاداً لنا فيما نستقبله منأعمارنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين.