الطريقة : جدلية .
* * يتميز الإنسان بكونه كائن حي فضوليا يطمح دائما إلى إدراك الحقيقة ومعرفة العالم الخارجي ، إلاّ أن هذا لم يثني عليه إقباله إلى معرفة ذاته ، وباعتباره كائنا عاقلا واعيا لأحواله الشعورية أصبح الاعتقاد بأن معرفة الذات تتوقف على الشعور بها ، وفي مقابل ذلك نجد أن صفة المدنية التي يتصف بها الإنسان تفرض وجود الآخر والغير حتى يدرك ذاته المتميزة عن هذا الغير وهو ما يوحي بضرورة وجود الغير لإدراك الذات .فإلى أي حد يصدق هذا الاعتقاد ؟.و هل معرفة الذات تكمن فيما يراه الغير فينا أم فيما نراه في أنفسنا ؟ أو بعبارة أخرى هل معرفة الذات تتوقف على وجود الغير أم وجود الوعي ؟
** معرفة الذات تتوقف على وجود الغير باعتباره الطرف المقابل الموجود خارجا عنا ، وهذا ما يثبت أن وجود الوعي غير كاف لمعرفة الذات وإثبات وجودها ، ذلك أن المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد والتفاعل الذي يحصل بينه وبين الآخرين هو الذي يمكنه من إدراك نفسه وباختلافه عن الآخرين ، يقول الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر :" وجود الآخر شرط وجودي ."
أن الأنا عاجز عن معرفة مكانته وقيمته بنفسه ، لهذا فهو في حاجة إلى الغير الذي هو حسب سارتر الأنا الآخر الذي ليس أنا ، وأنا أعي ذاتي وأتعرف على نفسي من خلاله
يشرح سارتر وجهة نظره هذه من خلال مفهوم " نظرة الآخر" بقوله : إن نظرة الغير لي تجمدني وتحولني إلى مجرد شيء ، ففي اللحظة التي أقع فيها تحت رقابة الغير أنحط إلى مرتبة الأشياء ، ذلك أن هذه النظرة تجمد إمكانياتي وتسلبني حريتي ، وتقتل عفويتي وقدرتي على الفعل والمبادرة ، وأكبر شاهد على ذلك هو الخجل فهذا الشعور الذي يتحقق في داخلي وبيني وبين نفسي هو شعور لا يتحقق إلاّ من خلال حضور الغير في وعيي ،
إذن فمعرفة الذات في نظر سارتر مشروطة بمعرفة الغير ووجوده ، وهذا ما يثبت أن العلاقة بين الذات والآخر علاقة صراعية كل واحد يشيئ الآخر ، هذه العلاقة المتوترة بين الطرفين تطرح إشكالا اجتماعيا وأزمة تواصل مع الآخر الغير إنساني ما دام موضوعا فاقدا لما هو إنساني ، لذا يصبح في تصور سارتر مصدر خطر ما دام وجوده يعني لحظة النفي الأول للذات وجحيما ،يقول سارتر :" الجحيم هم الآخرون ." ، فالتعامل مع الغير والاتجاه إليه عبارة عن فعل بارد تغيب فيه الإنسانية والإحساس بالتعاطف . وعليه يصبح الهدف من هذه العلاقة هو معرفة الآخر وليس التعرف والتعارف معه ما دام هذا الأخير غير مؤهل لإقامة علاقة و فعل تواصلي حقيقي مع الذات كونه موضوعا فاقد للإرادة والحرية .
هذه النظرة التي أكد عليها سارتر نجدها مجسدة في تصور هيجل الذي أكد بأن الآخر ضروري لوجود الذات ما دام الإنسان يعيش في علاقة معه أكثر ما يعيش في فرديته الخاصة ، فالوعي حسب هيجل هو وعي شقي يتطور وينمو من أجل بلوغ مرحلة الاكتمال بطريقة جدلية ، ففي البدء ينحصر إدراك الإنسان لذاته في الإحساس
المباشر ما دام غارقا ومنغمسا في الحياة العضوية ، حيث يحيا بشكل حيواني من خلال غرائزه ومهمته تنحصر في الحفاظ على حياته الجسدية ، في هذه المرحلة تكون علاقته بالوجود والطبيعة علاقة مباشرة وحسية حيث
يلغى كل ما هو مغاير له ولا يعترف إلا بحقيقته كذات ، صراع من أجل الاعتراف ، هذا الصراع هو ما نتج عنه علاقة إنسانية ، علاقة السيد والعبد ، ، هذا التصور الهيجلي مخالف للتصور العقلي – الديكارتي - الذي يؤسس وجود الذات على أساس المعرفة ، حيث أن الإنسان العارف يبقى حبيس أو سجين الاطمئنان السلبي مادام يعي ذاته ويتمثل باقي الموجودات بشكل شفاف وفق عملية استدلالية تأملية . باعتبار أن تصور هيجل ينظر للإنسان على أنه كائن يتغذى على الرغبات ، وتحقيق الرغبة يدفعه إلى الخروج من حالة الاطمئنان السلبي إلى العمل لإشباع رغبته ، وإشباع الرغبات لا يتم إلا عن طريق النفي .
إضافة إلى هذا كله نجد أن استقراء علاقة الإنسان بغيره يثبت ما للمجتمع من دور فعال في تنظيم نشاط الفرد وتربيته منذ الوهلة الأولى . باعتباره المرآة التي يرى الفرد فيها نفسه ويدركها ، يقول واطسن " الطفل مجرد عجينة يصنع منها المجتمع ما يشاء ، وذلك من خلال الوسائل التي يوفرها ، فكلما كان الوسط الاجتماعي أرقى وأوسع كانت الذات أنمى وأكثر اكتمالا ، وعليه يمكن التمييز بين الأفراد من خلال البيئة التي يعيشون فيها ، فالفرد كما يقول دوركايم ابن بيئته ومرآة تعكس صورة مجتمعه
* صحيح أن الفرد يعيش مع الغير ، لكن هذا الغير لا يدرك منا إلاّ المظاهر الخارجية التي لا تعكس حقيقة ما يجري بداخلنا من نزوات خفية وميول ورغبات ، وهذه المظاهر بإمكاننا اصطناعها والتظاهر بها كالممثل السينمائي الذي يصطنع الانفعالات أو الخجل عند رؤيته للغير ، كما أن أحكام الغير ليست واحدة ، وهذا ما يثبت عجز الغير في تحديد ملامح شخصية الأنا ومعرفة هذا الأخير لذاته .
** معرفة الذات تتوقف على وجود الوعي باعتباره نشاط فردي يقوم به الفرد مع ذاته ، كما أنه حدس نفسي يمكن الفرد من إدراك ذاته وأفعاله ، وأحواله النفسية إدراكا مباشرا دون واسطة خارجية ، وهذا ما جعل سقراط قديما يؤكد على أن معرفة الذات تتوقف على وجود الوعي ، وذلك من خلال مقولته المشهورة " أعرف نفسك بنفسك " ، ذلك أن الشعور يُعْرَف ولا يُعرَف ،
يدركه الفرد بذاته لا بتأثير غيره ، وهذا هو أيضا مضمون مقولة مان دي بيران :" إن الشعور يستند إلى التمييز بين الذات الشاعرة والموضوع الذي نشعر به ."
وإذا أردنا أن نتتبع وجهة النظر هذه فما علينا إلا أن نتطرق إلى تصور الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت حول هذه المسألة ، حيث نجده انطلق من الشك في وجود الغير وفي وجود العالم على أساس أن الحواس تخدعنا ومصدر غير موثوق في المعرفة ، وهذا هو مضمون الكوجيتو الديكارتي :" أنا أفكر إذن أنا موجود ." ،
.
يقول مالبرانش :" إن المعرفة التي لدينا عن الآخرين غالبا ما تكون عرضة للخطأ عندما نستند في حكمنا على الأحاسيس التي لدينا عن أنفسنا فقط ." ، وهنا نجد مالبرانش ينفي دور الغير في تحديد المفاهيم والمعارف التي تصل إليها الذات ، ويؤكد على أن كل ما تصل إليه هذه الأخيرة ما هو إلا نتاج نشاط الذهن ، وبالتالي فمعرفة الذات لذاتها تتوقف على عامل الوعي باعتبارها خاصية فردية .
* إن الأحكام الذاتية غالبا ما تكون مبالغا فيها ، ووعي الذات لذاتها ليس بمنهج علمي يقيني حتى نعتبره معرفة يقينية ، لأنه لا يوصلنا إلى نتائج موضوعية بل ذاتية فالفرد لا يمكن له أن يتأمل ذاته وهو في حالة الغضب أو الفزع ،لأن مجرد التفكير في ذلك ينقص من درجته يقول أوغيست كونت " الذات التي تستبطن ذاتها كالعين التي تريد أن ترى نفسها بنفسها "
* بعد استقرائنا لمسألة إمكانية معرفة الذات لذاتها دون الغير نجد هناك جدلا تضمن أطروحتين متناقضتين لذا يمكن القول بأن الأنا يتكون من خلال التفاعل القائم بين الأنا والآخر، وهذا ما يؤكد على الترابط الوثيق الموجود بينهما كون الفرد جزء من الكل ، فله أنا شخصي مرتبط بالصورة التي يكونها عنه الغير ، فالفرد مثلا لا يحس بقيمة فرحه إلا ضمن المجموعة وإلا يبقى حالة خاصة ، ويصبح هنا الشخص منطويا على نفسه الشيء الذي يسبب له عقد نفسية ، لذا لا يمكن تجاوز الغير لكن ضمن المعقول ، وهذا ما يؤكد دور التواصل بدلا من العزلة هذا التآلف بين الأنا والغير أكد عليه غابريال مارسال عن طريق التفكير في الذات دون العزلة عن الغير ، أي تشكيل تكامل بين الأنا والأنا الجماعي .
** إن إدراك المرء لذاته لا يحصل دون وجود الوعي والغير في نفس الوقت ، لأن الإنسان في تعامله مع الآخرين من أفراد مجتمعه يتصرف بوعي ، ويوفق بين ما يقوله الآخرون عنه وما يعتقده في نفسه ، لأن الشخصية التي تمثل الأنا تتكامل فيها الجوانب الذاتية والموضوعية ، فلا يمكن للفرد أن يحكم على أنه خجول بنفسه لأن التأكيد على ذلك يتطلب تجسيد ذلك في الواقع ( الغير) .