بسم الله الرّحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا شرح نفيس لكلام الفاروق رضي الله عنه ، حيثُ قال : "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله "
قال ابن قيِّم الجوزية -رحمهُ الله -
"هذا شقيق كلام النبوة ، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدِّث المُلْهَم ، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم ، ومَن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره ، وانتفع غاية الانتفاع : فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله ، والثانية أصل الشر وفصله ;فإنَّ العبد إذا خلُصَت نِيَّته لله تعالى وكان قصده وهَمَّه وعملهُ لِوجهِهِ سبحانه كان الله معه; فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق .
والله سبحانه لا غالب له ، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف ؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو ؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده ؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا ، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجاً ومخرجاً ; وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة ، أو في اثنين منها ، أو في واحد.
فمن كان قيامه في باطل لم ينصر ، وإن نصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول ، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا ، والقيام في الحق وسيلة إليه ، فهذا لم تضمن له النصرة ; فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله ، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه ، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين ، وإن نصر فبحسب ما معه من الحق ; فإن الله لا ينصر إلا الحق ، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر ، والصبر منصور أبدا ; فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة ، وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة ، وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه مفوضا إليه بريا من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ، ونكتة المسألة : أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة ، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء .
قال الإمام أحمد حدثنا داود أنبأنا شعبة عن واقد بن محمد بن زيد عنابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : من أسخط الناس برضى الله عز وجل كفاه الله الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس " (إعلام الموقعين: 122)
***
وقال رحمه الله : " وأما قوله : " ومن تزين بما ليس فيه شانه الله " لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص - فإنه يظهر للناس أمرا وهو في الباطن بخلافه - عامله الله بنقيض قصده ; فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا ، ولما كان المُخلِص يُعَجَّل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عُجِّل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه الله بين الناس ; لأنه شان باطنه عند الله ، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه .
هذا ، ولمَّا كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدِّين والنُّسك والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تطلب منه ، فإذا لم توجد عنده افتضح ، فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه ، وأيضا فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه ، فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم ، جزاء له من جنس عمله ، وكان بعض [ ص: 124 ] الصَّحابة يقول : أعوذ بالله من خشوع النفاق ، قالوا : وما خشوع النفاق ؟ قال : أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع ; وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان ; فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة ، وهما من أنفع الكلام ، وأشفاه للسقام ." (إعلام الموقعين)
كلام ابن القيّم رحمه الله منقول للفائدة إن شاء الله
والله المستعان وعليه التكلان