الافتقارُ إلى الله لبُّ العبودية - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > القسم الاسلامي العام

القسم الاسلامي العام للمواضيع الإسلامية العامة كالآداب و الأخلاق الاسلامية ...

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الافتقارُ إلى الله لبُّ العبودية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-02-27, 18:18   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أبي الإسلام
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










B11 الافتقارُ إلى الله لبُّ العبودية

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الافتقار إلى الله لُبُّ العبودية

الحمــد للــه رب العـالمين، والصلاة والسلام على أشـــرف الأنبيــاء والمرســلين.. وبعد:
من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق إلى الله _تعالى_، فهـو: «حقيقــة العبــودية ولبُّها»(1). قال الله ـ تعالى ـ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ" [فاطر: 15]، وقال ـ تعالى ـ فـي قصة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" [القصص: 24].

عرَّفه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله: "حقيقة الفقر: ألا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر"، ثم قال: "الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة مـن ذراتــه الظاهـرة والباطنـة فاقـة تامـة إلى الله ـ تعالى ـ من كل وجه"(2).

فالافتقار إلى الله ـ تعالى ـ أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه ـ عـز وجل ـ متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته، قال الله ـ تعالى ـ: "قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ" [الأنعام: 162 ـ 163>.

قال يحيى بن معاذ: "النسك هو: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله ـ عز وجل ـ من القلب"(3).
والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله ـ تعالى ـ وحده، وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب، وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيراً بالله منيباً إليه، ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله _تعالى_، وكان السجود مكان السؤال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب _عز وجل_ وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم"(4).

ولهذا كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- في ركوعه: "اللهم! لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي"(5).
قال الحافظ ابن رجب: "إشارة إلى أن خشوعه في ركوعه قد حصل لجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الذي هو ملك الجوارح والأعضاء، فإذا خشع خشعت الجوارح والأعضاء كلها؛ تبعاً له ولخشوعه". ثم قال: "ومـن تمام خشـوع العبد لله ـ عز وجل ـ وتواضعه في ركوعه وسجوده؛ أنَّه إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجود، وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وَصْفي، والعلو والعظمة والكبرياء وَصْفك"(6).

إنَّ هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته وأساس إقباله على ربه _سبحانه وتعالى_، فالافتقار حادٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة.
ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين، هما
الأول: إدراك عظمة الخالق وجبروته
فكلما كان العبد أعلم بالله ـ تعالى ـ وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال الله ـ تعالى ـ: " إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: 28>، وقال: "قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا" [الإسراء: 107 - 109> .
وقال الفضيل بن عياض: "أعلم الناس بالله أخوفهم منه"(7)، وقال: "رهبة العبد من الله على قدر علمه باللّه"(8).

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "أصل الخشوع الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وجلاله وكماله؛ فمن كان بالله أعرف فهو له أخشع، ويتفاوت الخشوع في القلوب بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع"(9).
ومَنْ تدبر الآيات البينات والأحاديث الشريفات التي جاء فيها ذكر صفاته العلى وأسمائه الحسنى؛ انخلع قلبه إجلالاً لربه، وتعظيماً لمقامه، وهيبة لسطوته وجبروته _سبحانه وتعالى_.
قال ـ تعالى ـ: "اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْـحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" [البقرة255
وقال ـ تعالى ـ: "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْـمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ" [الأنعام: 59 - 61>.
وقال ـ تعالى ـ: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ" [الزمر: 67>.

وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون"(10).
قال الإمام ابن القيم: "القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبُّه من قلب العبد قوة الحب كلها؛ بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء ..»، ثم قال: «... وجماع ذلك أنه ـ سبحانه ـ يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همَّه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له"(11).
وعرّف ابن القيم الخشوع بأنه "خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو؛ فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح"(12).











 


رد مع اقتباس
قديم 2012-02-27, 18:20   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
أبي الإسلام
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

الثاني: إدراك ضعف المخلوق وعجزه:
فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه، قال ـ عز وجل ـ: "فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ" [الطارق: 5 ـ 10>.
وقد جمع الإمام ابن القيم بين هذين الأمرين بقوله: "مَنْ كملت عظمة الحق ـ تعالى ـ في قلبه؛ عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو دونه، ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظـة ونَفَـس، وأيضـاً فإذا عـرف حقارتها ـ مع عظم قدر من خالفه ـ؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به؛ يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به"(13).


موعظة في الافتقار إلى الله
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -
نقلا من كتاب الهدية في مواعظ الإمام ابن تيمية ص 64 – 71


العبد مفتقر دائماً إلى التوكل على الله والاستعانة به ، كما هو مفتقر إلى عبادته فلابد أن يشهد دائماً فقره إلى الله ، وحاجته في أن يكون معبوداً له ، وأن يكون معيناً له، فلا حول ولاقوة إلاّ بالله ،ولا ملجأ من الله إلاّ إليه

والمؤمن يجد نفسه محتاجاً إلى الله في تحصيل مطالبه ،ويجد في قلبه محبةً لله غير هذا،فهو محتاج إلى الله من جهة أنّه ربّه، ومن جهة أنّه ألهه قال تعالى: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} فلابد أن يكون العبد عابداً لله، ولابد أن يكون مستعيناً به ؛ ولهذا كان فرضاً على كل مسلم أنْ يقوله في صلاته
وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب، وقد روى عن الحسن البصري- رحمه الله- أنّ الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع سرّها في الأربعة، وجمع سرّ الأربعة في القرآن، وجمع سرّ القرآن في الفاتحة، وجمع سرّ الفاتحة في هاتين الكلمتين{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} ولهذا ثنّاها الله في كتابه في غير موضع من القرآن كقوله{اعبدهُ وتوكّل عليه} وقوله:{عليه توكلت وإليه أُنيب} وقوله: { ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه}

العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له؛ كان أقرب إليه وأعزّ له، وأعظم لقدره، فأعظم الخلق أعظمهم عبودية لله

وأما المخلوق فكما قيل:احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره

فاعظم ما يكون العبد قدراً،وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم ؛ كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم-ولو في شربة ماء- نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كلّه لله، ولا يشرك به

ولهذا قال حاتم الأصم- لما سئل: فيم السلامة من الناس؟ قال-: أن يكون شيئك لهم مبذولاً، وتكون من شيئهم آيساً

إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع ، ولا عزّ ولا ذلّ ، بل ربّه هو الذي خلقه ورزقه وبصّره وهداه ، وأسبغ عليه نعمه ، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره ، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه ، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلاّ بإذن الله

ونظيره في الدنيا منْ نزل به بلاء عظيم ، أو فاقه شديدة ، أو خوف مقلق ،فجعل يدعو الله ويتضرّع إليه حتى فتح له من لذّة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً ، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه ويشتاق إليه

والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه ، ومن ذكر نعمائه عليهم ، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات ، وليس عند المخلوق شيء من هذا

واعلم أن فقر العبد إلى الله ليس له نظير فيقاس به ، لكن يشبه بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ، وهي لا صلاح لها إلاّ بإلاهها الله الذي لا إله إلاّ هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلاّ بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ،ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلاّ بلقائه

ولو حصل للعبد لّذات أو سرور بغير الله ، فلا يدوم ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال ، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ {كذا في الفتاوى ، ولعلّ الصواب:"ويلتذ"} غير منعم له ولا ملتذ له ، بل قد يؤذيه اتصاله به ، ووجوده عنده ، وضره ذلك

وأما إلهه فلابد منه في كل حال ، وكل وقت ، وأينما كان فهو معه ، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل –صلى الله عليه وسلم –{لا أحب الآفلين} وكان أعظم آية في القرآن الكريم{الله لا إله إلاّ هو الحي القيّوم}

وكل من علّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم ، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك ؛ وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم ، متصرفاّ بهم ، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر ، فالرجل إذا تعلّق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرّف بما تريد ، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها ، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لاسيما إذا دَرَتْ بفقره إليها ؛ وعشقه لها ، وأنّه لا يعتاض عنها بغيرها ، فإنّها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور ، الذي لا يستطيع الخلاص منه ، بل أعظم ، فإن أسْرَ القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ، فإنّ من استُعْبِدَ بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً مُتيّماً لغير الله فهذا هو الذلّ والأسر المحض ، والعبودية لما استعبد القلب

وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلم لو أسره كافر؛ أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات ، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران ، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك ، واما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ذلك ،ولو كان في الظاهر ملك الناس

فالحريّة حريّة القلب ،والعبودية عبودية القلب ، كما أنّ الغنى غنى النفس قال النبي – صلى الله عليه وسلم –{ليس الغنى عن كثرة العرض ، وإنما الغنى غنى النفس} وهذا لعمرى إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي ، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه, وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلّهم ثواباً ، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلّقاً بها ، مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلاّ ربُّ العباد ، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى ، فداوم تعلّق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشدّ ضرراً عليه ، ممن يفعل ذنباً ثمّ يتوب منه ويزول أثره من قلبه ، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين كما قيل:

سُكْران سُكْر هوى ، وسُكْر مُدامَةٍ .......... ومتى إفاقة منْ به سُكْرانٍ

ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله ، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قطّ أحلى من ذلك ، ولا ألذّ ولا أطيب ، والإنسان لا يترك محبوباً إلاّ بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفاً من مكروه ، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح ، أو بالخوف من الضرر ,قال تعالى في حق يوسف:{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين} فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلّق بها ، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى في قلبه انقهر له هواه بلا علاج ، قال تعالى:{إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر ، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله ، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه ، فإن ذكر الله عبادة لله ، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع

والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه ، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك ، فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل ، ولهذا قال تعالى:{ قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها} وقال تعالى:{قد أفلح من تزكّى ، وذكر اسم ربّه فصلّى} وقال:{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} وقال تعالى:{ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً} فجعل سبحانه وتعالى غض البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس ، وبيّن أن ترك الفواحش من زكاة النفوس ، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك

وكما أنّ الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب ، فهو مأمور بذلك عندما ينعم الله عليه من فعل الطاعات ، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له ، وتحقق قوله:{ إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}

ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له على فعل الطاعات ، كقوله:{أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وقوله:{يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ويا مصرّف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك}وطاعة رسولك وقوله:{ ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب} وقوله:{ ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} ومثل قوله:{ اللهم ألهمني رشدي ، واكفني شر نفسي}

ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله:{اهدنا الصراط المستقيم، صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين } فهذا الدعاء أفضل الدعية وأوجبها على الخلق ، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة

وكذلك الدعاء بالتوبة فإنّه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة ، وكذلك دعاء الاستخارة فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له ، وكذلك الدعاء الذي كان النبي- صلى الله عليه وسلم – يدعو به إذا قام من الليل ، وهو في الصحيح:{اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم}

وكذلك الدعاء الذي فيه:{اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا} وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر ، وكذلك قوله:{ اللهم أصلح لي قلبي ونيتي} ومثل قول الخليل وإسماعيل{واجعلنا مسلمَيْن لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح ، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب ، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء شهد إنعام الله فيه وكان في مقام الشكر والعبودية لله ، وأنّ هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته

ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ، ولا يوالى إلا من والاه الله ، ولا يعادى إلا من عاداه الله ، ولا يحب إلا الله ، ولا يبغض شيئاً إلا لله ، ولا يعطى إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، فكلما قوى إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات ، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك

الشيخ أحمد الصويان
م/ن للفائدة









رد مع اقتباس
قديم 2012-03-08, 09:51   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
أبوعبد اللّه 16
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أبوعبد اللّه 16
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

موضوع قيم
بارك الله فيك اختي










رد مع اقتباس
قديم 2012-03-08, 10:24   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
pro24
عضو محترف
 
الصورة الرمزية pro24
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الله يخليك
شكراااااااااااااااااااااا
جزاك الله خيراااااااااااااااااا










رد مع اقتباس
قديم 2012-03-08, 22:16   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
أبي الإسلام
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

اللهم انفعنا بما نقرأ
أحسن الله لكلِّ من مرّ









رد مع اقتباس
قديم 2012-04-17, 16:05   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
أبوعبد اللّه 16
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أبوعبد اللّه 16
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم و رحمة الله
للرفع لعل فيه ذكرى










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
لبُّ, الله, الافتقارُ, العبودية


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 03:19

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc