امثال القران - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > القسم الاسلامي العام > أرشيف القسم الاسلامي العام

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

امثال القران

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2009-03-29, 17:50   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
فراشة المملكة
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية فراشة المملكة
 

 

 
إحصائية العضو










B18 امثال القران

مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة
قال الله تبارك وتعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾(إبراهيم: 25- 27)
أولاً- هذان مثلان ضربهما الله تعالى للكلمة الطيبة ، والكلمة الخبيثة ، مثَّل الأولى بشجرة طيبة ، ومثَّل الثانية بشجرة خبيثة . ومناسبتهما لما قبلهما أن الله تعالى لما ذكر مثَلَ أعمال الكفار ، وأخبر أنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، وشرح أحوال الفرقة الطيبة ، وأحوال الفرقة الخبيثة ، ذكر مثلاً يبين الحال في حكم هذين القسمين ، ويصور سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة .
والخطاب في قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ﴾لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به العموم ، وهواستفهام معناه الإثبات ، والغرض منه التنبيه ، وإيقاظ الذهن ؛ ليترقَّب ما يرد بعد هذا الكلام ، ويقتضي أن ما بعده واقع ومعلوم ؛ إما عن طريق السماع ، كما في قوله تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ(الفيل: 1) . أو عن طريق المشاهدة ، كما في هذه الآية . والمعنى : ألم تر كيف قدَّر الله تعالى مثلاً ، ووضعه في موضعه اللائق به ؟ فكان خاتمة لما تقدمه ؛ كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار .
ولم يكن هذا المثَل ممَّا سبق ضربه قبل نزول الآية ؛ بل الآية هي التي جاءت به ، فالكلام تشويق إلى رؤية كيفية ضربه . وقد صيغَ التشويقُ إليه في صيغة الزمن الماضي ، المدلول عليها بـ{ لم } التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي ، والمدلول عليها بفعل { ضرب } بصيغة الماضي ؛ لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل ، وما مُثِّلَ به .وتعليقُ فعل الرؤية بـ{ كيف } للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذاتُ كيفية عجيبة من حيث بلاغته ، وانطباقه .
ثانيًا- وقال تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ ، ولم يقل :{ألم تعلم } ؛ لأن الرؤية لا تكون إلا لموجود . أما العلم فيتناول الموجود والمعدوم . وكل رؤية لم يعرض معها آفة فالمرئي بها معلوم ضرورة ، وكل رؤية فهي لمحدود ، أو قائم في محدود ؛ كما أن كل إحساس من طريق اللمس ، فإنه يقتضي أن يكون لمحدود ، أو قائم في محدود .
أما قوله تعالى :﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ..إلخفهو بيانٌ لقوله :﴿ مَثَلًا ﴾ ، وتفسيرٌ له ، شُبِّهت فيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ، وشبِّه مَثَلُ الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة ، وكلاهما من تشبيه المعقول بالمحسوس ، بجامع ما بينهما من وَجْهِ شَبَهٍ ، دلَّت عليه كاف التشبيه . وعندما تكون الكاف هي أداة التشبيه ، فإنها تدل على أن وجه الشبه الذي يجمع بين المشبه ، والمشبه به يتناول صفة ، أو أكثر من الصفات الخارجة عن الذات .
بقي أن نذكر الفرق بين التشبيهين في هذين المثلين ، وهو أن التشبيه في المثل الأول هو تشبيه بين وجودين علميين خارجيين ، وأن التشبيه في المثل الثاني هو تشبيه بين وجودين علميين : الأول منهما ذهني ، والثاني منهما خارجي ، فدلَّ على أن الكلمة الخبيثة ، لقبحها وبشاعتها ، كأنه لا وجود لها في الواقع ، وبالتالي لا يمكن تصويرها بصورة محسوسة ، تقرِّبها إلى الأذهان ؛ ولهذا جيء بمثلها ، خلافًا للكلمة الطيبة ، ثم شُبِّه مثلها بالشجرة الخبيثة . وكذلك إذا كان الشيء لعظمه وجلاله ؛ بحيث لا يمكن تصويره بصورة محسوسة ؛ لأنه فوق كل تصور ، فإنه يؤتى بمَثَله ، ثم يشبَّه بشيء محسوس ؛ كنور الله تعالى كما في قوله :﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾(النور: 35) . فالمشبه به- هنا- ليس هو نور الله جل وعلا ، وإنما هو مَثله ؛ لأن نوره سبحانه وتعالى لا مِثْلَ له ، ولا شِبْهَ . ومن هنا لا يجوز أن يقال : نورُ الله كمشكاة .. فتأمل ذلك ، فإنه من الأسرار الدقيقة في البيان المعجز !
ثالثًا- ونعود بعد ذلك إلى المفسرين ، فجمهورهم على القول بأن { الكلمة الطيبة } هي : كلمة التوحيد ، وأن { الشجرة الطيبة } هي : المؤمن . وقيل : الكلمة الطيبة هي : المؤمن ، والشجرة الطيبة هي : النخلة .وأن { الكلمة الخبيثة } هي : كلمة الكفر والشرك ، وأن { الشجرة الخبيثة } هي : الكافر . أو هي شجرة الحنظل . وقيل غير ذلك .
والظاهر من تنكير كل من ﴿كَلِمَةٍ ﴾ ، و﴿شَجَرَةٍ ﴾ في الموضعين أن المراد بـ{ الكلمة الطيبة } كل كلمة يراد بها حق ، وبـ{ الكلمة الخبيثة } كل كلمة يراد بها باطل ، وبـ{ الشجرة الطيبة } كل شجرة مثمرة طيبة الثمار ؛ كالنخلة ، وشجرة التين والعنب والرمان ، وغير ذلك . وبـ{ الشجرة الخبيثة } كل شجرة لا يطيب ثمرها ؛ كشجرة الحنظل ، ونحوها . فكما تثمر الكلمة الطيبةالعمل الصالح ؛ كذلك تثمر الشجرة الطيبة الثمر النافع . وكما تثمر الكلمة الخبيثة العمل الفاسد ؛ كذلك تثمر الشجرة الخبيثة الثمر الفاسد .
1- ووصف سبحانه وتعالى الشجرة الطيبة في المَثَل الأول بأربع صفات :
الصفة الأولى :كونها ﴿طَيِّبَةً ؛ وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر والصورة والشكل ، أو طيبة الرائحة ، أو طيبة الثمرة . أي : لذيذة مستطابة ، أو كونها طيبة بحسب المنفعة . يعني : أنها كما يستلذ بأكلها ، فكذلك يعظم الانتفاع بها . قال الفخر الرازي :« ويجب حمل قوله :﴿شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ على مجموع هذه الوجوه ؛ لأن باجتماعها يحصل كمال الطيب » .
والصفة الثانية : كونها ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ . أي : ضارب بعروقه في الأرض ، وهو صفة كمال لها ؛ لأن الشيء الطيب لا يعظم السرور به إلا إذا كان ثابتًا ، بخلاف ما لو كان معرَّضًا للزوال . والمراد أن هذه الشجرة لا تزعزعها الأعاصير ، ولا تعصف بها رياح الباطل ، ولا تقوى عليها معاول الطغيان ، وإن خيل للبعض أنها معرَّضة للخطر الماحق في بعض الأحيان .
وقرأ أنس بن مالك :﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا ﴾ . وقراءة الجمهور أقوى في اللفظ ، وفي المعنى . أما في اللفظ فلأن فيها حسن التقسيم :﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ . وأما في المعنى فلأن الصفة فيها أجريت على الشجرة لفظًا ومعنى . وأما قراءة أنس- رضي الله عنه- فقد أجريت الصفة فيها على الشجرة لفظًا فقط . وأنت إذا قلت : مررت برجل أبوه قائم ، كان أقوى من قولك : مررت برجل قائمٌ أبوه ؛ لأن المخبر عنه إنما هو الأب ، لا رجل .
والصفة الثالثة : كونها﴿فَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ . أي : سامق شامخ متعال ذاهب في الفضاء على مد البصر ، قائم أمام العين ، يوحي بالقوة والثبات . وهو أيضًا صفة كمال لها ؛ لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية ، كانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب . والمراد بـ{فَرْعِهَا } : أعلاها ورأسها ، وإن كان المشبه به ذا فروع ؛ فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس ؛ وكأن هذه الشجرة تطل بفروعها على الشر والظلم والطغيان من عل ، وإن خيل إلى البعض أحيانًا أن الشر يزحمها في الفضاء .. وكذلك كلمة الحق تعلو ، ولا يُعلَى عليها ؛ لأنها هي العليا دائمًا وأبدًا .
والصفة الرابعة : كونها ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ . أي : لا ينقطع ثمرها أبدًا ؛ فهي تؤتيه كاملًا حسنًا كثيرًا طيبًا مباركًا ، في كل وقت وقَّتَه الله تعالى لإثمارها . وهو صفة كمال أيضًا ؛ إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ .
وقال تعالى :﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا ﴾ ، ولم يقل :﴿ تُعْطي ثمَرَهَا ﴾ ، لما في الإيتاء من سرعة الإعطاء ، وسهولته أولاً . وثانيًا ؛ لأن الأُكُل- بضم الهمزة والكاف- يطلق على كل ما يؤكل من الثمر ، فهو أخصُّ من الثمر ؛ لأن الثمر منه ما لا يؤكل .
والحينُ في قوله تعالى :﴿كُلَّ حِينٍ القطعة من الزمان . واختلف في تقديره : فقيل : سنة ؛ لأن الشجرة تحمل الثمرة من العام إلى العام . ولذلك قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء :« من حلف أن لا يفعل شيئًا حينًا ، فإنه لا يفعله سنة » . واستشهدوا على ذلك بهذه الآية . وقال عكرمة وغيره :« الحين ستة أشهر » ، وهي مدة بقاء الثمر ، وإليه ذهب أبو حنيفة . وقال ابن المسيب :« الحين شهران » ؛ لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين . وقال ابن عباس أيضًا ، والضحاك ، والربيع :« كل حين . أي : كل غدوة وعشية » .
وقد ورد الحينُ في موضع آخر ، يراد به أكثر من ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾(الإنسان: 1) .قيل في التفسير : أربعون عامًا . وحكى عكرمة أن رجلًا قال :« إن فعل كذا وكذا إلى حين ، فغلامه حر . فأتى عمر بن عبد العزيز ، فسأله ، فسألني عنها ، فقلت : إن من الحين حينًا لا يدرك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾(البقرة: 36) . فأرى أن تمسك ما بين صِرام النخلة إلى حملها . فكأنه أعجبه ؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر ، اتباعًا لعكرمة ، وغيره » . وقال الزجاج والأزهري :« جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحينَ اسم كالوقت ، يصلح لجميع الأزمان كلها ، طالت ، أم قصرت » . وقال النحاس:« وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة؛ لأن الحينَ- عند جميع أهل اللغة إلا من شذَّ منهم- بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان، وكثيره » .
والظاهر من السياق أنالكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت ، من صيف أو شتاء ، أو ليل أو نهار ؛ كذلك الكلم الطيب ، لا يزال يصعد إلى الله تعالى ، ويرفعه العمل الصالح في السماء ، آناء الليل وأطراف النهار ، في كل وقت ، وكل حين .
وقوله سبحانه :﴿بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ .أي : بتسييره وتكوينه . ويدل على أن كل شيء لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى . وفيه دقيقة عجيبة ؛ وذلك لأن ما أذن الله في إيتائه ، لا يكون إلا على أحسن حال وأكمل وجه . وخُصَّ إيتاء الأُكُل بالشجرة الطيبة بإذن ربها ، على سبيل المدح والتشريف . قال الرازي :« ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة ، أم غيرها ؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ، ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه ؛ سواء كان لها وجود في الدنيا ، أو لم يكن ؛ لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل . واختلافهم في تفسير الحين أيضًا من هذا الباب ، والله أعلم » .
وعقَّب سبحانه وتعالى على ذلك بقوله :﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ ؛ وذلكلأنها أمثال مصداقها واقع في الأرض ؛ ولكن الناس كثيرًا ما ينسونه في زحمة الحياة ، ففي ضربها لهم زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني ؛ وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم ، فإذا ذكر ما يماثلها أو يشابهها من المحسوسات ، ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة ، وانطبق المعقول على المحسوس ، وحصل به الفهم التام ، والوصول إلى المطلوب .
2- وفي مقابل تلك الصفات التي وصف الله تعالى بها الشجرة الطيبة التي شبَّه بها الكلمة الطيبة ، وصف الشجرة الخبيثة التي شبَّه بها مثل الكلمة الخبيثة بثلاث صفات :
الصفة الأولى : كونها ﴿خبيثة﴾ ؛وذلك يحتمل- أيضًا- أن يكون بحسب الرائحة ، أو بحسب الطعم ، أو بحسب الصورة والمنظر ، أو بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة .والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات ، وإن لم تكن موجودة ، إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة ، كان التشبيه بها نافعًا في المطلوب . وأصل الخبَث في كلام العرب : المكروه . فإن كان في الكلام فهو الشَّتْم . وإن كان من المِلَل فهو الكفر . وإن كان من الطعام فهو الحرام . وإن كان من الشراب فهو الضار ؛ ومنه قيل لما يُرْمَى من مَنْفِيِّ الحديد : الخبَث ، ومنه الحديث :«إن الحمَّى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبَث» . وخبَثُ الحديد والفضة : ما نفاه الكير ، إذا أذيبا , وهو ما لا خير فيه .
والصفة الثانية : كونها ﴿اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ﴾ . أي : استؤصلت . وهذه الصفة جاءت في مقابلة :﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ في صفة الشجرة الطيبة .وحقيقة الاجتثاث أخذُ الجُثَّة كلها-وهي شخص الشيء- من فوق الأرض ؛ لكون عروقها قريبة من الفوق ، فكأنها فوق . وهذا يعني : أنه ليس لها أصل ، ولا فرع ، وليس لها ثمرة ، ولا فيها منفعة .
والصفة الثالثة : كونها ﴿مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ .وهذه كالمتمِّمة للصفة الثانية ، فنفى سبحانه أن يكون لها مكان تستقر فيه ، وأن يكون لها استقرار في المكان ، فإن القرار يراد به مكان الاستقرار ؛ كما قال تعالى في صفة جهنم :﴿ جهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ(إبراهيم: 29) ، وقال تعالى :﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء ﴾(غافر:64) . ويقال : فلان ما له قرار . أي : ما له ثبات . وقد فسِّر القرار في الآية بهذاوذاك . ويقال : قرَّ الشيء قرارًا ؛ كقولك : ثبت ثباتًا . قال الزمخشري :« شُبِّه بها القول الذي لم يعضَّد بحجة ، فهو داحض غير ثابت . والذي لا يبقى ؛ إنما يضمحل عن قريب لبطلانه ، من قولهم : الباطل لَجْلَجٌ . وعن قتادة : أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في كلمة خبيثة ؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرًّا ، ولا في السماء مصعدًا ، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة » .
وقرىء :﴿ومَثَلَ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ ، بنصب { مثَل } ، عطفًا على قوله تعالى :﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾ . وقرأ أُبَيٌّ :﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً خَبيثةً كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ . ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة ، للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان ؛ وإنما ذلك أمر ظاهر ، يعرفه كل أحد .
هذا هو مثل الكلمة الطيبة ، ومثل الكلمة الخبيثة . وليس هذا ، وذاك مجرد مثل يضرب ، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع ؛ وإنما هو الواقع في الحياة ، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان . والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي ، مهما زحمه الشر ، وأخذ عليه الطريق . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به ، فقلما يوجد الشر خالصًا ، وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير ، فلا تبقى فيه منه بقية ، فإنه يتهالك ، ويتهشم مهما تضخم واستطال .
رابعًا- ثم أخبر الله تعالى عن فضله وعدله في الفريقين : أصحاب الكلمة الطيبة ، وأصحاب الكلمة الخبيثة ، فبين أنه يثبِّت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت ، أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة ، وأنه يضل الظالمين عن القول الثابت ، فيضل هؤلاء بعدله لظلمهم ، ويثبِّت الذين آمنوا بفضله لإيمانهم ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ . أي : يديمهم على القول الثابت في الدنيا والآخرة ، ويمنعهم من الزلل ؛ وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله طرفة عين ، فإن لم يثبِّته ، وإلا زلَّت سماءُ إيمانه وأرضه عن مكانهما ، وقد قال الله عز وجل لأكرم خلقه عليه :﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴾(الإسراء: 74) .
وفي ظل الشجرة الثابتة مثلًا للكلمة الطيبة ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾ . وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ، ولا ثبات مثلًا للكلمة الخبيثة ﴿ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ .. وهكذا تتناسق ظلال التعبير ، وظلال المعاني كلها في السياق !
و﴿الْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ هو القول الحق والصدق الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه ، وهو ضد القول الباطل الكذب الذي لا يثبت بحجة ، ولا برهان . وعليه فالقولنوعان : ثابت له حقيقة ، وباطل لا حقيقة له . وأثبت القول كلمة الحق ولوازمها ، فهي أعظم ما يثبِّت الله تعالى بها عباده في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبًا ، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلوِّيًا وأقلهم ثباتًا . وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاختبار وشجاعته ومهابته ، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة . وقد سئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به ، فقال :« والله ما فهمت منه شيئًا ، إلا أني سمعت لكلامه صولة ، ليست بصولة مبطل » .
وقوله تعالى :﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ الذين لم يتمسكوا بحجة ، ولا برهان في دينهم ؛ وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم ؛ كما قلد المشركون آباءهم ، فقالوا :﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ(الزخرف: 22) . فهؤلاء يضلهم الله تعالى بظلمهم وبعدهم عن النور الهادي ، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات ، واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى ، لا من اختيار الله .. يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود . والمراد بـ﴿الظَّالِمِينَ ﴾ : الكفرة المشركين ، بدليل مقابلتهم بـ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا.ووصفهم بالظلم ؛ إما باعتبار ظلمهم لأنفسهم ، حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ، فلم يهتدوا إلى القول الثابت . أو باعتبار أنهم قلدوا أهل الضلال ، وأعرضوا عن البينات الواضحة . ومعنى إضلالهم في الدنيا : أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم أول شيء ، وهم في الآخرة أضل وأزل .
وقوله تعالى :﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء ﴾ . أي : يفعل ما توجبه الحكمة ؛ لأن مشيئة الله تعالى تابعة للحكمة من تثبيت الذين آمنوا، وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم، وبين شأنهم عند زللهم. وفي إظهار الاسم الجليل ﴿ اللَّهُ﴾ في الموضعين من الفخامة ، وتربية المهابة ما لا يخفى، مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبادىء التثبيت ، والإضلال ؛ فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر .وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها .
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات ، وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة بـ( سورة إبراهيم ) ، أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات ، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة ، تحتوي دائمًا على الحقيقة الكبرى .. حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل ، وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير ، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار ، سبحانه وتعالى عما يشركون !








 


قديم 2009-03-29, 17:56   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
فراشة المملكة
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية فراشة المملكة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ
قال الله تبارك وتعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم ﴾(يس:77- 79) .
أولاً-هذه الآيات الكريمة ، جاءت في خاتمة سورة ( يس ) ، وفيها ذِكْرُ شُبْهَةِ مُنكِري البعث والنشور ، والجواب عنها بأتمِّ جواب وأحسنه وأوضحه ، في صورة حوار . والغرض منها تثبيت أمر البعث عند منكريه ومعارضيه بعقولهم . وقد استُهِلت بقوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾(يس: 77) .وهو كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكار الكافرين البعث ،بعدما شاهدوا في أنفسهم أوضح دلائله ، وأعدل شواهده ؛ كما أن ما سبق من قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ﴾(يس: 71)كلام مستأنف مَسوقٌ لبيان بطلان إشراكهم بالله تعالى بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام .
والغرض من الاستفهام في الآية الأولى﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ﴾إنكار ما هو عليه هذا الإنسان من الشرك ، والتكذيب بالبعث ، وتنبيهه إلى ما كان قد شاهده بعينيه وعاينه في نفسه من خلقه تعالى لذاته ، وتذكيره به ؛ فكأنه قيل : أولم ير هذا الإنسان المنكر للبعث خلق الله تعالى لنفسه ، مع كونه آية مشهودة منظورة في واقعه ، وخاصة نفسه ، وهي في غاية الظهور ونهاية الأهمية ؟فما بال هذا الجاحد يغفل عن خلقه من نطفة مهينة ، ولم يك من قبل شيئًا ؟! وما باله لا يتذكر ذلك ، ولا ينتبه إلى وجه دلالته , ولا يتخذ منه مصداقًا لوعد الله تعالى ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره ؟! وهل خلقه من نطفة ميتة إلا إحياء بعد موت ؟! أليس في ذلك من الدليل على البعث والنشور ما يكفي لأن يتذكر ، ويترك خصومته ؟! ولكن أنَّى له الذكرى ، وقد لجَّ في الخصام والجدل الباطل !
ثانيًا- ومذهب سيبويه وجمهور النحويين أن الاستفهام في قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ﴾ للتقرير ، وأن الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها ؛ وإنما جيء بها بعد الهمزة ، وكان القياس تقديمها عليها هكذا :﴿وَأَلَمْ يَرَ ﴾ ؛ كما قدِّمت على ( هل ) في قوله تعالى :﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴾(طه: 9) ؛ لأنه لا يجوز أن يؤخر العاطف عن شيء من أدوات الاستفهام ؛ لأنها جزء من جملة الاستفهام ، والعاطف لا يقدم عليه جزء من المعطوف . وقيل : إنما خولف هذا في الهمزة دون غيرها ؛ لأنها أصل أدوات الاستفهام ، فأرادوا تقديمها ، تنبيهًا على أنها الأصل في الاستفهام .وعلى ذلك يكون قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾(يس: 77) معطوفًا على قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ﴾(يس: 71) ، على أن الواو متقدمة على الهمزة في الاعتبار ، وأن تقدُّم الهمزة عليها ، لاقتضائها الصدارة في الكلام .
أما الزمخشري فقد اضطرب كلامه في ذلك ، فتارة جعل الهمزة متقدمة على الواو ، وتارة جعلها داخلة على جملة محذوفة ، عُطِف عليها الجملة التي بعدها ، فقدَّر بينهما فعلاً محذوفًا ، يقتضيه المقام ، مستتبعًا للمعطوف ، تعطف الواو عليه ما بعدها . وعليه يكون تقدير الكلام في الجملة الأولى : أغفل الإنسان ، ولم ير أنا خلقناه من نطفة ؟
والتحقيق في هذه المسألة الخلافيَّة : أن الواو في قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ ﴾مسلوبة الدلالة على العطف ، وأصل الكلام :﴿ أَلَمْ ﴾ ، وهو تركيب يفيد معنى الإثبات ، ويجرى في لسان العرب مجرى التنبيه والتذكير ؛ كقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(الشرح: 1)
قال مكي في ( مشكل إعراب القرآن ) :« الألف نقلت الكلام من النفي ، فردته إيجابًا » . والإيجاب : إثبات . والإثبات ضدُّ النفي . والغرض منه : التذكير . والمعنى: شرحنا لك صدرك . وهذا ما نصَّ عليه الزمخشري ، فقال :« استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ؛ فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ، فنبَّه على ذلك ، وذكَّر به » .
ولا يجوز حمل هذا الاستفهام على استفهام التقرير ؛ لأن التقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على أمر قد استقر عنده ، ثم جحده بعد علمه به . وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون جاحدًا لشرح الله تعالى صدره ؛ وإنما مراد الله تعالى من هذا الاستفهام هو مجرد التنبيه والتذكير .
ومثل ذلك قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾(الحج:63) . سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية ، فقال :« هذا واجب ، وهو تنبيه ؛ كأنك قلت : أتسمع ؟ » . وفي النسخة الشرقية من كتاب سيبَوَيْهِ :« انتبهْ ! أنزل الله من السماء ماء ، فكان كذا وكذا » . فهذا استفهام يراد به الإثبات ، والغرض منه التنبيه ، أو التذكير ، خلافًا لمن ذهب إلى أن الغرض منه التقرير .
ثم تدخل ( الواو ) بين الهمزة ، و( لم ) ، فتشير إشارة خفيَّة إلى حدوث فعل مغاير لما بعدها ، ما كان ينبغي أن يحدث ؛ كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾(الإسراء: 99). فهذا استفهام يراد به الإثبات ، ويفيد أن ما بعده قد وقع فعلاً . والغرض منه التنبيه والتذكير ؛ لأن المخاطبين به على علم بأن الله تعالى هو الخالق لذواتهم ، ولكل شيء في هذا الوجود ؛ ولكنهم نسوا ذلك وغفلوا عنه ، أو تناسوه عنادًا ومكابرةً ، فأنكروا قدرة الله تعالى على بعثهم ونشورهم بعد موتهم . ولو أنهم تنبهوا وتذكروا ، أو لم يكابروا ، لما وقع منهم ذلك الإنكار .
أما قوله تعالى :﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ(يس: 80)فقد ورد في معرض التقرير لقدرة الله تعالى على الإعادة ، ردًّا على اعتراض المشركين والملحدين الذي تعدَّى الإنكار إلى الجحود ؛ ولهذا أدخلت الباء في خبر المنفي . ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى(القيامة: 40) .
وعلى الآية الأولى من هذه الآيات الثلاثة يحمل قوله تعالى هنا :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾. أي : قد رأى الإنسان أنا خلقناه من نطفة ؛ لكنه غفل عن مبدأ خلقه ، فأنكر إحياء العظام الرميمة ، فذكَّره تعالى بمبدأ خلقه ؛ ليدله به على النشأة الثانية . وهذا المعنى الثاني- أعني : إنكار إحياء العظام الرميمة- هو الذي أشارت إليه ( الواو ) التي أدخلت بين ( الهمزة ) ، وأداة النفي ( لم ) ، وهو معنى مغاير لما رأوه من خلق الله تعالى لأنفسهم . ولو كانت هذه الواو للعطف ، لما دلت الآية على هذا المعنى . وفرق كبير بين أن يقال في معنى الآية :( أغفل الإنسان ولم يرَ ) ، وأن يقال :( قد رأى ؛ ولكنه غفل ، أو نسي ، أو تناسى ) .
وكوْنُ هذا الاستفهام في معنى الإثبات يقتضي- كما ذكرنا- أن ما بعده قد وقع ، وعلم به الناس ، إما عن طريق المشاهدة ؛ كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ . أو عن طريق السماع ؛ كقوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ(الفيل: 1) . فقد قيل في تفسيره : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة ، لكنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر أخبارها ؛ فكأنه رآها .
ولقائل أن يقول : قال الله تعالى :﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾(العنكبوت: 19) ، فعلق فعل الرؤية بكيفية الخلق ، لا بالخلق . والكيفية غير معلومة ، فكيف جاز أن يقال :﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا ؟ فالجواب عن ذلك : أن هذا القدر من الكيفية معلوم ، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان ، ولم يكن شيئًا مذكورًا ، وأنه خلقه من نطفة ، هي من غذاء ، هو من ماء وتراب ، وهذا القَدْرُ كافٍ في حصول العلم بإمكان الإعادة ؛ فإن الإعادة مثله .
وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ ﴾ ، ولم يقل :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُر الْإِنسَانُ ﴾ ؛ لأن حقيقة النظر هي تقليب البصر حيال مكان المرئي طلبًا لرؤيته ، ولا يكون ذلك إلا مع فقد العلم . والشاهد قولهم : نظر ، فلم يَرَ شيئًا . أما الرؤية فهي إدراك الشيء من الجهة المقابلة . وذلك لا يكون إلا مع وجود العلم .
بقي أن تعلم أن الفرق بين الرؤية والعلم هو أن الرؤية لا تكون إلا لموجود . والعلم يتناول الموجود والمعدوم . وكل رؤية لم يعرض معها آفة فالمرئي بها معلوم ضرورة . وكل رؤية فهي لمحدود ، أو قائم في محدود ؛ كما أن كل إحساس من طريق اللمس ، فإنه يقتضي أن يكون لمحدود ، أو قائم في محدود .
فإذا عرفت ذلك ، تبين لك سِرَّ التعبير بفعل الرؤية في قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ ، دون التعبير بفعل النظر ؛ كأن يقال :﴿أَوَلَمْ يَنْظُر الْإِنسَانُ ﴾ . أو التعبير بالعلم ؛ كأن يقال :﴿أَوَلَمْ يَعْلَم ﴾ ؟
والمراد بـ﴿الْإِنسَان ﴾- هنا- عموم جنس الكافر المنكر للبعث ، وإن كانت الآيات نزلت في كافر مخصوص ، هو أبيُّ بن خلَف الجُمَحِيّ- في أصح الأقوال- وهو الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحربة يوم أحد . قال المفسرون : إنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، فقال : يا محمد ! أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمَّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :«نعم ، ويبعثك ، ويدخلك جهنم » ، فأنزل الله عزَّ وجل هذه الآية إلىآخر السورة .
وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ؛ ولهذا كان حمله على العموم أولى من حمله على إنسان مخصوص . ألا ترى أن قوله تعالى :﴿قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾(المجادلة:1) قد نزل في واحدة ، والمراد به الكل في الحكم ؟ فكذلك كل إنسان منكر البعث ، فهذه الآية رَدٌّ عليه . وعلى ذلك يكون خطاب ﴿الْإِنسَان ﴾ في الآيةمن حيث هو إنسان ، لا إنسان معين ، ويدخل فيه من كان سببًا في النزول تحت جنس الإنسان الكافر دخولاً أوليًّا .
وقوله تعالى :﴿ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾إشارة إلى وجه الدلالة على البعث والنشور ، وتنبيه على كمال القدرة والاختيار ؛ لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء ، ويخلق الله تعالى منه أعضاء مختلفة ، وطباعًا متباينة ، وخَلْقُ الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ؛ ولهذا لم يقدِر أحد على أن يدَّعيه ؛ كما لم يقدِر أحد على أن يدَّعي خَلْقَ السموات والأرض ؛ ولهذا قال تعالى :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله(الزخرف:87) ؛ كما قال :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾(الزمر:38) .
والنطفة هي القليل من الماء الصافي ، ويعبَّر بها عن ماء الرجل الذي يخرج منه إلى رحم المرأة ،وتجمَع على : نُطَف ، ونِطاف . وقيل : سمِّي ماء الرجل نطفة ؛ لأنه ينطِف . أي : يقطر قطرة بعد قطرة ، من قولهم : نطِفت القربة ، إذا تقاطر ماؤها بقلَّة . وفي الحديث :« جاء ورأسه ينطِف ماء » .أي : يقطر . ونقطة واحدة من مني الرجل تحوي آلاف الخلايا ، وخلية واحدة من هذه الآلاف هيالتيتصير بقدرة الله الخالقة جنينًا ، ثم تُصَيِّر هذا الجنين إنسانًا ، فإذا هو خصيم مبين .
فهذه القدرةالخالقة التي تجعل من هذه النطفة المهينة التيلاقوام لها ، ولا قيمة ذلك الخصيم المبين ، هي التي يستعظم عليها أن تعيده بعدالبلى . ولا شك أن النطفة شيء حقير مهين ، والغرض منه أن من كان أصله من مثل هذا الشيء الحقير ، لا يليق به أن يتجبَّر ، وأن يخاصم في أمر يشهد بصحته مبدأ خلقه ، من تلك النطفة الحقيرة المهينة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴾(الطارق: 5- 10) .
أما ﴿ خَصِيمٌ ﴾ فهوعلى وزن :فََعيلٌ ، وهو مبالغة في معنى : مُفاعِل ، من : خاصَم يخاصِم فهو مُخاصِمٌ . أي : كثير الخصومة . يقول أهل اللغة : خصيمك هو الذي يخاصمك . وفَعيلٌ بمعنى مُفاعِل معروف ؛ كالنَّسيب بمعنى المُناسِب . والعَشير بمعنى المُعاشِر . ويجوز أن يكون مبالغة في معنى : فَاعل ، من قولك : خصِم يخصِم بمعنى : اختصم ، ومنه قراءة حمزة :
﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ(يس:49)
وأما ﴿ مُبِينٌ ﴾ فهو صفة فاعل ، من قولك : أبان الشيءَ يُبينه ، فهو مبين . أي : أظهره يظهره ، فهو مظهِر . وقيل : هو هنا كناية عن القدرة على المخاصمة ؛ كما أن قوله تعالى :﴿ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾(الزخرف:18) كناية عن عَجْز الأنثى عن المخاصمة ، وعدم قدرتها على الانتصار لنفسها .
وقيل : قوله تعالى :﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌيحتمل وجهين من المعنى : أحدهما : أن الله تعالى خلق الإنسان من نطفة ، فإذا هو خصيم لربه يكفر به ، ويجادل رسله ويكذب بآياته ، وكان حقُّه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر خالقه . والمقصود منه : وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل ، والتمادي في كفران النعمة . والثاني : أن الله تعالى خلق الإنسان من نطفة قذرة ، ثم لم يزل ينقله من طور إلى طور ، حتى صيَّره عاقلاً متكلمًا ، ذا ذهن ورأي ، يخاصم ويجادل . والمقصود منه : أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم .
فعلى الوجه الأول يكون سياق هذين الوصفين :﴿ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾سياق ذَمٍّ . وعلى الوجه الثاني يكون سياقهما سياق مدح . واختار الرازي هذا القول الثاني على أنه الوَجْهُ الأوْفَقُ ؛ لأن هذه الآيات- كما قال- مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم ، لا لتقرير وقاحة الناس ، وتماديهم في الكفر والكفران . والظاهر – كما قال أبو حيَّان- أن سياق الوصفين سياق ذمًّ ؛ وذلك لوجهين :
أحدهما : مَا تقدَّم من قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ . وأكثر ما ذكر لفظ ﴿ الْإِنسَانُ ﴾ في القرآن في معرض الذم ، أو مُرْدَفاً بالذم ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾(الطارق: 5) ، وقوله :﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(إبراهيم: 34) . وقد تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾(الكهف: 54) ، حين عاتب عليًًّا- كرَّم الله وجهه- على النوم عن صلاة الليل ، فقال له عليٌّ :«إنما نفسي بيد الله» ، فاستعمل ﴿الْإِنسَانُ على العموم .
والثاني : ما عُرِفَ عن المشركين من مخاصمَتهم ومجادلتهم لأنبياء الله تعالى ، وأوليائه بالحجج الداحضة على حدِّ زعمهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(الزخرف: 58) .
وما ينبغي الإشارة إليه هنا : أن المفاجأة بكون الإنسان خصيمًا مبينًا لم تقع بعد خلق الإنسان من النطفة ؛ لأن بين خلقه منها ، وكونه خصيمًا مبينًا أحوالاً ، تطوَّر فيها . وتلك الأحوال محذوفة ، وتقع المفاجأة بعدها ؛ وهي المشار إليها بقوله تعالى :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةًثُمَّ أنشأناه خلقاً آخَرَفَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: 14) . وإنما جيء بالثاني عقِب الأول ؛ لأنهالوَصْفُ الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتَّى معه الخصام والجدل .
وقال الرازي :« وقوله :﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌفيه لطيفة غريبة ؛ وهي أنه تعالى قال : اختلاف صور أعضائه ، مع تشابه أجزاء ما خلق منه ، آية ظاهرة ، ومع هذا فهنالك ما هو أظهر ، وهو نطقه وفهمه ؛ وذلك لأن النطفة جسم ، فهَبْ أن جاهلاً يقول : إنه استحال وتكوَّن جسمًا آخرَ ؛ لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة ؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم ، وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب » .
وأضاف الرازي قائلاً :« فقوله :﴿ خَصِيمٌ ﴾ .أي : ناطق . وإنما ذكر الخصيم مكان النطق ؛ لأنه أعلى أحوال الناطق ، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه ، وهو يتكلم مع غيره . والمتكلم مع غيره ، إذا لم يكن خصيمًا لا يبين ، ولا يجتهد مثل ما يجتهد ، إذا كان كلامه مع خصمه . وقوله :﴿ مُبِينٌ ﴾ إشارة إلى قوة عقله . واختار الإبانة ؛ لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه ؛ لأن المبين بان عنده الشيء ، ثم أبانه . فقوله تعالى :﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ إشارة إلى أدنى ما كان عليه ، وقوله :﴿خَصِيمٌ مُّبِينٌإشارة إلى أعلى ما حصل عليه ».
ثالثًا- ثم أخبر تعالى أن هذا الكافر المنكر للبعث والنشور ضرب لربه عز وجل مثلاً من خلقه ، لا ينبغي لأحد أن يضربه ، قاس فيه قدرة الله جل وعلا على قدرتهم ، ونفى الكل على العموم ، ونَسِيَ خلْقَ الله تعالى له على الوَجْهِ المذكور ، الدالِّ على بطلان ما ضربه من المَثَل ، فقال سبحانه :﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم ﴾
وقوله تعالى :﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً معطوف على قوله تعالى :﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾. أي : ففاجأ بخصومته ، وضرب لنا مثلاً . أما على قول من قال : إن سياق الوصفين :﴿خَصِيمٌ ﴾ ، و﴿ مُّبِينٌ ﴾سياق مدح ، لا ذمًّ ، فيكون حينئذ معطوفًا على الجملة المنفية داخلاً في حيِّز الإنكار .
والمَثَلُ هو الشيءُ يُضرَبُ للشيء مَثَلاً ، فيُجْعَل مِثْلَه . أحدهما أصل ، والثاني فرع يقاس على الأصل ؛ للاعتبار به . وضَرْبُ المَثَل يعني : جمعُه وتقديرُه ، وهو من ضَرْب الدرهم ، وهو جمعُ فضَّة ، وتقديرُها .ويطلق لفظ المَثَل ، ويراد به : الأصل الذي يقاس عليه الفرع ، ويراد به مجموع القياس .
فمن الأول قوله تعالى :﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً(الجمعة: 5) . فمَثَل الحمار يحمل أسفارًا أصل ، قيس عليه مَثَل الذين حملوا التوراة .ومن الثاني قوله تعالى هنا :﴿ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُقَالَمَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم ﴾. فمثَّل الخالق جل وعلا بالمخلوق ، في هذا النفي ، وقاس قدرته سبحانه على قدرة المخلوق ، ونفى الكل على العموم ، فجعل هذا مثل هذا ، لا يقدر على إحياء العظام .
وقوله تعالى :﴿ وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾قرأه زيد بن علي :﴿ وَنَسِيَ خَالِقَهُ ﴾ ، اسم فاعل . وهو عَطْفٌ ؛ إمَّا علىقوله :﴿ضَرَبَ﴾ ، داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجيب . أو : هو حالٌ من فاعله ، فيكون التقدير : وضرب لنا مثَلاً ، ناسيًا خَلْقَ الله تعالى له على الوجه المذكور . أو : ناسيًا خالقه الذي خلقه من نطفة ، على القراءة الثانية .
فلو لم ينسَ هذا الجاحد خلقه وذكر مبدأ كونه من العدم ، لما ضرب المثل . فتحت قوله تعالى :﴿ وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾- كما قال ابن قيِّم الجوزية- ألطف جواب وأبين دليل . وهذا كما تقول لمن جحدك أن تكون قد أعطيته شيئًا : فلان جحدني الإحسان إليه ، ونسي الثياب التي عليه ، والمال الذي معه ، والدار التي هو فيها ، حيث لا يمكنه جحْد أن يكون ذلك منك .
وقوله تعالى :﴿قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم ﴾ ؟ استئناف بياني ، وقع جوابًا عن سؤال ، نشأ من حكاية ضربه المثل ؛ كأنه قيل : ما هذا المثل الذي ضربه ؟ فقال تعالى مُبَيِّنًا لهذا المثل ومُفَسِّرًا له :﴿قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم ﴾ ؟
فقوله :﴿مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم ﴾ ؟ هو المثل المضروب الذي أخبر تعالى عنه بقوله :﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ ، وهو استفهام إنكار ، مُتضَمِّن للنفي . واستفهام الإنكار المتضمِّن للنفي لا يُنْفَى به في القرآن إلا ما ظهر بيانه ، أو ادُّعِيَ ظهورُ بيانه ، فيكون ضاربه : إما كاملاً في استدلاله وقياسه ؛ كقوله تعالى :﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(الزمر: 29). وإما جاهلاً بهما ؛ كهذا الإنسان الذي قاس قدرة الخالق جل وعلا بقدرة المخلوق ، واستدل به على عجز الله جل وعلا عن إحياء العظام الرميمة .
والعِظامُ جمع : عظم ، وهو جمع تكسير. وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة . وباعتباره قال تعالى :﴿ وَهِيَ ﴾ ، ولم يقل :﴿ وَهُوَ ﴾ ، مع أن العظم مذكَّر . ويجوز أن يراعى فيه معنى الواحد . وباعتباره قال تعالى :﴿ رَمِيم ﴾ ، ولم يقل : رمائم ، أو : رميمة .
تأمل ذلك في قوله تعالى :﴿وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾(البقرة: 259) . فقال :﴿نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا ﴾ مراعاة لقوله :﴿ العِظَامِ . ثم قال :﴿ لَحْمًا ﴾ ، ولم يقل :﴿لُحُومًا؛ لأن لفظ الواحد قد عُلِمَ أنه يراد به الجمع .
أما الرَّميمُ فهو اسم لما بَلِيَ من العظام ، وغيرها ؛ كالرِّمَّة والرُّفات ، ويطلق على الجمع والمفرد ، والمذكر والمؤنث ؛ لأن أصله مصدر : رَمَّ . يقال : رمَّ العظم يرِمُّ رَمًّا . أي : بَلِيَ ، فهو رَمِيمٌ ، ورُمَامٌ . ورُمَامٌ ، مبالغة في : رَميم . وفي لسان العرب عن اللحياني :الرَّميمُ ما بقي من نبتِ عامِ أول . وقال تعالى في الريح العقيم :﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ(الذاريات: 42). أي :جعلته كالشيء الهالك البالي ، قاله ابن مسعود ومجاهد . وقال قتادة : إنه الذي دِيسَ من يابس النبات . وقال أبو العالية والسدي : كالتراب المدقوق . وقال قطرب : الرميم : الرَّمَاد . وقال البغوي : وقيل : أصله من العظم البالي .
و﴿مَنْ ﴾في قوله :﴿مَنْ يُحيِي العِظام ﴾ عامة في كل من يسند إليه خبر الإحياء ، ويشمل عمومها إنكاره أن يكون الله تعالى محييًا للعظام ، مستبعدًا إحياءها . فقاس قدرة الخالق بالمخلوق ، ونفى الكل على العموم ؛ لأن ذلك ليس في مقدور الخَلْق . واختار العظام للذكر ؛ لأنها أبعد ما تكون عن الحياة ، لعدم الإحساس فيها ، ووصفها بما يقوِّي جانب الاستبعاد من البِلَى والتفتُّت . وهو- كما قال الشيخ ابن تيمية- : قياسٌ حُذِفت إحدى مقدمتيه لظهورها ، والأخرى سالبة كلية ، قرن معها دليلها ، وهو كون العظام رميمًا . والتقدير : هذه العظام رميم ، ولا أحد يحي العظام وهى رميم ، فلا أحد يحييها .
رابعًا- وبعدأن ضمَّن تعالى قوله من قبلُ :﴿ وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ ما وفَّى بالجواب ، وأقام الحجة ، وأزال الشبهة ، أجاب سبحانه عن سؤال هذا الجاحد بما يتضمَّن أبلغ الدليل جوابًا شافيًا عن ثبوت ما أنكره ، زيادة في التأكيد والتقرير ، فقال مخاطبًا رسوله عليه الصلاة والسلام :﴿قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم.
فقال سبحانه :﴿قُلْيُحْييها ﴾ ، ولم يقل :﴿يُحْييها ﴾ ،تبكيتًا له بتذكير ما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال ، وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها .وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحَمْل استفهام القائل على خلاف مراده ؛ لأنه لما قال :﴿مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم؟ لم يكن مراده طلبَ تعيين المُحْيِي ؛ وإنما كان مراده استبعادَ إحياء العظام ، واستحالتَه ، فأجيب بجواب من يطلب علمًا ؛فلذلك بُنِيَ الجوابُ على فعل الإِحياء مسندًا للمُحْيِي .
وهذا أشدُّ ما يكون من الحِجَاج ، ويسمَّى عند علماء البيان : الاحتجاج النظري ، وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلُّ عليه بضروب من المعقول .وفيه الدلالة على وجوب القياس والاعتبار ؛ لأنه ألزمهم قياسَ النشأة الثانية على الأولى . وهو بمجرد تصوُّره ، يُعْلَمُ به علمًا يقينًا ، لا شُبْهَةَ فيه أن منْ قدر على الإنشاء أولاً من لا شيء ، كان على الإحياء أقدر وأقدر ، ومن كان الفعل الأصعب عليه سهلاً ، فمن الأولى أن يكون الفعل اليسير عليه أسهل . وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(الروم: 27) .
وتعقيبًا على قوله تعالى :﴿قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ ﴾ قال الألوسي :« وفي ( الحواشي الخفاجية ) كان الفارابي يقول : ودِدْت لو أن أرسطو وقف على القياس الجليِّ في قوله تعالى :﴿قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ ﴾ ، وهو الله تعالى أنشأ العظام وأحياها أول مرة . وكلُّ منْ أنشأ شيئًا أولاً قادرٌ على إنشائه وإحيائه ثانيًا ؛ فيلزم أن الله عز وجل قادرٌ على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيًا » ، فـ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ولمَّا كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلْقه ، أتبعَ سبحانه وتعالى ذلك بقوله :﴿ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم. وهذا أيضًا دليل آخر من صفات الله تعالى ، وهو أن علمه تعالى محيط بكل شيء ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾(الأنعام : 59 ) .
وفي ذلك دلالة أن الخالق لا يمكن أن يكون خالقًا إلا إذا كان قادرًا على الخلق ، ولا يكون قادرًا على الخلق إلا إذا كان عليمًا بالمخلوقات كلها ، محيطًا بجزئياتها وكلياتها في جميع الأحوال ، وفي جميع الأوقات .
وفي قوله تعالى :﴿قُلْ يُحْييها ﴾إشارة إلى كمال القدرة ، وفي قوله :﴿ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمإشارة إلى كمال العلم . والقدرة والعلم إذا اجتمعا ، كان من السهل إيجاد ما أُعدِم بعد أن كان موجودًا فأُعدِم . ومنكرو الحشر والنشر ، لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين .
﴿ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أََوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾(الإسراء: 49- 52) .
فتبارك من تكلم بهذا الكلام الذي جمع في نفسه بوجازته وبيانه وفصاحته وصحة برهانه كل ما تلزم الحاجة إليه من تقرير الدليل ، وجواب الشبهات ، ودحض حجة الملحدين ، وإسكات المعاندين بألفاظ ، لا أعذب منها عند السمع ، ولا أحلى منها ومن معانيها للقلب ، ولا أنفع من ثمرتها للعبد .. والحمد لله رب العالمين !









قديم 2009-03-29, 18:00   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
فراشة المملكة
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية فراشة المملكة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


مثل البعوضة فما فوقها
قال الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( البقرة: 26- 27 )
أولاً- هذا المثل جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن، وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوهما من الحيوانات الخسيسة. فلو كان ما جاء به محمد كلام الله، لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم الله تعالى بقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
فبيَّن سبحانه أن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها، إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه، وإبطال الباطل وإدحاضه، كان من أحسن الأشياء، والحسن لا يستحيا منه، فليس في ذلك محل اعتراض؛ بل هو من تعليم الله تعالى لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى تلك الأمثال بالقبول والشكر.
وكأنَّ معترضًا اعترض على هذا الجواب، أو طلب حكمة ذلك، فأخبر سبحانه وتعالى عمَّا له في ضرب تلك الأمثال من الحكمة؛ وهي إضلال من يشاء، وهداية من يشاء.
ثم كأن سائلاً سأل عن حكمة الإضلال لمن يضله بذلك، فأخبر تعالى عن حكمته وعدله، وأنه إنما يضل به الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض؛ فكانت أعمالهم هذه القبيحة، التي ارتكبوها سببًا؛ لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى.
ومناسبة هذا المَثَل لمَا قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي الكفار بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن، فلمَّا عجزوا عن ذلك، سلكوا في المعارضة طريقة الطَّعْن في المعاني، فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزَّه عنه كلام الله تعالى. وقد ثبت أن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا جميعًا متوافقين على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجدوا في الأمثال، التي ضرِبت لهم في القرآن الكريم منفذًا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن العظيم، بحجة أن ضرب الأمثال، بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم واحتقار لشأنهم، لا تصدر عن الله تعالى، وأن الله سبحانه لا يذكر في كلامه هذه الأشياء الصغيرة؛ كالذباب والعنكبوت ونحوهما من أمثال السَّوْء، التي ضربها لهم.
وكان هذا طرفًا من حملة التشكيك والبلبلة، التي كان يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة؛ كما كان يقوم بها المشركون في مكة، فجاءت هذه الآيات دفعًا لهذا الدَّسِّ والتشكيك، وبيانًا لحكمة الله تعالى في ضرب هذه الأمثال، وتحذيرًا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينًا للمؤمنين أنْ ستزيدهم إيمانًا.
وإلى ذلك أشار الزمخشري بقوله: والعجبُ منهم، كيف أنكروا ذلك، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام. وهذه أمثال العرب بين أيديهم مُسَيَّرةٌ في حواضرهم وبواديهم، قد تمثَّلوا فيها بأحقر الأشياء، فقالوا: أجمعُ من ذرَّة، وأجرأُ من الذباب، وأسمعُ من قُرَاد، وأصْرَدُ من جرادة، وأضعفُ من فراشة، وآكلُ من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعفُ من بعوضة، وأعزُّ من مخ البعوضة، وكلفتني مخَّ البعوضة. ولقد ضُرِبَتِ الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقَّرة؛ كالزوان، والنخالة، وحبة الخردل، والحصاة، والدود، والزنابير.
والتمثيل بهذه الأشياء، وبأحقر منها ممَّا لا تُغْبَى استقامتُه وصحتُه على من به أدنى مُسْكَة؛ ولكن دَيْدَن المحجوج المبهوت، الذي لا يبقى له متمسَّك بدليل، ولا متشبَّث بأمارة، ولا إقناع أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح، وإنكار المستقيم، والتعويل على المكابرة والمغالطة، إذا لم يجد سوى ذلك معولاً .
ثانيًا- ومَساقُ قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾مصدَّرٌ بـ﴿إِنَّيدل على التوكيد، وجيء بفعل الاستحياء المنفي مسندًا إلى لفظ الجلالة دون غيره من أسماء الله تعالى؛ لأنه الاسم الجامع لصفات الكمال والجلال كلها، فكان ذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه سبحانه هو الأعلى في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة. وفي ذلك أيضًا إبطال لتمويه الكفار، وتشكيكهم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله تعالى؛ إذ ليس من معنى الآية الكريمة أن غير الله تعالى ينبغي له أن يستحيي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل.
ولهذا أيضًا اختار سبحانه وتعالى أن يكون المسندُ إلى لفظ الجلالة خُصوصَ فعل الاستحياء، زيادةً في الردِّ عليهم؛ لأنهم أنكروا التمثيل بهذه الأشياء، لمراعاة كراهة الناس. ومثل هذا ضرب من الاستحياء، فنُبِّهوا على أن الخالق جل وعلا لا يستحيي من ذلك؛ إذ ليس ممَّا يستحيا منه؛ ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها، والمتصرف فيها،وما من شيء خلقه الله تعالى، إلا وفيه حكم كثيرة؛ منها ما يعلم، ومنها ما يجهل.
على أن العبرة في الأمثال ليست في الحجم والشكل؛ وإنما العبرة فيها أنها أدوات للتنوير والتبصير؛ وذلك لما فيها من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهَّم من المشاهد؛ فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك. فليس الكبر والصغر، أو العظم والحقارة في المضروب به المثل- إذًا- إلا أمرًا تستدعيه حال المتمثل له، وتستجرُّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحًا جليًّا أبلجَ، كيف مثِّل له بالضياء والنور، وإلى الباطل لما كان بضد صفته كيف مثل له بالظلمة ؟ ولما كانت حال الأولياء الذين يتخذهم المشركون أندادًا لله تعالى، لا حال أحقرَ منها وأقلَّ، جعل الله تعالى بيت العنكبوت مَثلَها في الوهَن، وجعلها أقلَّ من الذباب وأخسَّ قدرًا، وضرب لها البعوضة، فما فوقها مثلاً .
فليس في ضرب هذه الأمثال ما يعاب، وما من شأنه الاستحياء من ذكره؛ لأنه كلما كان المضروب به المثل أضعف، كان المثل أقوى وأوضح. والله تعالى جلَّت حكمته يضرب للناس في الحق والباطل أمثالاً، لا يعقلها إلا العالمون، الذين يخشونه، يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس والكشف عن خباياها. وهذا حقٌّ، والله تعالى لا يستحيي من إظهار الحق وبيانه؛ كما أخبر سبحانه عن نفسه في آية أخرى، فقال تعالى:﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾(الأحزاب: 53)
وقراءة الجمهور:﴿يَسْتَحْيِي ﴾،بياءين، وهي لغة الحجاز، والماضي منه: استحيا، على وزن: استفعل. وقرأ ابن كثير في رواية شبل:﴿يَسْتَحِي ﴾، بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، والماضي منه: استحى، ووزنه: استَفَلَ، عند جمهور النحاة، على أن المحذوف هو عين الفعل. واستَفْعَ، عند بعضهم، على أن المحذوف هو لام الفعل، وكلاهما من الحياء، يقال: حَيِيَ الرجل، واستحيا. ومجيئه على وزن: استفعل، ليس المراد به الدلالة على الطلب، مثل استوقد. أي: طلب الإيقاد؛ وإنما المراد به المبالغة، مثل استقدم، واستأخر، واستنكف، واستأثر، واستبد، واستعبر. وذهب بعضهم إلى القول بأنه جاء- هنا- على وزن: استفعل، للإغناء عن الثلاثي المجرد، وهو من المعاني، التي جاء لها: استفعل.
وفي استحيا لغتان: الأولى: استحييته. والثانية: استحييت منه. فيكون ممَّا يُعَدَّى بنفسه تارة، وممَّا يُعَدَّى بـ﴿مِنَ ﴾تارة أخرى. فعلى هذا يحتمل قوله تعالى:﴿أَنْ يَضْرِبَ ﴾ أن يكون مفعولاً به عُدِّيَ إليه الفعل بنفسه. أو عُدِّيَ إليه بإسقاط ﴿مِنَ ﴾، التييَحسُن ذكرها مع المصدر الصريح؛ كما في قوله تعالى في آية الأحزاب: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾، ويحسُن حذفها مع ﴿أَنْ ﴾، والفعل؛ كما في قوله تعالى هنا :﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ﴾ .
والحياء- في أصل اللغة- هو انقباض النفس عن الشيء، والامتناع منه خوفًا من مواقعةِ القبح. واشتقاقه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية، فيردها عن أفعالها، وهيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال، يظهر أثرها على الوجه، وفي الإمساك عمَّا من شأنه أن يُفعل. ولما كان الحياء بهذا المعنى غير لائق بجلال الله تعالى، اختلف المفسرون في تأويل الاستحياء المنسوبِ نفيُه إلى الله تعالى على ثلاثة أقوال:
أولها:لا يترك أن يضرب مثلاً مَّا. فعبَّر بالحياء عن الترك اللازم للفعل؛ لأن الترك من ثمرات الحياء؛ لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء، تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب.
والثاني: لا يخشى أن يضرب مثلاً مَّا. وسمِّيت الخشية حياء؛ لأنها من ثمراته، وقد قيل في قوله تعالى:﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ( الأحزاب: 37 ): إن معناه: تستحي من الناس.
والثالث: لا يمتنع أن يضرب مثلاً بالبعوضة امتناعَ المستحيي.
وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء، التي موضوعُها في اللغة، لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به، وكلها متقاربة من حيث المعنى، وأشهرها التأويل الأول، وبه أوِّل الحياء، الذي جاء مثبتًامنسوبًا إلى الله تعالى في الحديث، الذي أخرجه الترمذي في سننه عن سلمان الفارسيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ، فقد أُوِّل بأنه سبحانه تاركٌ للقبائح، فاعلٌ للمحاسن.
وذهب الشيخ ابن تيميَّة إلى أنه لا داعي لتأويل الحياء بالترك اللازم للانقباض؛ كما ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين؛ لأن صفات الله تعالى لا تحتمل تأويلاً، ولا تكييفًا. ومذهب أهل الحديث- وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف- أن هذه الأحاديث تمرُّ كما جاءت، ويؤمَن بها، وتصدَّق وتصَان عن تأويل يفضى إلى تعطيل، وتكييف يفضى إلى تمثيل؛ وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يُحتذَى حذوُه، ويُتبَعُ فيه مثالُه. فإذا كان إثباتُ الذات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، فكذلك يكون إثباتُ الصفات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، والله جل وعلا أخبر عن نفسه، فقال:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (الشورى:11)
ففي قوله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ردٌّ للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ردٌّ للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفيٍ مجمَل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفَوْا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل.
أما أبو حيَّان، فقال: والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز؛ فما صحَّ في العقل نسبتُه إليه، نسبناه إليه، وما استحال أوَّلناه بما يليق به تعالى؛ كما نؤوِّل فيما ينسَب إلى غيره، ممَّا لا يصحُّ نسبتُه إليه. والحياءُ- بموضوع اللغة- لا يصحُّ نسبتُه إلى الله تعالى؛ فلذلك أوَّله أهل العلم .
وذهب بعضهم إلى القول بأن الاستحياء- هنا- منفيٌّ عن أن يكون وصفًا لله تعالى، فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله جل وعلا. ورُدَّ ذلك بأن نفيَ الاستحياء عنه سبحانه في شيء مخصوص، يُفْهَم منه ثبوتُه في غيره؛ كما دلَّ على ذلك الحديث السابق. وأجيب عنه بأن انتفاء الشيء ليس ممَّا يدل على تجويزه على من نُفِيَ عنه، ولا على صحة نسبته إليه، وأن كل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته يصح أن ينفى عنه، وبذلك نزل القرآن، وجاءت السنة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ(البقرة: 255)
﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(الإخلاص: 3)
﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ(الأنعام: 14)
كيف جاءت هذه الصفات منفية عن الله تعالى، وهي ممَّا لا تجوز نسبتها إليه سبحانه ؟ ويقال: إن كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده.
وقيل: قد يكون ذِكْرُ الاستحياء- هنا- محاكاة لقول الكافرين على سبيل المقابلة؛ لأنه روي أن الكفار قالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ؟ ومجيء الشيء على سبيل المقابلة، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به، شائع في لسان العرب؛ ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ( البقرة: 194 ) ، فسمَّى جزاء الاعتداء اعتداء؛ لأن العقوبة كثيرًا ما تسمَّى باسم الذنب، وإن لم تكن في معناه.
ثالثًا- وقوله تعالى:﴿ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا. أيْ: أيَّ مثل كان،لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق. وعبَّر عن ذلك بلفظ الضَّرْبِ؛ لأنه يأتي عند إرادة التأثير، وهَيْجِ الانفعال؛ كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعًا، ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه. وإذا كان الغرض من ضرب المثل هو التأثير، فالبلاغة تقضي أن تُضْرَبَ الأمثالُ لمَا يُرادُ تحقيرُه، والتنفيرُ عنه بحال الأشياء، التي جرى العُرْفُ على تحقيرها، واعتادت النفوسُ على النفور منها.
وضربُ المثل يعني: جمعه وتأليفه وتقديره. أي: صوغُه وإنشاؤه من مجموع شيئين متماثلين في الحكم، أحدُهما أصلٌ، والآخرُ فرع، يقاس على الأصل للاعتبار به؛ إما قياسُ تمثيلٍ- كما في الأمثال المعيَّنة، التي يُصرَّح فيها بذكر الأصل والفرع- كمثل المنافقين. وإما قياسُ شُمولٍ- كما في الأمثال الكليَّة، التي يصرَّح فيها بالأصل المعتبر به؛ ليستفاد منه حكمُ الفرع من غير تصريح بذكر الفرع- كهذا المثل، وهو قوله تعالى:﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، فقد ضربه الله تعالى مَثلاً للآلهة، التي جعلها المشركون أندادًا لله سبحانه وتعالى. والغرضُ منه: تحقيرُ تلك الآلهة، والتقليلُ من شأنها.
وقيل :هذا مثلٌ ضُرِبَ للدنيا وأهلها؛ فإن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت. كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها، هلكوا. أو هو مثلٌ لأعمال العباد، وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قلَّ، أو كثُر؛ ليجازي عليه ثوابًا وعقابًا. وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها؛ بل هي ابتداء كلام، وكلا القولين ضعيف، يأباه رَصْفُ الكلام واتِّسَاقُ المعنى.
وقوله تعالى:﴿مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ هومن الطباق الخفي، الذي يقوم على المقابلة بين الصغير، والأصغر منه. و﴿ مَا ﴾ إبهامية، توصَف بها النكرةُ، فتزيدها إبهامًا وشيوعًا وعمومًا. والمعنى: مثلاً أيَّ مثل كان. وقد تفيد التحقير؛ كقولك: أعطه شيئًا مَّا، وتفيد التعظيم؛ كقولهم في المثل:{لأمر مَّا جدع قصيرُ أنفه }، وتفيد التنويع؛ كقولك: اضربه ضربًا مَّا. وقد جعلها بعضهم- هنا- سيفَ خطيبٍ. أي: صلة مُلغاة، أو زائدة. وعليه يكون التقدير:مَثَلاً بَعُوضَةً. والقرآن الكريم أجلُّ وأعظمُ من أن يُلْغَى فيه شيءٌ، أو يُزادُ لغير معنى. وقد وصفه الله تعالى بكونه هدى وبيانًا. وكونُه فيه لغوٌ، أو زائدٌ ينافي ذلك.
وقوله تعالى:﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾تفسير لـقوله:﴿مَثَلًا مَا ﴾،وبدل منه.وقرىء:﴿بَعُوضَةٌ ﴾، بالرفع. وتوجيهُ هذه القراءة عند النحاة أن البعوضة خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو. وعليه تكون ﴿ مَا ﴾ موصولة، ويكون التقدير: مثلاً الذي هو بعوضةٌ.
و﴿ بَعُوضَةٌ ﴾ واحد البعوض، وهو من الحشرات ثنائية الجناحين، ويشترك مع الذباب في عائلة واحدة، ويتواجد بكثرة في كل أنحاء العالم ماعدا القطبين. ولفظهمَبْنِيٌّ من البَعْض، بمعنى: القطع؛ وذلك لصغر جسمه بالإضافة إلى سائر الحشرات. وقيل: خصَّه الله تعالى بالذكر في القلة، فأخبر سبحانه أنه لا يستحيي أن يضرب أقلَّ الأمثال في الحق وأصغرها. وعن قتادة قال:البعوضة أضعف ما خلق الله. ومع ذلك ففيها من دقيق الصنع، وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه، ولا ينكر ذلك إلا نمرود. ومما قيل في وصفها: إنها صغيرة جدًا، وخرطومها في غاية الصغر، ثم إنه مع ذلك مجوَّف، وإنه مع فرط صغره، وتجويفه يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته؛ وذلك لما ركب الله تعالى فيه من السم.
والمشهور عن البعوض- ذكرًا كان أو أنثى- أنه مصَّاص للدماء. والذي ثبت أخيرًا أن أنثى البعوض هي التي تمصُّ الدماء دون الذكر. وربما كان في ذكر الله سبحانه للبعوضة بصيغتها المؤنثة نوع من الإعجاز؛ وذلك أن البعوضة المؤنثة أشد قوة، وأكثر تعقيدًا، كما أنها هي التي تنقل الأمراض لانتشارها في المنازل. أما الذكور منها فلا تظهر إلا في موسم التزاوج.والسر في تخصُّص أنثى البعوض بمصِّ الدماء دون الذكر هو البحث عن مصدر للبروتين، لإنتاج وإنضاج البيض، الذي تفرزه، فهي مضطرة لامتصاص الدم؛ لكي تحافظ على دوام نسلها.أما غذاء البعوض عامة فهو من خلاصة الزهور.
والفاءفي قوله:﴿فَمَا فَوْقَهَا ﴾ عاطفة ترتيبية، ولا يخفى ما فيه من التفصيل. ومذهب المفسرين أن المراد بالفوقية: إما الزيادة في حجم المُمَثَّل به- كما هو الظاهر- فيكون ترقيًا من الصغير للكبير. وعليه يكون المعنى: بعوضة، فما فوقها في العظم. أو يكون المراد بها: الزيادة في المعنى، الذي وقع التمثيل فيه، وهو الصغر والحقارة، فيكون تنزُّلاً من الصغير للأصغر، ومن الحقير للأحقر. وعليه يكون المعنى: بعوضة، فما فوقها في الصغر والحقارة. وعبَّر عنه أبو عبيدة بقوله: فما دونها.
ونظيره في الاحتمالين- على ما قيل- ما رواه مسلم في صحيحه، عن إبراهيم بن الأسود، قال: دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله عنها- وهي بمنى- وهم يضحكون، فقالت: ما يضحككم ؟ قالوا: فلان خرَّ على طُنُبِ فِسْطاطٍ، فكادت عنقه، أو عينه أن تذهب. فقالت: لا تضحكوا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما من مسلم يشاك شوكة، فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة.
فقوله صلى الله عليه وسلم:شوكة، فما فوقهايحتمل: فما هو أشد من الشوكة، وأوجع؛ كالخرور على طُنُبِ الفسطاط.ويحتمل:فما عدا الشوكة، وتتجاوزها في القلة؛ كنُخْبَةِ النملة. أي: كعضَّتها؛ جاء في كشف الخفاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه، حتى نُخْبَة النملة. والمحققون- كما قال الفخر الرازي- مالوا إلى القول الثاني، لوجوه:
أحدها: أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان. وكلما كان المشبه به أشدَّ حقارة، كان المقصود أكملَ حصولاً.
وثانيها: أن الغرض- هنا- بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير. وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانيًا أشدَّ حقارة من الأول. يقال: إن فلانًا يتحمل الذل في اكتساب الدينار، وفي اكتساب ما فوقه. يعني: في القلة؛ لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشدُّ من تحمله في اكتساب الدينار.
وثالثها: أن الشيء كلما كان أصغر، كان الاطلاع على أسراره أصعب. فإذا كان في نهاية الصغر، لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير.
هذا ، وقد ثبت أخيرًا صحة هذا القول، حين اكتشف العلماء حشرة صغيرة جدًا، لا تُرى إلا بالعين المجهرية، تعيش فوق ظهر البعوضة. فإذا ثبت ذلك، يكون في قوله تعالى:﴿فَمَا فَوْقَهَا ﴾ سر من أسرار الإعجاز القرآني، لم يتم الكشف عنه إلا حديثًا، وعليه يكون المراد بالفوقية ظاهر معناها، وهو نقيض التحتية .
وإذا كان الله سبحانه قد ضرب المثل بالبعوضة، فما فوقها في الصغر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب مثلاً للدنيا بجناح البعوضة، فقال عليه الصلاة والسلام:لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرًا شربة ماء. قال الزمخشري: وفي خلق الله حيوان أصغر منها، ومن جناحها؛ فلربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دُوَيْبَة، لا يكاد يُجْليها للبصر الحادِّ إلا تحرُّكها، فإذا سكنت، فالسكون يُواريها، ثم إذا لوَّحْتَ لها بيدك، حادت عنها، وتجنبت مضرتها.. فسبحان من يدرك صورة تلك، وأعضاءها الظاهرة والباطنة، وتفاصيل خلقها، ويبصر بصرها، ويطَّلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها، وأصغر. ومن ذلك الفيروس، الذي خفِي عن البشرية سنين عديدة، وعندما ظهر أربكها, وأحدث هرْجًا ومرْجًا عظيمين في صفوف علمائها قبل عوامِّها.وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :يا أيها الناس! لا تغتروا بالله ؛ فإن الله، لو كان مغفلاً شيئًا ، لأغفل البعوضة ، والذرة ، والخردلة .
فـ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾( يس: 36 ) !
رابعًا- وقوله تعالى:﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾بيانٌ لموقف الناس من هذا المثل، وشروعٌ في تفصيل ما يترتب على ضربه من الحكم. والمعنى: فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل، علموا أنه الحق، الذي لا تمر الشبهة بساحته. وأما الكافرون فإنهم، لانطماس بصيرتهم، وتغلب الأحقاد على قلوبهم، إذا سمعوا ذلك، عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار؛ ولهذا قال تعالى:﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا، فهذه حال المؤمنين، والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى:
﴿وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(التوبة: 124)
وقولهم:﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ ؟ هو سؤال المحجوب عن نور الله تعالى وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره.. ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارًا، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب جل وعلا. يقولونها في جهل وقصور، في صيغة الاعتراض والاستنكار، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله سبحانه وتعالى!
والفاء في قوله تعالى:﴿ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾، وقوله:﴿فَيَقُولُونَ ﴾، لربط ما بعدها بما قبلها، وللدلالة على أن ما بعدها محقق الوقوع. و{ الْحَقُّ }هو الثابت، الذي يحِقُّ ثبوته لا مَحالةَ، بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره. وتعريفه للدلالة على أنه مشهود له بالحَقيِّة. ويقال: حَقَّ الأمرُ، إذا ثبت ووجب. وثوب مُحَقَّقٌ: مُحكَمُ النسج. ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتَى به مُعرَّفًا بأل، للدلالة على أن المخبر عنه بالغٌ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبةَ الكمال.
وقوله تعالى:﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾، حال من الحق. و{ مِنْ} ابتدائية. أي: إن هذا الكلام وارد من الله تعالى، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب. فهو مؤذن بأنه من كلام ربهم، الذي لا يقع منه الخطأ، وجيء بلفظ { الرب } مضافًا إلى ضمير المؤمنين، تشريفًا لهم، وإيذانًا بأن ضرب المثل تربيةٌ لهم، وإرشادٌ إلى ما يوصلهم إلى كمالهم، اللائق بهم.
وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:{وأما الذين كفروا فلا يعلمون }؛ ليطابق قرينه، ويقابل قسيمه، وهو قوله تعالى:﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ ﴾. ولكن أوثر عليه قوله تعالى:﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ﴾، لمَا في هذا من المبالغة في ذمِّهم، والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم، وتمام غلوِّهم في الكفر؛ لأن الاستفهام بقولهم:﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ ؟إما لعدم العلم، أو للإنكار. وكلٌّ منهما يدل على الجهل، والغلوِّ في الكفر دلالة واضحة. ومن قال للمسك: أين الشذا ؟ يكذبه ريحه الطيب. وقيل: إن﴿ يَقُولُونَ ﴾ لا يدل صريحًا على العلم- وهو المقصود- كما يدل عليه:﴿ يَعْلَمُونَ ﴾.وأما الكافرون فكان منهم الجاهل، الذي لا يعلم، والمعاند، الذي يعلم، فكان يقول ما يقول مكابرة وعنادًا،وهو يعلم أن ذلك تمثيل أصاب المِحَزَّ؛ ولهذا كان قوله تعالى في حقهم:﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ﴾ أشملَ وأجمعَمنقول:{وأما الذين كفروا فلا يعلمون }.. فتأمل ذلك !
واختلف النحاة في:{مَاذَا } من قوله تعالى:﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ ؟فقيل: هي بمنزلة اسم واحد، بمعنى: أيَّ شيء أراد الله بهذا مثلاً ؟ فيكون في موضع نصب بـ{ أَرَادَ }. وقيل:{مَا } اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و{ذَا } بمعنى: الذي، وهو خبر الابتداء. أي: ما الذي أراد الله بهذا مثلاً ؟ والجيِّد هو القول الأول. والإِرادة في أصل اللغة: نزوع النفس إلى الفعل، وإذا أسندت إلى الله تعالى دلت على صفة له، تتعلق بالممكنات، فيترجح بها أحد وجهي المقدور، وقد كان جائز الوقوع، وعدم الوقوع. وفي الإشارة بـ{هذا } استحقارٌ منهم للمشار إليه،واسترذالٌ له؛ كقولهم:﴿أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ﴾(الفرقان:41). و{ مَثَلاً }منصوب على التمييز، الذي وقع موقع الحال.
خامسًا- وهنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير؛ وذلك قوله تعالى:﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾،وهو عبارة عن جملتين جاريتين مجرى البيان والتفسير للجملتين المصدرتين بـ{أَمَّا }؛ إذ تشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة، وعلى أن العلم بكونه حقًا من الهدى، الذي يزداد به المؤمنون نورًا إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة، التي يزداد بها الجهال خبطًا في ظلمتهم. وهاتان تزيدان ما تضمنتاه وضوحًا. أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات، ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة، هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية، وإضلال المنهمكين في الغواية. وصرح بعضهم بأنهما جواب لـ{ مَاذا }.
وفي وضع الفعلين{ يُضِلُّ }, و{ يَهْدِي } موضع المصدر إشعارٌ بالاستمرار التجددي. والمضارع يستعمل له كثيرًا؛ ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان. وقدِّم في النظم الإضلال على الهداية، مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله؛ ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرًا فظيعًا يسوؤهم، ويفت في أعضادهم، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر. ووصْفُ كلِّ فريق منهما بالكثرة؛ إنما هو بالنظر إلى أنفسهم، لا بالقياس إلى مقابلهم؛ وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال، كما يشير إليه قوله تعالى:﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾(سبأ:13)، فعبَّر عن عدد المهتدين تارة بالكثرة، نظرًا إلى ذواتهم, وتارة بالقلة، نظرًا إلى غيرهم.
ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى:﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾. أي: الذين فسقت قلوبهم من قبلُ، وخرجت عن الهدى والحق. فهؤلاء جزاؤهم أن يزيدهم كفرًا وضلالاً. وهو تذييل، أو اعتراض في آخر الكلام، بناء على قول من جوَّزه. ومنع بعضهم عطفه على ما قبله؛ لأنه لا يصح كونه جوابًا وبيانًا. وأجازه بعضهم، تكملة للجواب، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له، وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالاً ابتدائيًا؛ بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه.و{ الفاسقون }همالخارجون عن حدود الإيمان، وهو جمع فاسق، من الفسق، وهو الخروج عن الشيء، يقال: فسق الرُّطَب، إذا خرج من قشره. والفسق في استعمال الشرع هو خروج العقلاء عن الطاعة، فيشمل الكفر، ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة، فلا يطلق على ارتكاب غيرها إلا نادرًا بقرينة، وهو أعم من الكفر. قال تعالى:﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ﴾(السجدة: 18)، فقابل به الإيمان. أما قوله تعالى:﴿وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(النور: 55) فعنى بالكافر: الساتر للحق؛ فلذلك جعله فاسقًا. ومعلوم أن الكفر المطلق هو أعم من الفسق. وإذا قيل للكافر: فاسق، فلأنه أخلَّ بحكم ما ألزمه العقل، واقتضته الفطرة.
وتخصيص الإضلال بهم مرتبًا على صفة الفسق، وما أجرى عليهم من القبائح، للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال، وأدى بهم إلى الضلال؛ فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل، صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل، حتى رسَخَت جهالتهم، وازدادت ضلالتهم، فأنكروا، وقالوا ما قالوا.
سادسًا- ويأتي بعد ذلك تفصيل صفة الفاسقين هؤلاء؛ كما فصِّلت من قبلُ في أول السورة صفة المتقين. فالمجال ما يزال- في السورة- هو مجال الحديث عن تلك الطوائف، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور، فيقول سبحانه:
﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
فأيُّ عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ؟ وأيُّ أمر ممَّا أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ؟ وأيُّ لون من ألوان الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ؟ لقد جاء السياق- هنا- بهذا الإجمال؛ لأن المجال مجال تشخيص طبيعة، وتصوير نماذج، لا مجال تسجيل حادثة، أو تفصيل واقعة.. إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها، فكل عهد بين الله، وبين هذا النموذج من الخلق هو عهد منقوض. وكل ما أمر الله به أن يوصل هو بينهم مقطوع. وكل فساد في الأرض هو منهم مصنوع.. إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد، ولا تستمسك بعروة، ولا تتورع عن فساد.. إنهم كالثمرة الفجَّة، التي انفصلت من شجرة الحياة، فتعفَّنت وفسدت، ونبذتها الحياة، ومن ثمَّ يكون ضلالهم بالمَثل، الذي يهدي المؤمنين، وتجيء غوايتهم بالسبب، الذي يهتدي به المتقون.
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر، الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين، والذي ظلت تواجهه، وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعناوين !
وأول هذه الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر هو نقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه:﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾، وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة، ترجع في حقيقتها إلى عهد واحد، وهو أن يعبدوا الله وحده، وأن يحكِّموا في حياتهم منهجه وشريعته، إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي أن يعرف خالقه، وأن يتجه إليه بالعبادة، وألا يتخذ من دونه سبحانه أنداداً وشركاء.ونقض العهد يعني: فسخه وإبطاله. وأصله يكون في الحبل، ونقيضه: الإبرام. ويكون في الحائط، ونحوه، ونقيضه: البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد، من حيث تسميتهم العهد بالحبل، على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين. ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة: يا رسول الله إن بيننا، وبين الله حبالاً، ونحن قاطعوها . وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها، أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه؛ نحو قولك: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس.والعهد: هو حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال. وسمِّي المَوْثِق، الذي يلزم مراعاته: عهدًا. قال تعالى:﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾(الإسراء:34). أي: أوفوا بحفظ الأيْمان. ويقال: عهدإليه في كذا، إذا أوصاه ووثقه عليه. واستعهد منه، إذا اشترط عليه واستوثق منه.فالوفاء بالعهد من الإيمان، والالتزام بالميثاق إيمان، ونقض العهد والميثاق كفر. وإذا نقِض عهدُ الله من بعد ميثاقه، فكل عهد دون الله منقوض. فالذي يجرؤ على عهد الله، لا يحترم بعده عهدًا من العهود. و{ من }في قوله تعالى:﴿ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾للابتداء، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل. و{ مِيثَاق} على وزن: مفعال،وهو اسم في موضع المصدر.
وثاني هذه الآثار الهدامة قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل:﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾. والله تعالى أمر بصلات كثيرة: أمر بصلة الرحم والقربى، وأمر بصلة الإنسانية الكبرى، وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية، التي لا تقوم صلة، ولا وشيجة إلا معها.. وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل، فقد تفككت العرى، وانحلت الروابط، ووقع الفساد في الأرض، وعمت الفوضى. فالآية عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل دون تخصيص؛ ولهذا ناسب أن يؤتى بـ{مَا}الموصولة،دون{ الذي }؛ وذلك لِمَا في{مَا} من الإبهام والشيوع، ووقوعها على الجنس العام. و{ أن يوصل }يحتمل النصب، والخفض على أنه بدل من{مَا}، أو من ضميره. والثاني أولى للقرب؛ ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه.
وثالث هذه الآثار الهدامة الإفساد في الأرض:﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ . والفساد في الأرض ألوان شتى، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله تعالى، ونقض عهده سبحانه، وقطع ما أمر به أن يوصل. ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه، الذي اختاره؛ ليحكم حياة البشر ويصرِّفها. هذا مفرق الطريق، الذي ينتهي إلى الفساد حتمًا، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض، ومنهج الله تعالى بعيد عن تصريفها، وشريعة الله مقصاة عن حياتها. وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو، فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال، وللحياة والمعاش، وللأرض كلها، وما عليها من ناس وأشياء.
وفي تقييد فسادهم بقوله تعالى:﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ إشارة إلى أن المراد: يفسدون فسادًا يتعدىضرره، ويطير في الآفاق شرره.وهذا يعني: أن فسادهم لا يقتصر عليهم، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم.ثم بين الله تعالى- بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة- عاقبة أمرهم، فقال سبحانه:﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾، الذين خسروا كل شيء، نتيجة أعمالهم الفاسدة؛ فكان جزاؤهم النار خالدين فيها أبدًا. و{ أولئك } إشارة إلى الفاسقين، باعتبار ما فُصِّل من صفاتهم القبيحة. وفيه رمزٌ إلى أنهم في أعلى مرتبة من الذم. والخاسرُ الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقص كان في ميزان، أو غيره. وحَصْرُ{ الخاسرين } على{ الفاسقين } باعتبار كمالهم في الخسران؛ حيث أهملوا العقل عن النظر، ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرَّة السَّرْمديَّة، واشتروا نقض العهد بالوفاء به، والفساد في الأرض بالصلاح فيها، وقطيعة كل ما أمر الله به أن يوصل بالصلة، والثواب بالعقاب؛ فضاع منهم الطلبتان: رأس المال والربح، وحصل لهم الضرر الجسيم. وهذا هو الخسران العظيم؛ كما قال تعالى:﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا*أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾(الكهف: 103- 106)









قديم 2009-03-29, 18:06   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
فراشة المملكة
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية فراشة المملكة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مثل بيت العنكبوت
قال الله عز وجل :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾{ العنكبوت : 41 }
أولاً- هذا مثل ضربه الله تعالى لكل من اتخذ من دون الله وليًا معتمدًا ، يلجأ إليه وقت الشدَّة ، ويحتمي بحماه ، وهو لا يجلب له نفعًا ، ولا يدفع عنه ضرًّا ، شبَّه فيه سبحانه حاله هذه بحال العنكبوت اتخذت بيتًا ؛ لتحتمي به من الأهوال والأخطار ، وتأوي إليه معتمدة على خيوطها القوية ، وهي لا تدري أن هذا البيت لا يقي حرًّا ، ولا يدفع بردًا ، ولا يجير آويًا ، ولا يريح ثاويًا .
فأولئك الذين اتخذوا من دون الله أولياء هم وأولياؤهم مثل.. والعنكبوت وبيتها الذي اتخذته من دون البيوت مثل آخر ، وبين المثلين وجه شبه ، دلت عليه كاف التشبيه ، وهو ضعف المعتمد . والفائدة هي التحذير من حمل النفس على التغرير بالعمل الذي يقوم على غير أساس .
وقد ورد هذا المثل في مطلع النصف الثاني من سورة العنكبوت ، وهي سورة مكية ، وموضوعها العقيدة في أصولها الكبرى: الوحدانية ، والرسالة ، والبعث والجزاء . ومحور السورة الكريمة يدور حول الإِيمان ، وسنة الابتلاء في هذه الحياة الدنيا ؛ لأن المسلمين في مكة كانوا في أقسى المحنة والشدَّة ؛ ولهذا جاء الحديث عن موضوع الفتنة والابتلاء في هذه السورة مطوَّلاً مفصلاً ، وبوجه خاص عند ذكر قصص الأنبياء- عليهم السلام- وأقوامهم الضالين الذين بهرتهم قوى المال والجاه والسلطان ، فظنوا لجهلهم أنها مانعتهم من عذاب الله تعالى .
وتبتدئ السورة بعد المطلع ﴿الم ﴾ بهذا البدء الصريح :﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴾ ؟ وتمضي السورة الكريمة تتحدث عن فريق من الناس ، يحسبون الإِيمان كلمةً تقال باللسان ، فإِذا نزلت بهم المحن والشدائد ، انتكسوا إِلى جحيم الضلال ، وارتدوا عن الإِسلام تخلصًا من عذاب الدنيا ؛ كأن عذاب الآخرة أهون من عذاب الدنيا :﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ.. ﴾ .
ثم تمضي السورة تتحدث عن محنة الأنبياء- عليهم السلام- وما لاقوه من شدائد وأهوال في سبيل تبليغ رسالة الله تعالى ، بدءًا بمحنة نوح ، ثم إِبراهيم ، ثم لوط ، ثم شعيب- عليهم السلام- وتتحدث عن بعض الأمم الطغاة ، والأفراد المتجبرين ؛ كعاد وثمود ، وقارون وهامان .. وغيرهم ، ثم تذكر بإجمال ما حلَّ بهم من الهلاك والدمارنتيجة ظلمهم وطغيانهم :
﴿ فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { العنكبوت : 40 }
ثانيًا- وبعد هذا الاستعراض السريع لمحنة الأنبياء- عليهم السلام- ومصارع الكفار والمشركين من الطغاة المتجبرين في الأرض‏ ,‏ والمفسدين ، وما ترك ذلك من آيات وعبر لمن جاء بعدهم ، يأتي هذا المثل ؛ ليؤكد لكل طاغية متجبر أنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله‏ تعالى ,‏ ولا ملجأ ، ولا منجى منه إلا إليه‏ سبحانه وتعالى ,‏ وأن قوى أهل الشر ، مهما تعاظمت وتجبرت ‏، هي هزيلة‏ ضعيفة‏ واهنة ‏,‏ وأن اللجوء إليها ، والاحتماء بها كاحتماء العنكبوت ببيتها الواهن ‏‏,‏ والذي تصفه الآية الكريمة بأنه أوهن البيوت على الإطلاق :
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَكَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾{ العنكبوت : 41 }
فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء يلوذون إليهم ، ويحتمون بحماهم ، ويرجون نفعهم مَثَلُهُمْ في ذلك كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بيتًا واهنًا ، فكانوا كالعنكبوت في ضعفها وصغر شأنها ، بل هم في يد القدرة القادرة ، وإزاء سلطان الله الغالب القاهر أقل من العنكبوت شأنًا ، وأضعف منها حيلة وحولاً . أما أولياؤهم الذين دخلوا في حماهم فهم أوهن من بيت العنكبوت ؛ لأن هذا له حقيقة وانتفاع في الجملة ، وأولئك لا حقيقة لهم ، ولا نفع ؛ لأنهم لا يدفعون عمَّن والاهم أذى ، ولا يردون عنه شرًا .
ويعَدُّ هذا المثل من أحسن الأمثال ، وأدلها على بطلان الشرك ، وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده ، وهو كالمرآة التي يرى الناس عليها- وخاصة أولئك الذين غلظت طباعهم وتبلدت مشاعرهم- صورة تجسم ضعف أولئك الأولياء من دون الله عامة ، ووهن الملجأ الذي يلجأ إليه من والاهم حين يلوذون إليهم ويحتمون بحماهم ، وترسم لذلك كله صورة مزدوجة ؛ فهم عناكب ضئيلة واهنة تأوي من حمى هؤلاء الأولياء إلى بيت كبيت العنكبوت أوهن وأضأل .. فمن لم تحالفه قدرته وأقداره على النظر في الآيات والعبر التي تركها الله في بيوت الظالمين لأي سبب كان ، فإن حجة الله عز وجل لا تسقط عنه ؛ ذلك أنه سبحانه وتعالى قد بثها كاملة غير منقوصة في بيت العنكبوت .
ثالثًا- وفي تمثيل هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء بالعنكبوت ، وتمثيل أوليائهم ببيت العنكبوت إعجاز من إعجاز القرآن ؛ فالعنكبوت إنما تتخذ بيتها من خيوط رفيعة تفرزها من غدد خاصة بذلك ، وتوزعها مغازلها الصغيرة ، فإذا لامست الهواء ، تماسكت وتصلَّب في صورة خيوط برَّاقة . وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء أقاموا معتقدهم الفاسد الذي يعتقدونه ؛ ليلتمسوا الطمأنينة والأمن في ظله ؛ إنما أقاموه من تلك الأبخرة العفنة التي تتصاعد من مشاعرهم ، فتتشكل منها تلك الأوهام الخادعة ، ويقوم عليها ذلك البناء الواهي المتداعي .
والمراد بالموصول في قوله تعالى :﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَكل من اتُّخِذ من دون الله تعالى متكلاً ومعتمدًا ؛ آلهة كان ذلك ، أو غيرها آلهة ؛ ولهذا عبَّر الله تعالى عنه بلفظ :﴿ أَوْلِيَاءَ ، ولم يعبِّر عنه بلفظ :﴿ آلهة ؛ كما في قوله تعالى :﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ﴾{ مريم : 81 } . وفي ذلكإشارة إلى إبطال الشرك الخفي ؛ فإن من عبد الله تعالى رياء لغيره ، فقد اتخذ وليًّا غيره ؛ فهذا مثله ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً .
وتنكير﴿ أَوْلِيَاءَللتنويع ، فيدل على أن الأولياء أنواع ، لا نوع واحد ، ومفرده : وليٌّ . وأصل الولي جعل الثاني بعد الأول من غير فصل ، من قولهم : هذا يلي ذاك . ويجري الوليُّ في الصفة على التابع والمتبوع ، والمُعَان والمُعين . تقول : الله تعالى وليُّ المؤمنين . أي : معينهم . والمؤمن وليُّ الله تعالى . أي : المُعَان بنصر الله عز وجل . ويقال : الشيطان وليُّ الكافرين والمنافقين ، والكافرون والمنافقون أولياء الشيطان . ويقال : الكافرون بعضهم أولياء بعض . وكذلك المؤمنون بعضهم أولياء بعض ؛ولهذا لا يجوز قصر المراد من لفظ الأولياءِعلى الآلهة فقط .
وقيل : الواو والتاء في ﴿الْعَنْكَبُوتِ ﴾ زائدتان‏ ؛‏ كما في طاغوت‏ ، وطالوت ،‏ فأصله على هذا: عنكب ، ووزنه : فعلل ، ونونه أصلية. وقيل : نونه زائدة ، ووزنه : فنعل ، فأصله على هذا: عكَب ، بمعنى الشدَّة في السير ؛ فكأنه لشدة وثبه لصيد الذباب ، أو لشدة حركته عند فراره ، أطلق عليه اسم العنكبوت . وقد ذكر سيبويه القولين ، والمشهور منهما الأول . والذكر : عنكب ، ويجمع على : عناكب ، وعناكيب ، والأنثى منه : عنكبة ، وتجمع على : عنكبات . أما العنكبوت فيجمع على : عنكبوتات ، وهو حيوان صغير ، له ثمانية أرجل ، ويغزل خيوطًا تشبه الحرير . وأكثر ما تشتهر به العناكب هو غزلها لخيوط الشِّرَاك التيتستخدمها في صيد الحشرات ؛ لتتغذى بها . ولا تسلم الحشرات حتى الأضخم والأقوى منها منمخاطرشراكها .ولجميع العناكب أنياب ، ولمعظمها غدد سامة ، وتستخدم العناكب كلاً من هذه الأنيابوالغدد في صيد الحيوانات ؛ لتتغذى بها . ويمكن للدغةالعنكبوتأن تقتل الحشرات والحيوانات الصغيرة ، وقليلمنها يلحق ضررًا بالإنسان ؛ وذلك لأنالعنكبوتعادة لا يلدغ الإنسان إلا إذا أثاره بشدة .
ويعتقدُ كثيرٌ من الناس أن العناكب حشرات ، إلا أن العلماء يصنفونها على أنها منالعنكبياتالتي تختلف عن الحشرات في عدة أشياء . فالعناكب مثلًا لها ثمانيةأرجل ، بينما للنحل والنمل والخنافس والحشرات الأخرى ستة أرجل فقط . وإضافة إلى ذلكتمتلك معظم الحشرات أجنحة ، وقرون استشعار ، وهذه غير موجودة في العناكب .وتشمل العنكبيات الأخرى:العقاربوالحصَّادوالقُمّل والقُرَاد .
ويطلق لفظ ﴿الْعَنْكَبُوتِ ﴾على الواحد والجمع‏ ,‏ والذكر والأنثى ‏؛‏ إلا أن الغالب في استعماله التأنيث . قال الدُّمَيْني في كتابه ( حياة الحيوان الكبرى ) : « العنكبوت : دويبة تنسج في الهواء ، وجمعها: عناكب. والذكر: عنكب ، وكنيته: أبو خيثمة ، وأبو قشعم . والأنثى: أم قشعم . ووزنه : فعللوت . وهي قصار الأرجل ، كبار العيون ، للواحد ثمانية أرجل ، وست عيون . فإذا أراد صيد الذباب ، لطأ بالأرض وسكن أطرافه وجمع نفسه ، ثم وثب على الذباب فلا يخطئه » .
وهذا النوع من العناكب يسمَّى : ليث عفرين . قال عنه الجاحظ في كتابه الحيوان :« إنه ضرب من العَنَاكب يصيد الذباب صَيْدَ الفُهُود ، وهو الذي يسمَّى : الليث ، وله ست عيون . فإذا رأى الذباب ، لطأ بالأرض ، وسكن أطرافه ، فمتى وثب ، لم يخطىء » .
وجاء في لسان العرب لابن منظور :« العنكبوت: دويبة معروفة ، تنسج في الهواء ، وعلى رأس البئر نسجًا رقيقًا مهلهلًا ،مؤنثة ، وربما ذكِّرت في الشعر . قال أبو النجم :
ممَّا يُسَدِّي العنكبوت ، إذ خلا
قال أبو حاتم : أظنه: إذ خلا المكان والموضع .
وأما قوله:
كأن نسج العنكبوت المُرْمِلِ
فإنما ذكَّره ؛ لأنه أراد النسج ، ولكنه جرَّه على الجوار » .
يعني : أنه ذكَّر لفظ المرمل ) ؛ لأنه صفة لـ( نسج ) . ولو كان صفة للعنكبوت ، لوجب تأنيثه . ‏
وقال الفراء :« العنكبوت أنثى ، وقد يذكرها بعض العرب ، وأنشد قوله :
على هُطَّالهم منهم بيوت ** كأن العنكبوت هو ابتناها
والتأنيث في العنكبوت أكثر ، والجمع : العنكبوتات ، وعناكب ، وعناكيب».
أراد بـ( هطَّالهم ) : جبالهم .
ومن استعمال لفظ العنكبوت جمعًا قول الطِّرِمَّاح :
ولو أن أمَّ العنكبوت بنت لهم ** مِظَلَّلتها يوم الندى لأكَنَّتِ
ومن استعماله مؤنَّثًا قول الفرزدق يهجو جريرًا :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ** وقضى عليك به الكتاب المُنزَل
أراد : أن بيت جرير في العرب مثل بيت العنكبوت في الوهن .
وقال الأنباري في كتابه ( البُلْغَةُ في الفرق بين المؤنث والمذكر ) :« العنكبوت مؤنثة ، وقد يجوز فيها التذكير » .
لاحظ قوله :« وقد يجوز فيها التذكير »، ثم قول الفرَّاء من قبله :« وقد يذكرها بعض العرب » ، وقول ابن منظور :« وربما ذكِّرت في الشعر » ، تجد أن الغالب في استعمال لفظ العنكبوت- في لغة العرب- هو التأنيث ، وأن تذكيره قليل ، ومختص بالشعر . وإذا كان كذلك ، فإنه من النادر الذي لا يقاس عليه .
ومما يدل- أيضًا- على أن لفظ ﴿الْعَنْكَبُوتِ ﴾مؤنث قول العوام : عنكبوتة ؛ كقولهم : نملة ، ونحلة . والصواب : عنكبوت . وهذا ما أشار إليه صلاح الدين الصفدي في كتابه ( تصحيح التصحيف وتحرير التحريف ) بقوله : « يقولون : عنكبوتة . والصواب : عنكبوت » . واستشهد على ذلك بالآية الكريمة السابقة :﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً .
فثبت بما تقدم أن المراد بلفظ ﴿الْعَنْكَبُوتِ ﴾ في الآية الكريمة : التأنيث ، وليس فيما ذكرناه من أقوال ما يشير إلى أن المراد به التذكير . ولو كان كما قالوا ، لوجب أن يقال :﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَ بَيْتًا، بتذكير الفعل ؛ كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ﴾{ البقرة :249} ، فجاء بالفعل ﴿ قَالَ ﴾ مذكَّرًا ؛ لأن فاعله يعود على ﴿ طَالُوتُ ﴾ ، وهو مذكر .
والظاهر من قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا أن المراد بالعنكبوت : النوع الذي ينسج بيته في الهواء ، ويصيد به الحشرات ، وأن جملة ﴿ اتَّخَذَتْ بَيْتًاصفة للعنكبوت . وهذا أحسن من قول من جعلها حالية ؛ لأن جعلها حالية لا يتأتَّى إلا على تقدير ( قد ) قبلها . وعليه يكون تقدير الكلام : كمثل العنكبوت قد اتخذت بيتًا . ولا يخفى ما فيه من مخالفة لنظم القرآن المحكم .
وقال تعالى :﴿اتَّخَذَتْ بَيْتًا، ولم يقل :( بنت بيتًا )- كما يقتضيه ظاهر اللفظ – لأنالفعل (اتَّخَذَ ) لا يقال إلا في الشيء المصطفى المحبوب ؛ كما في قوله تعالى :﴿وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾{ النساء : 125 } ، وقوله :﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾{ الفرقان : 27 } . فالاتخاذ هو اقتناء واجتباء ، وهو افتعال من الأخذ . فإذا قلت : اتخذت كذا ، فمعناه : اصطفيته لنفسي ، واخترته لها .وأصل اتَّخَذَ : تَخِِذَ ، وتاؤه أصلية ، وليست مبدلة من شيء ، وعليه قول تعالى :﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا { الكهف : 77 } ، وهو من الاتِّخاذ ؛ كالاتِّباع – مصدر : اتَّبَعَ – من : تَبِعَ .
وقول الجوهري وغيره : إن اتَّخذ : افتعل ، من الأخذ ، وَهْمٌ لا دليل عليه ، والفرق بينهما : أن الأخذ هو حَوْزُ الشيء وتحصيلُه ، وأصله في العربية : الجمع ، ويكون ذلك بالتناول تارة ؛ كما في قول يوسف عليه السلام :﴿مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾{ يوسف : 79 } ، ويكون بالقهر تارة أخرى ؛ كما في قوله تعالى :﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾{ البقرة : 255 } ، وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾{ هود : 10 } . أما الاتِّخاذ فهو أخذ الشئ لأمر يستمر فيه ؛ مثل الدار يتَّخذها صاحبها مسكنًا ، والدابة يتَّخذها مركبًا ؛ ومنه قوله تعالى :﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً { مريم : 81 } ، وقوله تعالى :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ﴾{ النحل : 68 } .
وأصل البيت : مأوى الإنسان في الليل ؛ لأنه يقال : بات . أي : أقام بالليل ، ثم قد يقال للمسكن : بيت ، من غير اعتبار الليل . وجمعه : أبيات ، وبيوت ، لكن البيوت بالمسكن أخصُّ ، والأبيات بالشعر أخصُّ . ويقع ذلك على المُتَّخَّذ من حجر ومدر ، وصوف ووبر ، وبه شُبِّه بيت الشَّعْر . وقد يطلق لفظ البيت ، ويراد به : امرأة الرجل وعياله . ويطلق على ما يبنى بناء اسم : البناء ، والبنيان . قال تعالى :﴿ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً ﴾{ الكهف : 21 } .
واستعمل البيت- هنا- فيما تنسجه العنكبوت ؛ لتلتقي فيه مع الذكر وقت السِّفاد ؛ ولتصطاد بخيوطه الحشرات التي تتغذى بها ، تشبيهًا له بما يبنيه الإنسان ؛ لما فيه من حسن الصنعة ، ودقة النسج . ويقال له : العُكْدُبَة .
وعبَّر تعالى عن اتخاذ العنكبوت بيتًا بصيغة النكرة ﴿بَيْتًا؛ لأنه ثبت أن العنكبوت نادرًا ما تنسج لها بيتًا ؛ وإنما تظل مرتحلة متنقلة. ويوجد في العالم أكثر من ثلاثين ألف نوع من العناكب . وقد يصل عددها إلى مائة ألف نوع ، تتفاوت في أحجامها وأشكالها ، ونمط معيشتها . وتعيش في أي مكان يتوافر فيه غذاؤها . وهناك نوع من العناكب ، يمضي معظم حياته تحت الماء ،ويعيش نوع آخر منها بالقرب من قمة جبل إيفرست ، أعلى جبل في العالم ، ويعيش بعضها الآخر داخل المنازل ، ومخازن الحبوب ، ومختلف المباني . كما تعيش أنواع أخرى منها على الجدرانخارج المباني وعلى واجهات وأطراف الأبواب والنوافذ . ومنها ما يعيش في جحور تحفرها بنفسها ، أو تختبئ في الشقوق الصخرية ؛ كالعنكبوت الصيادة البنيَّة ، وتصيد الحشرات بنفسها . ويغلب عليها المعيشة الفردية والعدائية لبعضها بعضًا ، ولا يوجد منها إلا أنواع قليلة جدٌّا تعيش في جماعات .
وذهب بعض العلماء إلى أن في قوله تعالى :﴿اتَّخَذَتْ بَيْتًا إشارة إلى حقيقة علمية مفادها : أن أنثى العنكبوت التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية هي التي تنسج البيت ، وليس الذكر ،وهي حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن . وإن اشترك الذكر في بعض الأوقات بالمساعدة في عمليات التشييد‏ أو الترميم‏ أو التوسعة‏ ,‏ فإن العملية تبقى عملية أنثوية محضة .‏
وهذه الحقيقة التي أنكرها أعداء الإعجاز العلمي من المسلمين ومن غير المسلمين، وهاجموا القائلين بها ، قد ذكرها بعض علماء العرب ، وقرَّروها في كتبهم . قالابن عبد ربه في كتابه ( العقد الفريد ) :« وليس ينسج من العناكب إلا الأنثى ، وهي الخدرنق ، وولد العنكب ينسج ساعة يولد » .وقال الجاحظ في كتابه ( الحيوان ) :« ولد العنكبوت يقوى على النسج ساعة يولد ؛ وذلك من غير تلقين ، ولا تعليم . وأول ما يولد دودًا صغارًا ، ثم يتغير ويصير عنكبوتًا ، وهو يطاول في السِّفاد . ومنه ما هو كبير ، ونسجه رديء ، ومنه ما هو دقيق ، وهو يمدُّ السُّدى ، ثم يعمل اللَُحمة ، ويبتدىء من الوسط ، ويهيِّىء موضعًا لما يصيده ، يكون له كالخزانة ، والأنثى منه هي التي تنسج ، والذكر يحل وينقض » .
فالأنثى من العناكب هي التي تنسج البيت، وإن كانت بعض الدراسات قد أشارت إلى أن ذكور العناكب تغزل الخيوط ، فإنها لم تغزلها ؛ لتبني بها بيتًا ؛ وإنما تغزلها لأغراض أخرى . جاء في الموسوعة العربية العالمية :« تغزل جميع العناكب الخيوط ، لكن بعض أنواعها لا تبني شراكًا . فعلى سبيل المثاليغزلالعنكبوتالمسلح خيطًا واحدًا في نهايته قطرة لزجةمن الحرير ، فعندما تطير حشرة بالقرب منه ، يقذفالعنكبوتهذا الخيط تجاهها ؛ لتلتصق الحشرة بطرفه اللزج » .
والذكر البالغ في عناكب الأرملة السوداء بعد أن يبنى خيوطًا حريرية ، يخرج من جسمه مادة التزاوج ، ويلصقها على هذا النسيج ، وعندما يرى الأنثى ، يبدأ بتحريك يديه ، وتبادله الأنثى الحركات نفسها ، ثم يلتقط بيديه مادة التزاوج ؛ ليضعها تحت جانبها ، ثم يتجه للجانب الآخر ؛ ليعمل نفس الشيء ، الذي يكرره عدة مرات .
وليس في ذلك كله ما يدل على أن ذكر العنكبوت يبني البيت كالأنثى ؛ كما ادَّعى ذلك بعض الحاقدين على الإسلام ، متَّخذًا من بعض الأقوال السابقة دليلًا يؤيِّد به ادعاءه ، ويثبت بذلك- كما قال- خطأ القرآن ، وقائله . تعالى الله عن قوله علوًّا كبيرًا .
ومما تجدر الإشارة إليه أن الإعجاز ، في هذه العبارة ، لم يكن في استعمال القرآن للفظ العنكبوت كمفرد يدل على الأنثى ؛ لأن القرآن الكريم - كما قالت الدكتورة بنت الشاطئ - يجرى على لغة العرب الذين أنثوا لفظ العنكبوت من قديم جاهليتهم الوثنية ؛ كما أنثوا مفرد النمل والنحل والدود ، فلم يقولوا في الواحد منها إلا نملة ، ونحلة ، ودودة ، وهو تأنيث لغوى ، لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي ؛ وإنما الإعجاز في الآية الكريمة هو في إسناد اتخاذ بيت العنكبوت إلى الأنثى دون الذكر في قوله تعالى :﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً .
ومثله في ذلك إسناد اتِّخاذ بيت النحل إلى الأنثى دون الذكر؛ كما أفاد ذلك قوله تعالى :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ﴾{ النحل : 68 } .فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للأنثى دون الذكر ، وهي النحلة الشغالة التي تجمع الرحيق ، وتصنعه عسلاً ، بدليل قوله تعالى :﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ { النحل : 69 } . أما ذكور النحل فيوجد منهاعدد قليل ، يلقح أحدها الملكة قبل أن تضع البيض ، ثم يموت .
ثم عقَّب تعالى على ذلك بقوله :﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ، فأخبر أن بيت العنكبوتهو أوهن البيوت على الإطلاق. وهو جملة استئنافية خبرية ، مقيَّدة بالعبارة الشرطية :﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ، جيء بها لبيان صفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه .
وأيُّ معنًى أبلغ من هذا المعنى الذي أكَّده الله تعالى من ستة أوجه ؟فأدخل ﴿ إِنَّ ﴾، التي تفيد معنى التوكيد ،وأتى بـ﴿ أَوْهَنَ ﴾ ، وهو صفة تفضيلمبنيَّة من ( الوهن ) ، وأضافه إلى الجمع :﴿ الْبُيُوتِ ﴾ ،وعرف الجمع باللام التي تفيد معنى الاستغراق ، وأتى في خبر ﴿إِنَّباللام :﴿ لَبَيْتُ ﴾ ، فأفاد بذلك أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتًا ، بيتًا هو بيت العنكبوت . أي: لا بيت أوهن منه .
ولم تزل هذه الآية محيِّرة للعلماء والباحثين- قديمًا وحديثًا- فالقرآن الكريم قد أخبر على سبيل التوكيد أن أوهن البيوت على الإطلاق هو بيت العنكبوت ، ثم قيَّد هذا الخبر بقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ . والعلم الحديث قد أثبت أن بيت العنكبوت منسوج من أقوى الخيوط التي تستطيع مقاومة الرياح العاتية ، ويمسك في نسجه فرائس العنكبوت من الحشرات التي هي أكبر من العنكبوت دون أن يتخرَّق . وخيوطه دقيقة جدًا ،‏ يبلغ سمك الخيط الواحد منها في المتوسط واحدًا من المليون من البوصة المربعة ‏,‏ أو جزءًا من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان ،‏ ويتمدد إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع ، وهو أقوى من الفولاذ المعدني العادي بعشرين مرة ، ومن الألمنيوم بتسع وعشرين مرة ، ولا يفوقه قوة سوى الكوارتز المصهور ، وتبلغ قوة احتماله ثلاثمائة ألف رطل للبوصة المربعة . فإذا قُدِّر وجود حبل سميك بحجم إصبع الإبهام من خيوط العنكبوت ، فيُمْكِنه حَمل طائرة ركاب كبيرة بكل سهولة ؛ ولذلك أطلق عليه العلماء اسم الفولاذ الحيوي ) . أو ( الفولاذ البيولوجي ) . أو ( البيوصلب ) . وهذه ‏الحقيقة يستطيعالإنسان أن يكتشفها بنفسه ، حيث يمكنه بسهولة إزاحة بيت العنكبوت بسبب وزنه ‏الخفيف ، ولكن يصعبعليه قطعه ، أو تغيير شكله الهندسي الدقيق !
قال الدكتور محمد الفارأستاذ ورئيس شعبة الكيمياء الحيوية بعلوم المنصورة في مقال له نشر في جريدة الأهرام :« نجح العلماء أخيرًا في استخدام طرق الهندسة الوراثية لإنتاج خيوط العنكبوت عن طريق جينات مستخرجة من العنكبوت نفسه ، وهي أقوى من خيوط الحرير ؛‏ ولذلك فإن هذه الطريقة ستتيح لهم التوسع في استخدام تلك الخيوط العنكبوتية لصناعة سترات واقية من الرصاص من نسيجه‏ ,‏ وخيوط جراحية بمواصفات جيدة‏ ».
فهل كان القرآن الكريم حين أخبر أن بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق يجهل هذه الحقائق التي كشف عنها العلم مؤخرًا عن طبيعة هذا الخيط الذي نسج منه بيت العنكبوت ؟ وهل كان الكفار والمشركون يجهلون أيام نزول القرآن الكريم أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت ، أم كانوا يعلمون ذلك ؟ وإذا كانوا يعلمون ، فلم نفى الله سبحانه وتعالى عنهم علم ذلك ؟
أما السؤال الأول فلا نجد له في كتب التفسير جوابًا . وأما السؤال الثاني فأجابوا عنه بأنهم كانوا يعلمون أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت ، وأنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت ؛ وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا . فلو علموا ذلك ، ما فعلوه ، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًّا وقوة ، فكان الأمر بخلاف ما ظنوا .
ولهذا نجد علماء التفسير يذهبون إلى أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾جملة حالية ؛ لأنه من تتمة التشبيه . أو جملة اعتراضية بين قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وقوله :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ . ومنهم من ذهبإلى أن كونه جملة اعتراضية أقرب . وعليه يكون تقدير الكلام هكذا كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا- لو كانوا يعلمون- وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ) . أما ﴿ لَوْ ﴾ فهي- كما قالوا- أداة شرطية ، قد حذِف جوابها ، تقديره : لو كانوا يعلمون شيئًا من الأشياء ، لعلموا أن هذا مثلهم . أو : لو كانوا يعلمون أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن ، لما اتخذوه دينًا . أو : لو كانوا يعلمون وهن الأوثان ، لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى .
وقد سبق أن ذكرنا أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾جملة استئنافية ، جيء بها لبيان صفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه ، وهي جملة خبرية مقيَّدة بالعبارة الشرطية :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ . وهذه العبارة الشرطية تنفي صراحة علمهم بأن أوهن بيت على الإطلاق هو بيت العنكبوت . أما نفي علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا فهو مبنيٌّ على نفي علمهم بأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، ويدل عليه تشبيه الأول بالثاني . كما يدل عليه أيضًا أن الله تعالى قال :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ، فأتى بأداة الشرط :﴿ لَوْ ﴾ المتضمنة معنى التمني ؛ لينفي بذلك علمهم مع تمني حصول ذلك العلم منهم . ونحو ذلك قوله تعالى :
﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت:64).
لاحظ كيف جاء قوله تعالى :﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ مؤكَّدًا بـ﴿إِنَّ، وباللام في خبرها ﴿ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ ، ثم قيِّد ذلك بالعبارة الشرطية التي تنفي علمهم بذلك ، مع تمني حصول ذلك العلم منهم ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ، ولكن هيهات ، هيهات أن يعلموا ذلك . ولو جاء من يعلمهم به ، لظلوا في ظلمات جهلهم غارقين .. ومثل هذا الأسلوب في القرآن كثير لمن أراد التأمل والتدبر .
وإذ ثبت بما تقدم أنهم كانوا لا يعلمون أن بيت العنكبوت أوهن البيوت ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم ، فهل كانوا يجهلون طبيعة هذا البيت ، من حيث قوة نسجه ؟ وهل كان القرآن الكريم يجهل ذلك أيضًا ؟
أما الجواب عن السؤال الأول فقد روي عن سكان جزر السلَمون أنهم كانوا يقومون قديمًا بصنع شباك صيد الأسماك من خيوط العنكبوت.. فإذا ثبت ذلك عنهم ، فمن أين أتاهم علم ذلك ، وكيف علموا به ؟!
وأما الجواب عن السؤال الثاني فنقول : لو كان القرآن الكريم يجهل طبيعة بيت العنكبوت ، لما أخبر عنه على سبيل التوكيد بأنه أوهن بيت على الإطلاق . ويدل على ذلك أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾لا يكون إلا جوابًا عن جحود جاحد . فهو جواب من قال : ما بيت العنكبوت بأوهن البيوت. ألا ترى أن قولك : إن زيدًا لعالم ، هو جواب من قال : ما زيد بعالم . وإن قولك : إن محمدًا لرسول الله ، هو جواب من قال : ما محمد برسول الله .
ومما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم ليس هو كتاب علم حتى يفصل القول في شرح هذه الحقائق ؛ وإنما هو كتاب هداية قبل كل شيء ؛ ولهذا يكتفي بالإشارة إليها إشارات فيها العبرة لمن أراد أن يعتبر ، ولا يخفى ذلك إلا على من طمس الله على بصره ، وأعمى بصيرته ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾{ الحج : 46 } ، فأنى لأولئك الصم البكم العمي أن يفقهوا كلام الله جل وعلا ؟!
والسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا هو : كيف يكون بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق ، وهو منسوج من أقوى الخيوط على الإطلاق وأكثرها مرونة ؟ وكيف يجتمع في منشأة واحدة الحد الأدنى ‏من الوهن ، والحد الأقصى منالقوة والمرونة ؟!
وأول ما ينبغي الإشارة إليه قبل الإجابة عن ذلك هو أن الآية الكريمة نصَّت على وهن بيت العنكبوت ، لا على وهن الخيط الذي نسج منه . فلم يقل سبحانه وتعالى:{ وإن أوهن الخيوط لخيط العنكبوت } ؛ وإنما قال: ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ ، وهي إشارة دقيقة ، لا تخفى إلا على الجاهلين من أولئك الحاقدين الذين اتهموا القرآن الكريم بالخطأ ، وطعنوا في إعجازه ، حين زعموا زورًا وبهتانًا أن العلم يقول عن خيوط العنكبوت : إنها قوية ، وأن القرآن يقول عنها : إنها ضعيفة ؛ لأن القرآن ، وكاتب القرآن لا يعرف الفولاذ ، ولا يدرك طبيعة خيط العنكبوت :
﴿ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾
وأنت إذا تأملت الآية الكريمة حق تأملها على ضوء ما تقدم ، تبيَّن لك أن المعنى المراد منها : إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، رغم قوة ومتانة ومرونة خيوطه التي نسج منها .. فالوهن الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس في خيوط العنكبوت ؛ وإنما هو في البيت الذي نسجت منه تلك الخيوط . فالخيوط قويه ، والبيوت التي تصنع منها ضعيفة واهية ، يسهل الإطاحة بها رغم قوة خيوطها .
قال الدكتور محمد الفارفي مقاله، الذي أشرنا إليه سابقًا :« والعبرة والعظة والإعجاز في هذا التشبيه القرآني نتلمسه في ضوء ما توصل إليه العلماء ‏,‏ فبيت العنكبوت بخيوطه القوية‏ ,‏ يسهل إطاحته ‏، ولكن إذا استعملت تلك الخيوط العنكبوتية في ظروف أخرى ,‏ وبمنهج آخر ‏,‏ فإنها تكون نسيجًا قويًّا جدًّا ‏,‏ وشديدًا في متانته ، ويصلح لصد الرصاص‏ .. وللتوضيح‏ ,‏ فالجرافيت والألماس‏ ,‏ كلاهما من الكربون‏ ,‏ وعلى الرغم من ذلك فلهما خواص فيزيائية وشكلية متضادة تمامًا ؛ فالأول‏ أسود ولين ومعتم وضعيف ، ويسهل كسره‏ .‏ أما الثاني فهو شفاف ونقي ، ومن أصلد وأقوى المعادن ‏.‏ والأول يتحول للثاني تحت ظروف قاسية من الضغط والحرارة‏ ،‏ إذا تغيرت الظروف حوله .. فالعبرة بالمنهج والبيئة‏ ،‏ وسبحان الله ».‏
وقال تعالى :﴿أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ﴾ ، ولم يقل :{ أضعف البيوت } ؛ وذلك لأن الضعف هو من فعل الله تعالى . يقال : خلقه الله ضعيفًا ؛ كما يقال : خلقه قويًا . ويكون ذلك في الجسد والرأي والعقل . قال تعالى :﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ { الروم : 54 } .وقال تعالى :﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾{ النساء : 28 } .. وأما الوهن فهو من فعل المخلوق ، وهو أن يفعل فعل الضعيف .يقال : وهن في الأمر يهن وهنًا ، وهو واهن ، إذا أخذ فيه أخذ الضعيف . والأمر موهون ؛ ومنه قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾{ آل عمران : 139 } . أي : لا تفعلوا أفعال الضعفاء ، وأنتم أقوياء على ما تطلبونه بتذليل الله إياه لكم .
ويدل على صحة ما ذكرنا أنه لا يقال : خلقه الله واهنًا ؛ كما يقال : خلقه الله ضعيفًا .وقيل : الوهن : الضعف في العمل والأمر ، وكذلك في العظم ونحوه ؛ كما في قوله تعالى :﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾{ مريم : 4 } . ويجوز أن يقال : الوهن هو انكسار الحد والخوف ونحوه ، والضعف نقصان القوة . ويدل عليه قوله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين :﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ ﴾{ آل عمران : 146 } ، إشارة إلى نفي الحالتين عنهم في الجهاد . وقيل : الوهن هو ضعف من حيث الخَلْق ، والخُلُق .
ويتلخص من ذلك كله : أن الوهن هو من فعل المخلوق ، ويكون مادِّيَّا ، ومعنويًّا . وهذا ما ينبغي أن يفهم من الوهن المنصوص عليه في الآية الكريمة.
أما وهن { بيت العنكبوت } من الناحية المادية فلأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك‏‏ مع بعضها البعض تاركة مسافاتٍ بيْنِيَّة كبيرة في أغلب الأحيان‏ ؛ ولذلك فهو لا يقي حرًّ‏ ولا بردًا‏ ,‏ ولا يحدث ظلاً كافيًا‏ ,‏ ولا يقي من مطر هاطل‏ ,‏ ولا من رياح عاصفة‏ ,‏ ولا من أخطار محدقة‏ ؛‏ ولهذا يغزل العنكبوت خيطًا من الحرير يُسمَّى : خيط الجذب ، وخيطالحياة ؛ وذلك لأنه يستعمله- غالبًا- في الهروب من الأعداء . فإذا أحسالعنكبوتبخطر يهدد نسيجه ، فإنه يهرب منالنسيج بوساطة خيط الجذب ؛ ليختبئ بين الأعشاب . أو يبقى متعلقًا به في الهواء ، حتىيزول الخطر ، ثم يعود مرة أخرى إلى نسيجه عبر خيط الجذب .
ومن أخصِّ خصائص البيت وأوصافه أنه مأوى لصاحبه ، يقيه من برد الشتاء ، وحر الصيف ، ويحميه من أذى الكائنات التي هي أقوى منه . وهذا كله لا يتوفر في بيت العنكبوت على الرغم من الإعجاز في بنائه . ولا يخفى ذلك إلا على جاهل ، ولا ينكره إلا مكابر ، أو حاقد .
وأما وهنه من الناحية المعنوية فلأنه بيت محروم من معاني السكن والمودة والرحمة التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد‏ ؛‏ ولهذا عبَّر القرآن الكريم عنه بالبيت ، لا بالمسكن ؛ وذلك خلافًا لبيت النمل الذي عبَّر عنه بالمسكن ؛ كما في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{ النمل : 18 } .
وإنما سمِّيَ البيت مسكنًا ؛ لأنه سكن لصاحبه ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾{ النحل : 80 } ، ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾{ الروم : 21 }
وقد ثبت- مما تقدم- أن بيت العنكبوت لا يجير آويًا ، ولا يريح ثاويًا ؛ لأنه بيت لا طمأنينة فيه ، لا لأصحابه ، ولا لزواره ؛ لأنه بيت لم يعَدَّ في الأصل للسكن ؛ وإنما أُعدَِّ ليكون مصيدة ، يقع في حبائلها اللزجة كل من فكر بزيارته من الحشرات الطائرة المخدوعة .
جاء في الموسوعة العربية العالمية:« وتقبع بعض أنواعالعناكب غازلة النسيج الدائريفي وسط النسيج مترقبةلفرائسها ، بينما تلصق أنواع أخرىخيطًا إشاريًّاوسط النسيج ، ويختبىءالعنكبوتفي عشه قرب النسيج ، ممسكًا بالخيط الإشاري . وعندماتسقط حشرة في النسيج ، يهتز الخيط الإشاري منبهًاالعنكبوت الذي يندفع إلى خارج عشه بسرعة كبيرة للإمساكبالحشرة . وتنسج تلك العناكب نسيجًا دائريًا كل ليلة ، يستغرق بناؤه ما يقرب من ساعة ،وتأكل النسيج القديم للمحافظة على الحرير ، بينما تصلح أنواع أخرى من تلك العناكب ،أو تغير أي جزء تالف من نسيجها ».
ومن العناكب ما يسمَّى بالعنكبوت الصيادة الرمادية ، وهي من العناكب التي تخرج ليلاً للصيد ؛ كما تفعل الشَبَث والعقرب . أما الأنواع الأخرى من العناكب فهي لا تبرح مكانها ، ولكنها تنتظر وتترقب ؛ لكي يقع صيدها في شباكها التي تنسجها ، وتعيش بالقرب منها .
أما العنكبوت الصيادة البنيَّة فتعيش في جحور تحفرها بنفسها ، أو تختبئ في الشقوق الصخرية ، وتعيش حياة انفرادية ، وتصيد بنفسها الحشرات ، ولا تتردد في أكل العناكب التي من نفس جنسها ، وهي شرسة الطباع ، قوية الافتراس . وعندما تصيد فريستها ، تقطعها بعض القطع، أو تفتح فيها فتحات ، ثم تمتص السوائل التي بداخلها ؛ لتتركها ناشفة من الداخل .
ومن اللافت في موضوع العناكب كلها أن الحشرات الأخرى لا تسلم من شرها ساعة من ليل أو نهار ، فهي دائمة الترصد لفرائسها في ورديات نهارية وليلية . وتبدأ العناكب الليلية صيدها بعد انتهاء عمل العناكب النهارية ، وقد ابتكرت العناكب طرقًا مختلفةً لاقتناص فرائسها ، فبعضها ينقض على فريسته انقضاضًا مباشرًا . وأشهر طرق الاقتناص لديها يتم عن طريق ما تنصبه من شباك ، تتخايل للفرائس ؛ وكأنها زينة تلمع أمامها ، فإذا ما اقتربت منها ، وقعت فيها ، وكانت سببًا في هلاكها !!
وبعد اكتمال نمو ذكر العنكبوت ، يبدأ في البحث عن شريكة للتزاوج ، وأحيانا يفقد الذكر حياته ، إذا ما اعتقدت الأنثى أنه فريسة ، فتلتهمه . وتفضل ذكور معظم العناكب القيام بأنشطة الاستمالة التي يتم من خلالها الكشف عن هويتها لجذب الإناث . وبعضها الآخر يقوم بهز خيوط نسيج الأنثى ، بينما يقوم بعض ذكور العناكب الصيَّادة بتحريك أرجله وأجسامه في رقصة استمالة غير عادية . وتستخدم ذكور العناكب القافزة الشعر الملون على أرجلها للفت انتباه الأنثى ؛ كما تقدم ذكور عناكب النسيج الحاضن هدية للأنثى قبل الزواج ، تتمثل في ذبابة كان قد اصطادها .
ولا تقوم الأنثى بقتل الذكر وأكله بعد مجامعته- كما كان يعتقد سابقًا- فقد أثبتت إحدى الدراسات أن العناكب تأكل الذكر الذي يبدوشكله غريبًا عليها ، إذا ما حاول الاقتراب منها ، ولا تستجيب إلا للذكر الذي يبدو مألوفًالديها . ومع ذلك فكثيرًا ما يعمد الذكر إلى الهروب بعد أن يلقح أنثاه خوفًا على نفسه من افتراس الأنثىله ؛ لأنها أكبر منه حجمًا ، وأكثر شراسة‏ .‏
وتقوم إناث كثير من أنواع العناكب بوضع بيضها في كيس أبيض ورَقيٍّ تصنعه من خيوطها ، وتجره خلفها أينما ذهبت . وفي بعض الأنواع تموت الأنثى بعد إتمام إخصاب بيضها . وفي بعض الأنواع الأخرى تمكث الأنثى فوق البيض حتى يفقس داخل الكيس . وعندما يفقس البيض ، تخرج صغار العنكبوت ،‏ فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض‏ ,‏ فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام ، أو من أجل المكان ، أو من أجلهما معًا ، فيقتل الأخ أخاه وأخته ‏,‏ وتقتل الأخت أختها وأخاها حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العناكب التي تنسلخ من جلدها ‏,‏ وتمزق جدار كيس البيض ؛ لتخرج الواحدة تلو الأخرى ‏,‏ والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسة ,‏ وينتشر الجميع في البيئة المحيطة ، وتبدأ كل أنثى في بناء بيتها‏ ,‏ ويهلك في الطريق إلى ذلك من يهلك من هذه العناكب ‏.‏ ومن ينجو منها ، يكرر نفس المأساة التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية‏ وانعدامًا لأواصر القربى ‏. وقد يحدث أن تتقاتل أنثيان مع بعضهما البعض ، فتحمل القاتلة صغار المقتولة على ظهرها ، أو أن الصغار تترك الأم المقتولة ، وتتسلق ظهر الأنثى القاتلة ، وتظل متعلقة بها إلى أن تكبر ، وتصبح قادرة على العيش وحدها .
قالت الدكتورة هاموند :« العنكبوت يأكل بعضه البعض . إذا ما وضعت عنكبوتين في قفص ، فسيأكلواحد منهما الآخر » . وقال الدكتور جفري تيرنر رئيس شركة نكسيا للتكنولوجيا الحيوية :«إن الناس بدؤوا يتساءلون عن إمكانية إنتاج المادة البروتينية تمامًا ؛ كما يتم مع دودة القز لإنتاج الحرير . لكن المشكلة هي أن العناكب من الحشرات التي يصعب السيطرة عليها ، وأقلمتها على الاستزراع ، وهي حشرات فردية وعدوانية » .
ويضيف الدكتور جفري قائلاً :« عندما تضع عشرة آلاف منها في حجرة واحدة ، ستجد بعد فترة أن واحدًا قبيحًا قويًّا منها هو الذي يبقي ، ويموت الكل من شدة المنافسة والصراع فيما بينها » .
وقد سبق أن ذكرنا أن العنكبوت الصيادة البنِّيَّة تعيش في جحور تحفرها بنفسها ، أو تختبئ في الشقوق الصخرية ، وتعيش حياة انفرادية ، وتصيد الحشرات بنفسها ، ولا تتردد في أكل العناكب التي من نفس جنسها ، وهي شرسة الطباع قوية الافتراس . وفي بعض أنواع العناكب تلتهم الأنثى صغارها دون رحمة .
هذه هي العناكب ، وهذا هو بيتها ، يبدو لمن تأمله أدنى تأمل أنه أوهن البيوت ؛ كما وصفه القرآن الكريم . بيت يفتقد العلاقات الأسرية ، والعاطفية الحميمة ، ويقوم على المصالح والمنافع المادية الدنيوية المؤقتة . فإذا انتفت المصالح , وانتهت المنافع , انقلب إلى مذبحة ، وخيم عليه الخوف والتربص والقتل . وحتى بالمقارنة مع عالم الحشرات يعد بيت العنكبوت أوهن ‏البيوت من الناحية الأسرية ، وأكثرهاأنانية وشراسة . ثم بعد هذا كله نجد من أعداء الإسلام والموالين لهم من يتشدق ويقول : بيت العنكبوت من أقوى البيوت ، والقرآن مخطئ حين وصفه بأنه أوهن البيوت . وهم يقولون ذلك مع اعترافهم بأن بيت العنكبوت مصيدة ، يتصيد الفرائس من خلاله ، ويعيش عليها . ولم يدروا أن كونه مصيدة يوقع الحشرات في حبائله اللزجة التي تتخايل لها ، وكأنها زينة تلمع أمامها، يكفي لأن يجعل من هذا البيت أوهى البيوت على الإطلاق من ‏الناحية الاجتماعية والأخلاقية ، كما لم يدروا أيضًا أن هذا الوصف الدقيق لهذا البيت ؛ إنما جاء في سياق ضرب المثل لمن يتخذمن دون الله ‏أولياء ، حيث الصلات واهية ، والروابط متقطعة ، والغدر وارد في أيلحظة !!‏
هذه هي الحقيقة التي غفل عنها أولئك الذين اتخذوا من أعداء الله أولياء من دون الله ، يستعينون بهم ، ويلوذونإليهم في رغب وفي رهب ، ويتوجهون إليهم بمخاوفهم ورغائبهم , ويخشونهم ، ويفزعون منهم , ويترضونهم ؛ليكفواعن أنفسهم أذاهم , أو يضمنوا لأنفسهم حماهم ، فكان مثلهم في ذلك ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ .
وإنه لتصوير عجيب صادق لحقيقة هؤلاء العناكب ، وحقيقة أوليائهم الذين يلوذون إليهم ، ويحتمون بحماهم في هذا الوجود ، تلك الحقيقة التي غفل عنها أكثر الناس ، فساء تقديرهم لجميع القيم , وفسد تصورهم لجميع الارتباطات , واختلت فيأيديهمجميع الموازين ، فما عرفوا إلى أين يتوجهون ، ماذا يأخذون ، وماذا يدعون?وعندئذخدعتهم تلك القوى الظاهرة التي يتمتع بها أولياؤهم ، فداروا حولها , وتهافتوا عليها ؛ كما يدور الفراش على المصباح , ويتهافت على النار ،ونسَوْاالقوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة , وتملكها ,وتوجهها ،وتسخرها كما تريد ، وحيثما تريد ، ونسَوْا أن الالتجاء إلى تلك القوى ؛ سواءكانتفي أيدي الأفراد , أو الجماعات , أو الدول ؛ كالتجاء العنكبوت إلى بيتالعنكبوت ، وأنه ليسهنالك من حماية إلا حماية الله , وإلا حماه , وإلا ركنه القوي الركين .
فهم من جهة عناكب واهية ، ليس لها من قوة سوى خيوطها القوية التي تبني منها بيتها الواهن. وهم من جهة أخرى حشرات حقيرة ، خدعتها تلك الخيوط القوية البراقة ، فوقعت في شراكها ، وكانت سببًا في هلاكها . أما أولياؤهم فهم بما امتلكوا من قوى أشبه ببيت العنكبوت وخيوطه التي نسج منها ؛ لأنهم رغم كل ما يمتلكون من قوى ، لا يستطيعون حماية أنفسهم من الأخطار التي تحدق بهم ، وتهدد أمنهم في كل حين . وإذا كانوا لا يستطيعون حماية أنفسهم ، فمن الأولى ألا يستطيعوا حماية من اتخذهم أولياء من دون الله جل وعلا .
وفي ذلك تأكيد على أن قوةالله وحدها هي القوة ، وولاية الله وحدها هي الولاية ، وما عداه ذلك فهو واهنضئيلهزيل، مهما علا واستطال , ومهما تجبر وطغى , ومهما ملك من وسائل البطشوالطغيانوالتنكيل .. إنهاالعنكبوت ، وما تملك من القوى ، ليست سوى خيوط العنكبوت ،﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ .ومن أراد أن يتأكَّد من هذه الحقيقة ، فلينظر إلى أمريكا ، وإسرائيل ، ومن والاهما . وسيعلم حينذ أن العبرة ليست في قوة خيوط العنكبوت ومتانتها ؛ وإنما العبرة في قوة بناء البيت من الناحية المادية والمعنوية : الاجتماعية والأخلاقية ، وليتأمل بعد ذلك قول الله تعالى عقب هذا المثل :﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ ، لعله يعقل المراد من هذه الأمثال ، ويدرك ما فيها من أسرار ، تخفى على الكفرة الجاهلين ، والملاحدة المتكبرين .. اللهم اجعلنا من الذين يعقلون أمثالك ، ويفقهون كلامك ، ويدركون أسرار بيانك ، والحمد لله رب العالمين









قديم 2009-03-30, 01:25   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
أم إدريس
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية أم إدريس
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

وقعت على طيب يا أحلى فراشة!
زادك الله بهاءا

والقراءة جارية..










قديم 2009-03-30, 07:05   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
taha178
عضو برونزي
 
الصورة الرمزية taha178
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك أختي الكريمة وزادك من فضله










قديم 2009-03-30, 09:46   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
فراشة المملكة
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية فراشة المملكة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

وفيكم بارك الله










قديم 2009-03-30, 10:17   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
لوز رشيد
مراقب منتديات انشغالات الأسرة التّربويّة
 
الصورة الرمزية لوز رشيد
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك وزادها في ميزان حسناتك










قديم 2009-03-30, 18:51   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
فراشة المملكة
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية فراشة المملكة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

امين وفيك بارك










 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 17:56

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc