الجزء الثاني / الارتقاء الصعب
على علو ليس بالقليل و حين تنظر من نافذتك في صبيحة يوم من أيام الشتاء لا تتوقع أن ترى في السماء سوى العصافير و طيور مهاجرة و بعض الغيوم .. هذا ما يمكن أن تراه في سماء غزة حين تخلو من وحوش معدنية صماء باردة لا قلب لها أوضمير , تحوم تبحث عن فريستها من الأبرياء, وحين تنقض تلك الوحوش و في لحظة من اللحظات التي يتوقف عندها الزمن و ينتصب فيها التاريخ واقفا يحدق بعينيه يسجل بكل مرارة هذا المشهد الذي يتلاقى فيه دخان الارض الاسود - بل دخان الحقد الأسود - بغيوم السماء و ترافق العصافير و الطيور المهاجرة أرواح الشهداء , هنا يكاد قلبك يتوقف عندما ترى ما يشبه الانسان تختلط أجزاءه في هذا المشهد الخرافي .. لا تستغرب فقد تجد كل هذا في سماء غزة .
خلال أعوام عمري التي ظننت انني قد رأيت فيها الكثير, تسمرت في ذهول أحاول أن أجد منطقاً فيما أرى , أن أوائم ما سبق أن إختزنت في ذاكرتي من صور مع ما أرى في هذه اللحظة .. و لكن عاد لي الفكر حائراً فلا يوجد تطابق , فلا يمكن لكائن بشري أو أجزاء منه أن ترتقي لهذا العلو في السماء , لم آخذ سوى لحظات كي أفيق من تلك الصدمة و أصرخ .. الله أكبر .. الله أكبر.. شهداء .. شهداء , ففي ثقافة شعبي ليس هناك سوا الشهيد يمكن أن يحظى بمثل تلك الميتة , وفي ثقافتي فإنه الارتقاء الصعب , إرتقاء مادي و معنوي , إرتقاء في الدنيا و إرتقاء في الاخرة ففيها لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.
وفي مشهد ينبؤك عن تفرد أهل غزة , لم نترك لمن أرسل تلك الوحوش لتلتهم الآمنين و تلقي بحمم حقدها الدفين , لم نترك لهم وقتاً ليثبتوا نظريتهم المزعومة أو ليسجلوا سبقا علميا في فهمهم لسلكولوجيا الشعوب , فشعبنا يجب أن يوضع له تصنيف خاص فهو يفاجئهم دائماً, فلقد أسقطنا نظرية الصدمة و الترويع , و ما هي الى دقائق حتى إمتصصنا الصدمة و تجاهلنا الترويع . نظرت إلى زميليي عمر و ماهر فوجدت ما أنتظر, لقد وصلنا بتفكيرنا لنفس النقطة , و نطقنا بلسان واحد .. سأذهب الى قسم الاستقبال , استطردت قائلاً أنا و ماهر نذهب و ليبقى عمر في القسم فهناك من يحتاجنا هنا أيضا.
إنطلقنا نطوي الارض الى قسم الإستقبال و الطوارئ , بدأنا نسمع أصوات سارينة سيارات الإسعاف من بعيد تأتي من كل الإتجاهات , إنه صوت يبعث على التحفز ويرغم أجسامنا على دفق المزيد من الأدرينالين , ما إن وصلنا حتى و جدنا صفا طويلا من السيارات الخاصة التي سبقت سيارات الإسعاف لنقل المصابين و الشهداء , يسود المشهد في هذه الأثناء مشاعرقوية تشحن الانسان بعزم منقطع النظير , كنا أنا و ماهر نشكل ثنائيا منسجماً نفهم بعضنا البعض من مجرد الإيماءة , حملنا شاباً مصاب قد مزقت الشظايا جسده و سارعنا به الى داخل القسم , و ضعناه على آخر سرير فارغ في صالة القسم , باشرنا عملنا فشرع ماهر يتفقد أماكن الاصابات و بدأت أنا بتركيب الحقنة و المحلول الوريدي , كان الشاب مازال واعيا و كان يردد الشهادة و يذكر الله , كانت إصابته بالغة في ساقيه و بطنه و أتذكر أني كنت أصرخ نريد هنا طبيب أوعية دموية .. نريد طبيب عظام , لكن لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه , ففي تلك الدقائق الرهيبة , إمتلأ كل شبر في أرض القسم بالمصابين و الشهداء ,كان القسم أشبه بخلية نحل و لم يكن في الإمكان أن تجد طبيب أو ممرضا الا وهم منهمكون في أعمالهم الكثيرة , كانت رائحة الدماء تزكم الانوف و بدأت الرائحة المميزة للحم البشري الممزق و المحترق تعبق المكان , في ظل هذه المعمعة سمعت صوتا يقول لي .. دقيقة و آتي لكم , نظرت فإذا هو الدكتور أشرف.
يتبع ..