في فوضى منهج الهذيان
هذه أسباب انهيار السَّلفيَّة التَّجريحيَّة بكلِّ رموزها و أذنابها
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الذَّكيُّ يقرأ بعقله ،وينظر بأذنيه و عينيه، ويسمع بعينيه و أذنيه.
الحمد لله وحده، و الصَّلاة و السَّلام على من لا نبيَّ بعده.
إذ أكتب هذا المقال الَّذي انتقد فيه سلفيَّة يحسبها كثير من الشَّباب أنَّها تمثِّل السَّلف الصَّالح، و تحرس الشَّريعة الإسلاميَّة، فإنِّي أقصد بالذَّات أولئك الشَّباب الجامعيِّين و طلبة العلم الشَّرعيِّ، ممَّن ركَّب الله فيهم عقولا صحيحة، و لهم ذهن سيَّال، قد دجَّنت هذه السَّلفيَّة عقولهم بخطاب مغلوط ، و شعارات دينيَّة محتلَّة، لا تمتُّ لها بصلة وثيقة، أو توضع في غير موضعها، مِن وصف أهل الحقِّ بالضَّلال و الزَّيغ و الفتنة ، و تغليف تأصيلاتها بشعارات كــ:" السُّنَّة، و الحقِّ، و الطَّائفة المنصورة، و الفرقة النَّاجية، و السَّلف، و أهل السُّنَّة"، فينغلق عقل هذا الشَّباب، أو يحجز عليه فلا يستطيع التَّمييز، أو لا يتلقَّى من العلم ما يستطيع التَّمييز به بين منهج السُّنَّة الحقيقيِّ، و بين منهج هؤلاء المركَّب من قواعد سنِّيَّة ممزوجة بقواعد خارجيَّة و تصرُّفات شخصيَّة، وسوء فهم وترتيب للأدلَّة الشَّرعيَّة، و بعد عن الواقع، و عجز عن فصل علميٍّ واضح بين اجتهادات أئمَّة السُّنَّة والأصول الشَّرعيَّة .
هذا المنهج الَّذي أدخل هؤلاء الشَّباب فيما يشبه العلمانيَّة الدِّينيَّة، و فصلهم عن الحياة الإسلاميَّة العاملة، و قتل فيهم روح العمل للإسلام، و الدَّعوة إليه لا إلى الأشخاص ، فصاروا عقولا ساكنة عن الأمر بالمعروف و النَّهي عن المنكر، لا تتحرَّك إلاَّ لإيذاء العلماء و الدُّعاة، و قطع طريق الدَّعوة إلى الله أمامهم .
لأنَّه إذا انفردت الحياة عن الدِّين فسدت أحوال النَّاس، وقد صار هؤلاء الشَّباب بمعزل عن حقيقة الإيمان و كمال الدِّين، و صار الدِّين عندهم في محلِّ رحمة و شفقة، لا في محلِّ علوٍّ وعزٍّ ،فلما غلب عليهم العجز عن تكميل الدِّين، و الجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء ضعفت طريقتهم في الدَّعوة إلاَّ الله، و اقتصرت على تتبُّع أخطاء العلماء، أو افتعالها إن لم توجد ،لأنَّه لا شيء لهم يعملونه غير ذلك.
و إن غلب على بعضهم الحماس للدِّين، لكنَّهم أعرضوا عمَّا لا يتمُّ الدِّين إلاَّ به من الجماعة الواعية العاملة لبسط الدِّين على حياة المسلمين برمَّتها.
فإلى هؤلاء الشَّباب ممَّن يملكون عقولا صحيحة، و نفوسا أبيَة، و فطرة سليمة أقول: ألا ترون مآسي هذه الجماعة، و كيف أصبحت الأمَّة تئنُّ من خذلانها و شقِّها لصفوف أهل السُّنَّة ؟!
يلاحظ المتتبِّعون لأحوال السَّلفيَّة التَّجريحيَّة المتقلِّبة أنَّها في المدَّة الأخيرة دخلت في طور الاحتضار و التَّلاشي، فأصبح الحوار العلميُّ الصَّادر عنها حوارا داخليًّا في الصَّميم، وعندما أقول الحوار العلميَّ فإنِّي أقصد حملات السَّبِّ و الشَّتم و التَّجريح المتبادلة، و إن شابها شيءٌ من العلم.
وقد بدأ هذا الانهيار يوم جعلت هذه السَّلفيَّة مهمَّتها في الدِّين التَّطبيق الحرفيَّ لمسألة "هجر المبتدع و التَّحذير منه"،و لا أقصد هنا المبتدع حسب معايير هذه السَّلفيَّة، فهذا شأنٌ آخر ، ولكن المبتدع وفق المعايير الشَّرعيَّة، فبدلا من التَّضييق عليه بشغل المساحات الفكريَّة و الاجتماعيَّة، و ما يتفرَّع عنها، الَّتي ينشط فيها وحجزها لنفسه نظرًا لاهتمامه بحياة النَّاس الواقعية، و اقتراحه البدائل لهم انسحبت السَّلفيَّة التَّجريحيَّة إلى مجال مطاردته فيما أصاب فيه، و أجاد في استعماله، كخطابه للمعاندين للدِّين، و مزاحمته العلمانية في مراكز نفوذها و نشاطها .
فالأفكار المعادية للدِّين أصبحت اليوم تجتاح المجتمعات الإسلاميَّة، و تكتسح المجالات الحيويَّة للأمَّة، كالجامعات، مستعملة خطابا ملغَّما بشبهات المعتزلة و العقلانيِّين من المتكلِّمين، تزعزع به مكانة القرآن و السُّنَّة في نفوس المسلمين و عقولهم.
و إذا كنَّا نتفهَّم سبب إغفال هذه السَّلفيَّة لهذا الخطر، و أنَّ تكوينها العلميِّ، و أفقها المعرفي، وربَّما أحيانا بيئتها الضَّيِّقة، المتكوِّنة من العناصر المشابهة لها، و المنقطعة عن العالم الخارجيِّ عنها، و العاجزة كلِّيَّة عن توجيه أي خطاب إسلاميِّ موضوعي وصحيح لأيِّ طبقة من طبقات المجتمع الثَّقافيَّة أو الاجتماعيَّة خارج جماعتها.
فمن يخاطب هؤلاء النَّاس الَّذين ليسوا علمانيِّين، ولا شيوعيِّين، ولا رافضة، و لكن فيهم الاستعداد لأن يصيروا من عناصر هذه الدَّعوات الباطلة؟!
ولكنَّنا لا نتفهَّم هجومها على العلماء و الدَّعاة و المفكِّرين المسلمين الَّذين تنبَّهوا باكرًا لهذا الوباء ، وكيف جعلتهم إمَّا يرضون بتهميش أنفسهم، أو تضييع وقتهم في الرَّدِّ على تفاهاتها ، و استفراغ الجهد في كشف حقيقتها.
فلم تفهم هذه السَّلفيَّة، ولم تدرك وجه الاختلاف بين المبتدع في زمن السَّلف، وفي تصوُّرهم، أي: المبتدع الَّذي لا يملك أي مسوِّغ شرعيٍّ على بدعته، ففي أقلِّ أحواله هو أكبر سِنًّا من بدعته في الأصول، وبين مبتدع هو ضحية و نتاج سنين وقرون من التَّأصيل لهذه البدع ،و تزيينها بالأدلَّة البدعيَّة ذات الاشتباه الشَّرعيِّ، أو هي من البدع العمليَّة الَّتي أفرزتها الأحاديث الضَّعيفة و الموضوعة، و الَّتي لم يكن أصحابها أبدا محلَّ هجر عند السَّلف.
فبدلا من إظهار السُّنَّة بالدَّعوة الجميلة الَّتي تُبرز محاسنها، و تفوُّقها في التَّأصيل و الأسلوب المعتمد على الملاطفة و الإقناع، و الَّذي يظهر باللُّزوم مساوئ البدعة و ضعف تأصيلها.
فبدلاً من إثبات محاسن الشَّريعة، وما فيها من الأمر بمصالح العباد، وما ينفعهم من النَّهي عن مفاسدهم ،وما يضرُّهم، وأنَّ الرَّسول الَّذي بُعث بها بعث رحمةً كما قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }.
ووصف نبيَّه بالرَّحمة فقال :{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }،راحت هذه السَّلفيَّة تحاول إظهار مساوئ البدعة، و هذا خلط كبير إذ مساوئ البدعة لا تكشف محاسن السُّنَّة و لكنَّ العكس صحيح.
ولما نفذ مخزون المعرَّضين للتَّجريح و الذَّمِّ، أو قُل: لم يتضرَّر من هذا المنهج التَّجريحي المبتدعون الحقيقيُّون، لأنَّهم ينشطون في مساحات لا تنشط فيها هذه السَّلفيَّة، و لا جمهورهم هو جمهورها.
قامت السَّلفيَّة التَّجريحية بتعويض النَّقص بالتَّسلُّط على أبناء دعوتهم، و لذلك لم يتأثَّر سلبًا بهذا المنهج إلاَّ أهل السُّنَّة الَّذين شوَّهت صورتهم عند الموافق و المخالف.
ومن أبرز العلامات الَّتي تدلُّك على بدعيَّة هذا المنهج التَّجريحي التَّخريبي و أنَّه صورة مشوَّهة، و اختزال فاحش مخلٌّ لمنهج السَّلف، ما تعانيه هذه الجماعة من تآكل داخليٍّ، فلم تعد تستهوي إلاَّ الأحداث، ممَّن لا يعرف رأسه من قدميه في الدِّين، أو أصحاب المصالح من الفاشلين في العلم ، الَّذين يغطُّون عجزهم و تقصيرهم في حمل رسالة الإسلام إلى كلِّ الآفاق الثَّقافيَّة و الفكريَّة بابتغاء العنت لدعاة و علماء السُّنَّة العاملين بصدق.
فمنهج هؤلاء هو إفرازات لصفات نفسيَّة تعتري شعورهم فتؤثِّر على فكرهم ،و تجعلهم يميلون دائما لناحية التَّعنت و التَّصلُّب،و لذلك لا يستهويهم من صنوف العلم إلاَّ مقالات الطَّعن في فلان، و كشف ضلالات علَّان؟
و لعل عدَّاد المواقع الالكترونية يكشف لك عدد القرَّاء لمثل هذه المقالات، و عدد قرَّاء المقالات العلميَّة.
وهذا الأمر عُرف قديما في الخوارج، و حتَّى تتحقَّق منه في القوم فإليك بعض أوجه التَّشابه، تفهم من خلالها أنَّ القواعد المعمول بها في منهج هؤلاء أقصد قواعد الجرح و التَّعديل، هي قواعد الخوارج، و ليست قواعد أهل الحديث و السُّنَّة.
ومعلوم أنَّ للخوارج عقيدة معروفة كما لهم منهج معروف في التَّعامل مع الأخطاء الَّتي هي في نظرهم أخطاء، و يتَّسم هذا المنهج بالتَّسرُّع في الحكم بموجب الخطأ، و عدم اعتباره للاجتهاد، و التَّأويل، وعدم العلم، وغيرها من أعذار شرعيَّة صحيحة.
كما أنَّ علاقتهم ببعضهم بعضا يُنظِّمها التَّوجُّس من الإخوان، و الحذر منهم، و الكمين لبعضهم بعضا، كأنَّهم لا همَّ لهم إلاَّ تصيُّد الأخطاء، فهم دائما في استعداد لتلقُّفها ، و يتوقَّعونها في كلِّ حين، لذلك عرفوا في التَّاريخ بسرعة الانشقاق و الانشطار، فكلَّما حدث فيهم موضوع علميٌّ انقسموا إلى فرقتين أو ثلاث.
و اليوم نجد بعض من ينتسب للسَّلف قد أخذ بمنهجهم في إهدار حسنات المؤمنين و الترَّكيز على أخطاء أهل العلم، أو بالأحرى تخطئتهم ولو كانوا مصيبين حتَّى يذعنوا لهم، و يستسلموا لهم، و لا يصدروا إلاَّ عن رأيهم و أمرهم.
ولبيان أنَّ منهج هذه السَّلفيَّة الشَّاذَّة و المنحرفة عن منهج السَّلف الصَّالح أذكر بعض أوجه التَّشابه و المقاربة بينهم و بين الخوارج، نلمس من خلالها منهج هؤلاء الحقيقيّ، ومن أين استمدُّوه.
يتعامل هؤلاء في العلم ومع النَّاس بكثير من القواعد الضَّعيفة يخرجونها في قالب السُّنَّة، وذلك بالتَّعبير عنها بألفاظ أهل السُّنَّة و الجماعة ومصطلحاتهم، وحتَّى تعرف ضررهم على الدَّعوة الإسلاميَّة ، وتعرف أنَّ الألفاظ إذا خالفت مدلولاتها لا تكون عنوانا للحقِّ، ولا للسُّنَّة مهما كان الحال،فهذه بعض قواعدهم:
تابعها على صفحتي الرَّسميَّة تحت عنوان: "فيصل التَّفرقة العلميَّة بين السَّلفيَّة الشَّرعيَّة و السَّلفيَّة البدعيَّة"
وغدا .... مقال آخر ليوم آخر.
الشيخ مختار الطيباوي