بدأت تزداد وبشكل سريع وغير مسبوق تحديات المعضلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها مجتمعاتنا العربية في الألفية الثالثة بعد أن حولت تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات العالم لقرية صغيرة, وأصبحت هذه القرية باهتة الحدود ومتشابكة الأطراف ومتواصلة بقواها البشرية المختلفة الثقافات ومتباينة الأصول العرقية في الوظائف والأعمال. ومن أهم المعضلات التي سيواجهها العالم في الألفية الثالثة هو التحرك السريع للكتل السكانية. فسيزداد الانتقال المستمر للقوي البشرية العاملة من بلد للآخر, وسترتفع نسب تنوع الأجناس في البلد الواحد لغة ودينا وعرقا وطائفة. وستغير انتشار قوانين حقوق الإنسان ديموغرافية الكثير من البلدان. فقد فرضت هذه القوانين في الألفية الثانية علي الكثير من الدول اعتبار كل من يولد علي أراضيها مواطنا, ولكل من يعمل لفترة محددة الحق في طلب الجنسية. فزاد عدد المهاجرين في هذه الدول من الغرب والشرق, بل أصبحت بعضها تسمي بدول المهاجرين, كما كافح هؤلاء المهاجرون لضمان حقوق مشروعة في بلدانهم الجديدة. وتحولت بعض هذه الدول بأطيافها المختلفة وبثقافاتها المتلونة وبعقولها المبدعة وبتحملها لهذه الاختلافات لدول عظمي غنية.
وقد بدأت تبرز في أفق الألفية الثالثة في منطقتنا العربية ظروف مشابهة للتي عاشتها الدول السالفة الذكر وذلك بتفتحها الاقتصادي والإعلامي, وبانتقال الكثير من الخبرات العالمية لأراضيها, وبفتح أبوابها لتجارة السوق العالمية الحرة, وبالتزايد المستمر في مشاريعها الاقتصادية. وزادت مع هذا الانفتاح نسبة الجاليات الأجنبية في المنطقة, لتفرض علينا واقعا عالميا جديدا مترافقا بالتزاماتنا لقوانين حقوق الإنسان ولمشاركتنا العمل بالأمم المتحدة, لنراجع الكثير من تصوراتنا ولنتعلم من تجارب هذه الدول لتخطيط المستقبل. كما قد نحتاج وقفة لمراجعة مفاهيمنا الوطنية والقومية العرقية لنستطيع التعامل مع تحديات عولمة الألفية الثالثة.
لقد برز مفهوم القومية في وطننا العربي في القرن الماضي, وحاولت بعض القوي السياسية الوطنية العمل لتحقيق مفاهيم الوحدة العربية في مجتمع ديمقراطي وباقتصاد حر مسئول اجتماعيا. ومع الأسف حينما استلمت هذه القوي السياسية الحكم لم تحقق الديمقراطية المنشودة, ومال اقتصادها نحو السيطرة الحكومية لا المسئولية الاجتماعية, واختلط مفهوم المواطنة العربية بمفهوم التفرقة العشائرية والعرقية. فاندثرت الديمقراطية في مجتمعاتها, وزادت سلطة الحكومة علي الاقتصاد, وتحول مفهوم المواطنة لمفهوم تفرقة فئوية, ليتقاتل رفاق الدرب علي السلطة وينتهي البعض بالقتل أو السجن. وليزداد الوضع سوءا وتبدأ بعض هذه الدول بمحاربة بعضها البعض بل ليغزو القوي منها الضعيف, لتنتهي مغامرة المفهوم الشوفيني والفئوي للقومية بعدة حروب خاسرة, وبخسارة التريليونات من الدولارات وزيادة الفقر وانتشار التطرف الفكري وإرهاب العنف.
لنتدارس ما كتبه البروفيسور جري مولر أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية في مجلة الشئون الخارجية( فورن أفيرز) في شهر مارس عام2008 وبعنوان نحن وهم, معاناة قوي الوطنية العرقية. يناقش البروفيسور تجربة الولايات المتحدة في استخفافها لأهمية الوطنية القومية العرقية في الحياة السياسية الأمريكية, بعد أن عانت لفترة طويلة بالاعتقاد بأن الأشخاص ذوو الأصول الإنجليزية أو البروتستانت أو البيض أو ذو الأصول الأوروبية الشمالية هم الأمريكان الحقيقيون. ولم تختف هذه المفاهيم إلا في عام1965 حينما ألغيت قوانين الهجرة الجديدة, علاقة الجنسية بالأصول العرقية. ونجحت هذه القوانين بصهر شعوب ولاياتها الخمسين ذوي الأصول العرقية والقومية المختلفة في بوتقة متعايشة بسلام ومنتجة بتناغم لتحول بلادها لمعجزة اقتصادية في الألفية الثانية. والتحمت خلال ثلاثة أجيال من المهاجرين ألوان متنوعة من القوميات والعروق في طيف المواطنة الأمريكية المتفتحة باستيعاب واحترام مواطنيها لثقافاتهم المختلفة, وبرفضهم الفكري والأخلاقي لمفاهيم التفرقة القومية العرقية, بالإضافة للتزاوج بين أفرادها من أصول وقوميات مختلفة. وانتشرت هذه الثقافة الجديدة في الحياة الأكاديمية وفي الفكر الإنساني الأمريكي لتصبح القومية العرقية, عند علماء الاجتماع الأمريكيين, ثقافة مجتمعية مصطنعة ومصلحية لا طبيعة بشرية موروثة, بل ولتعتبر قيمها مرتبطة بنظرة الهوية الضيقة المفاهيم مبتعدة عن هوية الشخصية الأمريكية الجديدة ذات الآفاق العالمية الواسعة. وليعتبر علماء الاجتماع الأمريكيون الهوية القومية العرقية بأنها هوية تضيق الآفاق الإنسانية وتخلق فرد الفئات الصغيرة المصطنعة القيم والمتناحرة المصالح, بدل الهوية البشرية الواسعة الآفاق والإنسانية القيم والمتشاركة الفوائد.
وقد بينت دراسة التاريخ الأوروبي في القرن العشرين بأن النزعة القومية العرقية كانت السبب في حرب عام1914 وفي حرب عام.1939 فاستنتج الشعب الأوروبي بأن القومية هي مفهوم خطير, وحاول التخلص في شخصيته وفي تفكيره منها. واتجهت قياداته نحو اتحاد بين القوميات بإنشاء الاتحاد الأوروبي, متجاوزة بذلك خلفيتها التاريخية الدامية. وقد انتشرت هذه المفاهيم في الثقافة الغربية لتصل لاقتراح البعض بأن علي إسرائيل أن تتوقف عن الادعاء بأنها دولة يهودية, بل أن تحل دولتها في تجمع فلسطيني لتعيش بسلام مع شعوب المنطقة. وقد عبر عن ذلك طوني جودت حيث قال:' مشكلة إسرائيل... بأنها قد استوردت مشروع تفرقة يرجع لنهاية القرن التاسع عشر لعالم تحرك للأمام, في عالم الحرية الشخصية, عالم الحدود المفتوحة, عالم القوانين الدولية. وفكرة الدولة اليهودية هي فكرة مفارقة تاريخية.' ومع ذلك فخبرة المئات من الأفارقة والآسيويين الذين قضوا نحبهم وهم يحاولون الوصول للسواحل الإسبانية والإيطالية تؤكد بأن أبواب أوروبا غير مفتوحة للمهاجرين, وبأن مفهوم القومية العرقية لم ينمح من الذاكرة الغربية حتي الآن. ويعتقد البروفيسور بأن المفاهيم القومية ستستمر في تشكيل عالم القرن الواحد والعشرين بالرغم من صحة أو خطأ هذه المفاهيم. كما أن زيادة التحضر والتعلم والتحركات السياسية والتغيرات في نسب التوالد والإنتاج الاقتصادي للمجموعات العرقية المختلفة والهجرة ستكون تحديات جديدة للبنية الداخلية للدول ولحدودها السياسية. وينهي البروفيسور مقاله بالقول بأنه سيبرز في الألفية الثالثة مفهومان للتفكير في الهوية القومية, فإحداها سيركز علي مفهوم المواطنة وهو الاعتقاد بأن الفئات التي تعيش ضمن حدود بلد ما هم جزء من هذا الوطن مهما اختلفت أصول عروقهم وقومياتهم وأديانهم وطوائفهم, بينما سيركز الآخر علي مفهوم القومية العرقية التي تعرف الأمة بوحدة مشاركة الموطنين في الثقافة والتراث واللغة والدين والأصول العرقية.
والسؤال: هل حان الوقت لأن تراجع برلماناتنا العربية, وبنظرة عولمة الألفية الثالثة, مفاهيم عدالة المواطنة وتميزها عن تفرقة القومية العرقية؟ وهل ستستفيد من التجربة الأوروبية لوضع تشريعات لإنشاء سوق عربية مشتركة لتتحول مع الوقت لاتحاد عربي؟ وهل ستتعلم من تجربة الآسيان الآسيوية بوضع تشريعات لإنشاء تجمع' المنيان' الإقليمي والذي سيضم دول المينا( الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)؟ وهل ستستفيد دول المنطقة من احتياطي الطاقة لتلعب دورا فاعلا في الأمم المتحدة يحقق أهدافها الوطنية والإقليمية؟ ولنا لقاء.
المقال بقلم الدكتور خليل حسن
الأهرام العربي
السبت 26 / 4 / 2008










:1 9:




