ا[color="rgb(255, 140, 0)"]لرّد على الاعتراض الأوّل [/color]والذي فيه أنّ معنى قدر في الحديث بمعنى ضيّق أو قضى وهو تأويل بعيد جدّا، وممن شنّع عليه ابن حزم الأندلسي رحمه الله حيث قال "وقد قال بعض من يحرّف الكلم عن مواضعه أنّ معنى لئن قدر الله عليّ إنّما هو لئن ضيّق الله عليّ كما قال تعالى {وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه}
قال أبو محمّد: وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنّه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيّق الله عليّ ليضيّقنّ عليّ وأيضا لو كان هذا لما كان لأمره بأن يُحرق ويذر رماده معنى ولا شكّ أنّه إنّما أمر بذلك الفلت من عذاب الله تعالى" الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/252
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [/color]"ومن تأوّل قوله "لئن قدر الله علي بمعنى قضى أو بمعنى ضيّق فقد أبعد النّجعة وحرّف الكلم عن مواضعه، فإنّه إنّما أمر بتحريقه وتفريقه لئلاّ يُجمع ويُعاد وقال: إذا أنا متّ فاحرقوني ثمّ اسحقوني ثمّ ذروني في الرّيح في البحر فو الله لئن قدر علي ربّي ليعذّبني عذابا ما عذّبه أحدا، فذكر هذه الجملة بحرف الفاء عقيب الأولى يدلّ على أنّه سبب لها وأنّه فعل ذلك لئلاّ يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرّا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل ذلك لم يكن في ذلك فائدة له، ولأنّ التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب وهو جعل تفريقه مغايرا، لأن يقدر الرّب، قال: فو الله لئن قدر الله عليّ ليعذّبني كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك ولأنّ لفظ ( قدر ) لا أصل له في اللغة ... إلى أن قال : فغاية ما في هذا أنّه كان رجلا لم يكن عالما بجميع ما يستحقّه الله من الصفات وبتفصيل أنّه القادر وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافرا" مجموع الفتاوى 11/410 – 411
الرّد على الإعتراض الثاني : ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ ذلك الرّجل كان في حال دهش وشدّة خوف فلم يضبط ما قاله، ولم يكن جاهلا بقدرة الله على أن يبعثه، وإذا لم يتحقّق قصده إلى ما قاله لم يكن مؤاخذ بمجرّد القول.
"وهذا التفسير فيه ضعف ظاهر من وجهين: الأوّل : أنّه لو كان غير مدرك ولا عاقل لما يقول لفهم أولاده ذلك ولما نفّذوا هذه الوصية.
الثاني : أنّ هذا الحديث يُذكر لبيان سعة رحمة الله عزّ و جل حيث غفر لهذا الرّجل رغم هذا الجهل الكبير فلو كانت المغفرة لرجل أخطأ في كلام قاله دون شعور منه ولا إدراك لما يقول لما كان للمغفرة في هذه الحالة مزية ولصار في حكم من سقط عنه التكليف وحينئذ لا يُعتبر قد ارتكب خطأ" نواقض الإيمان الإعتقادية وضوابط التكفير عند السلف 1/149 – 150 لمحمّد الوهيبي
وزيادة في الإيضاح إنّ "هذا التأويل الذي خلاصته أنّ ذلك الرّجل لم يكن قاصدا لما قال مخالف لواقع الأمر كما يدلّ عليه الحديث، فإنّ الرجل لم يقل ما قاله فجأة ولا سبق لسان، وحاله يدلّ على ذلك فقد جمع أبناءه وسألهم عن حاله وأخبرهم عن خوفه من العذاب على ما كان منه من إسراف على نفسه، ثمّ إنّه أخذ على أبنائه ميثاقا أن يحرقوه ويذروه بعد موته، وفي رواية عند مسلم أنّه قال لأولاده {لتفعلنّ ما أمركم به أو لأولين ميراثي غيركم إذا أنا متّ فاحرقوني ... إلى أن قال : فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك ... الحديث رواه مسلم رقم 2757
ويبعد جدّا أن يجمع أبناءه ويسألهم عن حاله ويخبرهم بظنّه في نفسه وخوفه من العاقبة ثمّ يأخذ عليهم ميثاقا أن يحرقوه ويذروه ويكون كلّ ذلك عن غير قصد، هذا لا يُتصوّر، ولهذا سأله الله عن سبب ما أقدم عليه لأنّه فِعل تحقّق فيه القصد والإرادة ولم يكن ردّه أنّه لم يكن قاصدا لما قال، بل أقرّ بقصده لكنّه أخبر أنّ ما حمله على ما قصد إليه وقاله هو خوفه من عذاب الله تعالى، فقياس حاله مع كلّ ما سبق على حال من قال لسبق لسانه{ اللهمّ أنت عبدي وأنا ربّك } قياس مع الفارق" ضوابط التكفير عند أهل السنّة والجماعة لمحمّد بن عبد الله القرني ص 220
وزيادة على هذا كلّه أقوال أهل العلم التي تدلّ على ما ذهبنا إليه من أنّ الرّجل جهل قدرة الله على الحقيقة، إذ ظنّ أنّ الله لا يقدر على جمعه إذا تفرّق ذلك التفرّق ، فغفر الله له لجهله ، وهاك أقوالهم علّها تُذهب عنك الوساوس والأوهام
[color="rgb(46, 139, 87)"]قال ابن عبد البر رحمه الله[/color] < أمّا جهل هذا الرّجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته فليس ذلك بمخرجه من الإيمان... ثمّ استدلّ على ذلك بسؤال الصحابة رضي الله عنهم عن القدر ثمّ قال : ومعلوم أنّهم سألوه عن ذلك وهم جاهلون به ، وغير جائز عن أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين ... ولم يضرّهم جهلهم من قبل أن يعلموه" [color="rgb(46, 139, 87)"]التمهيد 18/46 - 47[/color]
وقال ابن حزم رحمه الله "فهذا إنسان جهل إلى أن مات أنّ الله عزّ و جل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله" الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/252
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال الخطّابي رحمه الله[/color] < وقد يُستشكل هذا فيقال: كيف يُغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى والجواب: أنّه لم ينكر البعث وإنّما جهل فظنّ أنّه إذا فُعل به ذلك لا يُعاد فلا يُعذّب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنّه إنّما فعل ذلك من خشية الله.
قال ابن قتيبة رحمه الله "قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك" فتح الباري لابن حجر رحمه الله 7/435
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال الإمام البغوي رحمه الله[/color] "فإن قيل كيف غُفِر له وهو منكر للبعث ، قلنا : لم يكن منكرا للبعث ولكن كان يفعله من خشية البعث ، ولكنّه كان جاهلا فظنّ أنّه إذا فعل ذلك تُرك ، فلم يُنشر ولم يُعذّب ، وقيل : معناه لعلّ موضعي يخفى عليه" شرح السنّة للبغوي رحمه الله 7/382
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله[/color] "فهذا الرّجل ظنّ أنّ الله لا يقدر عليه إذا تفرّق هذا التفرّق فظنّ أنّه لا يعيده إذا صار كذلك وكلّ واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنّه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالاّ في هذا الظنّ مخطئا فغفر الله له ذلك.
والحديث صريح في أنّ الرّجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك وأدنى هذا أن يكون شاكّا في المعاد وذلك كفر إذا قامت حجّة النبوّة على منكره حكم بكفره ...إلى أن قال: فغاية ما في هذا أنّه كان رجلا لم يكن عالما بجميع ما يستحقّ الله من الصفات وبتفصيل أنّه القادر وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافرا " مجموع الفتاوى 11/409 - 410
وقال أيضا رحمه الله "وهذا الحديث متواتر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عمرو وغيرهم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم من وجوه متعدّدة تعلم أهل الحديث أنّها تفيد العلم اليقيني، وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممّن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرّجل كان قد وقع له الشكّ والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم بعدما أحرق وذرى وعلى أنّه يعيد الميّت ويحشره إذا فعل به ذلك ، وهذان أصلان عظيمان:
أحدهما: متعلّق بالله تعالى وهو الإيمان بأنّه على كلّ شيء قدير.
والثاني: متعلّق باليوم الآخر وهو الإيمان بأنّ الله يعيد هذا المميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلمّا كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أنّ الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأيضا فإنّ الكتاب والسنّة قد دلاّ على أنّ الله لا يُعذّب أحدا إلاّ بعد إبلاغ الرسالة فمن لم تبلغه جملة لم يُعذّب رأسا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يُعذّبه إلاّ على إنكار ما قامت عليه الحجّة الرسالية " مجموع الفتاوى 12/491
[color="rgb(46, 139, 87)"] وقال أيضا رحمه الله [/color]"فهذا الرّجل شكّ في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنّه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر الله له بذلك" [color="rgb(46, 139, 87)"]مجموع الفتاوى 3/231[/color]
وقال أيضا رحمه الله "فهذا اعتقد أنّه إذا فعل ذلك لا يقدر على إعادته وأنّه لا يعيده أو جوّز ذلك وكلاهما كفر ، لكن كان جاهلا لم يتبيّن له الحقّ بيانا يكفر بمخالفته فغفر الله له" [color="rgb(46, 139, 87)"]الرّد على البكري ص260[/color]
وقال العلاّمة ابن القيم رحمه الله "ومن هذا رحمته سبحانه للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعما منه بأنّه يفوت الله سبحانه، فهذا قد شكّ في المعاد والقدرة ولم يعمل خيرا قط، مع هذا فقال له ما حملك على ما صنعت، قال: خشيتك وأنت أعلم فما تلافاه أن رحمه الله" حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص 269
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال أيضا رحمه الله [/color]"وأمّا جحد ذلك جهلا أو تأويلا يُعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرّقوه ويذروه في الرّيح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا وتكذيبا" مدارج السالكين 1/338 - 339
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله[/color] "كما غفر للذي قال: إذا أنا متّ فاسحقوني ثمّ ذروني ثمّ غفر الله له لخشيته، وكان يظنّ أنّ الله لا يقدر على جمعه وإعادته أو شكّ في ذلك" [color="rgb(46, 139, 87)"]شرح العقيدة الطحاوية ص 358 [/color]
وقال ابن الوزير رحمه الله < إنّما أدركته الرّحمة لجهله وإيمانه بالله وبالمعاد ولذلك خاف العقاب، وأمّا جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنّه محالا فلا يكون كفرا إلاّ لو علم أنّ الأنبياء جاؤوا بذلك، وأنّه ممكن مقدور ثمّ كذبهم أو أحدا منهم لقوله تعالى {وما كنّا معذبين حتّى نبعث رسولا} وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل" [color="rgb(46, 139, 87)"]إيثار الحقّ على الخلق ص 436 [/color]
وكتبه عبد الحفيظ بن علي المدني