تفسير القرطبي :
أي " كان " محمد من ربه أو من جبريل " قاب قوسين " أي قدر قوسين عربيتين . قال ابن عباس وعطاء والفراء . الزمخشري : فإن قلت كيف تقدير قوله : " فكان قاب قوسين " قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين , فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله : وقد جعلتني من حزيمة إصبعا أي ذا مقدار مسافة إصبع " أو أدنى " أي على تقديركم ; كقوله تعالى : " أو يزيدون " [ الصافات : 147 ] . وفي الصحاح : وتقول بينهما قاب قوس , وقيب قوس وقاد قوس , وقيد قوس ; أي قدر قوس . وقرأ زيد بن علي " قاد " وقرئ " قيد " و " قدر " . ذكره الزمخشري . والقاب ما بين المقبض والسية . ولكل قوس قابان . وقال بعضهم في قوله تعالى : " قاب قوسين " أراد قابي قوس فقلبه . وفي الحديث : ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها ) والقد السوط . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ) . وإنما ضرب المثل بالقوس , لأنها لا تختلف في القاب . والله أعلم . قال القاضي عياض : اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى , وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه : إبانة عظيم منزلته , وتشريف رتبته , وإشراق أنوار معرفته , ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته . ومن الله تعالى له : مبرة وتأنيس وبسط وإكرام . ويتأول في قوله عليه السلام : ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ) على أحد الوجوه : نزول إجمال وقبول وإحسان . قال القاضي : وقوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب , ولطف المحل , وإيضاح المعرفة , والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم , وعبارة عن إجابة الرغبة , وقضاء المطالب , وإظهار التحفي , وإنافة المنزلة والقرب من الله ; ويتأول فيه ما يتأول في قوله عليه السلام : ( من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) قرب بالإجابة والقبول , وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول . وقد قيل : " ثم دنا " جبريل من ربه " فكان قاب قوسين أو أدنى " قاله مجاهد . ويدل عليه ما روي في الحديث : ( إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام ) . وقيل : ( أو ) بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى . وقيل : بمعنى بل أي بل أدنى . وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه , ولكل قوس قاب واحد . فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين . وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة : ( فكان قاب قوسين ) أي قدر ذراعين , والقوس الذراع يقاس بها كل شيء , وهي لغة بعض الحجازيين . وقيل : هي لغة أزد شنوءة أيضا . وقال الكسائي : قوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " أراد قوسا واحدا ; كقول الشاعر : ومهمهين قذفين مرتين قطعته بالسمت لا بالسمتين أراد مهمها واحدا . والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس ; وفي المثل هو من خير قويس سهما . والجمع قسي قسي وأقواس وقياس ; وأنشد أبو عبيدة : ووتر الأساور القياسا والقوس أيضا بقية التمر في الجلة أي الوعاء . والقوس برج في السماء . فأما القوس بالضم فصومعة الراهب ; قال الشاعر [ جرير ] وذكر امرأة : لاستفتنتني وذا المسحين في القوس