بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد: وانا أطالع في كتب العقائد المتفرقة وقعت عيني على نصيحة للإمام الجويني الكبير أو الوالد نصحها لأتباع عقيدته الأشعرية وذلك بعدما عرف الحق واتبعه ولا أطيل واترككم مع النصيحة الذهبية.
قال العلامة أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438هـ "وبعد فهذه نصيحة كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء والإخلاص والوفاء لما تعيّن عليّ من محبتهم في الله، ونصيحتهم في صفات الله عز وجل، فإنّ المرء لا يكمل إيمانه حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وفي "الصحيح" عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكلّ مسلم" وعن تميم الدّاري أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة ـ ثلاثا ـ قال: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" أعرّفهم أيدهم الله بتأييده، ووفّقهم لطاعته ومزيده، أنّني كنت برهة في الدهر متحيّرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، وكنت متحيّرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها، وإمرارها والوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العلوّ والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت.
ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم، منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء، ويؤول النزول بنزول الأمر، ويؤوّل اليدين بالقدرتين أو النعمتين، ويؤوّل القدم بقدم صدق عند ربّهم، وأمثال ذلك، ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائما بالذّات بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.
وممّن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأنّي على مذهب الشافعي رضي الله عته عرفت فرائض ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلّة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي، ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم، ثمّ إنّني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئنّ قلبي لها، وأجد الكدر والظلمة فيها، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا به، فكنت كالمتحيّر المضطرب في تحيّره، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيّره.
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلوّ والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه، ومع ذلك، فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول صلى الله عليه وسلّم قد صرّح بها مخبرا عن ربّه، واصفا له بها، وأعلم بالاضطرار أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحضر في مجلسه الشريف والعالم والجاهل، والذكي والبليد، والأعرابي والجافي، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربّه بها لا نصّا ولا ظاهرا ممّا يصرفها عن حقائقها، ويؤوّلها كما تأوّلها مشايخي الفقهاء المتكلمون مثل تأويلهم الاستيلاء للاستواء، ونزول الأمر للنزول وغير ذلك، ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يحذّر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لديه من الفوقية واليدين وغيرهما، ولم ينقل عنه مقالة تدلّ على أنّ لهذه الصفات معاني أخرى باطنة غير ما يظهر من مدلولها....
ثم قال: والذي شرح الله صدري في حال هؤلاء الشيوخ الذين أوّلوا الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر، واليدين بالنعمتين والقدرتين هو علمي بأنهم ما فهموا في صفات الرّب تعالى إلاّ ما يليق بالمخلوقين، فما فهموا عن الله استواء يليق به، ولا نزولا يليق به، ولا يدَيْن تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه، فلذلك حرّفوا الكلم عن مواضعه، وعطّلوا ما وصف الله تعالى نفسه به.
ونذكر بيان ذلك إن شاء الله تعالى: لا ريب أنّا نحن وإيّاهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع، والبصر والعلم، والقدرة والإرادة، والكلام لله تعالى، ونحن قطعا لا نعرف من الحياة إلاّ هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا، وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلاّ أعراضا تقوم بجوارحنا، فكما أنهم يقولون: حياته ليست بعرض، وعلمه كذلك، وبصره كذلك هي صفات كما تليق به، لا كما تليق بنا، فكذلك نحن نقول: حياته معلومة وليست مكيّفة، وعلمه معلوم وليس مكيّفا وكذلك سمعه وبصره معلومان، ليس جميع ذلك أعراضا، بل هو كما يليق به.
ومثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله، ففوقيته معلومة، أعني: ثابتة كثبوت حقيقة السمع وحقيقة البصر، فإنّهما معلومان، ولا يكيّفان، كذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيّفة كما يليق به. واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيّف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق، بل يليق بعظمته، وجلالة صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصرا من وجه، أعمى من وجه، مبصرا من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله تعالى نفسه به، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف، وذلك هو مراد الله تعالى منّا في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها، ونؤمن بها بحقائقها، وننفي عنها التشبيه، ولا نعطّلها بالتحريف والتأويل، ولا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر، الكلّ ورد في النصّ....
ومن أنصف عرف ما قلنا، واعتقده، وقبل نصيحتنا، ودان الله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك، ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل، والتأويل والوقوف، وهذا مراد الله تعالى منّا في ذلك، لأنّ هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد، وهو الكتاب والسنة، فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل، وحرّفنا هذه، وأوّلناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى."
رسالة "إثبات العلو والفوقية الموجودة ضمن "مجموعة الرسائل المنيرية 1/174 ـ 187.