العمل الجدّي في سنغافورة
توماس فريدمان
أتواجد حالياً في سنغافورة، في مدرسة غان أنغ سينغ الابتدائية الواقعة في حيّ تعيش فيه الأسر المنتمية إلى الطبقة الوسطى، وقد اصطحبتني مديرة المدرسة اي دبليو أيي لينغ في جولة لحضور حصة العلوم في الصف الخامس. وكان الفتيان والفتيات البالغة أعمارهم 11 سنة يلبسون مآزر المختبر البيضاء الصغيرة التي كتبت أسماؤهم عليها. في الرواق، طوّقوا «مسرح الجريمة» بالشريط الأصفر التي تستعمله الشرطة في مثل هذه الحالات، وقد وُضع على الأرض جثة زائفة ملطّخة بالدماء وقعت ضحية جريمة قتل. يتعلّم هؤلاء الفتيان والفتيات درساً عن الحمض النووي من خلال استخدام بصمات الأصابع. وقد طلب أستاذ العلوم من التلاميذ الاضطلاع بدور محققين جنائيين صغار، يترتب عليهم جمع بصمات الأصابع من مسرح الجريمة وتحليلها.
لقد فوّت ذلك الدرس عن الحمض النووي عندما كنت في الصف الخامس. وعندما سألت المديرة ان كان جزءاً من المنهج الدراسي الوطني، أجابتني بالنفي. وقالت انها حظيت بكل بساطة بأستاذ علوم بارع، وهي تعلم أن سنغافورة تسعى بجهد لتوسيع صناعات قطاع التكنولوجيا البيولوجية، ورأت أنه من المفيد دفع الطلاب في الاتجاه ذاته في وقت مبكر. وقام البعض من التلامذة بتفقّد بصمات أصابعي. كنت بريئاً - ولكنني كنت منبهراً كذلك.
انها مدرسة رسمية عادية، ولكن مديرتها توصلت إلى الربط بين «ماهية العالم الذي أعيش فيه» و«ما المكانة التي تسعى بلادي إلى شغلها في هذا العالم» وبالتالي، «ما الأمور التي يفترض بي تعليمها إلى الصف الخامس في مجال العلوم».
فوجئت بذلك لأن هذا النوع من ربط الأفكار غالباً ما يكون مفقوداً في السياسة الأميركية اليوم. ويفضّل الجمهوريون الحدّ المفرط من الانفاق الحكومي فيما يقومون باعفاء الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وموازنة الدفاع. يعدّ هذا الأمر غير واقعي ويشير إلى أن أولويات أمتنا يجب أن تتمحور حول تمويل دور العجزة للكبار في السن عوضاً عن تمويل المدارس الفضلى للشباب، وحول بناء المدارس الجديدة في أفغانستان قبل ألاباما.
وضع الرئيس باراك أوباما رؤية ذكية ومقنعة للأولويات الأميركية. ولكنه لم يأتِ على ذكر كيف وأين سنضطر إلى الحدّ من الانفاق أو الاستثمار - بشكل ذكي وعلى نطاق واسع - من أجل تنفيذ هذه الرؤية.
ان سنغافورة دولة صغيرة ولا تمت للنموذج الديمقراطي الأميركي بصلة. ولكن على غرار الولايات المتحدة، ان شعبها متعدد الاثنيات - الصينية والهندية والملايوية - ويتألف من طبقة عاملة كبيرة. كما أن هذه الدولة لا تتمتع بموارد طبيعية وتضطر حتى إلى استيراد الرمال بهدف البناء. الا أن نصيب الفرد من الدخل فيها اليوم أدنى بقليل من المستويات الأميركية ويستند إلى الصناعة العالية الجودة والخدمات والصادرات. لقد عرف اقتصاد سنغافورة في السنة الفائتة نمواً بنسبة 14.7%، بفضل الصادرات الطبية الأحيائية. لمَ؟
اذا كان لسنغافورة أن تلقّن الولايات المتحدة درساً واحداً، فهو كيفية أخذ الحكم على محمل الجدّ، ومواصلة طرح السؤال التالي: ماهية العالم الذي نعيش فيه وكيفية التأقلم معه لتحقيق الازدهار. وفسّر الخبير الاقتصادي تان كونغ يام الأمر على النحو التالي: «نحن مثل الأشخاص الذين يعيشون داخل كوخ خشبي لا يحتوي على أي مادة عازلة. نشعر بكافة التغييرات الطارئة في الرياح أو درجات الحرارة وعلينا التأقلم مع هذا الوضع. أما أنتم الأميركيون، فما زلتم تعيشون في منزل من قرميد نعم بالتدفئة المركزية ولا شيء يدفعكم إلى الاستجابة لما يحصل». ولم نفعل ذلك على الاطلاق.
لعل سنغافورة تتمتع بالسوق الأكثر تحرراً في العالم، فهي لا تؤمن بضرورة فرض التعرفة الجمركية على الواردات أو الحد الأدنى للأجور أو التأمين ضد البطالة. لكنها تؤمن بأن الأجهزة التنظيمية تحتاج إلى السهر على حسن سير العمل في الأسواق - لأن الأسواق تعجز عن الاضطلاع بهذه المهمة بمفردها - وتدعم ملكية المنازل والتعليم مالياً من أجل منح شعبها أساساً للاعتماد على الذات. فقد نسخت سنغافورة النموذج الألماني الذي يسعى لحث الطلاب الذين تخرجوا من المدارس الثانوية على الانخراط في التعليم العالي ولكن 40% منهم فقط يرتادون الجامعات. أما البقية فينقسمون بين معاهد الفنون التطبيقية والمعاهد المهنية. ويتمتع بالتالي معظم هؤلاء الخرّيجين بالمهارات الضرورية للحصول على عمل في مجال السباكة أو العلوم.
وفسّر رافي مينون، الأمين الدائم لوزارة التجارة والصناعة في سنغافورة، الأمر على النحو التالي: «ان المفهومين اللذين يقدّمان ربما التفسير الأمثل لمقاربة سنغافورة هما: البراغماتية - أي التشديد على النظريات الناجحة عوضاً عن النظريات التجريدية، والانتقائية - أي الاستعداد لتكييف الممارسات الفضلى من حول العالم مع المضمون المحلي».
انه مزيج متطوّر من السوق الحرة الجذرية والدولة الحامية الذي يستوجب تطبيقه صانعي السياسات المثقفين. ولهذا السبب لا يتعاملون هنا مع السياسات كما لو كانت نوعاً من الرياضة أو الترفيه. وترتبط أجور البيروقراطيين الرفيعي المستوى والوزراء بأجور القطاع الخاص المرتفعة، ويجنون بالتالي ما يفوق المليون دولار في السنة. كما ترتبط مكافآتهم بمعدل النمو السنوي للناتج المحلي الاجمالي، ما يعني أن الحكومة قادرة على جذب الفنّيين من أصحاب الكفاءات العالية ونسبة الفساد فيها منخفضة.
ما كانت الولايات المتحدة ستنسخ ولن تنسخ السياسات في سنغافورة التي تفتقر إلى الحرّية. ولكن هذه الدولة قادرة على تعليمنا درساً هاماً في «السلوك» - وفي أخذ الحكم على محمل الجدّ والتفكير بشكل استراتيجي. كنا نفعل ذلك في السابق وعلينا أن نفعل ذلك من جديد لأن المنزل الصغير من القرميد الذي نعيش فيه والذي يحتوي على التدفئة المركزية لن يتمكن من مقاومة العواصف لوقت طويل.
يقول كيشور محبوباني، عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة، «ثمة ارتباك فعلي هنا اليوم حيال الولايات المتحدة لأننا كسبنا كافة المهارات الضرورية لبناء مجتمع يؤدي وظيفته منكم. فقد تخرّج عدد كبير من كبار المسؤولين في بلادنا من كلية كينيدي في جامعة هارفرد. وقد عادوا بكل بساطة إلى موطنهم وأقدموا على تطبيق دروسها».
الوطن القطرية
الموضوع مهم ويحتاج الاهتمام