الفصل الأول: ماهية جسم الإنسان.
يجمع كل من رجال العلم وفقهاء القانون على أن المقصود بالإنسان هو الشخص الطبيعي أو الذات الناطقة المتكونة من عنصرين هما الجسد و الروح, ولا مجال للكلام عن أحدهما دون الآخر. ولا مفر من الإدراك أن جسم الإنسان الذي هو محل لمختلف التصرفات ومناط للحماية الجنائية ما هو إلا عبارة عن جسم مركب مادي بما يحمله من أعضاء وخلايا, وهو جسم معنوي يمثل النفس بما تحمله من عواطف وأحاسيس وميول, ولهذا ارتأينا في هذا الفصل أن نتناول ماهية جسم الإنسان بدءا من مكوناته ثم إلى حياة هذا الجسم عبر مختلف أطواره.
المبحث الأول: مكونات الجسم البشري
-يحاول الكثير من الفقهاء إلى يومنا هذا معرفة مكونات الجسم البشري، فمنهم من قسمه إلى أعضاء يابسة وسائلة وشعر، ومنهم من قسمه بالنظر إلى مناط الحماية الجنائية له إلى أعضاء ضرورية وأعضاء غير ضرورية، والحقيقة أن جسم الإنسان يتشكل من عناصر حية مترابطة ومتناغمة من الأنسجة والخلايا أبدعها الخالق سبحانه وتعالى في صورة تدل على العظمة لقوله تعالى " ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" ولهذا قسمنا هذا المبحث إلى مطلبين فنتناول في مطلب أول تحديد مكونات الجسم البشري في شقه المادي، وفي مطلب ثاني الشق النفسي من الجسم.
المطلب الأول : الجانب المادي لجسم الإنسان:
يقصد بالجانب المادي للجسم الكيان الذي تصب فيه الحياة ، وطبقا لهذا التعريف فإن الجسم يتكون من خلية ونسيج وعضو، وتعتبر الخلية الوحدة الأساسية في تكوين جسم الإنسان بتجميعها وارتباط بعضها ببعض تتكون الأنسجة المادية المختلفة، والنسيج هو عبارة عن خليط من المركبات العضوية كالخلايا والألياف التي تعطي في مجموعها ذاتية تشريحية تتفق وعمله كالنسيج الصام العضلي العصبي. أما العضو فهو مجموعة العناصر الخلوية المختلفة والمتشابكة للجسم والمقسمة إلى أعضاء آدمية ومنتجات بشرية.
الفرع الأول: الأعضاء الآدمية
لقد طرأ على مفهوم فكرة العضو بالنظر للتطور الهائل والسريع للعلوم الطبيعية تغيير كبير في مفهومه. فكلمة عضو يرجع أصلها البيولوجي إلى القرن الخامس عشر وهي كلمة مشتقة أساسا من كلمة organon ومعناها الأداة أو الآلة التي تستخدم في العمل .
فمادة الجسم هي عبارة عن أنسجة وعناصر حية (خلايا) تتميز بترابط وانسجام وتكامل أبدعها الخالق سبحانه وتعالى، وتعد الخلية الوحدة الأساسية في تكوين الجسم الإنساني، وعليه فإن اجتماع وارتباط مجموع خلايا الجسم والتحام بعضها ببعض تكون كل الأنسجة المختلفة. أما العضو فهو عبارة عن مجموعة من العناصر الخلوية المختلفة والمتشابكة والقادرة على أداء وظيفة1.
وما يزال الغموض يكتنف أركان جسم الإنسان، وجل التشريعات العالمية وبما فيها التشريع الجزائري كل ما وصلت إليه هو تعريف الأعضاء من خلال ذكر عناصر ومكونات الجسم، ولذلك فإن مفهوم الأعضاء في هذه التشريعات لا يعدو أن يكون أحد العناصر مثل الكبد، القلب والرئة والبنكرياس والنخاع العظمي و العين والقرنية والجلد، أو بمفهوم آخر كل ما تضفي عليه لوائح وزارات الصحة وصف العضو غير أن تعريف العضو من خلال تعداد مكونات الجسم أمر خطير يثير الكثير من المشاكل القانونية لأنه قد يجعل مثلا سرقة شريحة جلدية صغيرة كسرقة إحدى الكليتين أو قرنيات العين.
ويذكر الأستاذ كاريل في هذا الخصوص أن فكرة العضو أي عضو جسم الإنسان لا تتحدد بمحدودية كيانه المادي فقط بل يشمل كل ما يفرزه، أما تكوين العضو وأداءه لوظائفه فيعتمد إلى حد كبير على سرعة الأعضاء الأخرى في امتصاص المواد التي يفرزها هذا العضو.
والعضو في المفهوم الطبي هو الجزء المحدد في جسم الإنسان، والذي يقوم بتأدية وظيفة محددة أو عدة وظائف في نفس الوقت، وتقوم الأعضاء والأنسجة، بأداء الوظائف الحيوية بالنسبة لبقاء الإنسان سواء كانت هذه الأعضاء من النوع الفيزيولوجي، أو السيكولوجي.
ويعتبر التعريف الذي جاء به المشرع الإنجليزي هو فقط التعريف الذي يمكن الأخذ به، إذ نص في المادة 07 فقرة02 من قانون تنظيم نقل وزراعة الأعضاء لعام 1989" يقصد بكلمة عضو في تطبيق أحكام هذا القانون كل جزء من الجسم يتكون من مجموعة مركبة ومتناغمة من الأنسجة والذي لا يمكن للجسم استبداله بشكل تلقائي إذا ما تم استئصاله بالكامل2.
وتبدو أهمية هذا التعريف الرائد أنه يسهل لنا عملية التكييف وتحديد المسؤولية الجنائية في جرائم الاعتداء على سلامة الجسم أو المساس أو التصرف فيه.
كما تجدر الإشارة إلى أن هناك أعضاء اصطناعية يمكن وزرعها في الجسم في حالة فقدان الإنسان لأحد أعضائه التي تؤدي وظيفة صعبة، قد تكون هامة أحيانا فلابد من تعويضها بعضو صناعي لأداء وظائفها، والأعضاء الصناعية نوعان نوع يوضع على سبيل الزينة واستكمال الهيئة كالعيون الزجاجية والشعر المستعار ونوع ثاني يستعمل لأداء وظيفة مفقودة، كالمفاصل الصناعية والأسنان، فهو عبارة عن إحلال عضو أو جزء من عضو طبيعي تالف بعضو صناعي آخر مصنوع من معدن أو بلاستيك، لأداء وظيفة جمالية أو عضوية، وإن كان هناك اختلاف في تقرير الحماية الجنائية للأعضاء الصناعية فالفقه الألماني جعل لها حماية شاملة كالأعضاء الطبيعية، باعتبارها تؤدي نفس الوظيفة، في حين ذهب البعض الآخر إلى انتفاء ذلك طالما أن العضو الصناعي ليس خاضعا لسلطات الجهاز المركزي، وإنما يقوم بوظيفة اجتماعية لا بيولوجية.
وهذا ما يدعونا إلى تنبيه المشرع الجزائري حول ضرورة إيجاد نصوص جنائية خاصة تحكم هذا النوع من الاعتداءات، لأنها بطبيعة الحال تختلف في طبيعتها عن اعتداءات الضرب والجرح وإعطاء مواد ضارة التي أوردها في قانون العقوبات المواد 264 وما يليها، لان هذه الأعضاء تلعب دورا مهما في التكامل الجسدي البشري، واتصالها بالجسم يعني حاجة الجسم لها بشكل يدل على عدم قدرته الاستغناء عنها وبالتالي لا بد أن يكفل لها المشرع نفس الحماية المقررة لسائر أعضاء الجسم البشري1.
الفرع الثاني: المشتقات والمنتجات البشرية:
لقد استعملت الكثير من تشريعات العلوم الإحيائية اصطلاح المشتقات والمنتجات البشرية ويمكن تعريف هذه المشتقات بأنها كل العناصر التي لا تشكل في ذاتها وحدة نسيجية متكاملة ولا يترتب عن استئصالها فقدانها للأبد بل يقدر الجسم على إنتاجها دونما الحاجة لزرعها من جديد ويأتي على رأس هذه العناصر والمنتجات النخاع العظمي الذي هو العنصر المسؤول عن إنتاج خلايا الدم والذي يعد واحدا من مشتقات الجسم وليس أحد أعضائه2.
وبهذا المفهوم نجد أن هناك العديد من العناصر التي يصدق عليها وصف التجدد في الجسم مثل الدم والشعر وحليب الأم وخلايا الجلد وكل السوائل المنتجة داخليا ويصدق القول أيضا بالنسبة لمكونات نسيجية أخرى،والتي لا تعد من قبيل الأعضاء مثل بويضة الأنثى، وبعض خلايا العصبية فأخذ كمية من هذه الأعضاء لا يعود بالضرر على الجسم باعتبار أنها عناصر متجددة ولا يمكن تصنيفها على أنها أعضاء.
ونجد أن بعض التشريعات في مجال تكييف المسؤولية الجنائية وترتيب الآثار القانونية الناتجة عن جرائم الاعتداء على سلامة الجسم قد أظهرت الفرق بين المساس بأحد الأعضاء والاعتداء على بعض المشتقات3 وعلى رأسها المشرع الجنائي الفرنسي والذي بمناسبة القانون الجديد 654/94 المؤرخ في 29/03/1994 قد أدرك وجوب وضرورة التمييز بين أعضاء الجسم وسائر المشتقات والمكونات البشرية وذلك من خلال إفراده تشريع مستقل خاص بنقل الأعضاء ونصوص قانونية خاصة تتعلق بمشتقات الجسم و منتجاته4ولعل وجود المادة 671 من قانون الصحة الفرنسي، يدل على اعتراف المشرع الفرنسي بوجود اختلاف كبير بين الأعضاء ومنتجات الجسم الأخرى وذلك من خلال إفراد تشريع مستقل خاص بنقل الأعضاء، ونصوص قانونية خاصة تتعلق بمشتقات الجسم ومنتجاته.
وفي هذا الإطار فإن المادة الأولى والوحيدة التي أوردها المرسوم رقم 904 الصادر بتاريخ 04أوت 1995 والخاص ببيان منتجات الجسد البشري غير خاضعة لأحكام نصوص العنوان الأول من الكتاب السادس من قانون الصحة العامة والذي يبين الأحكام العامة التي تحكم التبرع واستخدام عناصر جسم الإنسان المتنوعة و تنص على أنه تسري أحكام العنوان الأول من الكتاب السادس من قانون الصحة العامة على منتجات الجسم الإنسان الآتية الشعر، الرأس الأظافر، اللبن، الأسنان1.
والحقيقة أن هذا المرسوم يعتبر استثناء من القانون 654 لسنة 1994 المتعلق بتنظيم استئصال وزراعة الأعضاء مما يؤكد خضوع المنتجات إلى نظم قانونية أخرى خاصة2.
وتجدر الإشارة إلى شريعتنا الإسلامية الغراء جعلت من جسم الإنسان كله محلا للحماية في مفهومها فهي تنبسط على كل أعضائه ظاهرة أو باطنية.ذلك أن لكل عضو وظيفة أساسية يؤديها ولا وجود لعضو لا قيمة له أو لا يؤدي أي دور أو نفع فربما تتفاوت المنافع غير أنها جميعا بدون استثناء تحظى بنفس الحماية لذلك يتساوى الاعتداء على كافة الأعضاء3.
وتكون الشريعة الإسلامية السباقة إلى التفريق بين الأعضاء البشرية في المفهوم الحديث السابق الإشارة إليه وبين منتجات الجسم الأخرى كالدم والجلد والشعر وحليب الأم. وغيرها غير أن إيجاد تعريف للعضو البشري عند فقهاء الإسلام القدامى لم يتعدى حد التفريق بين الأعضاء الجامدة والأعضاء السائلة وبين أعضاء ضرورية وأخرى غير ضرورية.ولهذا حاولنا إيراد بعض التعاريف الحديثة في مفهوم فقهاء الشريعة الإسلامية.
فقد عرف مجمع الفقه الإسلامي العضو بأنه أي جزء من جسم الإنسان سواء أنسجة أو خلايا أو دماء ونحوها كقرنية العين سواء كان متصلا أو منفصلا.
كما عرف أيضا أنه " أي جزء من أجزاء الإنسان سواء كان عضو كاليد أو العين أو الكلية أو جزء من العضو كالقرنية أو الأنسجة والخلايا وسواء منها ما يستخلف كالشعر، الظفر وما لا يستخلف وسواء جامد أو سائل كالدم واللبن و سواء كان متصلا أو منفصلا.
كما عرفت الأعضاء بأنها مكونات بدن الإنسان وما يتولد منها، وهناك من عرفه كل جزء إذا نزع لم يعد لينبت.
لكن ورغم أهمية هذه التعاريف إلا أنها غير دقيقة في المفهوم الطبي الحديث فمثلا هذه التعاريف تعتبر الدم عضو بشريا وهذا غير صحيح وغير معقول من الوجهة اللغوية أو الطبية، كما أن الجلد لا يعد عضو من الأعضاء، مع أنه إذا نزع من جسم الإنسان الحي عاد لينبت من جديد وفي هذا يقول الإمام القرطبي" لا خلاف بين أهل العلم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الهلاك أو التلف بالشيء الذي لا مضرة فيه على صاحبه ويؤدي إلى بلوغ المرام وهو واجب يقع على الجماعة فرض كفاية 1.
والحقيقة أن الشريعة الإسلامية عالجت مشاكل التبرع ببعض المشتقات ومنتجات الجسم، ولكن نظرا للتعارض بين المصالح المتوقعة والمفاسد الواقعة فإن فقهاء الشريعة الإسلامية أباحوا ادخار الدم بعد التبرع به في المجتمعات خاصة لحفظه واستعماله لدواعي الحاجة ومقتضيات الضرورة.
المطلب الثاني: الجانب النفسي لجسم البشري
الإنسان هو مجموع عواطف باعتباره يحس ويشعر وله رغبات و اهتمامات كما يدرك ما حوله من أشياء وأشخاص يتصور ويتخيل وكل هذه هي مظاهر ذاتية للإنسان2.
وذهب أفلاطون إلى أن النفس لا تعتبر مادية بخلاف الجسم المادي الذي يحتويها واعتبر أن النفس والأفكار وجدت قبل الإنسان وهي مستقلة عنه تسكن الجسد خلال الحياة 3.
وعلى هذا ارتأينا في هذا المطلب أن نتناول تكوين جهاز النفسي, وعلاقة النفس بجسم الانسان.
الفرع الأول: تكوين الجهاز النفسي.
ينقسم الجهاز النفسي حسب سيجموند فرويد إلى 03 أقسام لكل قسم وظيفة يؤديها ودور في سير الحياة النفسية للإنسان وهي:
1- الهو: وهو الوعاء الحاوي لكافة الغرائز والميول والنزعات الفطرية لدى الإنسان والذي يميل إلى إشباع الرغبات دون أي اعتبار للمثل والقيم المعروفة.
2- الأنا: وهو الجانب الذي يواجه العالم الخارجي, فيتأثر به ويشرف على الحركة الإرادية في جسم الكائن الحي.
3- الأنا الأعلى: وهو الوعاء الحاوي للقيم والمثل العليا التي تكتسب من التعاليم والقواعد الأخلاقية والذي يمثل الجانب المعنوي أو الروحي للطبيعة البشرية وهو ما يسمى بالضمير.
الفرع الثاني: العلاقة بين النفس وجسم الإنسان
في الحقيقة أن علاقة النفس بالجسد ليست علاقة احتواء أو مجرد مكون لهذا الجسم على نحو ما سبق ذكره، وإنما قد تكون هذه النفس مناط للحماية كما هو الشأن بالنسبة لحماية الجانب المادي من جسم الإنسان بأعضائه ومشتقاته البشرية، وإذا نظرنا من الناحية العقلية للشخص نجد أن هناك بعض التصرفات الماسة به والتي تشكل في أحيان كثيرة اعتداء مثل الاعتداء على المخ، باعتباره مركز توجيه، مما يؤدي إلى خلل في الصحة العقلية, وفي نفس الوقت الاعتداء الواقع على الجهاز العصبي ويكون له تأثير كبير على شخصية الإنسان في حد ذاتها4.
كما توجد وسائل أخرى كالتنويم المغناطيسي و يستند عليه للتأثير المباشر في العقل الباطن ومعرفة أسباب الأعراض النفسية التي يشكو منها المريض ويقصد به عملية افتعال لحالة نوم غير طبيعي، يصاحبه تغيير في حالة النائم نفسيا و جسمانيا و انطماس الذات الشعورية للنائم وبقاء ذاته اللاشعورية تحت سيطرة ذات خارجية هي ذات التنويم المغناطيسي 1.
وكذلك جهاز كشف الكذب الذي يستخدم لكشف الحقائق و دلك بالتأثير على إرادة الفرد في الإفصاح عما لا يريد قوله ودلك عن طريق ملاحظة التغيرات الفيزيولوجية و التي تمكن من معرفة كذب الشخص ويتم طرح أسئلة معدة إعدادا خاصا ويقوم الجهاز برصد نبضات الضغط والتنفس وضربات القلب ومعدل إفراز العرق2. وكل هده التصرفات تمس بنفسية الإنسان وتؤثر على إرادته وتجعله واقعا تحت تأثير إرادة خارجية تضعف من قدرته على التحكم فيما يفصح عنه وهو ما يشكل حقيقة إكراه معنوي, وبالتالي فان علاقة النفس بالجسد وطيدة والاعتداء على النفس يعني الاعتداء على الجسم والعكس،فالنفس هي الروح ولا وجود للجسم من دون روح.
المطلب الثالث: موقف المشرع الجزائري من مكونات الجسم البشري.
إن المشرع الجزائري وإن حاول تبين مكونات جسم الإنسان فإنه لم يصل إلى الدقة والوضوح اللازمين سواء في قانون العقوبات الذي يتضمن الحماية القانونية والجنائية للجسم، أو قانون الصحة الذي يعالج جسم الإنسان من الناحية الطبية البحتة لذلك نحاول التطرق إلى قانون العقوبات في فرع أول، ثم قانون الصحة في فرع ثاني.
الفرع الأول: موقف المشرع الجزائري في قانون العقوبات
تنص المادة 264 من الأمر 66/156 من قانون العقوبات لسنة 1966 على ما يلي " كل من أحدث عمدا جروحا بالغير أو ضربه أو ارتكب أي من أعمال العنف أو التعدي يعاقب بالحبس من شهر إلى خمس سنوات وبغرامة من 500 إلى 10.000 دج أو إذا نشأ عن هذه الأنواع من العنف مرض أو عجز لمدة تزيد عن 10 أيام ...."3.
"- يجوز علاوة على ذلك أن يحرم الفاعل من الحقوق الواردة في المادة 14 من قانون العقوبات من سنة على الأقل إلى 5سنوات على الأكثر.
وإذا ترتب عن أعمال العنف الموضحة أعلاه فقد أو بتر أحد الأعضاء أو الحرمان من استعماله أو فقد إبصار إحدى العينين أو أية عاهة مستديمة أخرى يعاقب الجاني بالسجن المؤقت من 05إلى 10 سنوات"
من خلال قراءة هذه المادة نجد أن المقصود بالعضو في مفهوم المشرع الجزائري لا يخرج عن نطاق الأعضاء التي يدرج الإنسان على استعمالها في حياته اليومية كاليد الساق والرأس والعينين.
وبالتالي فإن المادة 264 غير واضحة في تحديد ما المقصود بالعضو، وما اعتماد المشرع الجزائري على المترادفات إلا دليل على عدم الوضوح، لأنه لا يوجد فرق بين بتر أحد الأعضاء أو الحرمان من استعماله لأنه في كلتا الحالتين فإن حياة العضو تكون قد انتهت ورغم كل هذا فإن المشرع وفي التعديلات اللاحقة لم يعمل على مسايرة التطورات في ميدان العلوم الطبية، وخاصة في مجال نقل وزرع الأعضاء البشرية.
وما يمكن استخلاصه بأن هذه المادة لا تخلو من العمومية وعدم الدقة، فهي لا تفرق بين الأعضاء وبين مشتقات الجسم ومنتجاته الأخرى وعليه فإن مفهوم الجروح الذي جاء في المادة هو مفهوم غير دقيق، فالجروح قد يتعرض لها العضو ولا يمكن تصور وقوع جروح على مادة الدم أو الحليب الأم أو البول. وبذلك فإن المشرع لا يفرق بين عضو له دور أساسي في حياة الجسم، وسير الوظائف العادي وعضو له دور ثانوي ويمكن الاستغناء عنه.
وكما يبدو فإن قانون العقوبات الجزائري من خلال تصفح المواد 264ومايليها نجد بأنه ينظر إلى مكونات الجسم دون تفرقة بين الأعضاء والمنتجات الأخرى ويرى أن أي اعتداء على أي عضو في مفهومه هو اعتداء على الحق في سلامة الجسد
الفرع الثاني: موقف المشرع الجزائري في قانون الصحة:
من خلال تفحص نص المادة 165 من قانون حماية الصحة لسنة 1990 التي تنص " يمنع القيام بانتزاع الأنسجة أو أعضاء بهدف الزرع....".نجد أن قانون الصحة الجزائري لم يأتي بالشيء الكثير حول مدلول مكونات جسم الإنسان، كون المادة 165السابقة الذكر لم تحدد المكونات المادية للجسم ولم تعطي مدلول واضح لتعريف العضو، وإنما نلمس أن مكونات الجسم ليست كلها أعضاء.
إضافة إلى هذا نجد وجود ارتباك لدى المشرع في هذا الخصوص بين نص المادة 264 من قانون العقوبات ونص المادة 165 من قانون الصحة لسنة 1990 إذ أن مفهوم هذه الأخيرة تؤكد عدم انحصار مكونات جسم الإنسان في الأعضاء فقط سيما بذكر مصطلح الأنسجة في حين أن نص المادة 264 يحصر هذه المكونات والتي تعد محلا للحماية في الأعضاء فقط، وهو ما يجعلنا نقول بان القانون ينظر إلى سلامة الجسم من خلال قيام الحياة بواسطة السير الطبيعي لأداء الوظائف الحيوية وعليه فإن أي تصرف يؤدي إلى شل حركية قدرة العضو على أداء الوظيفة، هو اعتداء على الحق في سلامة الجسم ولو لم ينتج عن ذلك الاعتداء أي أثر مادي.
ولعل سبب هذا النقص والدقة في توضيح مفهوم العضو يرجع حسب اعتقادنا إلى أن المشرع الجزائري لا يرى الجسم هدفا للحماية بل هو مجرد وسيلة لحماية وظائف يؤديها.
المبحث الثاني: حياة الجسم البشري
إن جسم الإنسان إذا اعتبرناه عبارة عن بنيان يتكون من مجموعة منسجمة أو متناسقة من الأنسجة والخلايا والمكونات البشرية المتنوعة تشكل في مجموعها الأعضاء الخارجية والداخلية وكافة المشتقات و المنتجات الآدمية. وطالما فانه بدلك محل للتصرف فيه، فلا بد من معرفة متى نكون بصدد تصرف في جسم حي ومتى نكون بصدد التصرف في جثة، وعليه نحاول معالجة ذلك بالتطرق إلى صعوبة تحديد لحظة بداية الجسم، ونهايته.
المطلب الأول: صعوبة تحديد لحظة بداية الجسم.
يقول الله تبارك وتعالى " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين"1.
يتضح من هذه الآية أن مراحل تكوين الإنسان عديدة تبدأ بالتقاء الحيوان المنوي بالبويضة مرورا بالنطفة فالعلقة، فالمضغة حتى بداية نهاية اكتمال تكوين الجسم على الصورة التي يولد عليها الإنسان.
والواقع أنه يجب التفريق بين مرحلتين أساسيتين في تكوين الجنين بحيث تتميز كل مرحلة بترتيبها لآثار قانونية مختلفة عن المرحلة الأولى2.
الفرع الأول: مراحل تكون الجسم.
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل اكتمال الجنين:
هذه المرحلة تتميز بأحكام خاصة إلا أن هناك جريمة واحدة قد نتصورها في هذه المرحلة مبدئيا وهي جريمة الإجهاض، التي قد تتعرض لها المرأة بالقوة أو لأسباب صحية تتعلق بها أو بمولودها.
ولعل الإشكال الذي يثور هنا والذي كان محل خلاف هو متى يبدأ تحديد محل الجريمة هل بمجرد عملية التلقيح أم يتراخى إلى ما بعد ذلك، ومتى نكون بصدد جريمة إجهاض ومتى نكون أمام جريمة المساس بالجسم البشري 3.
غير انه في هذا المجال ليس من المعقول إهمال مرحلة الإخصاب قبل تكوين الجنين أصلا وذلك لما توصل إليه العلم الحديث، أين نجد إمكانية حدوث الإخصاب خارج رحم الام بداخل أنبوب وهو ما يؤدي بصورة آلية إلى التساؤل هل يمكن اعتبار المساس والتصرف بعناصر هذا الإخصاب تعديا مباشرا على السلامة الجسمية لكل من الرجل والمرأة ؟.
لذلك وجب التفريق بين الإجهاض والاعتداء على الجسم البشري بمعناه الواسع ولا يتأتى ذلك إلا من خلال التحديد الزمني لكلا الجريمتين وبداية كلا منهما.
المرحلة الثانية: مرحلة اكتمال تكوين الجنين:
في هذه المرحلة نحن بصدد التكلم عن ميلاد جسم بشري في صورته المكتملة داخل الرحم وتأهبه للانفصال، وهذا الطور بدوره يثير الكثير من التساؤلات خاصة من حيث تكييف أفعال الاعتداء والتصرف بالجسم البشري.
فهناك من يرى وجوب اعتبار الاعتداء الواقع على جسم الجنين في هذه المرحلة مجرد جريمة إجهاض، لأن الجنين لم ينفصل عن أمه 1، وهناك من يرى بأن الجنين الكامل مثله مثل الإنسان العادي وهم سواء، بحيث يتمتع الجنين في هذه المرحلة بنفس الحماية الجنائية وأي اعتداء أو مساس مضر بسلامة جسمه يخضع في تكييفه لجرائم الاعتداء والجرح والضرب وكذا القتل.
ومن خلال ما سبق يتضح ما للحظة وجود الجسم البشري من أهمية خاصة وأن هذه اللحظة هي التي يتقرر بموجبها نطاق الحماية الجنائية المقررة ضد المساس بالسلامة الجسمانية، خاصة في تكييف أفعال الاعتداء على الحياة للتمييز بين القتل والإجهاض وما ينتج عن ذلك من آثار قانونية مختلفة خاصة من حيث العقوبة 2، لأن أغلب القوانين الجنائية في الدول خاصة التي تجرم الإجهاض مستقلا عن القتل وتعاقب على قتل المولود أو الإنسان الحي المكتمل النمو والمنفصل عن أمه بعقوبة أشد من عقوبة قتل الجنين.
كما أن تحديد لحظة وجود الجسم أخذت نصيبا وافرا من شريعتنا الغراء ومن اجتهاد فقهائنا الذين ميزوا بين مرحلتين من مراحل تكوين الجنين يترتب عن كل مرحلة أثار هامة.
المرحلة الأولى : مرور 120 يوما من الإخصاب وفي هذه المرحلة يجمع فقهاء الشريعة على أن الروح لم تنفخ بعد في الجنين، مما يجعل الحماية الجنائية تتقلص إلى حد الانعدام. غير أن الشريعة أقرت عقوبة على الاعتداء على الجنين في هذه المرحلة وهي نصف الغرة3 تؤدى من الجاني إلى أم الجنين المعتدي عليه.والمشرع الإسلامي أقر هذه العقوبة مما ينبئ عن تبنيه معيار القابلية للحياة وذلك لمواجهة كل شكل من أشكال الإجهاض وفي أي مرحلة 4.
المرحلة الثانية: بعد 120 يوما من الحمل إلى بداية عملية الولادة ويجمع فقهاء الأمة على أنه بعد مرور هذه المدة تنفخ الروح في الجنين وتبدأ عملية تخلقه وتظهر معالم جسمه الصغير و تتشكل،ومن تم فإن إسقاطه أو الاعتداء عليه محرم إطلاقا ما لم يكن هناك داعيا لذلك كمراعاة صحة الأم والخوف عليها من الحمل.
ولما كان الحمل هو أساس وجود الإجهاض فإنه يفترض وجود الحمل على وجه اليقين فلا يكفي التوهم بوجوده والحمل طبعا هو الجنين وهدا الأخير هو محل الاعتداء في جريمة الإجهاض.
وتحديد بداية خلق الكائن البشري في القرآن الكريم يكون بالتقاء النطفة الذكرية والبويضة الأنثوية في الثلث الوحشي من قناة الرحم ليندمجا أثناء عملية الإلقاح، لتتشكل خلية واحدة مخصبة تسمى البويضة الملقحة أطلق عليها في القرآن الكريم لفظ الأمشاج يقول الله تبارك وتعالى" هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج لنبتليه فجعلناه سميعا بصيرا" 1.وهذا التحديد الوارد في القرآن الكريم لم تعرفه العلوم الطبية الحديثة إلا في القرن 19 ولم يتأكد إلا في القرن 20 2.
وعليه فإن الشريعة الإسلامية تكون قد سعت نوعا ما إلى تحديد لحظة بداية الجسم البشري وساعدت على التفرقة بين حالة الإجهاض وحالة القتل، واعتبرت أن حياة الجنين تبدأ بالإخصاب وباندماج الخليتين المذكرة والمؤنثة كي يتكون الجنين وتبسط عليه الحماية القانونية، وأنه ببداية عملية الولادة تنتهي حياة الجنين وتبدأ حياته العادية، وعليه فإن مجال الإجهاض وتحققه ينحصر في الفترة الممتدة إلى الإخصاب وبداية عملية الولادة فلا إجهاض قبل الإخصاب، ولا إجهاض بعد بداية عملية الولادة ولو كانت متعسرة ولم تنتهي بعد.
الفرع الثاني: موقف المشرع الجزائري:
لم يتعرض المشرع الجزائري بصدد نصه على جرائم الجرح والضرب والاعتداء وكل الجرائم الماسة بالحياة وبالسلامة الجسمانية وكذا جريمة الإجهاض إلى بيان ماهية المحل الذي تقع عليه صور السلوك ولا نلمس في أي مادة تحديد بداية الجسم وترك الأمر للاجتهادات3 القضائية وآراء شراح القانون الجنائي الذين تفرقت بهم السبل في تحديد لحظة وجود الجسم البشري، فمنهم من ذهب إلى القول بتحقق وجود الجسم مع بداية بروزه بناءا على أن الكيان المادي لوصف الجسم لا يتحقق إلا بالولادة مهما كان الانفصال عن الأم كلي أو جزئي، فبمجرد خروج جزء من أجزاء جسم الجنين يكتسب صفته الجديدة كإنسان حي وأي مساس به يجعله مناط للحماية الجنائية.
في حين ذهب البعض الآخر إلى القول بتحقق وجود الجسم باكتمال النمو والتأهب للنزول وثبوت وجوده القانوني، إذ يرون أنه بمجرد اكتمال النمو الجسماني للجنين بتأهبه لانفصال عن رحم أمه تبدأ نقطة بداية اكتساب صفة الجسم وعليه نضفي على الجنين الشخصية القانونية وبالتالي أي اعتداء أو مساس بجسمه يرتب نفس النتائج المترتبة عن الاعتداءات التي محلها إنسان حي بمفهومه القانوني عموما، وهو ما ذهب إليه الدكتور العميد محمود نجيب حسني الذي أورد " إذا كانت الولادة طبيعية تبدأ لحظة حياة الإنسان مند بداية عملية الولادة أي مند إحساس الأم بالآلام الوضع وإذا كانت الولادة غير طبيعية فتكون لحظة بدايتها تطبيق الأساليب الطبية جراحية أو غير جراحية على جسم الحامل .1
وما يمكن قوله إن هذا الاختلاف بين ما يسود التشريعات و على رأسها التشريع الجزائري من ارتباك مرده الممارسات العلمية المستحدثة، إذ أصبح الفقه الجنائي يبحث عن عناصر الركن المادي ولو أدت هذه الممارسات العلمية المستحدثة إلى جرائم 2.
غير انه بالرجوع إلى القانون المدني في مادته 25 والتي تنص على " تبدأ شخصية الإنسان بتمام ولادته حيا وتنتهي بموته"3. فإننا نجد أن المشرع الجزائري يحدد بداية الشخصية القانونية والتي يكتسب من خلالها الشخص كافة حقوقه ويترتب عليها التزاماته، والتي تبدأ بتمام ولادته حيا غير انه ولما كان الحق في سلامة الجسم من أي اعتداء هو من ألزم الحقوق اللصيقة بالشخصية فإنه يدور معها وجودا وعدما فيثبت حال وجودها ويسقط حال انعدامها، غير أن شروط اكتساب الشخصية في مفهوم هذه المادة يثير الكثير من الجدل فأولى الشرطين هو الولادة والولادة هي انفصال الجنين عن جسم أمه انفصالا تاما بقطع الحبل السري ليصبح مولودا إذ لا يكفي في مفهوم هذه المادة خروج جزء من المولود لإضفاء الشخصية القانونية عليه، ويبدو أن المشرع الجزائري ساير المشرع الإنجليزي الذي يجرم الاعتداء على الجنين معتبرا إياها قتلا بعد انفصاله عن أمه انفصالا تاما، كما يبدو أن هذه المادة 4 لا تساير مقتضيات العصر العلمية لأنها وكما قلنا سابقا فان العلم قد توصل إلى إمكانية المحافظة على تطور نمو الجنين بتوفير كل مقتضيات النمو له حتى خارج رحم الأم عن طريق الأنبوب أو إجراء عمليات الاستنساخ البشري.
المطلب الأول: صعوبة تحديد لحظة نهاية الجسم.
نحاول في هذا المطلب معالجة مشكلة تحديد لحظة نهاية الجسم التي ما زالت إلى يومنا هذا تثير العديد من الإشكالات خاصة في ظل التطور العلمي، ذلك أن مبدأ حرمة الكيان الجسدي ليس مبدأ جامد وإنما هو مبدأ مرن جدا يتعامل مع كل حالة على حدى خاصة إذا علمنا أن جل التشريعات المقارنة تبيح نقل الأعضاء من الموتى ففي فرنسا أصبح الأمر مباح بموجب القانون رقم 1181-76.كما أجاز القانون رقم 130 سنة 1946 تسليم الجثة للجهات العلمية لإجراء الدراسات التشريحية والتطبيقية عليها 1 .
إضافة إلى أن هذا المبدأ لا يفرق بين الجسم ككائن مادي حي وبين الجثة ككائن ميت لهذا نجد الكثير من الفقهاء يرون بأن الاعتداء على الجثة للمحافظة على الجسم وصيانته هي مصلحة أولى بالرعاية من المحافظة على مبدأ الحرمة على إطلاقه وهذه المصلحة هي إنقاذ الأنفس من الهلاك وحفظ بقاءها لحفظ استمرارية بقاء النسل البشري2 .ولهذا قسمنا هدا المبحث إلى فرعين نتناول في فرع أول تعريف الوفاة باعتبارها الفاصل بين حياة الإنسان ونهايته وفي فرع ثاني نتناول موقف المشرع الجزائي من نهاية الجسم البشري.
الفرع الأول: تعريف الوفاة.
اختلفت المفاهيم حول إعطاء الوفاة تعريف موحد فعرفت حسب منظور كل اتجاه فهناك من أعطاها تعريفا قانونيا، وهناك من عرفها من المفهوم الطبي البحت وعليه سنتطرق إلي المفهومين معا
1-التعريف القانوني للوفاة:
إن أغلبية التعاريف التي أعطت تعريفا للوفاة وصلت إلى أن الوفاة تعني توقف مظاهر الحياة في الجسم غير أن أغلبية الدراسات القديمة ربطت هذا التعريف بالاعتماد على المبادئ الدينية والفلسفية3.
لهذا فتعريف الوفاة من الناحية القانونية كان دائما مرتبطا بالشخصية القانونية التي يكتسبها الشخص منذ ولادته،ذلك أن الوفاة هي انتهاء الشخصية القانونية، غير أن انتهاءها ما هو في حقيقته إلا أثر من آثار الوفاة. لذلك فإن لحظة الوفاة هي لحظة مجردة وتحديدها هو أمر جوهري باعتبار أن الشخصية القانونية للكائن تزول وبالتالي فإن هذه اللحظة هي لحظة رسم للحدود بين مرحلة سابقة لوفاة الجسم يتوجب احترامه فيها والعمل على شفائه ومرحلة لاحقة تسمى الجثة التي لها من الحرمة الكثير .
2-التعريف الطبي للوفاة :
الموت هو ظاهرة طبيعية ذات اتجاه واحد غير قابلة للشفاء ويتكون من التوقف المتلاحق لعدة وظائف حيوية في الجسم نتيجة فقدان الأكسجين اللازم لسير الأعضاء وتأديتها لوظائفها، 4 وعليه فالموت هو عملية تصيب الوظائف المختلفة للجسم بشكل متتابع فلا تموت مباشرة كل الأعضاء وكل خلايا الجسم، ولا تموت مع بعضها بنفس الوقت ويترجم هذا كما قلنا الحساسية الكبيرة جدا لخلايا الجسم اتجاه فقدانها لمصدر حياتها وهو الأكسجين.
ولقد حاول الكثير إيجاد تعاريف للموت دون جدوى، لذلك أصبح الأطباء لا يهتمون بإيجاد هذا التعريف وإنما ينصب اهتمامهم إلى الكشف عن أسباب هذه الظاهرة وشروطها، وهذا ما هو عليه الحال في التشريعات الجزائية التي تعرف الموت من خلال العلامات الدالة على انتهاء الجسم البشري1 والانتقال من الحياة إلى الوفاة وهو ظاهرة عملية دائمة تسيطر في الغالب على المراكز الدفاعية الحيوية و التنفسية و القلبية لتشمل على التوالي كل الجسم بأعضائه وأنسجته، وفي هذا المجال هناك من يرى بأن انتهاء جسم الإنسان يمر ب 03 حالات:
-1حالة الموت السريري: وهو موت وظيفي يصيب جريان الدم فيفقده الوعي وانعدام التنفس فتتوقف الأعضاء الحيوية في الجسم وعلى رأسها القلب الذي يتوقف عن الخفقان، غير ان المعلوم لدى الأطباء أن هذه المرحلة هي مرحلة أمل بالنسبة للمريض ويمكن إنقاذه بإتباع معايير العلمية لهذه الحالة.
-2الموت الظاهري: وهو موت كلي ومفاجئ لجميع الجسم لبضع دقائق فقط، مما يفقد الأعضاء وظائفها ويمكن في هذه الحالة اللجوء إلى تقنية الإنعاش الصناعي.
-3الموت الحقيقي: وهي مرحلة تحقق الموت بفقدان خلايا الجسم وأنسجته للأكسجين وهو ما يسمى بالموت النسيجي الحقيقي2.
غير أن هناك من يعتمد على المعايير التقليدية لتحديد لحظة الوفاة باللجوء إلى الطرق الثلاثة الشائعة، وهي طريقة الوخز بالإبر والوخز الوريدي"Eartrériotomie"، فيتعرض الجسم بالوخز الوريدي الكبير المركزي من الخارج وملاحظة ما يؤدي إليه ذلك الوخز، فإذا خرج الدم من الجسم فيعني أن الدم في حالة سير طبيعي مما ينبأ باستمرار الحياة. وأيضا طريقة إيكارد la méthode d’accard وهي مثلها مثل علامة الإيثر، بحيث أن الجسم يتعرض للحقن ببعض المواد الكيميائية ويبقى تحت ملاحظة طبيب في انتظار رد فعل الجسم.
غير أن هذه الطرق التقليدية أثبتت فشلها لأن توقف الدورة الدموية وإنعدام التنفس علامات لا تدل بالضرورة على انتهاء الجسم وتحقق الموت بالشكل اليقين، ولذلك نرى أن معيار الحديث الذي يقوم على الموازنة بين المقتضيات العلمية والحق في سلامة الجسد هو الأسلم، لأن الموت قد تغير وأصبح يمتد عبر الوقت ويصيب أعضاء الجسم الواحد تلوى الآخر. والسؤال الذي يطرح هنا هل يجب الانتظار حتى يموت الجسم بموت أعضاءه كلها وبالتالي موت كل خلايا الجسم للقول بحدوث الوفاة أم يكفي موت عضو مهم في الجسد وتتوقف عليه الحياة ؟.
الحل في الإجابة على هذه الإشكالية و هو اللجوء إلى المعايير الحديثة للموت، والتي تتمثل فيما يعبر عنه بموت الدماغ ويعد الشخص ميتا وفقا لهذا المعيار إذا أصيبت خلايا الدماغ بتلف أدى إلى توقف وظائف المخ نهائيا ولو بقيت بعض مظاهر الحياة كنبض القلب والتنفس وهو ما أخذ به المشرع الفرنسي وفقا للمرسوم رقم 96/1041 في سنة 1996 قانون الصحة 1.
أما شريعتنا الإسلامية فقد تناولت الموضوع من خلال ما ورد في عدة فتاوى وضحت مسألة نهاية الجسم، فقد أقر مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بجدة بالمملكة العربية السعودية سنة 1988 بالأخذ بالمعيار العالمي الحديث وهو موت الدماغ، حيث أورد " أن الوفاة تتحقق عندما يتعطل كل وظائف الدماغ نهائيا وبلا رجعة وتوقف القلب والتنفس." ورغم أن هذا المفهوم يجمع بين المعيارين معا إلى أننا نعتقد بأن الصياغة التي أعقبت الدورة الخامسة والعشرين لمجمع الفقه الإسلامي كانت أدق وأصوب وذلك لعدم الخلط بين أي من المعيارين فاستبدلت الدماغ بجذع الدماغ.
ويجدر بنا الذكر أنه توجد بعض الفتاوى الصادرة في الجزائر التي تحث على إباحة استئصال الأعضاء والأنسجة والخلايا من الموتى وزرعها للأحياء ومنها فتوى أصدرتها لجنة الإفتاء التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى بتاريخ 20/04/1972 تحت عنوان نقل الدم وزرع الأعضاء وجاء فيها " أن حفظ النفوس من الكليات المتفق عليها بين القوانين الوضعية والشرائع السماوية، ومن أغراض الشريعة حفظ النفس والمال والعرض والدين والعقل، إذ يجب إنقاذ الأنفس من الهلاك وذلك من فروض الكفاية على من استطاع."2 وتابعت فتوى المجلس تقول أن استعمال أعضاء من مات لا تخلو من أحوال ثلاث أوردتها في تبرع المنقول منه بعضو حيال حياته، أو تبرع بعضو ميت من طرف وليه الشرعي كأبيه وأمه وزوجه، أو إذا لم يأذن الميت بذلك حال حياته أو يأذن وليه أو السلطان فإنه يمكن أن يأذن في تشريح الجثة وأخذ الأعضاء منها إذ اقتضت ذلك المصلحة الراجحة وهذا هو الإذن العام.
كما نجد فتوى الشيخ أحمد حماني التي أصدرها في 14/02/1985 والتي أفتى فيها بجواز استعمال أعضاء المتوفين معتبرا إياها استحسان تبيحه الضرورات، غير أن مجمل هذه الفتاوى تذكر عبارة الشخص الميت دون أن تحدد معيارا لمعرفة لحظة هذه الوفاة والتي في حقيقة الأمر تثير إشكاليات كبيرة خاصة في قضايا الميراث المادة 126 من قانون الأسرة، ذلك أن المشرع الإسلامي الجزائري لا يتعامل معها بشكل جدي فهو لم يأخذ بمعيار موت الدماغ الذي سبق وأن أقره مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بجدة كما سبق القول، ولعل سبب ذلك يرجع إلى أن الأخذ بهذا المعيار يحتاج على إمكانية طبية وعلمية وهو الأمر المفتقد في معظم الدول الإسلامية
الفرع الثاني: موقف المشرع الجزائري
إن المشرع الجزائري ورغم أنه يحاول دائما مواكبة التطورات العلمية إلا أنه لم يأخذ بأي معيار علمي لتحديد لحظة الوفاة،حتى أنه في التعديل الأخير للقانون المتعلق بحماية الصحة وترقيتها 90/70 المؤرخ في 31 يوليو 1990 المعدل و الممتم للقانون 85/05 الصادر بتاريخ 16 فبراير1985 لم يتكلم عن أي معيار، وإنما عدل المادة 164 من القانون 85/05 على النحو التالي " لا يجوز انتزاع الأنسجة والأعضاء من الأشخاص المتوفين قصد زرعها إلا بعد الإثبات الطبي والشرعي للوفاة من قبل اللجنة الطبية المنصوص عليها في المادة 167 من هذا القانون وحسب المقاييس العلمية التي يحددها الوزير المكلف بالصحة العمومية".
إلا أن هذه المادة غير دقيقة في صياغتها ولم تأتي بأي جديد فالمشرع أحال بخصوص تحديد لحظة الوفاة وتعريفها إلى وزير الصحة، هذا الأخير الذي لم يصدر عنه أي شيء ينظم هذا الموضوع لذلك فإن إضافة المادة 168 فقرة أولى لا فائدة منه إضافة إلى أن هذه المادة تنص على إنشاء مجلس وطني لأخلاقيات العلوم الطبية والذي كان ينتظر منه أن يتطرق في توصياته إلى مسألة تحديد لحظة الوفاة نظرا لأهميتها البالغة سواء من الناحية القانونية أو من الناحية الطبية إلا أنه لم يبدأ عمله إلا بعد 08 سنوات منذ صدور القانون 1998.
لذلك وفي ظل هذا الفراغ التشريعي لنص المادة 164 من قانون الصحة، وفي انتظار إصدار وزير الصحة لمعايير والمقاييس العلمية يبقى المعيار التقليدي هو الغالب وتبقى المسألة بيد الأطباء يحددون
لحظة الوفاة كما يحلو لهم وبأي معيار كان.
الفصل الثاني: التصرفات الواردة على جسم الإنسان وتأثيرها على نطاق الحماية القانونية للجسم.
ليس هناك أدنى شك أن التصرف في جسم الإنسان يثير جدلا كبيرا حول مشروعيته وصحته سيما وأن محل هذه التصرفات محاط بحماية كبيرة من طرف كل التشريعات والشرائع السموية، والتصرف في جسم الإنسان قد يكون تصرفا قانونيا إراديا بالبيع، أو الهبة، أو الوصية، وبذلك فإنه يدخل ضمن الالتزامات المدنية، التي تتجه الإرادة بشأنه إلى إحداث أثر قانوني معين، وقد يكون تصرف مادي طبي والذي ما يزال يثير الكثير من النقاش، وأبرز ساحة هذه المناقشات ما يعرف بعمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية، نظرا لحساسيتها لأنها تتصل بالأحياء والأموات على حد سواء، لذلك ارتأينا في هذا الفصل تناول التصرفات الواردة على جسم الإنسان وتأثيرها على نطاق الحماية القانونية للجسم،مقسمين هذا الفصل إلى مبحثين، فنتناول في مبحث أول التصرفات القانونية الواردة على الجسم ومدى القول بصحتها ومشروعيتها، فنتطرق إلى عقد البيع، ثم عقد الهبة والوصية باعتبار هذه العقود هي الغالبة والسائدة، ثم نتناول التصرفات الطبية الحديثة سيما إقتطاع الأعضاء البشرية وعمليات التلقيح الاصطناعي ثم الاستنساخ البشري، وماهي الحماية المقررة للجسم في خضم هذه التصرفات في مبحث ثاني.
المبحث الأول: التصرفات القانونية الواردة على جسم الإنسان.
يراد بالتصرف القانوني الإرادة التي تتجه إلى إحداث أثر قانوني معين سواء ثم التصرف بإرادتين أو بالإرادة منفردة, و بذلك فهو يختلف عن العمل المادي الذي هو واقعة قانونية يرتب عليها القانون أثرا.
و لعل الحديث عن هذه التصرفات القانونية , ادا ما تعلق الأمر بجسم الإنسان يكون مجالها الخصب الأعضاء البشرية, لأن الجسم ما هو إلا الوعاء الحاوي لهذه الأعضاء, التي تمثل حياته و نهايته لذلك ارتأينا في هذا المبحث, التطرق إلى أهم التصرفات القانونية فنتناول في مطلب أول الأعضاء البشرية موضوع عقد ملزم لجانين مركزين في ذلك على عقد البيع باعتباره من أهم العقود المتصور ورودها على الأعضاء الأدمية, ثم نتناول في مطلب ثان الأعضاء البشرية موضوع عقد ملزم لجانب واحد, سيما عقد الهبة و الوصية, ثم نخلص في مطلب ثالث إلى موقف المشرع الجزائري من فكرة التصرف القانوني في الأعضاء البشرية.
المطلب الأول: الأعضاء البشرية موضوع عقد ملزم لجانبين (معاوضة)
إن الأصل في العقود هو سيادة مبدأ الرضائية, إذ يكفي لانعقاد العقد وجود التراضي الصحيح و المحل و السبب, و يعتبر عقد البيع أهم تصرف يمكن وروده على جسم الإنسان, و يخضع هذا العقد شأنه شأن باقي العقود إلى نفس هذا المبدأ, و لعل التعاقد على بيع الأعضاء الآدمية يطرح الكثير من التساؤلات حول شروط محل العقد كالوجود و التعيين و المشروعية و الطبيعة. و هل يخضع هذا الجزء الآدمي إلى هذه النظرية العامة؟ و بالنتيجة هل يجوز قانونا بيع الأعضاء الآدمية؟ سنخوض في هذا المطلب من خلال تقييمنا لمختلف التشريعات المقارنة التي تناولت هذا العقد. فنتناول في فرع أول موقف القوانين المؤيدة لبيع الأعضاء البشرية, ثم موقف المعارضين لبيع الأعضاء البشرية في فرع ثان.
الفرع الأول: موقف القوانين المعارضة ليبع الأعضاء البشرية
إن مسالة بيع الأعضاء البشرية لقيت اهتماما كبيرا لدى القوانين و التشريعات المقارنة فاتجهت الآراء بشأنها إلى معارض و مؤيد. و الحقيقة أن أغلب التشريعات العالمية تحرم بيع الأعضاء البشرية و تختلف هذه التشريعات في رفضها لهذا العقد حول أساس التبرير أو الحجة, فهناك من يحرمه من منظور قانوني بحث، و هناك من يحرمها من منظور شرعي، و لهذا سنتناول كلا الحجتين.
أ- الأساس القانوني لتحريم بيع الأعضاء البشرية
ينطلق هذا الرأي من النظرية العامة للالتزامات, و على الخصوص نظرية العقد, فطبقا للقواعد العامة و التي تتفق بشأنها جل التشريعات, فإن عقد البيع هو عقد ملزم لجانبين يلتزم فيه البائع بنقل ملكية شيء و حق مالي آخر للمشتري مقابل ثمن نقدي.
و انطلاقا من هذا فإنه يشترط لصحة عقد البيع قيام الأركان التالية:
1- التراضي: و الذي يعبر من خلاله المتعاقدين هم البائع و المشتري عن إرادتهما في إبرام العقد و هو ما يعبر عنه بلفظ الإيجاب و القبول, و يشترط أن يصدر هذا الرضا عن كامل أهلية, و أن تكون إرادته خالية من أي عيب من عيوب الإرادة المتمثلة في الغلط و التدليس و الإكراه و الاستغلال.
2- المحل: و يقصد به ما يقع عليه التعاقد أو هو الشيء أو الحق المالي الذي يلتزم المدين بأدائه للدائن 1. و يشترط في هذا المحل أن يكون ممكنا و غير مستحيل, و أن يكون معينا أو قابلا للتعيين و مشروع و غير مخالف للنظام العام.
و معنى ذلك أنه يشترط في محل العقد أن يكون ذو قيمة مالية أي قابل للتقييم المالي و متى كان غير ذلك فإنه يعتبر غير قابل للتصرف فيه إما بحكم طبيعته و أما بنص القانون.
3- السبب: و يقصد به الغاية أو الدافع من وراء التعاقد, و يشترط القانون أن يكون هذا السبب غايته مشروعة و أن لا يمس بالنظام العام , و من أهم الأركان التي تترتب حيال تخلفه أو عدم مشروعيته البطلان المطلق لعقد البيع.
و ما ينبني على ذلك, أو بالنظر على هذا الأركان هل يمكن القول بصحة عقد الوارد على الأعضاء البشرية؟.
إن معظم التشريعات تحرم بيع الأعضاء البشرية و تعتبر أن العقد في هذه الحالة و بالنظر إلى أركانه يكون غير قانوني أو بالأحرى غير موجود أصلا, ذلك أنه حتى و إن توافر ركن رضا كلا المتعاقدين فإن باقي الأركان تقع باطلة, لأن محل عقد البيع هو العضو البشري, و بيعه غير مشروع لعدم جواز التعامل فيه أصلا, ذلك أن محل عقد البيع هو الأموال و ليس النفس.
و أن جسم الإنسان و أعضاءه ليست مالا كما أن محل عقد البيع قد يكون شيء ذو قيمة مالية في حين أن العضو البشري ليس بشيء يقيم ماليا.
و في هذا الصدد نصت المادة 01 فقرة 04 من المرسوم الاشتراعي اللبناني على أن يكون إعطاء الأنسجة و الأعضاء على سبيل الهبة المجانية غير المشروطة, و رتبت هذه المادة على مخالفة هذا عقوبة الحبس من شهر إلى سنة و الغرامة إلى عشرة آلاف ليرة أو إحدى هاتين العقوبتين 1. كما نصت المادة 03 من قانون الصحة الكويتي على أنه " لا يجوز بيع الأعضاء البشرية أو الجسم أو شراءها بأية وسيلة, "و إن كان هذا القانون لم يتطرق إلى هذه المسألة عندما نظم عملية زراعة الكلية, و إنما كان يعتمد في تحريم ذلك على قياس الفقه المدني لمحل الالتزام العقدي بمحل الالتزام عموما و الذي يلزم أن لا يخالف النظام العام و الآداب العامة بمحل عقد بيع الأعضاء البشرية و الذي يفتقد لهذه الشروط, و بذلك فإن هذا الالتزام لا يرتكز على قاعدة أخلاقية و من تمة فهو باطل و غير جائز2.
أما التشريع العراقي فإنه نظم المسألة ضمن قانون عمليات زرع الأعضاء البشرية رقم 80 لسنة 1987, إذ نصت المادة 03 منه على " يمنع بيع و شراء الأعضاء بأي وسيلة, و يمنع الطبيب الاختصاصي من إجراء العملية عند العلم بذلك". و قد رتب المشروع العراقي الجزاء على مخالفة هذا الحكم, إذ نصت المادة 04 منه "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة واحدة, و بغرامة لا تزيد عن ألف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من يخالف أحكام هذا القانون".
و للعلم فإن القانون العراقي لم ينص على هذا الحكم سابقا, على الرغم أنه و منذ 1960 و ضمن قانون مصارف العيون رقم 113 نص على حظر أي تصرف بالقرنية الواحدة, إن كانت للشخص قرنية, لأن العين الواحدة تكون في حكم العضو المنفرد الذي يؤدي استئصاله إلى عاهة مستديمة3.
أما التشريعات الغربية فإن مسألة بيع الأعضاء البشرية هي موضوع دقيق تناولته معظم القوانين بصرامة كبيرة، إذ نجد التشريع الإنجليزي Commun Low ينص على أن " الشخص لا يملك حرية التصرف القانوني بجسده، ويحظر التصرف في جثة الشخص أو العضو الجسدي أثناء الحياة".
غير أن المشرع الفرنسي ورغم غزارة منظومته التشريعية إلا أننا لم نعثر على أي نص يحرم بيع الأعضاء البشرية، إلا أن الفقه الفرنسي أخضع هذا التصرف إلى الأعمال الطبية و التي تخضع بدورها إلى النظرية العامة للالتزامات المدنية، الواردة في قانون نابليون 1804 وقانون العقوبات، فعند حصول ضرر بسلامة الكيان البدني فإنه وطبقا للمادة 07 من القانون المدني الفرنسي يقع باطلا كل اتفاق يخالف النظام العام والآداب العامة.
كما نصت المادة 1128منه على أنه " لا يمكن أن يكون محلا لا تفاق مشروع إلا الأشياء الداخلة في المعاملات المالية".
وهو نفس ما ذهب إليه التشريع الإيطالي إذ نص في المادة 04 من القانون المدني على " يمنع القيام بأي عمل يمس بسلامة الحياة والبدن لتعارضه مع مبدأ التكامل الجسدي إذا كان يصعب تداركه"1 .
وقد اتجهت بعض التشريعات إلى تحريم عقد بيع الأعضاء البشرية على أساس أن السبب الذي يعد ركن ركين في صحة عقد البيع غير مشروع، وهو ما ذهب إليه التشريع الأمريكي ضمن القانون الوطني لغرس الأعضاء لعام 1984، إذ نص على أن البيع الوارد على الأعضاء البشرية يعد باطلا لبطلان محله وسببه2.
ونلاحظ من استقراءنا لهذه التشريعات والأحكام الواردة فيها فيما يتعلق بمسألة بيع الأعضاء البشرية أنها تحرم هذا التصرف على أساس بطلان أركان العقد وبالتالي فإن أي تصرف في هذه الحالة يعد غير قانوني، و الجزاء المترتب عن ذلك هو البطلان المطلق وبالتالي ينعدم العقد، ويصبح لا وجود له سواء في مواجهة المتعاقدين أو حتى في مواجهة الغير، وحتى بالنسبة للآثار المترتبة عن ذلك وهو إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل التعاقد، فيلتزم البائع برد المبلغ الذي تقاضاه من المشتري، ويلتزم هذا الأخير برد العضو الذي تسلمه إلى البائع، إذ استحال التنفيذ العيني فإنه يلزم بالتعويض النقدي.
غير أننا نتساءل عن المقصود بالتعويض النقدي الممنوح للبائع، هل يقصد به تعويض قيمة العضو أم التعويض عن الضرر؟.
الحقيقة أن اتجاه هذا الرأي إلى تحريم بيع الأعضاء البشرية على أساس بطلان أركانه سيما ركن المحل يجعلنا نقول أن التعويض المقصود هنا يكون عن الضرر اللاحق بالبائع جراء عدم إمكانية إرجاع العضو، وليس قيمة العضو كون هذا الأخير غير قابل أصلا للتقييم المالي.
ب- الأساس الشرعي لتحريم بيع الأعضاء البشرية:
لقد اعتمدت بعض التشريعات في تحريمها لعقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية على أساس شرعي، ونهجت مجمل الآراء المعارضة لمسألة بيع الأعضاء ما ذهب إليه فقهاء الشريعة الإسلامية التي منعت بيع الأعضاء البشرية، على الرغم من أنه وإلى يومنا هذا لم يتم العثور في أدلة الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية ما يشير صراحة إلى مسألة بيع الأعضاء البشرية، إلا أن هذا لا يعني عجز الشريعة عن مواجهة التطورات الجديدة، بل يمكن الوقوف على القواعد الكلية الفقهية وما ورد فيها من حالات وأسس للوصول إلى الحكم الشرعي في ضوء الأدلة العقلية لقوله تعالى " ولقد درأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون".1
إذ من الثابت شرعا أن الإنسان الحر لا يجوز التصرف فيه بأي شكلا من أشكال التصرفات الشرعية، لأنه ليس مالا، ولا يصح محلا للتعامل المالي أو الأشياء المتقومة لأن الإسلام كرم بني آدم حين قال "ولقد كرمنا بني آدم" .إذ أن المال الذي يصلح التعاقد عليه هو المال المتقوم، وما له قيمة في نظر الشرع، ويضمن قيمته في حالة إتلافه كما قد يصلح محلا للتعاقد الشيء، وهنا وجب توضيح معنى الشيء من الناحية الشرعية فهو كل موجود حسا كالأجسام أو الأقوال بعد سماعها وهو أعم من المال وعند رجال القانون هو كل ماله كيان مادي مستقل يجعله صالحا لأن يكون محل لحقوق الأشخاص.2
وبناءا عليه فإن جسم الإنسان ليس مالا ولا شيئا والإنسان خلق مالكا للمال وليس مالا يخضع للتملك، لأن بينهما منافاة ذلك أن بيع عضو من الجسد باطل لاتحاد العلة التي تدور مع المعلول وهو المساس بالحق في سلامة الصحة والحياة ومبدأ التكامل الجسدي.3
وقد نحى في هذا الاتجاه جانب كبير من فقهاء القانون في العراق إذ يرون أن شراء عضو إنسان عند الاختيار أمر غير جائز، لأن كثيرا من فقهاء الدين كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية وبعض أصحاب الشافعي ذهبوا إلى عدم جواز بيع لبن المرأة وشعر الإنسان 4.
وفي هذا الصدد قطعت الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية دابر الخلاف بإصدارها فتوى 455/85 حول موضوع بيع الأعضاء بقولها أن شراء المريض لكلية شخص آخر فالأصل أن ذلك محرم، لأن الله كرم الإنسان فلا يجوز قطع بعض أعضائه وبيعها بثمن ما مهما كان، ماعدا حالة الضرورة التي يجوز فيها وذلك وفقا لشروط محددة.5
أما الفقه المدني الفرنسي الحديث فقد حرم عقد البيع الواردة على الأعضاء وعلى رأسه الأستاذ سافاتيه الذي يقول، "إن جسد الإنسان ليس محلا للتجارة ولا محلا للبيع بالتجزئة، فالقيم الإنسانية تسمو على المال، ولما كان الحب أسمى من هذه القيم فالإنسان يمكن أن يتنازل عن جسمه لشخص آخر بدافع الحب وليس المال". وهذا الاتجاه العام في الفقه المدني الفرنسي في بطلان أي اتفاق يتعارض و حق الإنسان في تكامل جسده، و اعتباره باطلا لمساسه بمبدأ حرمة وقداسة الكيان البشري الذي كرمه الله وجعل هذا الجسم ليس ملكا للفرد وحده وإنما هو ملك لله فكيف يمكن جعل هذا الجسم محلا للتصرف بالبيع وإخضاعه لقوانين التجارة والعرض والطلب.
وهذا الاتجاه هو نفسه ما أقره رجال الدين والكنيسة الذين يرون أن تحريم بيع الأعضاء مرده أن جسم الإنسان ملك الله وحده ولا يجوز للإنسان أن يتصرف فيه وفقا للقاعدة الفقهية المعروفة "فاقد الشيء لا يعطيه"1.
وانطلاقا من هذا نخلص إلى أن كلمة أغلبية رجال القانون وفقهاء الدين سواء فقهاء الشريعة الإسلامية أو الديانات الأخرى متحدة حول تحريم عقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية لبطلان أركانه و تنافيه مع المبادئ والقيم.
الفرع الثاني: موقف القوانين المقارنة المؤيدة لبيع الأعضاء البشرية.
على الرغم من كل الحجج القانونية والشرعية التي أتى بها المعارضون لعقد البيع الوارد على جسم الإنسان، إلا أن هناك رأي آخر وإن كانوا الأقلية القليلة من نحى في اتجاه إباحة بيع الأعضاء الآدمية معتمدين في ذلك على أسس قانونية وأخرى شرعية.
أ- الأساس القانوني لإباحة عقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية.
في الحقيقة لم نجد أي تشريع سواء في الدول الأجنبية أو الدول العربية من يجعل الأعضاء الآدمية محلا للتجارة، ولكن الفكرة المراد طرحها من طرف بعض الفقهاء الذين ذهبوا إلى القول بصحة عقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية هو صحة أركان هذا العقد فيرون أنه متى تطابق إيجاب البائع وقبول المشتري أو العكس وكان محل العقد موجودا وقت إبرام العقد ومعين، وكان السبب من وراء هذا العقد هو مساعدة شخص على إنقاذ حياته من الهلاك فإن السبب مشروع وإنساني, وله أهداف نبيلة, وبذلك فالعقد يقع صحيحا مرتبا لكافة أثاره القانونية فيلتزم البائع بتسليم العضو محل العقد بصورة تصلح لزرعه والانتفاع به, ويلتزم المشتري بدفع الثمن, وفي هذا اتجه المشرع المصري في قانون رقم 168 لسنة 1970 إلى القول أن أحد مصادر الحصول على الدم من البشر يكون عن طريق الشراء، وحسب تسعيرة محددة قانونا هي 50 قرشا للجنيه الواحدة، كما لم يحضر القانون رقم 264 لسنة 1959التعامل المالي على العيون البشرية وبما أن المشرع المصري لم ينظم عملية زرع الأعضاء البشرية فيمكن القول أن هذا القانون يسري على جميع التصرفات الواردة على باقي الأعضاء وهو ما يرتب الحقيقة نتائج خطيرة.
ويرى جانب من الفقه المدني المصري أنه يمكن القياس في عمليات غرس الأعضاء البشرية ذلك لا يتعارض مع نص المادة 05 من القانون المدني والمادة 43 من الدستور في جواز إجراء التجربة الطبية بعد الحصول على موافقة الشخص2 .
لكن السؤال يثور حول ما إذا كان الدم الذي هو محل لعقد البيع في التشريع المصري هو عضو من الأعضاء الآدمية، وتسري عليه نفس الأحكام والحماية المقررة لها؟.
إن مجمل القوانين العالمية لم تميز في مكونات الجسم البشري بين الأعضاء الآدمية والمشتقات والمنتجات البشرية والتي يعتبر الدم من ضمنها، ولكن هذا لا يمنع من إصباغ الحماية القانونية عليه على أساس أن حماية الأعضاء البشرية هي حماية مقررة لكامل الجسم والذي من بين مكوناته المنتجات البشرية ومن بينها الدم، وبالتالي فإن اتجاه التشريع المصري إلى جعل الدم محلا لعقد البيع وإعطاءه تسعيرة مالية لبيعه في رأينا فيه مساس بحرمة الكيان البشري، وجعله محلا للتجارة ولا يمكن الاحتجاج أن الدم ليس عضو فالحماية والحرمة تطال الجسم البشري كله وليس عضو أو مشتق منه فقط.
وفي هذا الصدد ذهب بعض أصحاب هذا الرأي في سويسرا إلى اقتراح على الدولة إصدار تشريع خاص يحدد تسعيرة لأجزاء الإنسان وشروط البيع بالجملة، لأن تسعيرة الأعضاء لن تغير من طبيعة الإنسان أو تهدر كرامته، ولا اعتراض على وجود مقابل كونه تقريبا السبيل الوحيد للحصول على قطع الغيار اللازمة.
كما تقدم هؤلاء بمشروع قانون يقضي بإنشاء بنوك للصمامات والشرايين الآدمية لاستخدامها للمرضى، وتكون حصيلة هذه البنوك من جثث الموتى الذين انقضوا في الحوادث أو مجهولي الهوية أو ممن ينفد ضدهم حكم الإعدام وحجتهم في ذلك هي مسايرة الثورة العلمية.1
غير انه يجدر القول أن عبارة قطع الغيار هي عبارة إن لم نقل غريبة فهي مساس صارخ بالجسم وكرامة الإنسان إذ كيف يعقل تشبيه العضو الآدمي وطهارته وقداسته بقطع الغيار وكيف نجعلها محلا للتجارة ونخضعها للمعاملات التقنية بوضعها في البنوك مثلما توضع الودائع لجلبها وقت الحاجة على أساس أنها قطع غيار، إنه تصرف غير جائر لا أخلاقيا ولا قانونيا.
ب- الأساس الشرعي لإباحة عقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية:
ينطلق أنصار هذا الرأي في إباحة عقد بيع الأعضاء البشرية من فكرة أنه إذا كان لا يجوز بيع الإنسان فعلى أساس أن جسمه لا يدخل تحت الملك لأنه ليس مالا يخضع للتملك، فإن عدم جواز بيع الأعضاء أو أجزاء الجسم يرجع إلى عدم الانتفاع بها، في حين أنه إذا أمكن الانتفاع بها جاز بيعها وأنه لا أثر لوجود الثمن على انعقاد العقد صحيحا إذ أن بيع أي عضو لا يتنافى و مقاصد الشرع في حفظ الكرامة الإنسانية، وإنما على العكس يتضمن معاني إنسانية أولها حماية إنسان للآخر من خطر الموت, كما أن بيع الإنسان لأحد أعضاءه المتجددة كالجلد و الدم لا يتنافى مع حرمته و لا يقوده إلى الهلاك.
و قد أجاز الأحناف البيع الوارد على الأعضاء البشرية إذا ما ورد على منافع الأشياء كونه استحسان تبرره الضرورة, و أن هذه الضرورة أو الحاجة هي التي تبرر جريان التصرف على بعض أجزاء الآدمي كلبن المرضعة, فأجزاء الجسم و أعضائه كالقلب و الكلية مادامت غير منفصلة عنه فإنها لا تعد من الأشياء إلا إذا انفصلت عنه و أصبح لها كيان مستقل فهنا أمكن أن تعد من الأشياء فالشيء لا يكون إلا ماديا 1.
و أن ما تناقلته كتب الفقه الإسلامي في هذا المجال لا يتعدى حالتين هما: حالة الانتفاع بلبن المرضعة وقد اختلف فقهاء الشريعة الإسلامية حول مسألة جواز التعاقد عليه, و ثانيها ما يخص التعاقد على الشعر و استخدامه للزينة و الذي لم يجزه الرسول صلى الله عليه و سلم و حرمه الأحناف كابن نجيم و الذي لم يجز التعاقد على شعر الآدمي و عظمه 2.
و قد سبق الذكر أن هيئة الفتاوى بوزارة الشؤون الدينية و الأوقاف الكويتية في فتواها رقم455/85 السابقة الذكر أجازت عقد بيع الأعضاء في حالة الضرورة, انطلاقا من قوله تعالى "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" و ذلك مع مراعاة شروط التبرع و المتمثلة في الإرادة السليمة, وبلوغ الشخص سن الرشد, و ضرورة سلامة العضو المراد بيعه.
و تجدر الإشارة على أنه قد يقع لبس في كثير من الأحيان حول تكييف تصرف ما بأنه بيع أو تبرع, كما لو أعطى شخص آخر عضو بشري لشخص في حاجة إليه دون مقابل, و أراد المتلقي أن يرد الجميل فقدم للمعطي هدية عرفانا بهذا الجميل فهل يكون هذا التصرف بيعا أم تبرعا؟.
لمعرفة ذلك نبحث في أمرين:
الأمر الأول: هو قيمة الهدية و موازاتها بقيمة الانتفاع بالعضو البشري, فإذا تساوت القيمتان أو تجاوزت قيمة الهدية فإن التصرف هنا يعد بيعا و ما التبرع إلا تصرف مقنع للبيع.
الأمر الثاني: هو البحث في نية المتعاقدين, فإذا كانت نيتهما خالصة للتبرع فإن العقد يكون تبرعا بصرف النظر عن قيمة الهدية.
و يجدر بنا القول أن أصحاب هذا الرأي حجتهم نوعا ما ضعيفة و أن اعتمادهم على صحة أركان عقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية هو رأي غير سديد و ذلك أنه و كما سبق القول فإن عقد البيع يكون محله قابلا للتقييم المالي, في حين أن الأعضاء الآدمية لا يمكن وضعها ضمن خانة الأشياء القابلة للتقييم المالي و أن مشروعية السبب الذي هو انقاد حياة المريض ليس مبرر كافي ذلك أن عقد البيع ضمن النظرية العامة للعقود يقوم على الأركان الثلاثة متلازمة (التراضي-المحل-السبب) و أن غياب ركن ضمنها يبطل العقد و يعدمه, و عقد البيع الوارد على الأعضاء محله باطل بطلانا مطلقا و بالتالي فالعقد باطل برمته.
بالإضافة إلى ذلك فإن حالة الضرورة التي ينطلق منها أصحاب هذا الرأي و التي بناءا عليها يجيزون بيع الأعضاء البشرية تقدر بقدرها, فوجود الشخص في حالة هلاك و تقديم شخص آخر له مساعدة بمنحه كلية مقابل عوض, لا يعني أنه ثمن للمبيع وإنما هو عون للمتنازل عن مواجهة المخاطر الصحية و المضاعفات التي يمكن أن تحدث له مستقبلا, و لا ينبغي أن يكون الدافع الرئيسي على التعاقد هو الحصول على الثمن النقدي, ذلك أن كل التزام مدني يرتكز بالضرورة على قاعدة أخلاقية وصولا إلى النتيجة القانونية, فلو طبقنا هذه القاعدة على التزام الشخص في بيع أعضائه لوجدنا أن النتيجة غير صحيحة و الالتزام باطل و سبب ذلك أن محل الالتزام غير مشروع التعامل فيه أصلا.
المطلب الثاني: الأعضاء البشرية موضوع عقد ملزم لجانب واحد
يقصد بالعقود الملزمة لجانب واحد هي العقود التي تنشئ التزامات من جانب واحد فقط من طرفيه, فيكون أحدهما دائن غير مدين و المتعاقد الآخر مدينا غير دائن.
و أغلب العقود الملزمة بجانب واحد هي عقود تبرع, لأن المتعاقد لا يأخذ مقابلا لما يعطي مثال ذلك عقد الهبة و العارية و الكفالة بدون أجر, و عقد الوديعة بدون مقابل. و يعرف الأستاذ السنهوري عقد التبرع بأنه العقد الذي لا يأخذ فيه المتعاقد مقابلا لما أعطاه1.
و بناءا عليه فإن مسالة جعل الأعضاء البشرية محل لأحد عقود التبرع يجعلنا نتصور عقدين فقط يمكن ورودهما على الأعضاء البشرية و هما عقد الهبة و عقد الوصية وهو ما سنتناوله في هذا المطلب في فرعين:
الفرع الأول: هبة الأعضاء البشرية
إن المقصود بالهبة عموما هي تمليك بلا عوض, و قد عرفها الأستاذ السنهوري بأنها "الهبة عقد يتصرف بمقتضاه الواهب في مال دون عوض"2.
و يخضع عقد الهبة شأنه شأن باقي العقود إلى نفس الأركان المتطلبة لقيامه و صحته, المتمثلة في الرضا المحل السبب إضافة على شروط أخرى متطلبة بصورة خاصة في عقد الهبة و يرى الأستاذ السنهوري أن عقد الهبة يقوم على 04 مقومات هي:3
1- الهبة عقد ما بن الأحياء.
2- بموجبه يتصرف الواهب في ماله
3- دون عوض
4- بنية التبرع
و عقد الهبة يتكون من عنصرين:
1- عنصر مادي يتمثل في تصرف الواهب في ماله دون عوض
2- عنصر معنوي هو نية التبرع
و بالتالي فالواهب يتصرف في مال و تخصص بين عقود التبرع بوجه خاص ذلك أن الهبة تدخل في عموم عقود التبرع, و يكون محلها دائما إعطاء شيء عكس العقود الأخرى التي يمكن أن يلتزم فيها المتعاقد بالقيام بعمل أو الإمتناع عن العمل.
و انطلاقا من هذا و بالنظر إلى أركان عقد الهبة الواردة ضمن التشريعات المدنية نطرح السؤال التالي: هل يمكن أن تكون الأعضاء البشرية محلا لعقد الهبة وفق هذه الأركان؟.
هناك العديد من الاتجاهات من أقرت أن الهبة الواردة على الأعضاء هي عقد بمفهوم القانون المدني, و الذي هو تصرف قانوني تتجه فيه إرادة المتعاقد إلى التبرع بأعضائه متى توافرت جميع أركان عقد الهبة و كانت قائمة على التضحية و نكران الذات, فإنها تعتبر من الأخلاق الفردية و الاجتماعية التي تصلح سببا للالتزامات المدنية, و كانت نية الواهب هي التبرع فإن هذا التصرف ينتج أثره القانوني.
و الأساس في ذلك أن القاعدة في هذا المجال أي التزام مدني يلزم أن يكون له قاعدة أخلاقية يرتكز عليها, حتى تحدث النتيجة القانونية المطلوبة أثرها فالأم التي تهب كليتها لأبنها مثلا لانقاد حياته فإن عقد الهبة هنا هو التزام مدني يقوم على قاعدة أخلاقية جوهرها الحب و التضحية و هي معاني إنسانية نبيلة مما يجعل العقد صحيحا. كما أنه إذا كانت الهبة ترد على الأموال من المنقولات أو العقارات حين يعقد الواهب تصرفا قانونيا مع إرادة الموهوب له في هبة عين أو حق أو دين, فإنها ترد على أجزاء و أعضاء جسد الإنسان و أن التشريعات التي تذكر مصطلح التبرع يقصد بها الهبة حال الحياة بالأجزاء أو الأعضاء البشرية1.
و تجدر الإشارة أن الفقه المدني الفرنسي, و على رأسه الأستاذ سافاتيه يرى أن الهبة الواردة على الجسم البشري يكون على سبيل التبرع و يقصد بها الهبة المجانية, و هو نفس الرأي الذي أخذ به المشرع اللبناني الذي يجيز عقد الهبة و ذلك بأخذ الأنسجة و الأعضاء البرية من جسم أحد الأحياء لمعالجة مرض أو جروح شخص آخر2.
كما أن مشروع القانون العربي الموحد لعمليات زراعة الأعضاء البشرية المقترح من قبل اللجنة الفنية لمجلس وزراء الصحة العرب و بجلسته المنعقدة عام 1986 نص في مادته الثانية على جواز ابرام عقد هبة على الجسم أو أحد الأعضاء شريطة أن تتم صحيحة الأركان و الشروط تكون على سبيل التبرع أو الإيصاء و أن يكون المتبرع كامل الهلية قانونا و أن يتم التبرع بموجب قرار كتابي موقع فيه.
نستنتج أن كل هذه الآراء تتجه إلى إباحة عقد الهبة الوارد على الأعضاء البشرية انطلاقا من توافر أركان عقد الهبة المتطلبة قانونا, لكن في رأينا أن هذا القول غير سديد بالمرة لأن التبرع الوارد على الأعضاء لا يمكن أن يكون عقد مطلقا و هو ما سنتناوله في نهاية الفرع الموالي.
الفرع الثاني: الوصية بالأعضاء البشرية
تعرف الوصية بأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت, و هي من التصرفات التي تنشأ بالإرادة المنفردة و بذلك فالوصية هي عقد ملزم بجانب واحد و تجمع جل من التشريعات على هذا التعريف و تعتبره جامع و مانع يشمل كل شيء يوصي به الشخص بعد وفاته.
و قد عرف فقهاء الشريعة الإسلامية الوصية بتعريفات متعددة, فعرفها الأحناف أنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع1. و عرفها الكاساني بأنها اسم لما أوجبه الموصي في ماله بعد الموت كما عرفها الدكتور علي علي سليمان بأنها "تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت"2.
و تقوم الوصية على الأركان التالية:
1- الصيغة : و الأصل في صيغ التصرفات أن تكون منجزة و لا يخرج عن هذه القائمة إلا الوصية و بالتالي فإن صيغتها لا تكون إلا مضافة إلى اجل3. و قد اختلفت المذاهب في وسائل التعبير عن هذه الصيغة فقد تكون عبارة أو كتابة أو إشارة4.
2- الموصي: و الذي يشترط فيه أن يكون سليم العقل و بالغ سن الرشد.
3- الموصي له: و يشترط فيه أن يكون معلوما, و أهل لتملك الشيء الموصي له به.
4- الموصي به: و يشترط فيه أن كون مالا قابلا للتوارث و أن يكون متقوما بمال و قابلا للتملك و أن يكون موجود عند الوصية و غير مستغرق بدين و معين بالذات أو بالنوع.
وعلى ضوء ما سبق ذكره وبالنظر إلى أركان الوصية نتساءل هل تدخل أعضاء الإنسان ضمن تركه الموصى بعد وفاته، وهل يصح أن تكون محلا للوصية؟.
في الحقيقة أن معظم التشريعات التي تجيز التصرف في الأعضاء البشرية نذكر مصطلح التبرع، وانه يجوز للشخص أن يتبرع بأعضائه حيال حياته، وله أن يوصي بها بعد وفاته لكن لا يوجد أي نص تشريعي في القوانين المقارنة يذكر بصراحة أن التصرف الوارد على الأعضاء يقصد به الوصية بمفهوم أحكام القانون المدني، ومع ذلك اتجهت بعض آراء شراح القوانين وكذا الفقهاء إلى القول بصحة الوصية الواردة على الأعضاء البشرية و حجتهم في ذلك أن الوصية باحثة للأغراض العلمية والطبية من المصادر المهمة التي تساعد في العمليات الطبية وفي نقل وزرع الأعضاء وبالتالي فإن الوصية متى كانت صادرة من شخص عبر عن إرادته السليمة الخالية من أي عيب في الأعضاء بجسمه أو بأحد أعضائه فإنها تكون قائمة و صحيحة.
زيادة على ذلك فإن الوصية هي تمليك مضاف إلى ما بعد الموت و هو ما لا يشكل خطر على حياة الموصي لأن حياته انتهت و انتزاع أحد أعضاءه بغرض زرعها في جسم مريض أو تشريح جثته لغرض البحث العلمي لا يشكل اعتداء عليه, انطلاقا من قاعدة مصلحة الحي أولى من مصلحة الميت و يجوز قطع عضو من الجثة لديمومة الحياة في شخص محتاج إلى كلية مثلا.
و قد جاءت قرارات و توصيات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الصادرة سنة 1988 مؤكدة على جواز الوصية بالأعضاء معتبرة أياها من الخصال الحميدة.
كما يِؤكد المشرع المصري بموجب القانون 103 لسنة 1992 أن الوصية هي الوسيلة الوحيدة للتبرع المضاف إلى ما بعد الموت, على أن لا يتم الإيصاء لشخص معين بالذات 1.
كما اعتمدت أغلب الآراء في إباحة الوصية بالأعضاء البشرية على حجتين الأولى أن تشريح الجسد جائز شرعا وقانونا بعد وفاة الشخص ولا يعد ذلك تمثيلا بالجثة, لأن التشريح علم قائم بذاته تظهر أهميته في معرفة أسباب العلل وطريقة عمل الجسد ووظائف الأعضاء وصولا لمعرفة سبب الوفاة وهو أمر مستقر على جوازه فقها وقانونا لما فيه من المصلحة فإن انتفت المصلحة فلا يجوز التشريح، أما الثانية فهي الجانب الأخلاقي و الإنساني و ترجيح الضرورات و تكريس روح التضامن لمساعدة المرضى على الاستمرار في الحياة.
لكن وحسب رأينا فإن كلا الرأيين سواء القائلين بصحة عقد الهبة الوارد على الاعضاء البشرية أو القائلين بعقد الوصية، هي آراء غير قانونية إن لم نقل أنها غير منطقية، إذ أن أغلب الآراء المتجهة إلى ذلك تقوم هذين العقدين على وجود ركن دون آخر، وفي هذا لاحظنا ونحن بصدد تفحصنا لبعض المراجع المعتمد عليها في هذا العمل لاحظنا أنها لا تتوانى في الجزم بقيام عقد الهبة وعقد الوصية على الأعضاء البشرية وفقا لأحكام القوانين المدنية، وذلك بالاعتماد على بعض نصوص القوانين والتشريعات المقارنة والتي في الحقيقة لم تجز وبصريح العبارة لهذه العقود بهذا المعنى ولم يرد في ذلك سوى مصطلح التبرع وإن ورد في بعض الأحيان مصطلح الهبة فإن ذلك لا يقصد به عقد الهبة المنظم بأحكام القانون المدني وهو ما نعتبره تحميلا لنصوص القوانين ما لا تطيق.
إذ كيف يعقل التسليم بوجود عقد الهبة والذي كما سبق القول وبالنظر إلى أركانه ومقوماته أنه لا يكون إلا على محل مقوم بمال وصورته الوحيدة هي الالتزام بأداء، فهل الأعضاء الآدمية هي أموال قابلة للتصرف فيها، وهل إيصاء الشخص بأعضائه بعد وفاته يعني قيام عقد الوصية بمفهوم القانون المدني؟ إن هذا الأمر لا يعقل وهو مما يدفعنا إلى القول أن مفهوم التبرع أو الهبة المراد هنا ليس تصرف مدني وإنما تصرف من نوع خاص.
المطلب الثالث: موقف المشرع الجزائري من التصرفات القانونية الواردة على الاعضاء البشرية.
في الحقيقة أن المشرع الجزائري لم يتناول مسألة التصرف في الأعضاء البشرية ضمن أحكام القانون المدني، وإنما نص على ذلك ضمن قانون الصحة رقم 85-05 المتمم بالقانون 98-09 فتناول ضمن المادة 161 منه حظرا مطلقا لجعل الأعضاء البشرية موضوع معاملة مالية، وبالمقابل نص صراحة على جواز التبرع بالأعضاء البشرية ولكن السؤال المطروح، ماذا يقصد المشرع الجزائري بمصطلح المعاملة المالية، هل يقصد بها البيع وبالتالي نستشف أنه يحظر عقد البيع المبرم على الأعضاء الآدمية، وماذا يقصد بمصطلح التبرع هل هي ذلك العقد الذي تتجه فيه إرادة المتعاقد إلى إحداث أثر قانوني معين بدون عوض وبالتالي وبحسب المتصور فهي عقد الهبة والوصية أم أن المشرع الجزائري يهدف من وراء ذلك معنى آخر أبعد من هذا التحليل.
وعلى ضوء هذا سنحاول مناقشة ماورد ضمن قانون الصحة وإسقاطه على أحكام عقد البيع المنظم في القانون المدني وكذا عقود التبرع سيما الهبة والوصية والقول ما إذا كان الحكم الوارد في قانون الصحة مطابق لما ورد في القانون المدني بشأن هذه العقود فنتناول في فرع أول عدم جواز جعل الأعضاء البشرية محل معاملة مالية وفي فرع ثاني جواز جعل الأعضاء البشرية موضوع تبرع.
الفرع الأول: عدم جواز جعل الأعضاء البشرية محلا لأي معاملة مالية.
تنص المادة 161 فقرة 02 من قانون الصحة " لا يجوز أن يكون إنتزاع الأعضاء أو الأنسجة البشرية ولا زرعها موضوع معاملة مالية " 1.
يتجلى من خلال دراسة المادة أعلاه أن المشرع الجزائري يحظر أي تعامل مالي على الأعضاء البشرية بصورة قاطعة، لكن يبدو أن مصطلح معاملة مالية غريب في المجال القانوني ناهيك عن إنعدام أي استعمال لهذا المصطلح لدى مختلف التشريعات أو أراء الفقهاء كون أن هذا المصطلح له طابع تقني أكثر منه قانوني وكان من باب الأولى أن يكون المشرع الجزائري دقيقا إلى حد يجعل من المصطلح القانوني أكثر دقة ليرتب الأثر القانوني المراد من وراء ذلك.
ولكن باستقراءنا للمبادئ العامة للقانون نجد أن المشرع كان يقصد التصرف القانوني ليس إلا هذا الأخير الذي هو اتجاه الإرادة إلى أحداث أثر قانوني معين و يشترط القانون لقيامه أركان محددة والتي أوردتها النظرية العامة للعقد، إذ بالرجوع إلى المادة 54 من القانون المدني2 والتي تنص "العقد اتفاق يلتزم بموجب شخص أو عدة أشخاص آخرين بمنح أو فعل أو عدم فعل شيء ما".
باستقرار المادة أعلاه نستخلص أن التصرف القانوني المتمثل في العقد يتطلب لقيامه الأركان التالية:
1-التراضي: ويقصد به التعبير عن إرادة كل الطرفين والذي يتجسد في تطابق الإيجاب والقبول استنادا إلى المادة 59 والتي تنص " أنه يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن ارادتهما المتطابقتين دون الإخلال بالنصوص القانونية".
وبناءا عليه فإن ما تصورنا الأعضاء البشرية موضوع اتفاق يرقى إلى درجة العقد فإنه ينجسم مع القواعد العامة المنصوص عليها في القانون المدني، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة كونه يجد صعوبة في تطبيق باقي أحكام التراضي، فبالرجوع إلى نص المادة 60 نستشف أن التعبير عن الإرادة يأخذ صورتين فهناك التعبير الصريح الذي يكون عن طريق اللفظ وإما بالكتابة ناهيك عن الإشارة المتداولة عرفا، وإما ضمنيا باتخاذ المتعاقد موقف لا يدع شكا في دلالته على مقصوده، فهل يمكننا تصور تعبير ضمني عن إرادة الطرفين حين تعاملهما بالعضو البشري؟ إنه الأمر الذي لا يستسيغه المنطق القانوني، ذلك أن حساسية محل التعاقد الذي هو العضو البشري تفرض أن يكون التعبير صريحا فهل يمكن أن نتصور شخص يتصرف في أحد أعضاءه كالكلى مثلا دون أن يعبر عن إرادته في ذلك، خاصة إذا علمنا أنه يحظر على الأطباء القيام بأي عملية اقتطاع أو نقل أو زرع لعضو من دون التأكد من الموافقة الصريحة للمتصرف.
ضف إلى ذلك أن المشرع الجزائري يشترط لصحة التراضي أن تكون الإرادة خالية من العيوب الواردة بأحكام المواد 81-86 88-90 والمتمثلة في الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال فهل يمكن تصور وقوع إرادة المتصرف في العضو البشري في إحدى هذه العيوب المذكورة آنفا؟ إن المسألة غير معقولة إذ كيف يقع من اشترى كلية مثلا في غلط سيما إذا علمنا أنه يشترط لقيام عيب غلط أن يكون جوهريا وأن يكون البائع هو نفسه وقع فيه، وإن كان يمكن تصور الإكراه الواقع على إرادة صاحب العضو والاستغلال كون هذا الأخير يتعلق بالهوى الجامح والطيش البين كمن يغري شخص ذو طيش لينزع عضو له بثمن بخس.
لكن حتى ولو سلمنا بوجود هذه العيوب فكيف نتصور الأثر المترتب على اكتشاف هذه العيوب، فهل تخضع لنفس أحكام العقد الواردة في القانون المدني والتي ترتب قابلية العقد للإبطال وفي حال الإبطال ترجع الحال إلى ما كانت عليه في مواجهة المتعاقدين، فهل العضو البشري بخصوصيته وحساسيته يقبل هذه الآثار!.
إضافة إلى ذلك فإذا ما تم إكتشاف هذه العيوب بعد وفاة أحد المتعاقدين، فهل يحق للخلف العام (الورثة) أن يدفعوا بالإبطال لوجود العيوب السابقة الذكر؟ نقول إذا كان الدفع ممكنا فإن تحقيق الأثر مستحيل.
2- المحل: إن المشرع الجزائري وعلى غرار التشريع الفرنكفوني مسايرا للتشريع الأنجلوفوني لم يعمد إلى تكريس مفهوم المحل في التقنين المدني، وراح يعرفه من حيث شروط محل الالتزام وشروط صحة المحل، إذ يجب أن يكون هذا المحل شيء لكن السؤال يثور حول ماهية الشيء، فما هو الشيء؟ ومتى يكون قابلا للتصرف فيه عن طريق العقد؟.
كل هذه التساؤلات لم نجد لها أثرا ولا جوابا في التقنين المدني، وهو الأمر الذي استدعى بنا التوجه نحو الفقه فيعرف أنه كل موجود حسا وله كيان مادي مستقل يجعله صالحا لأن يكون محلا لحقوق الأشخاص، وبالتالي فإن الشيء هنا قد يكون ماديا وقد يكون معنويا كالابتكارات وحقوق المؤلفين، ولكي يكون هذا الشيء قابلا للتصرف فيه يجب أن يكون بطبيعته يقبل التصرف وهذه الطبيعة هي ان يكون مقوم بمال إذن فالشيء من المال، لكن هناك أشياء تخرج من دائرة الأموال وبالنتيجة تخرج من دائرة التصرف.و هو الأمر الذي يدعونا إلى القول أن ليس لكل شيء هو مال فهناك الكثير من الأشياء تخرج عن هذه الدائرة وبالتالي فالشيء أعم من المال.
وبناءا عليه نطرح السؤال هل الأعضاء البشرية هي شيء يمكن تقييمه بمال وبالنتيجة قابليتها للتصرف فيها وجعلها محلا لعقد؟.
إن الأعضاء البشرية ليست شيء بالنظر إلى معنى الشيء، فالعضو البشري ليس كيان مادي مستقل عن الجسم بل متصل به، بل إنها تمثل الجسم، هذا الأخير ماهو إلا الوعاء الحاوي لها ولا وجود للجسم بدون أعضاء. ضف إلى ذلك حتى ولو انطلقنا من مسلمة أن الأعضاء البشرية هي شيء قابل للتصرف فيه وبالنتيجة يمكن تقيمه ماليا فإن ملكيتها تؤول بالضرورة إلى صاحبها، فهل يمكن إخضاعها إلى أحكام الملكية الواردة في القانون المدني، خاصة إذا علمنا أن حق الملكية هو حق عيني أصلي تتفرع عنه مجموعة من الحقوق مثل حق الإرتفاق وحق الانتفاع وحق الاستغلال ... كما أن للمالك في كل هذا الحق في التنازل عن حق الانتفاع والاحتفاظ بملكية الرقبة فهل يعقل هذا في الأعضاء البشرية؟.
زيادة على ذلك وإذا سلمنا مرة أخرى بأن الأعضاء البشرية هي محل قابل للتصرف فيه بشكل إرادي وبالتالي فهي تدخل ضمن أموال المتعاقد، ونحن نعلم أن جميع اموال المدين ضامنة لديونه ومفهوم الأموال هنا أوسع من حصرها في النقود وإنما هي كل مايملكه المدين من منقولات وعقارات وحقوق مالية أخرى فهل يمكن أن تدخل الأعضاء البشرية وفق هذه المسلمة ضمن الضمان العام للدائن؟.
و لو افترضنا أيضا بقيام وصحة عقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية، وسلمنا بصحة أركانه فهل يخضع هذا العقد إلى الآثار المترتبة عليه والمتمثلة في إلتزامات البائع والمشتري، فإذا قلنا بإمكانية ذلك في بعض منها فإن الأمر يستحيل في البعض الآخر فمثلا هل يضمن البائع العيوب الخفية في العضو و لو حدث و أن ضمن ذلك و كان العضو فيه عيب فيه خفي فهل يبطل العقد، وكيف نرجع الحال إلى ما كانت عليه؟.
إن كل هذه النتائج توصلنا إلى معنى واحد هو أن الأعضاء البشرية لا يمكن أن تكون محلا لعقد البيع وفق لأحكام القانون المدني.
3- السبب: إن المشرع الجزائري وكما هو الحال في المحل لم يعرف السبب مكتفيا بتعداد شروط صحته، ولهذا نرجع إلى الفقه الذي يعرفه أنه الغرض الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء رضائه و التحمل بالإلتزام, وبمعنى آخر الغاية التي يستهدف الملتزم تحقيقها نتيجة إلتزامه، ففي عقد البيع مثلا يرتضي البائع التحمل بالإلتزام بنقل ملكية المبيع إلى المشتري وتسليمه إياه، بهدف الحصول على الثمن الذي يلتزم المشتري بدفعه، ومن ناحية أخرى يرتضي المشتري تحمل دفع الثمن رغبة منه في الحصول على المبيع1 .
وقد اشترط المشرع لصحة السبب حسب المادة 97 من القانون المدني أن يكون موجودا وصحيحا، ومشروعا وغير مخالف للنظام العام. فهل يمكن أن تسري هذه الشروط في عقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية ؟ وهل يمكن الجزم بمشروعية السبب الوارد على التصرف في الأعضاء البشرية؟ الحقيقة أنه يمكن أن يكون السبب مشروعا إذا كان بهدف إنساني يتمثل في شفاء المرضى إلا أن مسألة ليست على إطلاقها، فقد يكون العقد مبرم بغرض جعل الأعضاء البشرية محلا للتداول والتجارة والربح وهو الامر غير الجائز، وبالنتيجة غير مشروع وبالتالي فالعقد باطل بطلان مطلق.
ونخلص في الأخير أن المشرع الجزائري بإستعماله لمصطلح معاملة مالية كان يقصد مفهوم أوسع يتضمن عقد البيع و أي تصرف آخر ذو طبيعة مالية، وقد أحسن صنعا عندما حظر أي تعامل مالي على الأعضاء وبالنتيجة إبطال أي عقد بيع يرد على جسم الإنسان ذلك أنه وكما سبق القول وبالرجوع إلى الإسقاط الذي حاولنا القيام به بين عقد البيع المنظم بأحكام القانون المدني وعقد البيع الوارد على الأعضاء البشرية فإن الاختلاف كبير وذلك أن الأعضاء البشرية غير قابلة أصلا لجعلها محلا لأي تصرف بهذا الشكل ولا مجال للقول بوجود أية مقاربة أو مقارنة بينهما.
الفرع الثاني: جواز جعل الأعضاء البشرية موضوع تبرع
تنص المادة 162 من قانون الصحة "لا يجوز انتزاع الأنسجة أو الأعضاء البشرية من أشخاص أحياء إلا إذا لم تعرض هذه العملية حياة المتبرع للخطر و تشترط الموافقة الكتابية على المتبرع بأحد أعضائه وتحرر هذه الموافقة بحضور شاهدين إثنين، وتودع لدى مدير المؤسسة والطبيب ورئيس المصلحة، ولا يجوز للمتبرع أن يعبر عن موافقته إلا بعد أن يخبره الطبيب بالأخطار الطبية المحتملة التي قد تتسبب فيها عملية الانتزاع، ويستطيع المتبرع في أي وقت كان أن يتراجع عن موافقته السابقة".
من خلال قرءاتنا الأولية لنص المادة أعلاه يتبين وان المشرع أجاز التعامل في الأعضاء البشرية عن طريق ما أسماه بالتبرع لكن ماذا يقصد المشرع بمصطلح التبرع؟ علما وأنه قد حسم في موضوع التعامل في الأعضاء البشرية بواسطة التصرفات المالية وحظرها حظرا مطلقا، ضف إلى ذلك ان التبرع ليس إلا جزء لا يتجزأ ويندرج ضمن التصرفات المالية.
فيا ترى هل المشرع الجزائري تناقض إلى حد أنه يورد مادتين متتاليتين تحت فصل واحد بعنوان انتزاع أعضاء الإنسان وزرعها فيمنع في المادة 161 فقرة 02 أي معاملة مالية ترد على الأعضاء البشرية وبالنتيجة حظر أي تصرف قانوني ثم يجيز التبرع بهذه الأعضاء في المادة الموالية 162 علما أن التبرع هو أيضا تصرف قانوني وفق المعادلة الآتية
فكل تبرع لا يخلو من أن يكون تصرف قانوني سبق القول أن المشرع حسم في التصرف القانوني في الأعضاء البشرية بمنعه أن التبرع تصرف مالي لا يرد على الأعضاء البشرية
هذا الأمر يدعو بنا إلى تصور فرضيتن لا ثالث لهما
1- الفرضية الأولى، وقوع المشرع الجزائري في تناقض صارخ بين المواد 161 و162 من قانون الصحة.
2- الفرضية الثانية: أنه يقصد من رواء ذلك إقامة نظام خاص بالتعامل في الأعضاء البشرية.
إن المشرع لا يعقل أن يتناقص في أن يورد مادتين متتاليتين يصيب في الاولى إلى حد كبير ليخطئ في الثانية، إلا أن الشيء الذي يؤخذ على المشرع إستعماله لمصطلح لم يؤد به الغرض المقصود وأوقعه في اللبس فلكل مصطلح قانوني مفهوم واحد وموحد ومحدد.
كما ان المتفحص من 161 إلى 168 من قانون الصحة يستقرأ ان المشرع لم يعطي أي وصف لهذا التبرع إن كان هبة أو وصية و لو أنه كان بإمكانه أن يكون دقيقا لرفع اللبس، وبالنتيجة نخلص إلى دحض الفرضية الأولى و إقامة الفرضية الثانية و الخوض في هذا النظام الخاص لنحدد طبيعة هذا التبرع و أحكامه.