الثورة المستدامة
لكي نقدم صورة واضحة المعالم تشرئب لها أعناق المشاهدين وإمعان النظر في مكوناتها يجدب أن ندرس طبيعة الزوار والحاضرين وأذواقهم وآرائهم حتى لا نبيع لهم طيرا في السماء أو سمكا غائرا في الماء أو غزالا طليقا في الصحراء ، هكذا تعلمنا وضع النقاط على حروف الانطلاق فيبدأ رذاذ الأفكار يتساقط كالغيث النافع متتابع غير متكرر ، ومتحرك غير جامد .
فكم سمعنا عن التنمية المستدامة ، والتعليم المتواصل والاقتصاد المتكامل ، والاستحواذ المتقابل وغيرها من مفردات تجمع معانيها في قالب واحد وهو التغيير المستمر، و الإنتاج الوفير والاستهلاك الواسع ، وجزء من هذه المعاني بقيت حكرا على الدول المتقدمة تحتفظ بحقوق مؤلفيها وتكديس ثرواتها وارتفاع اقتصادياتها وتعدد شركاتها ، هناك بنيت أسس الثورة المستدامة على قواعد التنمية المتنافسة ، والتعليم المتخصص والاقتصاد الجزئي والبقاء للأقوى ...
أما الدول العربية فلا زالت تتغنى بثوراتها الخاسرة ورؤاها القاصرة وملوكها القياصرة فلا يوجد في أوطانها غير هؤلاء الذين سمعنا عنهم قبل ظهور المذياع والتلفاز فهم الأبطال ونحن نتلذذ بحكاياتهم ،وهم الممثلون ونحن نشاهد خرافات أحلامهم وهم الملوك ونحن المحكوم علينا بالقدر عبادتهم ، فالكلام حقهم والثورة ملكهم والديمومة عنوان قداستهم ، وبقيت الاستدامة طبيعة سياساتهم فمن مفرداتهم الثورة العربية ، والثورة الزراعية ،والثقافية والكروية والفلكلورية وو...
ولكن اليوم فار تنور ثورة الشباب لملأ فراغه البائس فمنهم من هرم ومنهم من تشنجت عضلات فكره ومنهم من خارت قواه والكثير حدث لهم هدر اجتماعي وعزوف عن الزواج والتناسل وارتفع معدل أعمارهم دون إنجاب وعم الفساد والخراب ،ولا يدري أحد ما هي فاتورة تقديرات الحساب، فلا أحد يستطيع أن يطرح السؤال ولا هو ينتظر الجواب...
فقد فتحت الثورة أجنحتها لكل من هب ودب وهرع إليها الناس من كل حدب وصوب ، وبدأت تنصهر لتخلص نفسها من كل عيب وشيب فهل ستستمر في وهيجها ؟ أم ستندثر ، والجميع يعلم أن الزبد سيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فسيغذي الأرض لتأكل منه المجتمعات التي ستحيى لا محالة أثناء استدامتها فتبقي على وميضها شرارات تنذر باشتعالها وقت ركودها .
فلا يحق لأحد أن يحتكر نور لهيبها فكل ثورة ينبغي أن تنبت زرعها وتحلب ضرعها و تسلخ جلدها .
ربما تبقى حقوق الاحتراق الذي أصاب جسد البوعزيزي ضامنة لبقاء الثورة التونسية ملتهبة باستمرار كالشعلة الأولمبية تتقاذفها الأيدي بحنين الإجلال وتكريم الإكبار وفك قيود الأغلال والتأكيد بإصرار على حب الحرية وتقديسها للأقدار .
فلم تصلح استنساخ الفكرة واستمرار إحراق الكثير من الجزائريين أجسادهم تيمنا به لأن العمل نسخة غير أصلية وإشهار رديء لجلب الانتباه وتقريب الاشتباه لتفعل النار في أصحابها ما لم تفعله في عقول غيرهم وإسقاط نظام حكمهم .
ولم تفلح تجمعات اليمن الغفيرة ما أفلحت فيه حشود مصر لأن النموذج المصري فريدا من نوعه ولا أحد كان يصدق ما سوف تحدثه الثورة لصخور فراعنته ورعونة آلهته وتدحرج ساسته وقادته .
وليس بعد قد نجحت ثورة ليبيا لأنها أخذت من شقيقتها ما أفقدتها شهيتها ودفعت ثمن بندقيتها مرارة من ضرائر سلميتها ، وأخيرا وليس آخرا ليست ثورة سوريا منا ببعيدة في إتباع طريقة نسخ ولصق ...
إذن ما العمل للثورة التي نطلب استدامتها ؟ إنها ثورة على الفساد الذي عم البلاد وأفلس العباد ، ثورة على الجهل والأمية التي تراكمت فوقها حشود العصبية والطائفية والعنصرية ، ثورة لبناء الأسرة الإنسانية والمحافظة على التنوع بين الطبقات الاجتماعية ، ثورة للتنافس الشريف لوضع برامج تطبيقية في مختلف الميادين يترجمها سلوك حضاري يحدد موقع المجتمع ليقف بين صفوف المجتمعات المتقدمة ويبقي على ثورته المستدامة تتجدد كلما دعت الضرورة لذلك .
باهي لخضر التبسي /الجزائر .