تعد الإرادة والقيادة والوعي من أهم عناصر نجاح الثورات، ويؤدي خلل أي من هذه العناصر إلى فتح الباب على مصراعيه أمام القوى الإمبريالية الغربية إلى تحويل الثورة العربية إلى فوضى، وتحويل التغيير إلى تدمير؛ تدمير البلد، أو تدمير إرادة الشعوب، أو تدميرهما في آن.
تحمي الولايات المتحدة الأمريكية نفوذها ومصالحها، في منطقتنا العربية والإسلامية، عبر التأكد من مطابقة أنظمة الحكم لمحدداتها ومعاييرها، ومن أجل ذلك فهي تتعهد أنظمة الحكم بالصيانة والترميم، وتعيد تدوير الأنظمة البالية التي تآكلت عبر السنين بسبب فسادها وفقدان أهليتها وشرعيتها للحكم، وتنقذ أنظمة أخرى آيلة للسقوط ومنتهية الصلاحية كلما استطاعت ذلك سبيلاً، وتروض أنظمة أخرى متمردة، لإجبارها على الانصياع لمطالبها الجائرة، وتستخدم التهديد والوعيد بالخلع والإبعاد كلما لزم الأمر وسنحت الفرصة لأنظمة تعتبرها مارقة أو تصنفها ضمن محور الشر.
وقد وجدت الولايات المتحدة في الثورات العربية الراهنة فرصة سانحة للتخلص من الأنظمة الحاكمة التي تشكل عبئا ثقيلاً عليها، والتي بات إسقاطها هدفاً يحظى بإجماع الشعوب العربية، فألقت الولايات المتحدة بثقلها في معمعة الثورات العربية، وحركت أزلامها وطابورها الخامس وفضائياتها، لتحبط هذه الثورات وتحتويها، وتتخلص من الزعامات المحروقة والمثيرة لسخط الشعب والمحفزة له للتغيير، وتأتي بزعامات أخرى موالية لها وغير مكشوفة للشعب.
وهنا لا يستطيع أحد التشكيك في أن الشعوب العربية ثارت على أنظمة الحكم من تلقاء نفسها وبدوافع ذاتية، وأن لديها إرادة قوية للتغيير والإصلاح والتخلص من الفساد والاستبداد والتبعية، وأنها مستعدة لتقديم التضحيات الجسيمة من أجل تحقيق أهداف الثورة.
ولكن المشكلة الخطيرة تكمن في عدم وجود قيادات ثورية تقود الثورة بحكمة ووعي، وتحافظ على زخمها وإنجازاتها، حتى تحقق أهدافها وخصوصاً التغيير الجذري لنظام الحكم، دون توان يسمح لأعداء الثورة بالمماطلة وكسب الوقت، فالمماطلة تحبط الثورة، والتواني يمنح أعداءها وأزلام النظام المتهاوي فرصة كبيرة للتحايل والالتفاف على الثورة، كما يحدث الآن في مصر وتونس.
ويبدو أن الولايات المتحدة ساعدت ما أصبحوا يعرفون بشباب الثورة على ركوب موجة الثورة والتغيير في مصر وتونس وغيرها، وهم شباب لا يستندون إلى خبرة أو مرجعية سياسية، ولا مرجعية أيديولوجية أو دينية تكسبهم وعياً عميقاً ورؤية حديدية، لتساعدهم على حماية إنجازات الثورة وتحقيق أهدافها النهائية.
أما في ليبيا، فهناك سيناريو مختلف، فقد غرقت البلاد في فوضى واحتراب داخلي، وتحول التغيير إلى تدمير، وتمكنت القوى الإمبريالية الغربية من التدخل في شؤون الثورة والبلاد والعباد، بذريعة حماية المدنيين. هذا التدخل سيدمر الثورة، وسيحرفها عن مسارها، وستدفع ليبيا ثمناً مادياً وسياسياً باهظاً مقابل هذا التدخل، وستنتعش مصانع الأسلحة الغربية، التي ستعيد بناء الجيش الليبي وتسليحه، وستضمن الدول الغربية تدفق النفط والغاز الطبيعي الليبيين إليها بأسعار زهيدة. وهناك توقعات كبيرة بتقسيم ليبيا إلى دولتين أو ثلاث دول. فسياسة حلف "الناتو" في التعامل مع كتائب القذافي تسير وفق المثل العربي "لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم".
أما اليمن والأردن، فكل منهما يقف أمام أحد السيناريوهين، إما سيناريو مصر وتونس، وإما سيناريو ليبيا، ويعتمد نوع السيناريو الذي سيحدث في الأردن واليمن على قرار الولايات المتحدة، التي إذا لم تتمكن من إقامة نظام مقنع موال لها ويحظى بقبول الشعب، فإنها ستشعل الفوضى الهدامة والاقتتال والتدمير، وهي قادرة على ذلك، لتنهك الشعبين، وتفسح المجال لحلف "الناتو"، أو القوى الإمبريالية والاستعمارية الغربية، بالتدخل والتدمير، كما يحدث الآن في ليبيا.