إذا كان الأمير عبد القادر قد أسس دولة الجزائر الحديثة، فإن عبد العزيز بوتفليقة يعمل على توطيد ركائز دولة الجزائر المعاصرة التي تمتلك ضمانات الصمود والتحدي والاستقرار بقوة في مضمار عالمي موبوء بمختلف أشكال الاستعمار الجديد.. مضمار صارت تحكمه مخططات قوى دولية ظاهرة وأخرى خفية، تريد رهن مستقبليات الدول الضعيفة علميا وتكنولوجيا.. وفق إرادتها، كما تريد بسط هيمنتها على ثروات الشعوب واستلاب استقرارها وأمنها وآمالها في حياة متطورة آمنة.
عبد العزيز بوتفليقة الرجل الذي وعى التاريخ وفقه أبجدياته، لأنه كان واحدا من صُنّاعه في محطات عديدة من عمر الجزائر، وكانت له أدواره المؤثرة والفاعلة على الساحات العربية والإقليمية و
الدولية.. في مناصرة قضايا الشعوب العادلة وفي محاربة الميز العنصري وفي دعم صوت التّحرر في كل بقاع الدنيا.. هو ذاته الرجل الذي وعى تفاصيل الحاضر وامتلك رؤية استشرافية عميقة مكّنته من استباق كثير من المخططات التي كانت تستهدف الدفع بالجزائر إلى أعماق الهاوية.. لقد أسهم عبد العزيز بوتفليقة في تحرير الجزائر مرتين: مرة عندما انخرط في صفوف ثورة التحرير الوطني وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، ومرة عندما اجتهد في تخليص الجزائر من ديونها.. ولنلامس جوهر دور الرجل في معارك جزائر الحاضر علينا أن نرسم صورة لبلدنا من دونه على رأس الجمهورية؟ كيف كان سيكون حالنا..؟
عبد العزيز بوتفليقة ظاهرة سياسية عالمية - وليست جزائرية فحسب- لا يمكن أن تتكرر، يجب أن نعتبر إرثه التاريخي الكبير وميراثه السياسي العميق الذي لم يستثمره الجزائريون كما يجب للعودة بجزائرهم إلى مسرح العالم كفاعل حضاري لا يمكن أن يصير بأي حال مفعولا به.. إن إرث الرجل هو ثروة وطنية حقيقية لم نوظفها ولم نفد منها في معالجة قضايانا المعقدة.. كما يجب أن ننظر إلى رئيسنا من الزاوية التي ترسم مساره الثوري والسياسي على امتداد عقود، جايل خلالها قادة صانعي الأحداث العالمية، وعاش القضايا الدولية من مواقع قريبة ومؤثرة.. فكانت له علائقه وعلاقاته ومعاركه وحروبه التي خاضها من موقعه الثوري والدبلوماسي الفاعل والمؤثر..
لقد كان واضحا منذ انتخابه رئيسا للجمهورية أن هدفه الأساسي هو بناء دولة معاصرة قوية وتجنيبها "الفخاخ" التي تريد توريطها في لعبة عالمية قذرة.. ولكن يبدو أننا لم نفهم رئيسنا جيدا أو لم نستطع التواصل مع رؤيته لأننا لا نرى ما يستشرف من رؤى في عالم يُعاد جدولة منظوماته وخارطته.. ويجب الاعتراف بأن إرادة بوتفليقة وطموحاته لم يجد ما يقابلها من إرادة وطموح على مستوى دوائر المسؤولية الوطنية.. ومن المؤسف القول بان عبد العزيز بوتفليقة هو فرصة تاريخية أتيحت للجزائر في زمن حرج، ولكن الجزائريون لم يستثمروا هذه الفرصة التاريخية التي تعيد إلينا الأمل بمستقبل جيد في ظروف تاريخية توحي أن دول العالم الثالث التي تنام على الثروات سوف تتساقط في دوائر الاختراقات والفتن بشتى الطرق.. ويكفي أن نربط بين بؤر الاختراقات المنتشرة على خارطة دول الثروة الضعيفة ونقرأ ما خلف الأحداث.. لنقتنع أن يد الهيمنة ضليعة في مآسي الشعوب وهي تزرع في تفاصيل مخططاتها على أراض لم تستقر بعد، لتنجي حصادها في زمن قادم، وقد يكون زمنا قريبا.. ولكنه زمن آت ما لم يكن هناك استدراك يستند إلى استثمار ما يملكه رجل مثل عبد العزيز بوتفليقة من إرث تاريخي وسياسي..
إننا نتعامل مع رئيسنا برومانسية لا تخلو من تملّق وروح وصولية من أطراف عديدة.. ولكننا لم ننظر إليه كقيمة تاريخية وسياسية كبرى وكثروة وطنية لم نستفد منها.. وهذه واحدة من أخطائنا التي يجب أن نتجاوزها الآن، مادمنا نمتلك مساحة وفرصة لتحرير الذات ودفعها إلى فضاءات التحدي بقوة وثقة.
لقد ألف الشعب أن يضع نفسه دائما موضع الضحية، ورغم تقدّم الزمن وتغيّر الظروف، إلا أن صورة واحدة لمّا تزل تستعمر مخياله، وهي صورة الشعب الذي صودرت إرادته وحوصرت رغباته.. وقد أسهت الدوائر الإعلامية والسياسية.. في تثبيت الشعب بالركن المهمل، حيث لا ثقل له في صناعة المعادلات الانتخابية.. إن عبد العزيز بوتفليقة يعرف ما يريد من شعبه وحاول جاهدا أن يعيد إليه روح المبادرة والثقة في القدرات الكامنة.. غير أن الشعب لا يعرف ما يريده من رئيسه، وتلك هي المشكلة التي لا نريد الانتباه إليها.
إن الرئيس فتح ما أمكن من قنوات الاتصال مع شعبه وأطلق الرسائل الواضحة والمشفرة، ولكن الشعب عجز عن التواصل مع رئيسه والتجاوب مع طموحاته، ربما لأن الرئيس ينطلق من دائرة معلومات خاصة بالواقع الجزائري وأخرى متعلقة بالوقائع الدولية، لا تتوافر للمواطن البسيط ولم تستطع الدوائر الإعلامية أن تقترب من تفاصيلها أو تلامس مضامينها بالتحليل والتعليق.. وفي هذا السياق هناك نقطة أخرى يجب الانتباه إليها.. أن "عجز" الجزائر لم يكن يوما عجزا ماليا، بل العجز أننا لا نمتلك القدرات المؤهلة للتعامل مع الدولار بالملايير.. ونقصد بالقدرات تلك التي نراها في الواجهة، ففي الجزار طاقات هائلة غير مستغلة وغير مستثمرة لاعتبارات عديدة تشكل في أحد جوانبها عناصر أزماتنا الحاضرة..
وإذن على الشعب أن يكون في مستوى طموحاته رئيسه، ويدرك حجم التحديات والرهانات المحيطة والمفروضة على الجزائر في سياق فوضى دولية سوف تلتهم من يصرّ أن يبقى صغيرا ولا يستثمر كل طاقاته وقدراته.