لاحظت مع تأملي لسلسلة المواضيع التي تمجد الوطن و تضعه فوق كل اعتبار ، بل و هناك من يقدسه بدون أي تحفظ ، يجعلني أطرح هذا السؤال : هل حب الوطن واجب مقدس ، لا يصح الإيمان إلا به ؟ دعوني ابسط الأدلة ثم أنقدها ، و لكم القبول أو الاعتراض لكن بشرط ، لا بد من الأدلة الشرعية أولا و قبل كل شيء حال الاعتراض ، من الكتاب لو وجدت و من السنة لو وجدت و من أقوال أهل العلم الثقات لو جدت ، فمن قال إن "حب الوطن من الإيمان " حديث نبوي ... فأقول له ، لو كان حديثا أصلا ، فهو موضوع منكر مكذوب عن النبي صلى الله عليه و سلم لا يصح لا سندا و لا متنا ، و كلكم يعلم إن أحكام الشريعة لا تعتمد على الحديث الضعيف ، فضلا عن الموضوع أو المنكر أو المكذوب ، و من قال أن النبي لما هاجر من مكة و التفت إلى مكة و قال " والله إنك لخير أرض الله وأحب البلاد إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " رواه أبو هريرة و حدث به ابن حزم الظاهري و ذكره في كتاب المحلى صفحة 289 ، هذا حديث صحيح ، لكن في عصورنا المتأخرة فُهم بشكل مقلوب بالكلية فالنبي قال " وأحب البلاد إلى الله ... " هذا هو سبب حبه لها ، و ليس لأنها أرض طفولته أو لأنه سوف يشتاق لها أو يحن لها .. و قد هاجر منها و تركها لأنها بلد كفر ، و ذهب إلى المدينة المنورة لأنها بلد تبشر بالخير و مهد طيب لانتشار الإسلام ، و قد هاجر المؤمنون في مختلف العصور من أوطانهم هروبا بدينهم ، و لم يحنوا إلى الوطن و لم يذكر ، لا القرآن و لا الرسول ولا التاريخ ذلك أبدا ، فلا تنظروا إلى فيلم الرسالة ، فنبي الله نوح هاجر من بلاد الهند و لم ينزعج و هو على ظهر سفينته حتى نزل تركيا أو الأردن ، و مات بمكة ، و هذا نبي الله إبراهيم الخليل ، ترعرع في بابل العراق و هاجر منها لأنها بلاد كفر و فر بدينه إلى ارض مدين ثم إلى مصر ليعود إلى فلسطين و مكة ، ليموت في فلسطين ، و نبي الله يوسف نقل إخوته و عشيرته إلى مصر بعد أن كانوا في البادية ، و كذلك فعل موسى عليه السلام ، فر بأهله من مصر إلى أرض الميعاد و تزوج هناك و عاد بأمر الله عز و جل ، و خرج بأمر عز و جل إلى فلسطين من جديد و هلك على أثره فرعون ، وهكذا فعل كل المؤمنين عبر الأزمنة كما فعل الشركس لما فروا من الوثنيين التتر و الروس إلى الأردن ، و كما فعل أهل الأندلس فرارا بدينهم من محاكم التفتيش الصليبية إلى المغرب الإسلامي و هكذا ، فلم يقدس احد منهم مسقط رأسه و لم يتغنى بالوطن و حبه إلا على سبيل المحبة الفطرية فحسب ، و لم يبالغ احد منهم إلى حد التقديس و التبجيل ، بل و يجعلها قربة من القربات التي يتعبد بها إلى الله عز و جل . باختصار و خلاصة الكلام / دع محبتك لوطنك في حدود المحبة الفطرية كحبك لامك و أبيك و أولادك و اهلك ، و لا تجعل الوطن طاغوتا تتقرب إلى الله به ، و تشرع لنفسك طاعة لم يأذن الله بها .