الرحلات الخيالية - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > منتدى الثّقافة العامّة

منتدى الثّقافة العامّة منتدى تـثـقـيـفيٌّ عام، يتناول كُلَّ معرفةٍ وعلمٍ نافعٍ، في شتّى مجالات الحياة.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الرحلات الخيالية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2010-11-19, 09:31   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 الرحلات الخيالية

الفصـــــل الأول: أشـــكال الرحلات الخيالية
أولاً - رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة:
يرتبط هذا الشكل من الرحلات الخياليّة بأماكن الجنّ والعفاريت والشياطين تلك الكائنات الغريبة التي اختارها بعض الشعراء ملاذاً له يبثّها مواقفه من الحياة والفنّ والفكر وتشمل ((رحلة عبقر))، لشفيق معلوف، و((في حانة إبليس)) لمحمد الفراتي، و((ترجمة شيطان))، لعباس محمود العقّاد.
أمّا المدن المسحورة فهي تلك المدن التي عرفت في زمن ما واختفت بصورة غامضة، وارتبطت بشكل ما بالغرابة والعجائبيّة نحو ((إرم ذات العماد)). التي استوحى منها نسيب عريضة مطولته ((على طريق إرم)).
وأول هذه الرحلات الخياليّة إلى تلك العوالم الغريبة هي:
رحلة ((عبقر))، لشفيق معلوف1905.
مطوّلةعبقر من أهم الرحلات الخياليّة في الشعر العربي الحديث وقد نظمها الشاعر شفيق معلوف مستمداً مادتها من الأساطير العربية القديمة. وقد صدرت بعض أناشيدها أوّل مرّة في صحافة المهجر البرازيلية عام 1929، إلى أن صدرت عن مجلة الشرق البرازيلية عام 1936، وقد تضمنّت ستة أناشيد هي ((في طريق عبقر، الإله الناقص، حسرة الروح، حكمة الكهّان، ثورة البغايا، العبقريّون)). إضافة إلى مقدّمة عن أساطير العرب وشياطين الشعر بقلم والده عيسى إسكندر معلوف. وقد لقيت اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبيّة والفنيّة يومذاك، الأمر الذي حفّز شفيقاً إلى إصدارها سنة 1949 في 343 صفحة بعد أن تضاعفت أناشيدها وبلغت اثني عشر نشيداً، فكانت الأناشيد المضافة: ((نهر الغي، وادي سجين، الهوجل والهوبر، حلم هراء، العنقاء، أحاديث خرافة))( [i])، وقد نظمت المطوّلة على البحر السريع المنوّع القوافي.
قدّم شفيق المعلوف مطوّلة عبقر على أساس فكرة شيطان الشعر الذي يحلّق بالشاعر بعيداً عن عالم الواقع إلى عالم الجنّ والشياطين في وادي عبقر. ذلك الوادي الذي تؤوب إليه كلّ الأساطير والخرافات.
وقد جاءت ((عبقر)) فريدة بين مطوّلات الشعر العربي ومن بين موضوعات الرحلات الخياليّة لما في موضوعها من خصوصيّة، إذ تتناول أساطير العرب وخرافاتهم وعباداتهم ومعتقداتهم في الجاهليّة. وقد حملت أناشيدها العناوين التالية:
النشيد الأوّل: طريق عبقر النشيد السابع: حلم هراء.
النشيد الثاني: الإله الناقص النشيد الثامن: حكمة الكهّان.
النشيد الثالث: حسرة الروح النشيد التاسع: ثورة البغايا.
النشيد الرابع: نهر الغي النشيد العاشر: العنقاء.
النشيد الخامس: وادي سجين. النشيد الحادي عشر: أحاديث خرافة.
النشيد السادس: الهوجل والهوبر النشيد الثاني عشر: العبقريّون.
في النشيد الأوّل ينبري شيطان الشاعر مستظلاً بغيمة، وقد بانت سُحنته البشعة، فيحيّي الشاعر بتحيّة الصباح، ثمّ يعرض عليه أن ينطلق به إلى عالم السحر والخرافة حيث تأوي الجنّ والشياطين في وادي عبقر فيوافق الشاعر على ذلك ويمتطي ظهره، يقول:
حتَّى تَهاوَى بي إلى موضعٍ مَا راقَني مِنْ قَبلهِ مَوضعُ
غَمائمٌ زرقٌ على مَتْنِها مَنازِلٌ جُدرانُها تَسْطَعُ
فَقالَ هذي عَبْقَرٌ ما ترَى وَضَجَّةٌ الجِنِّ التي تَسْمعُ( [ii])
وفي النشيد الثاني يقف علىأبواب عرّافة عبقر، وهي عجوز دردبيس تخال جهنّم في عينيها، ولكنّها دوّت سخطاً ودعت ويلاً عندما شاهدت هذا الإنسيّ الذي اقتحم عليها عالمها حاملاً شرّه بين جنبيه، وراحت تقذفه بعبارات التقريع والتذّمر قائلةً:
يَا آَكَلَ الأمواتِ ورَامِقَ النّيراتِ
بالأعْينِ الوَالِههْ لا تَمْضِ في عُجْبِكْ
فإنَّما الآلِههْ لَيْسَتْ على دَرْبِكْ
مادَامَ حبُّ الذَّاتِ يَنْخَرُ في قَلْبِكْ( [iii])
ويبتعد الشاعر في -النشيد الثالث- مع شيطانه عن عرّافة عبقر مستاءً ممّا سمع، غير أنّ الشيطان يحثّه على المُضي قُدماً في متابعة الرحلة، ثمّ يسمع صوتاً شجيّاً يعتصر الأسى نبراته، هو صوت أميرة الجنّ،بدت وقد أصابها طائف من الإنس فذاقت لذّة الجسد واحترقت بنار الشهوة، فما تلبث تعانق الأرواح دونما نفع، فلا شيء يشبع فيها النهم غير الجسد، لذا تراها تبيع الخلود بالكفن، فتقول:
ياحَامِلَ الجسم ألا أعطنيهْ وخُذْ إذا شِئْتَ خُلودِي ثَمَنْ
وِشَاحِي الناريُّ مَنْ يَشْتَرِيهْ فإنّني أَبِيْعُهُ بالكَفَنْ( [iv])
وفي الرابع من أناشيد عبقر يثب الشيطان بالشاعر وثبة عظيمة تقذفهما إلى نهر الغي، حيث يلتقي مارداً اسمه سرحوب، ما يفتأ يضرب النهر بعكّازه، فينفرج عن لجّة دهماء ظلماء كثيرة الشعاب يمشي فيها هذا المارد الأعمى كالبصير في النور، ويقدّم للشاعر عدداً من النصائح الخلقية التي تقوّم المجتمع في مواجهة الفساد الماديّ، يقول على لسان سرحوب:
يا أيُّها الهانِئونْ برُؤيَةِ الأسحارِ
والمَالِئونَ العُيونْ بِبَهجَةِ الأَنْوارِ
ماكُنتم تخبطونْ في لُجّةِ الآثامِ
لَوْ أنّكُمُ تُبْصِرُونْ مِثْلِيَ في الظّلامْ( [v])
ثمّ في النشيد الخامس يقفزبه شيطانه إلى وادي سجين، فيرى إبليس قد استراح على عرشه بعد أن قلّد أبناءه الخمسة مقاليد الغواية والضلال.
الأوّل: ((ثُبَرّ)) شيطان الحروب والدمار ومثير الفتن والأهوال، بدا وقد أطلق ضحكات الهزء والسخرية من بني البشر بعد أن نزع القيود من أرجل العبيد ليتوّج بها رؤوس الغزاة، ثمّ يظهر أخوه ((داسم)) مزّيّن النقائص والدسائس، ومعلّم الناس أساليب الرياء والخداع، ثمّ يبدو ((أعور)) إبليس الشهوة، يقول لبني البشر:
وَلْيَعْلَمِ العَاشِقُونْ أنَّ اصطِفَاقَ الجُفُونْ
في لذةٍ غَائِمهْ مَاهُو إلاّ مِرانْ
يُهَيّئُ الأجْفَانْ للنَّومَةِ الدَّائِمَهْ( [vi])
ثمّ يخرج ((زلنبور)) شيطان المال، معبود أهل الذهب ومفضّض الأغلال، غير أنّ الجميع يسيرون في النهاية تحت راية ((مِسْوَطٍ)) شيطان الكذب.
وفي النشيد السادس يتحدث المعلوف عن الهوجل والهوبر شيطاني الشعر، والهوجل يوحي الشعر الجيد ويعمل لأجل الحياة وبثّها في كلّ مكان، في حين يقوم الثاني على الإتلاف والتخريب وقد تمثّل ذلك في صورة إيحائيّة تصوّر الهوبر يأكل البسر ويرمي بالنواة على الأرض ليلتقطها الهوجل فيغرسها في الأرض.
وفي النشيد السابع يتحدّث عن رؤيا أميّة بن أبي الصّلت وخلاصتها: إنّ الشاعر الجاهلي كان يهيّئ نفسه للنبوّة لما شاع في زمنه عن نبي يرسل في العرب، وفي ليلة ماينام أميّة فيأتيه هُراء في المنام بهيئة طير جثمت بقربه فشقّت أضلاعه واستخرجت قلبه المجبول على الشرّ والحسدوالرياء فعرضت على ذلك القلب نور النبوّة فأباها، لأنّ النبوّة مقام سامٍ لا يصل إليه إلاّ من صفا قلبه وخلصت سريرته، فيقول:
أَذَاكَ قَلْبِيْ أَنَاْ تَاللهِ قُلْ يا هُراءْ
إذَا قُلوبُ الوَرَى كَانَتْ وَقلْبِي سَوَاءْ
وَكَانَ مَا بِي بِهِمْ لا كُنْتُ في الأَنبِياءْ( [vii])
أمّا في النشيد الثامن فيقابل المعلوف حكيمي عبقر، وهما: شقٌّ وسَطيح، فالأوّل كان نصف إنسان بعين ورجل ونصف لسان، والثاني قد سُلّت من جسده العظام فصار يُطوى كطيّ السجل. ويعرض الكاهنان على الشاعر عدداً من النصائح بما أوتيا من الحكمة. ويركز شفيق في هذا النشيد على الجوهر الأساسي في الحياة، وهو الروح. لأنّ الجسد مجرّد وعاء لا يضرّ النقصان فيه كمال الروح -ولاسيما- إذا تقوّت الروح ومُلئِتْ حكمة.
وفي نشيد ثورة البغايا، وهو النشيد التاسع يصوّر البغايا اللواتي ثرن في الجحيم على الله، واعترضن على قدره فيهن حتّى ضجّ منهنّ أهل النار، فزجّ بهن الله في وادي عبقر، يقول شفيق على لسانهنّ:
ُثرْنَا عَلَيْهِ حِينَما سَامَنَا عَسْفَاً فَلَمْ نَصْبِر على عَسْفِهِ
قَدْ حَشَدَ اللّذَّاتِ قُدَّامَنا وجَيَّشَ العَذَابَ مِنْ خَلْفِهِ
أَفْتَى بأنْ نَقُومَ في رِبْقِنا بِجِزيَةِ العَبْدِ إلى رَبِّهِ( [viii])
وفي النشيد العاشر يميل الشيطان بالشاعر إلى ناحية من عبقر يضيق بها الأفق، ويملأ جنباتها طائر خرافي هوالعنقاء ومن خلفها فرخاها الرُّخ والفينيق، ويصوّر المعلوف حال هذه الطيوروضخامتها وأوكارها مقارناً بين عظمة أجسامها وعظمة عقول بني البشر التي أسكنها أهلها جماجمهم الضيّقة فحدّوا من إبداعها وانطلاقها، يقول:
مَا عَجَبِي لِفينقِ مُوْقِدِ لِنَفْسِهِ النّارَ على المِحْرَقَةْ
بَلْ لِطُيُورٍ مِثْلِها ضَخْمَةٍ أَوْكَارُها الجَمَاجِمُ الضيّقَةْ( [ix])
وفي أحاديث خرافة وهي النشيد الحادي عشر يروي الشاعر أسطورة خرافة وأحاديثه التي يرويها، وهي نسور لقمان، وأسطورة نصر بن دهمان، وحديث من البادية. ففي حديث نصر بن دهمان يتحدث خرافة عن نصر بن دهمان شيخ غطفان الذي عاد شاباً بعد أن أحنت ظهره السنون حتّى بدا كنابش قبره بيده، ولكنّ جنيّة تسلّلت ليلاً إلى مخدعه لتعيد إليه الشباب من دمعها وكحلها وحرقة أنفاسها.
وفي مقطوعة أناهيد يروي أسطورةً تتحدث عن امرأة من الأعراب اسمها أناهيد باعت نفسها للهوى، وجعلتْ من نفسها مستراحاً للركبان، فتثير غضب الآلهة عليها فتحوّلها إلى نجمة تهدي الركبان في الليالي التائهة في قلب الصحراء.
أما النشيد الثاني عشر، فهو آخر محطات الرحلة حيث همس الجماجم، ولغة الفناء تشدّ إليها الرائي المتعظ، ويبقى الخلود للروح وتبقى الأجسام قشوراً لا تفتأ تتيبّس ليتفتّق اللبّ عن خلق جديد، ويظل الحبّ هدفاً تسعى إليه الشاعريّة ووسيلة لخلاص الإنسانيّة من آلامها، فيقول:
والحُبُّ في الجَنَّةِ مَا شأْنُهُ وَلا أَذَىً فيهَا ولا بُغْضُ
أَلْقُوهُ للنارِ وَإنْ أَرمَضَتْ أَقْدَامَهُ المَوَاطِئُ الرُّمضُ
ولَيَتَلّقَّفَهُ شُواظُ اللَّظَى وَلْيَتَلَهَّمْ بَعْضَهُ البَعْضُ
فَالأرضُ إنْ كانتَ جَحيماً لَهُ وَكانَ فيها تَهْنأ الأَرْضُ( [x])
لقد تمثّل الشاعر في عبقر الحياة الإنسانيّة المعاصرة، التي تقوم على الصراع بين المادّية الطاغية والروح الإنسانيّة الطاهرة، فبدت عبقر كأنّها صورة ممسوخة لهذا المجتمع بكلّ ما فيه من تناقضات، وقد أراد الشاعر فيها أن يرسم موقفه من الإنسان، الذي بدا شريراً بطبعه، والحياة الاجتماعيّة المتردية التي رسفت في قيود الرذيلة، وغلبة الشهوات، وقد ألبس شفيق مادته الأسطورية في هذه الرحلة رؤية إنسانيّة شفافة بعثتها بثوب جديد يتساوق والهدف الذي صرّح به شفيق في مقدّمة عبقر وهو بعث التراث الأسطوري العربي والتجديد في الشعر العربي المعاصر.
في حانة إبليس محمد الفراتي 1890-1978.
قصّة شعريّة نشرها الشاعر في ديوانه النفحات في حوالي 1956-1957 وهي مؤلّفة من خمسة وستين ومائة بيت على بحر الهزج منوّع القوافي.
وتدور أحداث القصّة في طفولة الشاعر عندما يلتقي جنيّة تغريه بالحلوى لتسوقه خلفها نحوعالم إبليس حيث يلتقي هناك أبا مرّة ويدور بينهما حوار طويل ينتهي الحوار إلى هدّية يقدّمها إبليس لهذا الطفل الناشئ، هي موهبة الشعر على أن يحتفظ الطفل بالسّر إلى أن يكبر وإلاّ فسيصاب بالخبل انتقاماً تقوم به الشياطين والجنيّة لذلك.
يقصّ علينا الشاعر، وهو شيخ طاعن في السنّ ماكان في طفولته من لقائه جنيّة أخذت تناديه وتغريه بالحلوى لتستجرّه وراءها بعيداً عن الدور، ثمّ لتأخذه إلى أعماق الأرض حيث تقطع به مسافة طويلة ليقف أمام ظلمة داجية وتصيح بكلمة سحريّة تشقُّ دياجي الظلمة، لتضيء تحتها دور وبساتين لا نكاد نلمح فيها شيئاً يتميّز عن عالمنا الأرضي يقول:
إِذْا بِالأَرْضِ قَدْ ضَاءَتْ وَبَانَتْ تحْتَها دُوْرٌ
وَقَدْ حَفَّتْ بِتِلْكَ الدُّو رِ أَنْهَارٌ وَجَنَّاتٌ
وَعَنْ بُعْدٍ تَرَاءَتِ لِي صَحْرَاءٌ وَوَاحاتٌ( [xi])
ثمّ يصوّر قصر إبليس فيتكئ في تصويره على خيالات وصور مستمدّة من عالم ألف ليلة وليلة، فهو قصر مشيد من درّ وماس، وأبوابه من الجواهر والذهب، وبناء القصر يغلبُ عليه الطابع الإسلامي ففي وسطه قبّة عظيمة وبهو كبير، ودعائمه من الذهب وتحفُّ بإيوانه ولجّته أشباح ومخلوقات عجيبة من الجنّ يقول:
إذا قَصْرٌ مَشِيْدٌ مَا لَهُ شِبْهٌ لَدَى النّاسِ
بِأْعَلَى رَبْوَةٍ قَدْ شِيْـ ـدَ مِنْ دُرٍّ وَمِنْ مَاسِ
وَفَوْقَ العَرْشِ إِبْلِيسٌ لَهُ عِزٌّ وَسُلْطَانُ( [xii])
ثمّ ينتقل الفراتي إلى وصف إبليس ومالديه من زينة وأدوات إغواء، حتّى إذا اقترب منه ناداه أبومرّة مستعطفاً إيّاه ومستغلاً سذاجته ليريه في مرآته أعاجيب عن الناس، ماكانت تخطر له ببال. فيرى الناس يتقاتلون على الدنيا كالوحوش الضارية ويرى تهافت الناس على الشهوات وغيرها من مهاوي الأخلاق، وكأنّه يؤكّد سطوة الشهوات والغرائز في رسم مصائر كثير من البشر، لأنّ كل الناس في رأي إبليس صريع الجنس والشهوة بدءاً بأبي البشر آدم. ويظهر إبليس تظلمه أمام الشاعر، فالله عزّ وجلّ، على حدّ زعمه، قد ظلمه أكبر الظلم حين تاب على آدم ولعنه إلى يوم القيامة، رغم أنّ آدم قد ركّبت فيه كلّ طباع السوء، فيقول:
وآدَمَكُمْ طِبَاعُ السُّو ءِ أجْمَعُ رُكِّبَتْ فيهِ( [xiii])
وبعد هذه الحوارية يلتفت إبليس إلى الشاعر ليقدّم له هدية ثمينة، ألا وهي صولجان الشعر، فيقول:
أتدْري فيمَ جِئْنَا بِـ ـكَ في ذَا اللّيلِ مِنْ أهْلِكْ
فَعِنْدِي مِنْحةٌ مَخْبُو ءَةٌ في الغَيبِ مِنْ أجلِكْ
فذا الطّاوُوسُ قَد يُعطى لمزهُوّين بالفنِّ
فدُونَكَ صولجانَ الشِّعـ ـرِ خذْهُ وِهْبَةً مِنّي( [xiv])
ثمّ تعود السعلاة بالشاعر الفراتي بعد أن يأخذ منه إبليس المواثِيق بألاّ يخبر أحداً بما جرى حتى يغدو شيخاً طاعناً في السنِّ. ثمّ يعرض الفراتي لبعض العادات الشرقية السائدة في بلده، ولاسيما، المتعلقة بالأحزان ويشيد بالتآزر الذي يلقاه الإنسان المنكوب بمصيبة ما من أقاربه وذويه، فيقول:
فَأَلْفيتُ أبي المحزُو نَ طولَ اللّيلِ سَهَرانا
وَأَلفيتُ عَجُوزَ الخيــ ـرِ أمّي وَهْي مُحتارَهْ
تنوحُ وحَولَها العمّا تُ والخَالاتُ والجارَهْ( [xv])
وينقلب حال أهل الشاعر سروراً بعد حزن عندما يتلقونه ويخبرهم
بما جرى له حسبما أوصته السعلاة أن يفعل ويطوي سرّ الحادثة إلى أن
يرويها في هذه القصيدة.
وهكذا انتهت رحلة الشاعر الفراتي بعد أن حلّق بخياله في عالم الجنّ والشياطين ذلك العالم الغريب، لا للتسلية والترفيه، وإنّما ليرسم ملامح موقفه من الحياة الاجتماعيّة التي صوّر كثيراً من جوانبها وماكان ليرتحل إلاّ ليعرّض ببعض الجوانب الفاسدة، والتهافت وراء الشهوات والانخداع ببعض الفئات المدّعية التديّن، كما استطاع أن يرسم لوحة صادقة لمجتمع إنساني لا يزال يعيش أحاديث الجنّ وأساطير خرّافية. ولا يخفى تأثّر الفراتي في رحلته الخياليّة هذه بأسطورة شيطان الشعر الذي يلهم الشاعر أجمل القصائد.
*
ترجمة شيطان عباس محمودالعقّاد (1889-1964).
جاءت قصيدة ((ترجمة شيطان)) في ديوانه ((أشباح الأصيل)) مؤلفة من (220) مائتين وعشرين بيتاً على بحر الرمل. موزّعة على شكل ثنائيات متّحدة القافية شغلت الصفحات من 272 إلى 289.( [xvi])
وتروي القصيدة سيرة شيطان ناشئ من ولد إبليس سئم الحياة التي خُلق لها فيتمرّد على هذه الخلقة والمهمّة التي تقتصر على الإغواء، ويتوب إلى الله عزّ وجلّ عن الشرّ فيجازيه الله عن توبته بالجنّة مسكناً ومآباً، ولكنّ روح الثورة لاتفارق هذا المخلوق فيرى أنّ أيّ منزلة دون الكمال الإلهي نقص وعيب فيطلب إلى الله في تحدّ صارخ أحد أمرين: إمّا الخلود الإلهي المطلق، وإمّا التحوّل حجراً صلداً تُخلّد فيه روعة الفنّ الجميل. يطالعنا العقّاد منذ البداية بمقدّمة فلسفية قوامها فكرة بسيطة هي أنّ الله خلق هذا الشيطان محنة للعالمين ووسيلة لتعليم الحكّام والملوك كيف يرمون من شاؤوا التخلّص منه بتهمة المروق والعصيان. يقول:
صَاغَهُ الرَّحمنُ ذُو الفَضْلِ العَمِيمْ غَسَقَ الظَّلمَاءِ في قَاعِ سَقَرْ
ورَمَى الأرضَ بِهِ رَمْي الرَّجيمْ عِبرةً فاسْمَعْ أعاجيب العِبَرْ( [xvii])
ثمّ يقذف به من السماء إلى أرض الزنوج ((أولاد حام)) فهم بجهلِهم وتخلّفهم أرضٌ خصبةٌ للإغواء، ولكنّه لا يبقى طويلاً حتى يُرمى به في سواحل أوربّة، يقول:
لَمْحَةٌ جَازَتْ بهِ مَشْرِقَها ثُمَّ رَدَّتْهُ حِيالَ المَغْرِبِ
وَيِشاءُ اللّهُ أَنْ يُوبِقَها فَاشْتَهَاهَا شهْوَةَ المُغْتَصِبِ
وارتضى فِيها مقَاماً رَغَداً حَوْلَ بَحْرِ الرّومِ أوبَحْرِ العَجَمْ( [xviii])
فيلبس عليهم الشيطان الحقّ ويخنس على القلوب، فإذا هي صراعات مرة مع الرغبات والشهوات والعادات والقوانين، غير أنّ كلّ هذا يكون بأسلوب تقريري لا أثر بالغ للتصوير الشعري فيه.
ثمّ يسأم الشيطان من دوره في الإغواء ويكفر بالشرّ العقيم، لأنّ الناس قد تساوت لديه في الهدى والضلالة، فينوب إلى الله ويتوب عن الإغواء، ومُحال أن يردّه الله، فيفتح له أبواب جنّته يختار منها المقام الذي يشاء عند مصبّ السلسبيل في زمرة من الملائك والحور والولدان المخلّدين يقول:
يَكْفُرُ الشَّيطانُ بالشّرِّ العُقامْ فَتَعُدُّ الكُفْرَ مِنْهُ نَدَما
وَتُنَجِّيهِ إلى دَارِ السَّلامِ وَقَدِيْمَاً قُلْتَ لا يَغْشَى الحِمَى
فَضْلُكَ اللّهُمَّ مِنْ غَيْرِ حِسَابْ وَكَذا اللّهُمَّ آلاءُ العَلِيمْ
نَزَلَ الشَّيطانُ مِنْ جَنَّتِهِ مَنْزِلاً يَرْضَى بِهِ الفَنُّ الجميلْ( [xix])
إلاّ أنّ الشيطان سرعان ما يسأم حياة النعيم لأنّه لم يصل إلى مقام الخلود المطلق، مقام الربوبيّة الذي لا يدانيه نقص، إذاً لابدَّ من الثورة والتمرّد، وهنا تصل روعة التصوير الشعري عند العقّاد ذروتها، حيث يقول:
وَبَدَا الشَّيْطانُ مَعْرُوفاً تَرَى كِبْرِيَاءَ الكُفْرِ في وِقْفَتِهِ
عَالَي الجَبْهَةِ يَأْبَى القَهْقَرَى وَتَوُجُّ النَّارُ مِنْ نَظْرَتِهِ( [xx])
ويحسد الشيطان الله على مقام الربوبيّة ويظنّ أن الله ظلمه لأنّه خلق فيه روح التمرّد والعصيان، فهو أسير إرادته، ولو أنه عصى الله بإرادته لوجبت لعنته لمخالفته أمر الله، ويعترض الشيطان علىالله الذي يهب الجنّة لعباده من السذّج الذين لا يطمحون بالنظر إلى الخلود المطلق ولا يفكّرون به مجرّد التفكير في حين يشقى هو بعقله لأنه ينظر إلى البعيد ويطمح إلى الخلود.
وتصل ذروة التمرّد لدى الشيطان حين يتحدّى ربّه بأنّه لن يسأله الرحمة والشفقة أبداً، وأن يجعله حجراً صلداً وفتنة تجذب إليها النفوس والعقول فيقول:
وادْعُ في خلقِكَ يَسْجُدْ مَنْ رَجا خُلْدَكَ الأعلى فما نحنُ سُجودْ
لنكوْنَنَّ إذا صحَّ الحَجَا حَجَراً صَلْداً ولاهذا الوجودْ( [xxi])
ويتخلّى إبليس عن ذلك الشيطان الناشئ، ويسخر منه، ويرفض أن يسلكه سبيل شهداء الشياطين، فيقول:
قالَ: فلْتسلكْهُ فيمَنْ سَلكُوا أيُّها المَولى سبيلَ الشّهداءْ
وتَقَضَّتْ بينهُمْ سيرتُهُ وَمضَى كالطّيفِ أو رَجْعِ الصَّدى
باءَ بالسّخْطِ فلا شيعتُهُ رَضِيَت عنه ولا أرضَى العِدا( [xxii])
وتبدو (ترجمة شيطان) للعقّاد رحلة خالصة للخيال، وتكاد لا تحمل شيئاً من الارتباط للواقع، وكأنّ العقّاد اتخذ من الموضوع مادة للإبداع والتجديد، فكانت القصيدة بذلك مخلصة لموضوعها، لم تحمّله أبعاداً خارجة عنه.
وهي من غير شكّ تكشف عن تجذّر الفساد في نفس الشيطان، وكأنّها تريد توكيد ثبات الشرّ في النفس الشريرة.
على طريق إرم نسيب عريضة (1887-1946)؟
وتعدّ (على طريق إرم) رحلة إلى عالم عجائبي، بحثاً عن الراحة والطمأنينة وقد استغرقت من ديوانه (الأرواح الشريرة) قرابة تسع عشرة صفحة بلغت أبياتها 247 بيتاً موزعة على ستة أناشيد هي:
1 ـ أوّل الطريق.
2 ـ القلوب علىالدروب.
3 ـ الطلل الأخير.
4 ـ في القفر الأعظم.
5 ـ القيروان.
6 ـ نار إرم( [xxiii])
وهي منوّعة الأبحر والقوافي وفيها مخمّسات في النشيد الأخير، أمّا الأبحر العروضية فهي: مخلّع البسيط في النشيد الأول، ومجزوء المتدارك في الثاني، ومجزوء الوافر في الثالث، والمجتث في الرابع والخامس أيضاً، وفي النشيد الأخير مجزوء المتدارك.
لقد دفعت كثرة التفكير الشاعر إلى أن يتخيّل عالماً نقيّاً صافياً ترى فيه النفس استقراراً وهناءة عند تحقيق ذاتها فكانت ((على طريق إرم)) محاولة لتحقيق هذه الراحة بخوض غمار المغامرة وحضّ أدوات النفس على الصمود في مواجهة القلق الناجم عن سطوة الحياة المادّية ويظل في كفاح وجهاد، ومدّ وجزر إلى أن يصل إلى نار إرم التي ينشدها ويرى فيها خلاصه المؤمّل.
(( جاء في أساطير العرب أنّ (إرم ذات العماد) مدينة عجيبة بناها شدّاد بن عاد من حجارة الذهب واللؤلؤ والجواهر فكانت فتنة باهرة للعيون لا يقدر القادم إليها من بعيد أن ينظر إليها إذا واجهها في ضوء النهار، ثمّ أقفرت هذه المدينة العجيبة واختفت في الصحراء، فهي في مكان محجوب عامرة بقصورها السحريّة وكنوزها المباحة، ولكن لا وصول إليها، وقد طلبها كثيرون فهلكوا أو ضلّوا وعادوا قانعين من الغنيمة بالإياب. هذه إرم الأساطير. أمّا إرم الشاعر التي يتحدث عنها الناظم في ملحمته فهي (إرم) الروحيّة......))( [xxiv]).
إذن فللشاعر إرم أخرى غير المقصودة بالأسطورة، إنّها وليدة التفكير العميق بالنفس والحياة والخلود والموت، هذا التفكير الذي رسمت ملامحه حمأة الحياة المادّية، التي طغت على كلّ شيء في هذا العصر، لذا وجدنا أنّ الشعراء ارتدّوا إلى ذواتهم يصنعون لأنفسهم عالماً من الخيال يلوذون به فراراً من هذه الحياة المتعبة، يحلمون فيه بالدعة والطمأنينة ولو لحظات، ليعودوا بعدها إلى عالم الواقع، وقد حملوا معهم نشوة الحلم ليسيل المداد به.
وفي لحظة الإبداع ينفلت الخيال من صفد الواقع، يسعى الشاعر إلى الروح المشرقة فيتخذ لنفسه سميراً-قد لا يكون سوى شعره- ليجدّ في السير نحو الطريق التي أشرقت بروقها في روعه، وارتسمت معالم الطريق إليها فأصيبت روحه منها بمسّ لطيف يكاد لا يفارقها. وهنا يكون النشيد الأول هو بعنوان ((أول الطريق)): فقد هامت روحه هُيام الأعمى الذي لا يحسن السؤال، ولا يعرف الطريق إلى هذا الروح الذي طاف به من عالم الخيال، وقد سارت إليه القوافل تباعاً ليس لها هادٍ إلاّ الروح لأنها المطيّة الوحيدة إلى منبع الإشراق الحقيقي.
يهيّئ الشاعر لنفسه المطايا ليكوّن الركب العجيب الذي سيقلّه إلى إرم الروحيّة، لذا تراه يسوّد القلب على ركبه ويجعله هادياً لهم ومرشداً إلى الحلم.
أمّا النشيد الثاني وهو بعنوان ((القلوب على الدّروب)) فإنّ الشاعر والركب يمتحنان القلب بعد أن سوّداه على ركبهم ليمحّصا قدرته على قيادة الركب والوصول به إلى الغاية المرجوّة، لكنّه قائد يذوب من الحبّ ولا يصبر على ليل الأسى الذي يمتحن مطايا القلوب ويرميها بوابل من الشوق فيهيج طرف الشاعر بالدموع وتجتمع إلى صدره الهموم، حتّى يكاد ييأس من طلوع الفجر. فهل يستطيع القلب أن يكون مرشداً ودليلاً إلى منبع الإشراق؟ وهاهي ذي الأجراس ترنّ بأسماع الشاعر، وليس رنينها إلاّ صدّىً لأنين الروح الملهبة بسياط الشوق والهيام، فيخشى الشاعر على ركبه من الشتات فيصيح:
يَا قُلوباً غَدتْ نياقا سَامَها الوَقْدُ أَنْ تُساقَا
قَدْ سَرَى قَبْلَكِ الجَمالُ مَعَهُ النُّورُ والكَمالُ
فأسْرِعِي يَا قُلوبْ واهْتدِي بالطُّيوب( [xxv])
وفي النشيد الثالث ((الطلل الأخير)) يجرّد الشاعر من نفسه واحة صوفيّة فيناجي ذلك الطلل مناجاة لهفة وحنين، غير أنّ الحيرة تملأ قلبه بالضياع والأسى، إذ يحاول أن يصل إلى راحة الروح التي طالما حلم بها، ولكنّه لا يصل إلى ذلك الصفاء رغم كلّ أحلامه في الوصول.
وفي النشيد الرابع ينحر الشاعر ناقة الوجد في القفر الأعظم ويقدّم قربان الجسد على مذبح الأسى والوفاء لعلّه يتخفّف من أوضاره المادّية المثقلة للروح، لتخفّ الروح إلى العُلى حيث السمّو والعلاء، غير أن الجسد يضيع في صحراء التيه فلا شيء يهدي هذه الروح إلاّ مزايا البذل والتضحية والفداء، لذا يحثّ النفس عليها لأنّها لن تصل إلىمنبع الإشراق إلاّ بهذه السجايا، عندئذٍ لا تهمّ المسالك، وأيّاً كانت سالكة أم غير سالكة فكلّها تؤدّي إلى الخلود في الحياة التي يأكل الفناء رواءها وإشراقها يقول:
يا نَفْسُ لا فرقَ عِندي في سَلْكِ أيّ الدّروبِ
تَقَدِّمي وَسيري إلى مَكانٍ بَعِيدِ
كلُّ الدّروبِ تُؤَدِّي إلى سَبيلِ جَديدِ
إنَّا وإِيَّاكِ رَكْبٌ عَلَى طريقِ الخلودِ( [xxvi])
ثمّ تدور مناجاة بين الشاعر ونفسه، يستحث الشاعر نفسه على أن تهديه بصفاتها ونقائها إلى الطريق الصحيح، فيصيح بأذن نفسه ليسمع صوت الفجر يهديه إلى حقيقة لا مفرّ من إدراكها، إنّها حقيقة انقضاء الحياة في عبث لا طائل منه، فالعمر يمضي مابين ليل وفجر، فيستغيث الشاعر نفسه أن تكفَّ عن تذكيره بأوزاره التي يحملها على ظهره، مرهقاً بأوجاعها. ورغم مايلوّح به الشاعر من روح الأمل فإنّ نزعة التشاؤم تسيطر على الأبيات.
وفي النشيد الخامس: وهو بعنوان ((القيروان))، وربّما أراد الشاعر بهذه التسمية الإشارة إلى مدينة القيروان التي كانت منبعاً للعلم والمعرفة في إفريقيّة بعد الفتح الإسلامي.
المفيد في الأمر أنّ الشاعر راح يتفقّد الركب ويجمع أشتاته فيقول:
قَدْ كانَ في الرَكْبِ قَلْبي وَمُهجَتِي وَهَوايا
والعقلُ حَامِي السَّرايا والشَّوقُ زاجِي المَطايا
وفِي الهَوادِجِ حُلْمِي ورَغْبَتِي والطَوَايا
بَنَاتُ صَدْرِي وشِعْرِي والذّكْرَياتُ الحَظَايا( [xxvii])
وتغدو قيادة الركب صراعاً بين أفراده فكّل يريد أن يقود الركب إلى غايته المنشودة، ولكن هيهات فقد راحوا يتساقطون واحداً تلو الآخر، ولكنّ الأمل ونشوة الحلم لا تزال تداعب نفس الشاعر في الوصول إلى غايته المنشودة فيستحثّ بقايا الركب إلى السير نحوها وإن عظمت الصعاب، فيقول:
يَاركْبُ يَا ركْبُ صَبْراً لَمْ يَبْقَ إلاّ اليَسِيرُ
لاتَرْجِعُوا القِفَارَ فِيها الأمَانِي تَبُورُ
أَمَامَنا الطَّودُ فامضُوا إلى الشِّعَابِ المَسيرُ( [xxviii])
ويجمع الشاعر أشتات ركبه ويلوذ إلى نفسه ينقّيها إلى أن تصل غاية النقاء والطهر، عندها فقط تلوح له نار إرم في النشيد السادس، تلك النار التي رحل لأجلها، لأجل أن يملأ جوانحه من نورها الفيّاض ذلك النور الذي لن يبارحه حتّى يفرّق الموت بينهما فيقول:
إيْهِ ضَوئِي البَعيدْ لُحْ ولُحْ ما تُريدْ
لَيسَ طَرفِيْ يَحيدْ عَنْكَ حتّى يعودْ( [xxix])
لتُرابٍ ودُودْ
هكذا يبدو واضحاً أنّ المعرفة هي رفيق الإنسان وأمله الذي لا يمكنه التخلّي عنه في حياته، لأنّ تخليه عنه يعني فقده هُويته الإنسانيّة، ولكن قبل أن يتشبث الإنسان بهذا الرفيق لابدّ أن ينقّي روحه ويخلّصها من أوضارها الماديّة التي ربّما تحوّل هذه الأداة الفاعلة دماراً وحروباً بعد أن كانت في روع الشاعر وكلّ ذي روح طاهرة أداة وجود وخير عطاء.
لقد تميّزت الرحلات الخياليّة السابقة باختيارها الأماكن الغريبة والمسحورة التي تأوي إليها الشياطين والجنّ مراحاً تعرض من خلاله نظرتها إلى المجتمع الإنساني المعاصر فتعرّض بمفاسده وتفضح نقائصه، وتدعو من طرف خفي إلى الحياة الإنسانية الكريمة القائمة على الروحانيّة سمة رابطة بين بني البشر.
ثانياً: رحلات إلى العالم العلوي.
لقد نظر الإنسان منذ القدم إلى قبّة السماء فوجد فيها لغزاً محيّراً أوقد في روحه جذوة البحث والمعرفة، فأنشأ لها علماً خاصاً يدرس ظواهرها الثابتة والمتغيّرة ويسجّل حركة النجوم ومواقعها بما ينفعه في حياته، ولكنّ ذلك كلّه لم يروِ شغفه إلى البحث والمعرفة عن أسرارها الغامضة، وقبل أن تمكنّه وسائله الماديّة من ارتياد أجوازها، فقد ارتادها بفكره وخياله، متصوّراً أنّ عليها حياة عاقلة خيراً من حياته بين أبناء جنسه. وقد يبدع شخصيات خياليّة قريبة من واقعه لا يريد منها إلا التعريض بحياة مجتمعه وتوجيه سياط النقد اللاذعة له.
وقد انطوت هذه الرحلات تحت قسمين رئيسين، الأوّل: اتجاه إلى عالم الفلك والنجوم وفيه رحلات محمد الفراتي: ((الكوميديا السماويّة))، ورحلة رشيد أيوب: ((حلم في المريخ)) ورحلة محمد حسن فقّي: ((الكون والشاعر)). والثاني: التمس عالم الروح والملائكة بما فيها من معاني الطهر والنقاء.وهي : ((على بساط الريح)) لفوزي معلوف، و((أبونا آدم))، لإبراهيم الهوني، و
((الله والشاعر)) لمحمد حسن فقّي، و((المعري يبصر)) لأنيس المقدسي.
الكوميديا السّماوية( [xxx]) لمحمد الفراتي (1890-1978).
هي أطول القصائد التي نظمها محمد الفراتي سنة 1956 ست وخمسين وتسعمائة وألف، وقد ظنّ معظم الباحثين أنّها فقدت بعدأن فقدها خليل هنداوي،( [xxxi])
ولكنّ الأستاذ سامي الكيالي كان قد أقنع الشاعر الفراتي بنشر قسم كبير منها في مجلة الحديث وترك الشاعر قسماً نشره في ديوانيه: النفحات والعواصف، وبلغت أبياتها كاملة ثمانية وأربعين وستمائة بيت موزعة على العناوين التالية [xxxii])
أ - حُلم مُريع أو ليلة في عالم المريخ/ الطويل.
ب - من أنا ومن أين جئت إلى هذا الوجود/ الوافر.
ج - السّاحر/ الرمل.
د - غرور الشّباب/ الخفيف.
هـ- في حانة إبليس/ الهزج.
و - إلى أين مصيري بعد الموت/ الوافر.
وقد درس هذه القصيدة باحثٌ سوري في مجلة المعرفة العدد (427)، نيسان 1999، ودراسته غلب عليها الطابع الوصفي، وقد كانت دراستنا أسبق إلى دراسة القصيدة غير أنّ التأخر في إنجاز طباعة البحث هو السبب في تأخير ظهور هذا البحث.
وتدور أحداث الرحلة في عالم علويّ يصعد إليه الشاعر بوساطة الأحلام والرؤى ليلتقي هناك شخصيات مريخيّة يتحاور معها في قضايا تهمّ البشر وتهمّ الشخصيات التي أبدعتها مخيّلة الشاعر. ثمّ ينفض الشاعر عنه الهموم والأحزان ليهيم في الفضاء بعيداً يلتقي في الكواكب شعراء وأدباء وعلماء وزنادقة وأناساً مثاليين، لا يمكن أن تتحقّق ملامحهم في الواقع الإنساني، ثمّ يخرج عن نطاق الوجود لتفنى روحه في الأنوار القدسيّة، وليلوح له نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم. فيفنى بهذا النور فناء المحب المدّله. أمّا قصيدة ((غرور الشباب)) فهي حلم يداعب مخيلة الشاعر ليعيش مع ((فرنوف معيد الشباب)) لحظات من العودة إلى الشباب وتجديد الشعر والروح والجسد.
تبدأ الكوميديا بـ ((الحلم المريع)) ليلفت الشاعر الانتباه إلى عالم الرؤى والأحلام الذي يشدّه إليه ليحلّق بجناحيه صعوداً وهبوطاً في أعماق نفسه ليجد نفسه على كوكب المريخ، على شاطئ بحر خضم اسمه ((سيسا)) وهو كثير المخاطر والأهوال، ويجدّ الشاعر في طلب النار لرفقته من وادٍ قريب فيرى هناك مخلوقات شبيهة ببني البشر، يقترب منها يحاول التفاهم معها فلا يستطيع حتّى يمكنه ذلك بالإشارة، فيأخذونه معهم ليجد مدينة زاهرة في هذا الكوكب. فيطوّف فيها ويراقب أهل الأرض الذين يقضون الدهر في حروب ومطاحنات فيرى رجلاً مريخيّاً يشير إلى كوكب الأرض وينعت أهله بأقبح الصفات يقول:
يَقولُ لَهمْ والأرضُ تَلْمَعُ في الدُّجَى عَلَى سَطْحِهِا أَشْقَى النُّفُوسِ وألأَمُ
فَقُلْتُ بِنَفْسِيَ وَافَضيْحَةَ أَهْلِهَا وَوَا خَجْلَتَاهُ إنّني قُلْتُ مِنْهُمو( [xxxiii])
ثمّ يطلب الشاعر من صاحبه المريخيّ أن يجوز بحرهم إلى مكان آخر، وهنا يستطرد الشاعر كثيراً في وصف رفيقه في هذه الرحلة واسمه ((ميكال))، ثمّ يتحدّث ميكال عن حياته العلميّة وأساتيذه ومن أبرزهم رفائيل، ويعرض عليه الشاعر أن يزور أستاذه رفائيل. ويلتقي الشاعر رفائيل ويسرد عليه الشاعر قصّة التاريخ البشريّ الدينيّ من خلق آدم إلى بعثة الأنبياء وحياة البشر بين الظلم والعدل والخير والشرّ، وهنا يخشى ميكال على أستاذه رفائيل من سآمه الحديث، فيطلب من الشاعر السكوت ليتكلّم رفائيل بنصائح يقدّمها للشاعر فيها -على حدّ زعمه- صلاح حال أهل الأرض ليؤكدّ أنّ العقل هو الحكم الفيصل الصالح لحياة المخلوقات ويجب أن يدين له الجميع بذلك. وفي تلك اللحظة يسرُّ الفراتي في سرّه قولاً يجعل رفائيل يثور ويزّبد ويربد يقول:
هُنَا قُلْتُ في نَفْسِيْ وَلَمْ أَدْرِ أنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا أُخْفِي بِسرّي وَأَكْتُمُ
ألا اقْطَعْ حَدِيثَ الدِّينِ عنَّا فإِنَّما حَدِيثُكَ هَذَا يَا رَفائيلُ يُؤلْمُِ( [xxxiv])
ثمّ يحدّث رفائيل الشاعر عن نفسه وأصل حكمته وعلمه، وينتبه الشاعر صبحاً ليجد نفسه بين أولاده وعقيلته فيردّد بيتي حكمة خلص بهما من هذه الرحلة:
بَنِي الأرضِ مافَوقَ البَسِيْطَةِ عاقِلٌ وليسَ من الأخلاقِ في الأرضِ دِرْهَمُ
وإِنّي وإِياكُمْ وكلَّ أخِي حجَا يدبُّ على الغَبْراءِ صَخرٌ مُرْضَّمُ( [xxxv])
وفي القسم الثاني تشدّ روح الشاعر في سياحتها إلى كواكب عجيبة يسمّيها نسبة إلى ساكنيها، ففي كوكب الشعراء يلتقي أبا نواس وحوله الندامى تعاطى رحيق الخلد خمراً معتّقة، فيعجب الشاعر لذلك ويهتف به، فيميل أبو نواس إلى جهة الصوت جذلا سكرانا، فلا يرى شيئاً. فيخبره الشاعر أنّه روح ولن يراه ويدور بينهما حوارعن مصير أبي نواس وكيف وصل إلى هذا المقام السنّي ويضمّن الفراتي ذلك الحوار هجوماً على أدعياء التقوى والورع على لسان أبي نواس، فيقول:
فَكَمْ شَيْخٍ بِلا عِلْمٍ وَتَقْوَى يُعَدُّ لَدَى الوَرَى مِنْ أَوْلِيَاهَا
تَرَاهُ مَرَرْتَ غَداً عَلَيْهِ لَدَى سَقَرٍ يُلوّح في لَظَاهَا( [xxxvi])
ينتقل الفراتي بعدها إلى كوكب آخر ((فوق رمح السماك)) يرى نوراً مضيئاً يغشى العيون، فيقطع إليه جبالاً وسهولاً وحزوناً، ليصل إليه فيقف على عدد من الزنادقة أمثال ابن الراوندي ومزدك، وغيرهما من الزنادقة فيوجّه إليهم الشاعر شهبه الكلامية الحارقة، ثمّ يحاور الشاعر زعيمهم ابن الراوندي مستغلاً هذا الحوار ليطعن أيضاً على بعض المتديّنين الذين يحيون في الحياة بُلهاً مجانين بلا عقول. أمّا الزنادقة فشقوا بعلمهم وعقولهم الجبّارة كما يزعمون فما طالوا دنيا ولا فازوا بآخرة، فيقول:
وَلَمْ نَقْنَعْ بِقِسْمَتِهِ وَثُرْنَا عَلَيْهِ يَوْمَ ذَلكَ سَاخِطِينَا
وَظَلَّ اللهُ يَضْحَكُ إِذْ رَآنَا مِنْ الإِفْلاسِ بِتْنَا مُلْحِدِينَا( [xxxvii])
وفي نهاية الطواف النجمي بين الكواكب يرسم الشاعر عالماً مثاليّاً في كوكب العباقرة إذ حاول الشاعر أن يصبّ كلّ طموحاته في هذا النشيد ليخرجه على صورة الجنّة في هيكله وبنائه وأهله، فهومنبت العلماء العظام وكبار صانعي حضارة المستقبل وفيه تتحقّق كلّ الأماني دون أن يلفظ الإنسان فيه ببنت شفة فما عليه إلاّ التخاطب بالخواطر والأفكار.
ثمّ يخرج الشاعر عن المجرّة تاركاً أبا نواس ليقترب من مناهل الشهود المطلق ويكشف أستار الحُجب ويذوق لذّة الوجد الصوفي الحقيقي لأنه ينكر أن يكون كصوفيّ زمانه يقول:
ذَكَرْتُكَ كُلَّ حِينٍ في جَنَانِي وَلَيْسَ كَذِكْرِ صُوفِيٍّ مَرِيدِ
يُهَيْنِمُ عَنْكَ مَشْغُولاً بِلَفْظٍ يُرَدِّدُهُ كَزَمْزَمَةِ الهُنُودِ( [xxxviii])
وفي قصيدة ((غرور الشباب)) يبتعد الفراتي عن الكواكب والنجوم إلى عالم الأحلام والرؤى، ذلك الحلم الذي طالما داعب الخيال البشري النازع إلى الخلود والشباب والقوّة والتجدّد، إنّه عودّة إلى الشباب ذلك الفردوس المفقود، حيث القوّة والحيويّة والنشاط والحبّ والهوى والطيش كما يقول الشاعر:
قَالَ لي مُغْرِيَاً وَقَدْ جَسَّ نَبْضِي لَمْ تَزَلْ فِيهِ وَمْضَةٌ مِنْ حَيَاةِ
أَفَتَهْوَى الشَّبَابَ؟ قُلْتُ: ومَنْ لِي بِمُثِيْرِ الأَهْوَاءِ والشَّهْوَاتِ( [xxxix])
فتأخذ الشاعر نشوة المخمور وقد تبدّل الحال بعد المشيب إلى الشباب والقوّة فلابدّ أن يجدّد الشعر ويطرح القديم ليتناسب مع الروح الجديدة التي دبّت فيه فيرتّل من آي الشعر أبياتاً يؤذّن فيها ببدء العهد الجديد. وبينما يخطر الشاعر في هذه اللوحة الفنيّة التي تواشجت فيها عناصر الجمال، حيث رسم الشاعر صورة الحياة المتجدّدة في نفسه بعد أن كادت يبوسة الشيخوخة أن تقتلها، وقد تجاوز التسعين، يسمع هاتفاً يسفّه شعره وروحه التوّاقة إلى الجمال فيلتفت على طريقة الشعراء القدماء ليبرهن لهذا الطيف الذي قطع عليه نشوة الحلم وشاعريته، إنّه ذلك الشاعر الذي لا يشقّ له غبار في الوصف، غير أنّ الطيف يعيب عليه نزوعه إلى القديم البالي من الشعر ليكرّر على سمعه:
لَمْ تَزَلْ مِنْ طِرَازِ شِعْرِكَ هَذَا في نُزُوعٍ إلى القَدِيمِ العَاتِي( [xl])
ويرد عليه الشاعر مُغضباً: أن اسمع هذا التصوير من أفانين الشعر فيرسم له لوحة شعريّة لا تملك النفس أمام صورتها وألوانها الأخّاذة وأريجها الفوّاح، وحورها الحسان إلاّ أن تترنّح سكرى جذلى. ويظلّ الشاعر في هذه الصور إلى أن ينتزع منه الإعجاب والاعتراف بالشاعريّة الفذّة ليسمّيه شاعر الخلد والفنّ والنّفحات والنّفثات.
وهنا ينتهي الحلم على غرور يملأ رأس الشاعر وقلبه فيستيقظ ليجد نفسه على حالها من شيب وتقوّس ظهر وقناعة أنّ الناس تهوى السخافات والترّهات ولا تقدّر العلماء.
وهكذا انتهت الكوميديا السماوّية، التي كانت محاولة حلّق من خلالها الفراتي بعيداً في أجواز الفضاء، في سياحة فكريّة وروحيّة، أراد من خلالها أن يندّد بالواقع الاجتماعي الذي لبس أقنعة الزيف والخداع واضطهد الشاعر الإنسان ليس إلاّ لأنّه صوت حقّ وشعور وفنّ وجمال، كما أراد منها الشاعر أن يروّح عن نفسه المتعبة التي أثقلتها السنون وذهبت برونقها الأيام. محاولاً الانتصار لنفسه وإثبات جدارته بأن ينال القدر والاحترام كشاعر فذّ من أولئك الذين يشار إليهم بالبنان، لاسيما بعد عزلة أدبيّة واجتماعيّة عن الناس دامت قرابة ربع قرن. ***
حلم في المريخ رشيد أيوب 1872-1941
جاءت قصيدة رشيد أيوب ((حلم في المريخ)) في ديوانه الأيّوبيّات وقد نظمها على طريقة المخمّسات وعددها خمسة عشر مخمّساً. على البحر الطويل موزّعة على الصفحات من 148 إلى 156 ( [xli]),
القصيدة رحلة تأمليّة تحاول أن تجد حلاً لتساؤلات البشر عن وجود حياةعاقلة على الكواكب الأخرى فتختار كوكب المريخ الذي كان أكثر الكواكب جدلاً في هذه القضية وتتّخذ من الروح مطيّة خياليّة تغيب عن ذات الشاعر لتطوف في عالم المريخ وتعود إلى الشاعر لتخبره بالحياة المثاليّة التي تعبّر عن نزوع طامح للقيم المثاليّة.
يبدأ الشاعر القصيدة في خلوة نفسيّة يتأمّل فيها الكائنات والكون ويتساءل في نفسه عن هذه المخلوقات التي بثّها الله في هذا الكون والتي ما خُلقت عبثاً، يقول:
خَلَوْتُ بِنَفْسِيْ والهُمُومُ بِمَعْزِلٍ فَشَاهَدْتُ مَعْنَى الكَائِنَاتِ فَلَذَّ لِيْ
وَطَابَ بِأَسْرَارِ النُّجُومِ تَغَزُّلِي فَقُلْتُ لِنَفْسِيْ والكَواكِبُ تَنْجَلِي
أَيا نَفْسُ مَا هَذِي النُّجُومُ السَّوَاطِعُ( [xlii])
ويتساءل الشاعر في لهفة عن صدق مقولة الناس والمهتمّين بوجود حياة على كوكب المريخ، وهل هم بشر مثلنا وأصلهم من تراب كأصلنا وهل يعرفون الجهل والعلم والحقّ وغير ذلك ممّا نعرف؟..
ولكن ليس من وسيلة تمكّن الشاعر من تحقيق هذا التطلّع إلاّ نفسه النقية الطاهرة فهي خير وسيلة للانطلاق في أجواء الحلم.
يناجي الشاعر نفسه بعد أن نقّاها من الهموم والآلام ليحمّلها المهمّة العظيمة التي ستقوم بها يقول:
وَقُلْتُ لَهَا لمَّا رَخَيْتُ زِمَامَها وَعَاهَدْتُهَا ألاّ أَخُونَ ذِمَامَها
وَإِنِّيَ لا أَنْفَكُ أَرْعَى هُيَامَها أَيّا نَفْسُ سِيْرِي واغْتَنَمْتُ سَلامَها
فَطَارَتْ إلى نَحْوِ السَّماءِ تُسَارِعُ( [xliii])
فالنفس الإنسانيّة لدى رشيد أيوب وسيلة كشف ومعرفة، كما هو الحال لدى المتصوّفة، لأنّ الشفافية تصل بروح الإنسان إلى إدراك حقيقة الوجود.
وتؤوب النفس بعد أن أنهت رحلتها الكونية موفّية بوعدها للشاعر فتناجيه بخطرات الروح وماذا عاينت هناك في المريخ يقول:
هُنَالِكَ في المَرْيخِ عَايَنْتُ خُضْرَةً كَأَحْسَنِ خَلْقِ اللّهِ لَوْناً وَفِطْرَةً
تَدُوْمُ إلى مَا شَاءَ رَبُّكَ عِبْرَةً تَرَاهُ إِذا ما جَالَ لَحْظُكَ مَرَّةً
بِعَيْنِ مُرُوْجٍ عُرْفُهَا الدَّهْرَ ذَائِعُ
وَفِيْهِ ريَاضٌ باللَّطَائِفِ تُوصَفُ وفي وَسْطِها عَيْنٌ مِنَ الدُّرِ تَذْرِفُ
يَمَرُّ بِها صَافِيْ النَّسِيمِ فَتَأَلَّفُ ويُطْرِبُها صَوْتُ النَّعيمِ فَتْعْطِفُ
وَتَبْقَى دُهُوراً والصَّفَا مُتَتَابِعُ( [xliv])
وهكذا تنتهي رحلة رشيد أيوب إلى غايتها المرجوّة التي أرادها الشاعر لها، وهي أن تنبّه أولئك البشر الغافلين عن آي الإعجاز في خلق الله ولطيف صنعه في المخلوقات التي فطرها على أحسن حال، وربّما أراد أن يشير من طرف خفيّ إلى أن النفس البشريّة مكمن العرفان إذا ما هذّبت ونقّيت ممّا لحق بها من أوضار المادّية في ظلال المجتمعات المعاصرة. ويبقى السؤال قائماً هل الحياة التي رأتها نفس رشيد أيوب حقيقية على المريخ أم أنّ الحلم لا يزال مستمرّاً؟.
]) ينظر: دقاق، عمر، شعراء العصبة الأندلسية في المهجر، بيروت، مكتبة الشرق، ط/أولى، 1973، ص: 430-431.
( [ii]) المعلوف، شفيق، عبقر، ط/أولى، سنة 1946، سان باولو، ص: 155.
( [iii]) المصدر السابق، ص: 168.
( [iv]) المصدر نفسه: ص 183.
( [v]) المصدر نفسه، ص: 184-185.
( [vi]) المصدر نفسه، ص: 229.
( [vii]) المصدر نفسه: ص :229.
( [viii]) المصدر نفسه، ص: 255-256.
( [ix]) المصدر نفسه، ص 269-270.
( [x]) المصدر السابق، ص: 320.
( [xi]) المصدر السابق، ص: 270.
( [xii]) المصدر نفسه، ص 271.
( [xiii]) المصدر السابق، ص 274.
( [xiv]) المصدر نفسه، ص: 278-279.
( [xv]) المصدر نفسه، ص: 280.
( [xvi]) العقاد، عباس محمود، ديوان العقاد، أشباح الأصيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 272-289.
( [xvii]) المصدر نفسه، ص: 272.
( [xviii]) المصدر نفسه، ص 275.
( [xix]) المصدر نفسه، ص: 282.
( [xx]) المصدر نفسه، ص: 282.
( [xxi]) المصدر السابق، ص: 287.
( [xxii]) المصدر نفسه، ص: 289.
( [xxiii]) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، نيويورك، 1946، ص: 179-197.
( [xxiv]) المصدر السابق، ص: 178.
( [xxv]) المصدر السابق، ص :184.
( [xxvi]) المصدر السابق، ص: 185.
( [xxvii]) المصدر نفسه، ص:189.
( [xxviii]) المصدر نفسه، ص: 197.
( [xxix]) المصدر نفسه، ص: 197.
( [xxx]) الكيالي، سامي، مجلة الحديث، المجلد 31، العدد 3-4-5-6-7-8-9- عام 1957.
( [xxxi]) الحريري، محمد علي، الفراتي، وعالم النسيان، مجلة الفيصل، العدد 34- 1980.
( [xxxii]) المصدر السابق، العدد 3-4- ص: 142
( [xxxiii]) المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص: 147.
( [xxxiv]) المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص: 153.
( [xxxv]) المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص:154.
( [xxxvi]) المصدر السابق، العدد 5، المجلد 31، ص: 267-268.
( [xxxvii]) المصدر نفسه، العدد 6، المجلد 31، ص: 349.
( [xxxviii]) المصدر نفسه، العدد 7 المجلد 31، ص: 433
( [xxxix]) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 300.
( [xl]) المصدر نفسه، ص: 303.
( [xli]) أيوب، رشيد، الأيوبيات، دار بيروت، دار صادر، لبنان، 1959، ص: 148-156.
( [xlii]) المصدر نفسه، ص: 148.
( [xliii]) المصدر نفسه، ص: 152.
( [xliv]) المصدر نفسه، ص 153-154.


















الفصـــــــل الثاني دوافع الرحلات الخيالية
أوّلاً: الدوافع الوجدانية
* حلم الحريّة:
لقد أراد الإنسان منذ أن خلقه الله إيجاد أدوات تضمن له البقاء والاستمرار في هذه الحياة، لكنّ هذه الحاجة لم تدفعه يوماً إلى إهمال روحه إلاّ عندما ازدادت أدواته تعقيداً، فصار واضحاً لديه أنّ للحضارة تأثيراً ضاراً على حياته الفكريّة والروحيّة، لما تخلّفه هذه الحضارة من أسباب الصراع المادي الذي خلّف وراءه أمراضاً نفسية وعقداً كثيرة.
لهذه الأسباب حلم بعض الشعراء بالابتعاد عن الواقع والغور بعيداً في ذواتهم أو الهروب إلى عوالم بعيدة يحقّقون فيها ما تصبو إليه أرواحهم المثقلة بأعباء الحياة الراسفة في قيود الماديّة، ويوجّهون النقد لأبناء مجتمعاتهم الذين انحرفوا عن المهام الجليلة التي خلقوا لأجلها، وكلّهم أمل أن يحقّقوا صورة الإنسان النقي البريء.
وقد كانت الحريّة هاجس فوزي معلوف الذي انطلق على أداة من أدوات الحضارة (الطيّارة) يروم الخلاص من واقعه، وعندما صار في الجوّ خفّت روحه وتطلّعت إلى كسر أغلال المادة وتحطيم قيود الجسد الذي أذاقها مرارة الكآبة والعبودية، حتّى بات الشاعر عبداً لكلّ ما حوله في الحياة، فيقول:
بينَ رُوحِي وجِسمِي الأَسيرِ
كانَ بُعْدٌ
ذُقْتُ مُرَّهْ
أَنَا في الأرْضِ وَهْي فَوقَ الأثيرِ أنا عَبْدٌ
وهْي حُرَّهْ( [i])
فهذا المقطع يعبّر عن ذروة المعاناة الإنسانية عندما يستحوذ حسّ العبوديّة على الشاعر، لذا كان مطلب الحريّة وسيلة للارتقاء فوق الآلام، فوق الأرض التي يغطّي الشقاء كلّ بطاحها.
ويتجلّى الحلم في سيرورة الوحدة العضويّة للقصيدة، وهي تعبّر عنه في أناشيدها الأربعة عشر. ففي النشيد الأول يحدّد الشاعر أدوات وجوده الروحيّ باستخدامه ظروف المكان المعبّرة عن الفوقيّة، فيقول:
في عُبابِ الفَضاءِ فَوقَ غُيومِهْ
فَوقَ نَسْرِهْ
ونَجْمَتِهْ
أنْزلَتْهُ فِيهِ عَروسُ قوافِيْـ ـهِ بَعيداً عن الوُجُودِ وَظُلمِهْ( [ii])
ثمّ يصرّ على ما تلهج به نفسه من الانطلاق والحريّة، فيجعل النور موكباً له، ويتّخذ من الفضاء مسرحاً لسطوته وسلطانه، ثمّ إنّه يتردّد في بقيّة الأناشيد بين الأمل الطامح والواقع الثقيل، وربّما لجأ إلى الرمز مرّة وإلى التصريح مرّة أخرى، لكنّ مجموع الأناشيد يشكّل كلاً واحداً تمثّله الرغبة الطامحة إلى الانعتاق والحريّة، والروح الشاعرة وحدها القادرة على تحقيق هذه الغاية، فهي الروح الخلاّقة التي أرهفت سمعها لتصغي إلى أنغام الخلود العلويّة، فهي روح لا يقربها الإثم أو الشرّ، لذا يتوق الشاعر للوصول إليها عندما يجد نفسه يجوز الفضاء ويتخلّص من قيوده الأرضية، فيقول:
يا طُيورَ السَّماءِ في الرِّيحِ رُوحِيْ
بي جَرْياً
عَلى الجَلَدْ
وبِجِسمِي طِيرِيْ إلى حَيْثُ رُوحِي
فيهِ تَحْيَا
بِلا جَسَدْ( [iii])
لكنّ الحلم لا يأتي كما تشتهي النفس وتحبّ فلابدّ ممّا ينغّص عليه سعادته إنّها عقدة الذنب لكونه ابناً للحضارة الماديّة التي تلاحقه في كلّ منزل ينزل فيه وتحول دون تحقيق التوافق بينه وبين الطيور والنجوم والأرواح إلى أن تنبري روح الشاعر المتحرّرة من الجسد لتعانق هذا الشاعر الذي طالما اشتاقت للقائه، فيقول:
هِيَ رُوحي جَاءتْ تُخلْصْني مِنْ غَضَبِ العَالَمِ الفَخُورِ بشَمْسِهْ
طَوَّقَتْنِي بِكلِّ عَطْفٍ وصَاحَتْ أَخْواتِي: رِفْقاً بِهِ وببُؤسِهْ
إنَّ بينَّ السَّريرِ والنَّعشِ خُطوا تٍ دَعَوْهَا الوُجُودَ وهْيَ بِعكْسِهْ( [iv])
وفي تلك اللحظات تشرق الروح وتتحقّق هواجس الشاعر وتختصر المسافات وتتضاءل المجرات، فتصير المادة ظلاً هزيلاً باهتاً لا قيمة له ينظر إليها الشاعر باحتقار وازدراء، فيقول:
ونَرَى الطَودَ في السُّهولِ كمَا تُبْـ ـصِرُ فَوقَ التُّرابِ ظِلَّ حَصَاتِهْ
ونَرَى المَوجَ في الخِضَمِّ كمَا تَلْـ ـمَحُ جَوّاً والسُّحبُ في مِرآتِهْ( [v])
*ويستحثّ حلم الحريّة الشاعر محمد حسن فقّي في قصيدته ((الكون والشاعر)) حيث يستنهض الشاعر عرائس الشعر لتعرج بروحه بعيداً عن الأرض التي ملأ الشرُّ أرجاءها بعد أن صال على الخير صولة غادرة تركته صريعاً، فيقول:
عَرَّجْتَ بالرُّوحِ إلى عالمٍ أَنْكَرَ فِيهِ الرُّوحُ جُثْمَانَهُ
حَلَّقْ بِنَا فالأرضُ مَوْبُوءَةٌ وطُفْ بنا الجوَّ وَسُكّانَهُ
تنَمّرَ الشَّرُّ بِها عَارِمَاً فَجَنْدَلَ الخَيرَ وَأعْوَانَهُ( [vi])
وهو ينعى على الناس استحواذ الشرّ عليهم، وما على الشاعر إلاّ الفرار بروحه بعيداً لتخفّ في عالم الطهر والنقاء وتتخلّص من الأحقاد والضغائن. وفي الفضاء يلتقي الشاعر بعالم العجماوات من طيور وغيرها ثمّ ينطلق إلى عالم النجوم فالملائكة، وهناك يقارن بين هذه المخلوقات بفطرتها وبراءتها وبين الناس الذين يحكمهم قانون الصراع من أجل البقاء والتناحر والتنافر، فيقول:
الزَّيفُ في النَّاسِ وأَمّا هُنَا فالطَيرُ لا يَخْدَعُ إِخوانَهُ( [vii])
ويعزز الشاعر الفقي الرؤية التي لمسناها عند فوزي معلوف حين يرى أنّ الإنسان يرقى بصفاته ونقائه إلى ما لا تصل إليه نفس أيّ إنسان راسفة في أغلال اللحم ومطالب الجسد، كما يؤكّد خصوصيّة الشعر في تحقيق هذا الحلم الذي يرنو للوصول إليه، فيقول:
قَالَ مَلاكٌ إِيهِ يا شَاعِري مَاخَانَكَ السَّعيُ ولا خَانَهُ
فإنَّما الفِردوسُ في عَالمٍ تصوِّرُ الأحلامُ ضُحيانَهُ
سَوْاءٌ الأرضُ وهَذِي السَّما إنْ لم يُنَقَّ الرُّوحُ أدرانَهُ( [viii])
ويعود الشاعر الجسد إلى الأرض ليعاني آلام العبوديّة من عبوديّة جسد وقوانين وحاجات ماديّة، ولتبقى الروح محلّقة في سماء الحريّة لا تعرف ذلاً أو هواناً، ويبقى الشاعر الفقّي أكثر تفاؤلاً من فوزي معلوف لأنّه يؤمن أنّ الخير سينتصر على الشرّ وأنّ الشعر سبيل إلى تحقيق حلم الحريّة والخلاص، فيقول:
تَبَاركَ اللّهُ فَكَمْ شَاعِر يُطَاوِلُ المُلكَ وتيجانَهُ
لمْ يَعرِف الذّلَ ولا قَينَهُ ولا وَعى المكرَ وأشْطَانَهُ
فعَاشَ لا يُرهِبُهُ دُهْرُهُ إِسْرَارُهُ شَابََ إِعْلانَهُ( [ix])
*
وهكذا ظلّت الحريّة والخلاص من هموم الواقع هاجساً يحرّض الشعراء ويدفعهم حثيثاً للمضيّ قدماً في رحلاتهم الخيالية عسى أن يحققوا ما فقدوه في عالم الناس، غير أنّ هذا الحلم تلفّع بالسوداويّة والتشاؤم عند فوزي معلوف، في حين أخذ مسحة من التفاؤل الديني عند محمد حسن فقّي.
* الحيرة والقلق:
ويمثّل نسيب عريضة في رحلته ((على طريق إرم)) القلق وظاهرة الاغتراب الروحي التي تكشف عن توق الشاعر في رحلته الخيالية إلى التماس أدوات وجوده وحاجاته التي تحقق كنهه الإنساني الحرّ. ولعلّ المعرفة أرقى هذه الأدوات التي يبحث الشاعر عن شعلتها. ولكي يصنع الشاعر ذلك خلق عالماً غرائبياً خفيّاً وكوّن لذلك ركباً يحمل ظعنه، وما إن يبدأ بالمسير حتّى تستحوذ عليه الحيرة والتردّد فالطريق مليء بالعثرات والحيرة تنشر شباكها في كلّ مكان، فيقول:
أهيمُ في الدُّجَى مثلَ أعمَى جَاعَ ولا يُحسِنُ السُّؤالْ
يَهُزُّنِي في الدُّجَى حَنينٌ إلى الذي مَرَّ من وِصالْ
هَلْ مِنْ سبيل إلى رجوعٍ هَلْ من طريق إلى وُصُولْ
تَهيمُ نَفسي ولسْتُ أَدْري بحاصِلٍ أو بمُستحيلْ
يا صَاحِ قَد حِرتُ أينَ أمضي والسُّبْلُ ضّلَّتْ عَن الضّلولْ( [x])
ويظلّ الشاعر أسير الشكوك والحيرة وهما يغذّانِ من روحه حتّى يجعلا منها قفراً عظيماً تنوح فيه الأماني اليائسة والأوهام، فيلوذ الشاعر إلى الحلم والخيال وسيلة يرأب بهما الصدع الذي تركته الحيرة في نفسه، فيقول:
وَولْوَلتْ في الدُّجَى شُكُوكي ورفْرفَتْ أَجنحُ الخَيالِ
واستأثَرَ الحُلمُ باختيارٍ وطَارَ هَمّي بلا عِقالِ
فعُدْ بنا يا سَميرَ حُزنِي نقنَعْ من الأرضِ بالخيالِ( [xi])
ويبلغ القلق مبلغه من الشاعر في بحثه عن وسيلة للخلاص من أوهام نفسه حتّى ليغلب الاستفهام على أسلوبه في التعبير عن رغبته في الوصول إلى نبع الإلهام، فيقول:
قَدْ سَريْنا فهلْ شُروقُ أيّها الفَجرُ هَلْ تفيقُ
مَن يطيقُ الذي نُطيقُ أينَ ذا تنتهي الطَريقُ
قَدْ بَرانا اللّغوبْ واعتَرانَا الشُّحوبْ( [xii])
لقد كان القلق والحيرة دافعاً حدا بالشاعر إلى الرحيل بعيداً إلى عالم الخيال، ولكنّنا سرعان ما نرى القلق والشكّ سلاحاً قاضياً يلجأ إليه ركب الشاعر في رحلته للخلاص من قائد الركب ((العقل)) الذي سام الركب أمض العذاب فكان الشكّ لجاماً يحدّ من عجبه وتيهه ويسلّط عليه جيشاً عرمرماً من الظنون فيغادره صريعا فيقول:
أَجَابَهُ الشَّكُّ مَهلاً كَفاكَ تَيهاً بِمَهْمَهْ
فأقْبَلَ العقلُ يَصْأَى غَيظاً بوَجْهٍ مُشوّهْ
وقَال: مَهْ! فَأَتاهُ رَجْعُ الصَّدى، قَائلاً: صَهْ
وأطلقَ الشَّكُّ جَيشاً مِنْ الظْنونِ وَجهجَهْ
فَفَرَّ عقلي جَباناً وجُنَّ خَوفاً وقَهقَهْ( [xiii])
ويبقى الشاعر مصرّاً عى المضي قدماً في رحلته متوسلاً بشتّى الأدوات والمطايا متجاوزاً كلّ الأشواك والعقبات التي تساقط أمامها أفراد ركبه واحداً تلو الأخر حتّى مايبقى إلاّ روح الشعر المفعمة بالأسى تبكي أطلال الركب فيحاورها الشاعر بحوار تلقي عليه العاطفة الحزينة ظلالاً متسربلة بالتشاؤم، فيرى كلّ نفيس وثمين في حياته يعود لسراب وخواء، فلا مرشد له في رحلته إلى طريق النور إلاّ نفسه التي يلوذ إليها يستحثّها أن تستنهض عرائس الشعر لتصل به إلى الأمل المنشود، فيقول:
يا نَفسُ رِفقاً ومَهْلاً فأنتِ ظعْنِي ورَحْلِي
طرْحْتُ كلَّ رِحالِي إلاّك مازِلْتِ حِملِي
تعلِّلِي بِسُكُوتٍ وعلَّليني بجَهلِي
فاصمِتْ وسِرْ في السِّكونِ على طَريق الجُنونِ
لعلّهُ بعدَ حينٍ يَبدُو لنا وَجهُ ربّي( [xiv])
إذن فما ذلك المكان الذي يبدو للشاعر فيه وجه ربّه؟ إنّه- ولا شكّ- ذلك النور الذي تُشعّ به نار إرم، تلك النار التي اتقدت في روح الشاعر، فصهرت ما فيها من أوهام الحيرة والشكّ، فهي سبيل الخلاص والمعرفة، فيقول:
تِلكَ نَارُ الخُلودْ
ضَلَّ عَنها الأَنامْ واستَحبُوا الظَّلامْ( [xv])
والسؤال الذي يُطرح هنا ما سبب اختيار الشاعر للنار رمزاً لشعلة المعرفة؟ ويذكّر هذا السؤال بقول لديمقراطيس ((إنّ الكون من عناصر أربعة: التراب والماء عنصران وضيعان، والهواء والنار عنصران شريفان))( [xvi]).
فللنار فضل على التراب، لأنّ الجسد مصيره إلى تراب أمّا الروح فتبقى حرّة كما هي حال النار توحي بالحيوية و((تعطي الانطباع بالقوِّة والطاقة والرشاقة والإشراق... وحين نستخدم النار رمزاً نصف التجربة الداخليّة المتميّزة بالعناصر نفسها التي نلاحظها في تجربة النار الحسية))( [xvii]) لهذا وصف نسيب عريضة نار إرم بأنها نار الخلود لأنّها شعلة الروح التي تمنحه قوّة وحيويّة ونشاطاً وإشراقاً يخلّصه من القلق والحيرة ويلازمه في حياته إلى أن تنطفئ جذوة هذه الروح في صدره ويصير تراباً، يقول:
إِيهِ ضَوئِي البَعيدْ لُحْ ولُحْ ما تُريدْ
لَيسَ طَرفِي يَحيدْ عَنكَ حتْى يَعُودْ
لتُرابٍ ودُود( [xviii])
وقد دفعت الحيرة والشك أنيس المقدسي إلى الاندياح عميقاً في أغوار نفسه يجلو الصدأ المتراكم عن ذيّاك النور الذي حجبته غشاوة الحياة الماديّة، فألقت به في دياجير الوهم والشك والقلق.
ينظر الشاعر في الكون نظرة الباحث القلق المضطرب لعلّه يهتدي إلى شيء من نور الحقيقة فيكرر المطلع اللاهج بنبرة الاستجداء والبحث، فيقول:
أعيريني الضّياءَ مِنْ النّجُومِ مُكوَّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَديمِ( [xix])
ويقوده التساؤل إلى الحيرة التي ساقت عريضة قبله للارتحال، ولكن ثمّة أسئلة تطرح نفسها عن أسرار الكون وما فيه من خلائق وموجودات فيقول:
مَنِ الإِنسانُ ما هَذي البَرايَا ومَا في الكَونِ مِنْ سِرِّ بَهيمِ
ومَاذا في السَّماءِ وفي الدَّرارِي فهلْ فِيهنَّ مِنْ عَقلٍ عَليمِ( [xx])
ويستعين الشاعر بعقله وقلبه للاهتداء إلى حقيقة الحياة فلا يسعفانه فيما يروم فيرتدي التشاؤم وشاحاً يغلّف رؤيته لهذا الوجود، فيقول:
وكَمْ بيني وبينَ الحقِّ سُترٌ تَكَشّفُ عن ملايين الستورِ
سأحيا ما حَييتُ ولَيس نورٌ لعينِ العقلِ في العُمرِ القصير
ومَا للقَلبِ من أملٍ فيرجو ولا فجرٌ لذا اللّيل العَميمِ( xxi])
وفي هذه اللحظات من الضياع يجد الشاعر أنّه لا مناصّ من الرحيل عميقاً في أغوار النفس ليلتقي صديقاً قديماً كانت الأوهام والشكوك قد نهشت قلبه، وخلّدت معاناته من خلال فلسفة رسمت ملامح حياته حتّى اشتهر بها إنّه رهين المحبسين وفيلسوف المعرة أبو العلاء المعرّي. ولكنّه يلوح للشاعر أطلال شبح عرض لعابري طريق البحث والخلاص مبدياً أسفه عمّا أمضاه من عمره في وهم وسراب وشكوك لذا نذر نفسه هادياً يرشد كلّ من ضلّ السبيل.
عندها يتابع الشاعر سيره إلى حيث النور يتلألأ في الأعالي وينجلي ظلام الوهم والشكّ الذي أخرج الشاعر إلى دنيا الخيال، فيقول:
فَيا نُوراً تَلألأ في الأَعَالِي بَعيداً عن يَقينِ ذَوي اليّقينِ
إليكَ أتيْتُ في ظُلُماتِ نَفسِي لِتَهدِينِي إلى الحَقِّ المُبينِ
لَعلّي بالِغٌ بكَ في حياتي مَقاماً ليسَ يُبلَغُ بالعُلومِ( [xxii])
إذن فقد كانت الحيرة والقلق دوافع مشتركة دفعت ببعض شعراء الرحلات الخياليّة إلى الرحيل بعيداً عن واقعهم في محاولة البحث عن الخلاص ممّا أحاط بهم من واقع متردّ وهموم حملتها النفوس، وقد تمايزت الحلول، فنسيب عريضة وجد الخلاص في المعرفة والكشف الروحي، في حين وجدها أنيس المقدسي في تطهير النفس واستخلاص جوهرها السامي المتمثّل في الحبّ سبيلاً للسعادة البشرية المنشودة.
***
* الخوف والرهبة:
كثيرة هي المشكلات التي تواجه الإنسان فتحاصره، ويحاول جاهداً الخلاص منها والسيطرة عليها، ولعلّ الموت أخطر هذه المشكلات، فهو السيف المسلّط على عنقه لا يستطيع الفكاك منه، لذا سرعان ما صنع الإنسان لنفسه أساطير غامر فيها باقتحام العالم السفلي ليواجه الموت والصمت والوحشة والاهتراء واليباب والعفونة كما فعلت الربّة ((إنانا)) في الأسطورة السومريّة و((عشتار)) في الأسطورة الآكاديّة وجلجامش وأوزريوس وأوديسيوس وإينياس...
وقد أرّق هذا الخوف من الموت الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري فأقضّ مضجعه، ولذلك أحبّ الحياة وتشبّث بها، وهو في رحلته الخيالية يبعث صورة الحياة في أرجاء عالم الموت، تارة بصورة النور وأخرى بموسيقا الألحان وثالثة بصورة الثلوج، وكأنّه يريد أن يؤكّد لنفسه أنّه يرى الحياة ويسمعها ويحسّ بها، ويحاول الشاعر بالحبّ وسيلة أن يبدّد مخاوفه من الموت الذي ملأ قلبه رهبة وخوفاً حتّى يستغيث بالحبّ قائلاً:
أَيُّها الحُبُّ أَنْتَ للمَوتِ مَوتٌ ذُو غِلابٍ عَلى البِلى مُستَخِفُّ
أنتَ صِنو الحَياةِ وَارِثِةِ المو تِ ونُورٌ على الإِلهِ يَرفُّ( [xxiii])
إذاً فالقصيدة ((تجسّم لنا شعور الرغبة في الحياة والخوف من المجهول وهو شعور قديم حاول الإنسان منذ القديم أن يعبّر عنه فوضع من أجل ذلك الأساطير المختلفة))( [xxiv]) وهذا ما عبّر عنه فرويد باسم غريزة الجنس في مواجهة الموت، ولهذا خرج الهمشري مرتحلاً على جناح الخيال ليصنع لنفسه عالماً خاصّاً بالموت يطهّر من خلاله نفسه ويتجاوز بوساطته محنته ومعاناته ومخاوفه. وقد تفنّن الشاعر في رسم صور كثيرة للموت تمثّلت مرّة في سفن الموت التي تحمل بقايا الأرواح إلى الشطّ وصورة قيثار الموت وقبر الليالي وبحر الوقت ليصل بهذه الصور إلى ذروة المعاناة، فيصيح بلهفة المفجوع:
رَبِّ أينَ المَفرُّ منها، وهَذا شَبَحُ المَوتِ قَدْ أطَالَ حِرانَهْ
هِي هذِي السَّفينُ تمضِي عِجَالاً مُسرعَاتٍ تَجري عَلى التّيَّارِ
تتلاشى في بعْضِها ثُمَّ تَحيَا لتُعيدَ التّمثيلَ في الأَعمَارِ
وَا لِهذا الفَناءِ!.. وَالهِواهُ وَا لِهذا القَضاءِ والأَقدارِ( [xxv])
لقد مثّل الهمشري في رحلته الأسطوريّة تلك نمطاً مكرّراً للإنسان الذي دفعه لا وعيه الجمعي في هذه الرحلة ليجدّد فعل أسلافه الأسطوريين أمثال أوزوريس ابن الشمس وجلجامش وعشتار وإنانا وأوديسيوس وإينياس في البحث عن وسيلة لتطهير النفس من مخاوف الموت ورهبته.
* القهر الاجتماعي:
لعلّ عقدة أخرى لا تقلّ عن عقدة الموت هي الشعور بالقهر الاجتماعي الذي يمثّله قول طرفة بن العبد في معلقته:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أشدُّ مَضاضةً على المرء من وَقع الحُسام المُهنَّدِ( [xxvi])
ومحمد الفراتي شاعر عانى كثيراً في حياته من انتقاص الناس لقدره ومكانته، ولا سيما في بلده، فلم يحظ بكبير الاهتمام من الأوساط الأدبيّة، والاجتماعيّة الأمر الذي دفعه لاعتزال الناس قرابة ربع قرن، وقد كتب الفراتي ((الكوميديا السماوية)) في هذه الفترة، وربّما أراد منها أن يعوّض نفسه عمّا هضم الناس من حقّها، وأراد أن يبرز قدرته في قرض الشعر ومجاراة الأغراض الجديدة والمعاني المستحدثة، وقد تجلّى هذا الإحساس في قصيدته ((في حانة إبليس)) وفي قصيدته ((غرور الشباب)).
إنّ ما يسيطر على حسّ الفراتي في قصيدته ((في حانة إبليس)) هو محاولته بشكل خفر تارة، وبصورة واضحة تارة أخرى، إثبات علو كعبه في الشعر لا سيما أنه قد حاز صولجان الشعر من شيخ شياطين الشعر إبليس، فيقول:
أتدرِي فِيمَ جِئنا بِـ ـكَ في ذَا اللّيلِ مِن أهلِكْ
فعندِي مِنحةٌ مَخبو ءَةٌ في الغَيبِ مِن أجلِكْ
فَذا الطّاووُسُ قَد يُعطى لمزهُوّين بالفَنِّ
فَدونَكَ صَولجَانُ الشّعـ ـرِ خُذْهُ وِهبةً مِنّي( [xxvii])
وتدور قصيدة ((غرور الشباب)) حول الغاية ذاتها، فمحاولة إثبات الجدارة على نظم الجميل من الشعر والتفوّق على الأقران لم تفارق القصيدة منذ أن برز للشاعر هاتفه المتخيّل بقوله:
وإذَا هَاتفٌ ورائِي يُنادِي ويْكَ دَعْنَا من هَذِهِ التُّرّهاتِ
لم تزَلْ من طِرازِ شِعرِكَ هذا في نُزوعٍ إلى القَديمِ العَاتِي( [xxviii])
لكنّ الشاعر يطرح على ذلك الهاتف من جديد شعره الجميل، لا سيما أنّه قد جدّد في رحلته الخياليّة هذه شبابه وروحه، صوراً خلابة ينتزع بها إعجاب الهاتف فيصفه الأخير بشاعر الخلد والروض الباسم، وبلبل الشعر في حدائق الفكرة. غير أنّ حسّ القهر يطارد الشاعر فلا يتخلّص منه لأنّه يستيقظ على نهاية الحلم وكأنّ شيئاً لم يتغيّر في طباع الناس التي لا تعجب إلاّ بالسخيف من الفنّ، فيقول:
فتنبّهتُ من رُقادِي وَقد طِرْ تُ لحُمقِي تَوّاً إلى مِرآتِي
فإذَا الشّيبُ لا يَزالُ بفودِي ثُمّ كالقَوسِ لا تَزالُ قناتِي
وإذَا بي -كَذلِكَ الطّيفِ- أحيا بينَ نَاسٍ تَهتزُّ للتُّرّهاتِ( [xxix])
وهكذا بقي القهر الاجتماعي حافزاً لانطلاق الفراتي في رحلته بعيداً ليلجأ إلى عالم الأحلام تارة وإلى عالم الجنّ والشياطين تارة أخرى ويحدوه في ذلك أن يقول للناس: إنّني شاعر لا يشقّ له غبار وإن عشت بعيداً فإنّ انتقاص الناس من قدري لا يقلّل من شأني أبداً وقد حزت شاعريتي من أفحل شياطين الشعر إبليس.
***
* الثّورة والتّمرّد:
يظهر الدافع إلى الثورة في قصيدة العقّاد ((ترجمة شيطان)) فقد أراد الشاعر أن يحقّق التغيير المنشود لكنّ العقّاد لم يسفر عن تجربته بوضوح، فقد لجأ إلى الرمز متّخذاً من صورة الشيطان- بما عرف عنه من روح الثورة والتمرّد- يكشف بها عن كنه الروح الثائرة في أعماقه، ولكن على أيّ شيء تثور روح العقّاد؟ وما الذي دفعها إلى الثورة؟.
إنّها تثور على القيم الإنسانيّة التي عصفت برونقها رياح الحرب العالمية الأولى وجعلت بنيانها هشّاً في نفسه الشاعريّة، فكانت الحرب العالمية سبباً خفيّاً أولاً في تجربته ثم شخصيّة العقّاد وطابعها، ((فثمة مصدران هامّان وفاعلان يميّزان هذه الشخصيّة أوّلهما: التمرّد: وهو الانتصاف إلى الكيان الفردي، وكان ملمحاً من ملامح العقّاد في مواقفه ونظراته وأسلوب حياته، وهو يعتقد أنّه إذا لم يفعل ذلك، أي لم يتمرّد، فلن يكون نفسه بمعنى أنّه سيفقد ملامح وجهه وسيفقد إنسانيّته أو تقدّمه.... والثاني: الذاتية العارمة التي قد تصل به أحياناً إلى أن يجعل الأنا محكّاً للكون))( [xxx]).
إذاً فالعقّاد سئم الحياة وواقع الإنسان فأراد له التغيير ولكنّه لم يستطع أن يواجه الواقع مباشرة فاتخذ من الشيطان وسيلة للتعبير عن آرائه، فيقول:
سَخرَ الشَّيطانُ مِن قِسمته ومن الأرضِ وما فَوقَ السَّماءْ
ومَضى يَهجِسُ في مِحنتِهِ ((ألِهذا تُستذَلُّ الكِبريَاءْ))( [xxxi])
كما يظهر النزق الثوري الذي يطبع نفسيّة العقّاد حين يجعل الشيطان يأنف من إغواء البشر لأنّه في عصر ما عاد يميّز فيه الخير من الشرّ فيقول:
أنِفَ الشَّيطانُ من فِتنتِهِ أُمَماً يأنَفُ من إهلاكِها
ورَأى الفَاجرَ من زُمرَتِهِ كعفيفِ الذّيل من نُسّاكِها( [xxxii])
ولا يبارح هذا النزق روح الشيطان الذي أنزلته الرحمة الإلهيّة مكاناً عند مصبّ السلسبيل في جنّة النعيم، لأنَ النزق طبع وجبلّة فيه، وفي اعتراض على قدر الله وفي سخرية يقف الشيطان متحدّياً ربّه، فيقول:
هكذَا مُلكُكَ يَاربَّ القَضاءْ دَوْلَةً تَحمي على الطَّرفِ النَّظرْ
حَظٌ مَن يَدنُو من السّترِ الشّقاءْ وسَعيدٌ مَن لَها عَمّا استَتَرْ
فَاغْنِ بالرَّاضِينَ عن أقدارِهَا إنّهم نِعمَ عِتادُ المَالِكينْ
واجعلِ الفِردَوسَ من أقطَارِهَا حينَ يَرضُونَ ومَا هُم ساخِطينْ( [xxxiii])
وتقود روح الثورة الشيطان إلى رفض الخلود والجنّة، ويؤثر عليهما أن يكون حجراً صلداً كي لا يخضع أو يطيع، يقول:
أَنا لا تَخطُرُ لي في أَمَلي لا تَكُنْ تَوبَةُ نَفْسي أَمَلكْ
وادْعُ في خَلقِكَ يَسجُدْ مَن رَجا خُلدَكَ الأَعلى فَما نَحنُ سُجودْ
لنكونَنَّ إِذا صَحَّ الحجَا حَجَراً صَلْداً ولا هَذا الوُجودْ( [xxxiv])
*
وقد دفعت روح الثورة الشاعر محمد حسن فقّي ليتحدّى قدره بكلّ ما لديه من عنجهيّة وكبرياء وتحدٍّ، حتّى إنّه لا يأبه بجحيم ولا تغني عن نفسه جنّة وحور عين، ليقول في مطلع قصيدته:
اسبقِينِي إلى الجَحيمِ فإِنّي سَأوافِيكِ في غَدِي للجَحيمِ
واطلُبِي مِنْ سُراتِهِ أَنْ يكونُوا عندَ أبوابِهِ قُبيلَ قُدومِي
أخْبريهمْ أنَّ الزّعيمَ سَيأتِيـ ـكُمْ فهُبُوا إلى لقاءِ الزّعيمِ
قَد شَكَتْ ثُمَّ مِن مباذِلِهِ الأر ضُ فماذا عَنْ هَواهُ الذّميمِ
ثمّ قَالَ شَيطانُهُ وهْو يُطريـ ـهِ لأَنتَ الرَّجيمُ مَولى الرّجيمِ( [xxxv])
ثمّ تتحوّل هذه الروح الثوريّة إلى نقمة وتذمّر نحو النفس التي أغرت الشاعر وساقته إلى مهاوي الرذيلة ورسمت ملامح طريقه إلى الجحيم، فيقول:
إِيهِ لا تَغضَبِي فَما أنتِ إلاّ صَخرةٌ حَطَّمَتْ حَديدَ القُرومِ
حيّةٌ تَنفُثُ السُّمومَ ولكنّي م تجرَّعْتُ كلَّ هذي السُّمومِ
أَنَا لَولاكِ لَم أكُنْ عَارِمَ الصَّبـ ـوةِ أعْنُوا لخَمرتِي ونَديمي( [xxxvi])
غير أنّ الفقي سرعان ما يخفّف من حدّة الثوريّة لتنتهي قصيدته نهاية تفقدها شيئاً من الجمالية التي اكتسبتها في بدايتها، وقد وجد الشاعر في العقيدة الإسلامية ما يحقّق توازنه النفسي- رغم محاولة إبليس إغواءه- على الاستمرار بتمرّده وثوريته.
وهكذا تبدو الرغبة العارمة في التغيير والتمرّد على نوازع النفس وأهوائها هي الدوافع التي حدت بالعقّاد والفقّي إلى الرحيل بعيداً عن الواقع وإن بدت الجرأة في الثورة أقوى عند الفقّي في بداية قصيدته ((جحيم النفس)) منها عند العقّاد، وقد تمايزت الرحلتان في التعويض النفسي إذا تجلّى لدى العقّاد في الفنّ رمزاً للفتنة والحياة في حين وجدها الفقّي في العقيدة الدينيّة والإيمان الخالص بالله.
هذه أبرز الدوافع الوجدانية التي دفعت بهؤلاء الشعراء للرحيل عن واقعهم الإنساني، متجاوزين ما فيه ومستخفّين بقيوده الماديّة ومشبّثين بعالم الروح إلى حيث تتحقّق طموحاتهم وأحلامهم، وقد صدر بعض هؤلاء الشعراء في تجربته عن رؤية ووعي بأدوات هذه الرؤية وبعضهم الآخر عبّر عنه لا شعوره فباح بمكنون النفس وشواغل الفكر، فكان أن طغت على سطح الوعي أحلام الحريّة، واضطرابات القلق والحيرة والتمزّق التي تكدّر صفو الحياة، وقد دفع القهر والخوف ببعضهم إلى اقتحام لجّة الموت وبثّ فيه روح الأمل لمواجهة هذا الإحساس، وقد جعل بعضهم الرحلة إشباعاً نفسيّاً يعوّض فيه نفسه عمّا تلاقيه من اضطهاد وقهر.
وهكذا غدت الرحلة الخياليّة وسيلة هرب للشاعر من واقعه الإنساني المضني وملاذاً يعوّض ما فاته في دنيا الناس يستطيع من خلاله البوح بما لا يمكنه البوح به في الواقع وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه أيضاً.
***
ثانياً- الدوافع الاجتماعيّة والسياسيّة
* تصوير الواقع الاجتماعي المتردّي:
لم يكن شعراء الرحلة الخياليّة بمنأى عن قضايا عصرهم وواقعهم، بل عاشوا خضمّها فدفعتهم ظروفهم السياسيّة والاجتماعيّة إلى التحليق بعيداً، يرومون النجوم بيارق أويتخذون ظهور الشياطين مطايا وأجنحة الخيال مراكب، ليدلي كلّ واحدٍ بدلوه وأفكاره بعيداً عن عين الرقيب الاجتماعي التي تطاله، وتحول بينه وبين ما يتطلّع إلى تحقيقه.
*
لقد دفعت الحياة الماديّة في العصر الحديث شفيقاً لكي يعكس في مطوّلة ((عبقر)) صورة مجتمعه الذي يعيش فيه، ويجلو رموزه من خلال الأساطير. فما صورة عبقر المشوّهة إلاّ وصف للمجتمع الإنساني الذي تمثله النفس البشرية يقول عنها:

قُمْ فَتَرى كَيفَ شَياطِينُها تُطلُّ في عينيكَ مِن بَابِها
وكَيفَ مِن فيكَ ثَعابينُها تَنسلُّ مِن فَوهَةِ سِردَابِها( [xxxvii])
وقد أخذت الصورة الساخرة في رسم ملامح عبقر تعبر عن واقع الإنسان وما يعيشه من تناقضات يقول عنها:
فَيا لأَبراجٍ ضِخام البِنَا مِلءَ الثَّرى مِلءَ السَّماواتِ
يَدرُجُ كالنَّملِ عَفارِيتُها مِن قَلبِ مَهواةٍ لِمَهواةِ
أَقزامُ جِنِّ في سُفوحِ الرُّبا جَيَّشَهُمْ طَاغيةٌ عَاتِ
إِنْ أَزمَعوا الزَّحفَ تَرَاهمْ عَلوا أغْربَ أَصنافِ المطيّاتِ
فَمِن يَرابعٍ ومِن أَنعُمٍ إلى دُيُوكٍ وعِظَاياتِ
مَراكبٌ للجِنِّ يَرمي بِها فُرسَانُها صَدرَ المَفازاتِ
مِن كلِّ قِزْمٍ لا يَمسُّ الثَّرى بِرجلِهِ الصُّغرَى المُدلاّةِ
نِشَابُهُ القُنفُذ مِزراقُهُ وتِرسُهُ قَحفُ السُّلحفاةِ( [xxxviii])
ويعدّ أبناء إبليس في عبقر صورة مصغّرة لمفاسد المجتمع المادي الذي يعيش الشاعر واقعه، إذ هو واقع قائم على الحروب والقتل والتدمير والكذب والشهوة وحبّ المال والمفاسد القائمة على النفاق والمراءاة والتلوّن وغيرها من النقائص والمثالب التي دفعت الشاعر إلى كتابة ((عبقر)) وكلّ نقيصة أو مثلبة يمثّلها اسم لشيطان من أبناء إبليس وهم: ثبر، وداسم، وزلنبور، ومسوط وأعور.
وربّما دفع تصوير الواقع الاجتماعي الفراتي في قصيدته ((في حانة إبليس)) إلى رحلته الخياليّة بعيداً عن مجتمعه ليصوّر هذا المجتمع بكلّ ما فيه من قيم وأفكار وعادات، فهو مجتمع بسيط لا يزال يعيش أحاديث الخيال والجنّ والسعلاة التي غالباً ما ترويها الجدّات حول المدفأة في أيام الشتاء الباردة. إضافة إلى عرضه لبعض رواسب العادات الجاهليّة مثل البكاء على الميّت وإقامة المناحات، فيقول:
غَداً يفقِدُني أهلِي وتَبكِني غَداً أُمّي
وينعاني أَبِي المَحزو نُ في الصُّبحِ إلى عَمّي
غَداً تُبنَى إِذا مَا غِبْـ ـتُ في الدَّارِ مَناحاتٌ
غَداً تعلُو بِذاكَ البيـ ـتِ للنّسوَانِ صَيحاتٌ( [xxxix])
وقد أراد الفراتي تصوير تخلف المجتمع الذي يعيش فيه فهو مجتمع تقوده فئات من الدجالين تحت أقنعة التقوى والورع والصوفيّة، يقول:
تقدَّمتُ إلى المِرآ ةِ كَي أَنفُضَ مَا فيها
فَما أَبْصرتُ صُوفياً ولا مَا يُشْبه الصّوفي
وألفيتُ سَراحينَ بأَهدامٍ من الصّوفِ( [xl])
كما أنّ الناس في صورة هذا المجتمع قد انحرفوا عن دينهم الصحيح إلى عادات ضارة كالإيمان بتأثير رجال الله الصالحين في مصائر الناس، يقول:
وقُلْ تِهتُ بِذَا القَفرِ وكَمْ قَد تَاهْ مَخبولُ
وقُلْ لولا رِجَالُ اللهِ م لاغتَالَتِنَي الغُولُ( [xli])
ويشير الفقّي من طرف خفي إلى فراره من الواقع لما فيه من زيف، فيقول على لسان البلبل:
وَقَالَ: إن كُنتَ تُريدُ الهُدى فَهاكَ مِنِ طَبعيَ بُرهَانَهُ
الزَّيفُ في الناَّسِ وأَمّا هُنا فالطّيرُ لا يخدعُ إخوانَه( [xlii])

ويؤكّد هذا الدافع الذي أخرجه عن أرضه في حواره مع الملك الذي تعجّب من، قدرة بشر يعيش على بطاح الأرض المتخمة بالشرور الوصول إلى المقام السامي الذي وصله الشاعر، وهو بعد لم يتخلّص من قيود الجسد التي تشده إليها فيجيبه الشاعر بقوله:
سَواءٌ الأَرضُ وهَذِي السَّما إنْ لمَ يُنقَّ الرُّوحُ أَدْرَانَهُ( [xliii])
وقد كتب القلعجي ((ملحمة القيامة)) ليصور أثر الواقع الاجتماعي المتردّي في الإنسان المعاصر بكلّ ما يحمله هذا الواقع المادي من نقائص وشرور تدفع بالإنسان قدماً إلى أجله المحتوم وصولاً إلى ساعة القيامة، ومن هذه النقائص والشرور بروز التناحر في العلاقات الاجتماعية وتضييع الأمانة وسيادة العُري والعهر والشهوات والحروب وغيرها، فيقول الشاعر:
عادَ الأشرارُ
خُصوماتٌ وحُروبٌ
وكما الحُمُرُ تَهارجُ
اهترَجَتْ أُممٌ وشُعوبُ
لمْ يَبقَ سوى الفُجّارِ
قبائلَ قابيلَ
تدكُّ رُخَامَ التَّاريخِ( [xliv])
*
ولم يكن إبراهيم الهوني ليخرج في رحلته الخيالية إلا لضيقه بحال أهل الأرض، فقد غدا المجتمع الذي يعيش فيه خليطاً عجيباً من النقائص والمفاسد ولا حريّة للشاعر في النصح، وحتّى إن أتيح له فلقد سئم، لقوله:
لَقَدْ مَلَّ مَن يُبدي النّصائحَ جاهِداً ومَلَّ الذي يَنهى ومَلَّ الذي يُملي
وقَدْ غَيرّوا مَا كُنتَ فيهِمْ عَرفتَهُ مِن الجودِ والإِخلاصِ والصِّدقِ والبّذلِ
ومَا جِئتُكمْ حَتّى كَرِهْت مَعَيشتي وشَاهدت كَيدَ الخلِّ في السّرِّ للخلِّ ( [xlv])
وهكذا كان تصوير الواقع المتخلّف وكشف زيفه ومفاسده الشغل الشاغل لشعراء الرحلات الخياليّة الذين أرادوا الهروب بعيداً عنه ولكن ما عساهم يفعلون وهم أبناؤه سوى أن يكشفوا عنه أقنعته عسى أن يجدوا الرقية التي تساعدهم على تخليصه ممّا هو فيه من مفاسد، وقد تباينت هذه الصور فجاءت صوره ساخرة هازئة عند شفيق معلوف تنّم عن حدّة المرارة والأسى في حين كانت أكثر واقعية عند الفراتي ولكن الفقّي كان أكثر تفاؤلاً في تصويره اللاواعي للمجتمع في حين أخذت الصورة بعداً مأسوياً لدى القلعجي الذي حمّل المجتمع وزر نهاية العالم وسوقه إلى مصير مظلم. وكان الهوني أشد كراهية ومقتاً من الشعراء السابقين لهذا الواقع الذي أضناه فخرج يلتمس في عالم الخيال الراحة والهناء بعيداً عنه.
***
* إدانة الاستعمار:
ولم ينس فوزي معلوف وهو يحلّق في أجواز الفضاء أنَّهُ طريد الاستعمار الذي لا يعني له إلاّ الشّر الذي جوّع شعبه ودفع به للرحيل إلى المهجر ليعاني هناك المشقّة والغربة والبؤس، وهو إذ يوجّه الإدانة للاستعمار يختار صورة إيحائية جعلها المستعمر وسيلة قتل وتدمير حتّى لا يطابق وضعها إلاّ كلمة ((شيطان)) فيقول على لسان الطير التي مثلّت المعادل الموضوعي للشاعر:
قالَ نَسْرٌ لآخَر: أَيُّ طيرٍ
هُو هَذا
ومَنْ رِفاقُهْ
إنْ يكُنْ قَادِماً إِلينا لخَيرٍ
فَلمِاذا
عَلاَ زُعَاقُهْ
يَا لَهُ طَائِراً بصُورَةِ شَيْطَا نٍ يَبثُّ اللَهيبَ بُركَانُ صَدْرِهْ( [xlvi])
وتطفو بعد ذلك على السطح في عفوية متناهية صورة ذلك المستعمر الجشع الذي يريد أن يستعمر العالم بأسره فما عادت الأرض تكفيه فحلّق يستعمر الفضاء يقول:
آدميٌّ هَذا أجَابَ أَخُوهُ جَاءَ يَستَعمِرُ الأَثِيرَ بِأَسْرِهْ
كُرةُ الأَرضِ عن مَطامِعِهِ ضَا قَتْ فحطّتْ هُنا مَطَامِحُ فِكرِهْ
نَحْنُ لَمْ نَهجُرِ البَسيطَةَ إِلاّ هَرَباً مِنه واجتِناباً لِشرِّهْ( [xlvii])
ثم يعانق الشاعر ألم الطيور المهاجرة عن الأرض ليؤكّد إدانته للاستعمار الذي نكّل به وآذاه وغدر به، وهو لم يفرّ عن أرضه إلاّ فراراً منه يقول:
زَارَكَ اليَومَ مُتعَباً يَنْشُدُ الرَّا حَةَ في هَدأَةِ السُّكونِ وَسِحرِهْ
فرَّ عن أَرضِهِ فِرارَك عَنها مِن أذى أَهلِها وتَنكِيلِ دَهْرِهْ( [xlviii])
*
وهكذا دفع الإحساس بالظلم والقهر الذي سبّبه الاستعمار شعراء الرحلة الخياليّة للابتعاد عن واقعهم المأسوي إلى عالم لا يشعرون فيه بالظلم والاضطهاد، بل إنهم يلتفتون من عالمهم المخملي هذا ليوجهوا إلى الاستعمار أصابع الاتهام ويحمّلوه وزر مآسيهم التي يكابدونها.
* النقد السياسي:
وقد دفعت الحياة السياسية الشاعر الزهاوي للرحيل بعيداً عن واقعه السياسي الذي يقسّم المجتمع إلى فئتين: حاكمة متسلطة غنيّة تتجمّع في يديها الأموال والخيرات، وأخرى فقيرة بائسة ليس لها من حظّ إلاّ الشقاء والألم والحسرة، وقد دفع بهاتين الفئتين إلى التصادم ليصل إلى دافعه الذي أخرجه عن دنيا الواقع إلى عالم الخيال لإضرام ثورة البؤساء، ويبرز الدافع بوضوح في الشعار الذي ردّده المعرّي مراراً أثناء قيام الثورة. فيقول:
المعرّي: غَصَبُوا حقّكُمْ فَيا قَوْم ثُوُروُا إِنَّ غَصبَ الحُقوقِ ظُلمٌ كَبيرُ
الجمهور: غَصَبوُا حقَّنَا ولمْ يُنصِفُونَا إِنَّما نَحْنُ للحقُوقِ نَثُورُ
المعرّي: لَكُمُ الأَكواخُ المشيدةُ بالنّا رِ وللبُلهِ في الجنانِ القُصورُ
الجمهور: غصَبُوا حقَّنا ولم ينصِفُونا إنَّما نحنُ للحقُوقِ نَثُورُ
المعرّي: إنّ خَضعتُمْ فما لكُمْ مِن نصيب في طِوال الدُّهورِ إلاّ السَّعيرُ( [xlix])
وهكذا كانت الدوافع الاجتماعية سبباً غير مباشر لشعراء الرحلات الخياليّة في رحيلهم بعيداً عن واقعهم الاجتماعي ولكنّهم في خروجهم لم ينسوا أنّهم أبناؤه الذين يتوقون إلى صلاحه، وقد رسموا واقعه المتخلف مندّدين بمفاسده الخلقية كاشفين ما فيه من زيف، وربّما حمّل بعضهم الواقع الاجتماعي وزر الحياة البشرية وخرابها ووصولها إلى حتفها المؤكّد وصولاً إلى ساعة القيامة كما خرج بعض الشعراء للرحيل عن عالمهم ليشيروا بأصابع الاتهام إلى الاستعمار الذي أفسد البلاد والعباد فنسبوا إليه كلّ الشرور، ولقد امتازت هذه الدوافع بطابع رومانتيكي لم يستطع مواجهة السلبيات بروح واقعية ثوريّة فعّالة، فلجأ إلى الرحلة للتعويض عن عجزه في مواجهة الواقع.
ثالثاً- الدوافع الفنيّة والفكرية
* التجديد:
كانت الرغبة في مجاراة العلوم الحديثة وغيرها من مستّجدات العصر حافزاً لبعض شعراء الرحلات الخياليّة إلى كتابة هذه الرحلات.
فقد كتب رشيد أيوب قصيدته ((حلم في المريخ)) كمحاولة شعرية لطرق موضوعات جديدة كتلك التي أغنتها علوم الفضاء الحديثة عن إمكانية وجود حياة على كواكب أخرى، وعلى الأخص كوكب المريخ. فسار الشاعر في هذا التيار ولكنّه سير الشاعر الراغب في تجديد قوى الروح والنفس بإضافة اكتشافات جديدة، فيقول:
يَقُولون في المريخ قومٌ كَشكلِنَا أناسٌ لهم عقْلٌ يُناجِي كَعقلِنَا
فهلْ أَصلُهم نَوعُ التَّرابِ كأَصلِنَا وهَل يَجهلونَ الكَائِناتِ كَجهلِنَا
وَهَلْ يَعرِفُونَ الحقَّ أمْ هو ضَائِعُ( [l])
عندئذ يستعين الشاعر بنفسه وينطلق في رحلته الخياليّة مولّداً صوراً مثاليّة لحياة متخيلة على هذا الكوكب.
وشاعر آخر كالفراتي دفعته رغبة عارمة في التجديد إلى الرحيل خياليّاً عبر عالم الحلم، لا سيما أنّه كان قد اعتزل الناس مدّة طويلة فأحسّ في عزلته الأدبيّة بفقدان رونق الشعر من قوافيه فما عادت هذه القوافي تهزّ القلوب كما تفعل أسطر السيّاب ونازك الملائكة والقروي وغيرهم، فليس أمام الشاعر إلاّ أن يلجأ إلى عالم الحلم الذي يفسح المجال للاشعور للتعبير عن الرغبات الكامنة تحت طبقة الوعي، وقد جدّد الشاعر في قصيدته ((غرور الشباب)) شبابه ونفض عن روحه أنّات الشيخوخة ومظاهر الموت التي ترتسم عليه، ولابدّ من تجديد القديم من نفحاته لذا يقول:
غيرَ أنّي مَازلتُ أَذكُرُ أنّي عِشتُ دَهراً كَشَاعِرٍ في الفُراتِ
شَاعِراً كُنْتُ مُعْجَباً بِقَديميِ لا أرى للجديدِ من حَسناتِ
عَصَفتْ نخوةُ الشّبابِ بِرأسِي فأطارتْ ما فيهِ من نَعَراتِ
فاطّرحتُ القَديمَ من شِعريَ الغـ م ـثِّ وحتَّى الغريبَ من ((نَفَحاتي))( [li])
وكذلك يحاول الشاعر أن يثبت شاعريته وعزمه على التجديد في الشعر في ردّه على الهاتف الذي كان يطارده في قوله:
لَمْ تَزلْ مِن طِرازِ شِعركَ هَذا في نُزوعٍ إلى القَديمِ العَاتِي( [lii])
وليس الهاتف الخيالي في النهاية إلاّ تلك الرغبة الخفيّة بالتجديد التي حاصرت الفراتي في عزلته الأدبيّة والاجتماعية، فيحاول الشاعر إرضاء هذه الرغبة من نبع شعره الفيّاض إلى أن يحوز رضاها واعترافها له بأنّه شاعر الخلود، فيقول:
وإِذا الهَاتِفُ الأَديبُ يُنادي إِيهِ مرحَىَ لهذِه الآياتِ
أَنتَ في الحَقِّ شَاعِرٌ عَبْقري لا تُجارَى وشَاعِرُ المُعْجِزاتِ
شِاعِرُ الحُبِّ والجَمالِ لعَمرِ شَاعِرُ الفّنِّ شَاعِرُ النّفَثَاتِ
شاعِرٌ للخُلودِ أَنتَ وللخُلْـ ـدِ أَغَانِي الفِتيانِ والفَتَياتِ( [liii])
إذن فغاية الشاعر الرغبة في التجديد وإبراز علو كعبه في فنّ الشعر والقريض، ولعلّ الرحلة الخياليّة كظاهرة أدبيّة هي شكل من أشكال التجديد في الشعر العربي المعاصر تحاول إلباسه ثوباً جديداً يرفع شأنه بين الفنون الإنسانيّة.
***
* محاكاة القدماء وإحياء التراث:
لم تخل بعض الرحلات الخياليّة من دوافع التقليدية والسير على نهج الأدباء القدماء سواء أكان الشاعر صرّح بهذا الدافع أم تجلّى بخفر في رحلته.
ولا تخلو ملحمة القيامة من هذا الدافع الذي يمكن أن يتجلّى خفراً في رغبة عبد الفتّاح القلعجي في نظم ملحمة شعريّة على نمط رسالة الغفران ليعرض فيها موقفه من الحياة والموت والحقّ والباطل والفساد والفضيلة والخير والشرّ، ولكن من وجهة دينيّة قوامها الرؤية الإسلاميّة الصحيحة.
ويعدّ بعث التراث العربي القديم طموحاً كبيراً سعى إليه كثير من الشعراء في مطلع هذا القرن.
ولعلّ شاعراً كشفيق معلوف قد جعل هذا الغرض أهم الحوافز التي دفعته إلى نظم مطوّلة عبقر، وذلك ليعيد فيها جمع تراث العرب الأسطوري في عمل أدبي يمنحه الحيويّة والنشاط وينفض عنه ركام الزمن الغابر فقال في مقدمة المطوّلة: ((فأساطيرنا العربيّة لم يصلنا منها غير القليل، وهو على قلّته مشوّه مبتور لكنّه لم يخل من مغاز غامضة، وجب علينا سبر أعماقها وإرجاعها إلى أصولها وشرح رموزها وهذا ما عملنا في شعر عبقر فالأساطير التي لا ترمز إلى فكرة خلقنا لها الفكرة التي نخالها صالحة لها، وما كان منها ذا رمز جلونا رموزه وتبسّطنا فيه تصوير مراميه...))( [liv]).
فهذا النصّ يؤكّد رغبة شفيق معلوف في إحياء أساطير العرب وبعثها تراثاً حيًاً يمكن أن يحمل الفكرة والفائدة للمتلقّي.
وربّما تأخذ هذه الرغبة صورة أخرى يمكن فهمها من خلال دراسة الرحلة الخياليّة بشكل رمزي يربط بين الرحلة الخياليّة ونموذجها النمطي في الأساطير.
لتظهر الرحلة كأنّها تكرار ومحاكاة لأسطورة وطنيّة قديمة والشاعر صورة لذلك البطل الأسطوري.
فرحلة الهمشري على شاطئ الأعراف هي محاكاة للأسطورة المصرية التي تتحدّث عن رحلة ابن الشمس أوزوريس الذي يمثّل الحركة الدائبة للشروق والغروب في الشمس والحياة. وتقابلها في رحلة الهمشري فكرة ارتقاء الروح تدريجيّاً في مراحل الرحلة وفي ذلك يقول هلال: ((تقوم فكرة على شاطئ الأعراف على ارتقاء الروح تدريجياً وهذا ما تمثّله الأسطورة كفكرة محسوسة وهو تاريخ الشمس، فرع وآمون نهاراً وأوزوريس ليلاً))( [lv]).
وهكذا بدت الدوافع الفنيّة والفكريّة رافداً أسهم في شحذ همم شعراء الرحلة الخياليّة للرحيل بعيداً عن عالمهم وصولاً إلى تحقيق ما تصبو إليه نفوسهم من رغبة التجديد في الشعر العربي المعاصر، وإحياء التراث العربي القديم وجعله مادة إنسانيّة فعّالة تعيد وضع العرب في مقدّمة ركب الحضارة الإنسانيّة كقوّة مؤثّرة في الثقافة لا متأثرة فحسب، وربّما أسهم اللاوعي الجمعي في دفع بعض الشعراء إلى تكرار الفعل النمطي الأسطوري لأسلافهم القدماء فأعيدت الأسطورة القديمة ولكن في ثوب جديد واسم جديد بعد أن صارت الفكرة المحسوسة رمزاً شفّافاً.
لقد تهيأت لشعراء الرحلات الخيالية دوافع مباشرة وأخرى غير مباشرة حدت بهم إلى الرحيل بعيداً عن عالمهم، فكانت الدوافع النفسيّة وفيها طغت أحلام الحريّة والرغبة في الخلاص من قيود الواقع الراسف في أوضار الماديّة، ودوافع الحيرة والشكّ والرهبة والخوف والتمرّد والثورة التي تدعو إلى التغيير كمعادل جديد يعيد للشاعر توازنه النفسي الذي فقده في ظلال الواقع الإنساني المتردي.
ثم كان للمجتمع دوره الخفي العظيم في حثّ هؤلاء الشعراء على التحليق بعيداً عن مهاويه ومفاسده وشروره ولكنّهم التفتوا إليه مشيرين بأصابع الاتهام إلى من كان وراء مصائبه وارتكاساته وإحباطاته كالاستعمار والفساد. التفتوا إليه يحدوهم الأمل في إحياء روح النضال الوطني والسياسي في نفوس أبنائه. ولا يخفى ما للدوافع الفنيّة والفكريّة من أثر في هذه الرحلات للتجديد في بناء الشعر العربي والإسهام في مشروع النهضة العربية الفكري والثقافي وإحياء تراثها القديم.
[i]) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 77.
( [ii]) المصدر نفسه، ص:61.
( [iii]) المصدر نفسه، ص: 85.
( [iv]) المصدر نفسه، ص: 149.
( [v]) المصدر نفسه، ص: 159.
( [vi]) ..؟..، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص: 49.
( [vii]) المصدر نفسه، ص: 51.
( [viii]) المصدر نفسه، ص: 52.
( [ix]) المصدر نفسه، ص: 53.
( [x]) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص: 180.
( [xi]) المصدر نفسه، ص: 181.
( [xii]) المصدر نفسه، ص: 183.
( [xiii]) المصدر نفسه، ص: 193.
( [xiv]) المصدر نفسه، ص: 194- 195.
( [xv]) المصدر نفسه، ص: 195.
( [xvi]) عساف، ساسين، الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس، بيروت، ط1، 1988، ص22.
( [xvii]) فروم، أريك، اللغة المنسية، تر: محمود الهاشمي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1991، ط1، ص: 42.
( [xviii]) المصدر نفسه، ص: 197.
( [xix]) المقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد الصافي، ص: 335.
( [xx]) المصدر نفسه، ص:339.
( [xxi]) المصدر نفسه، ص:330.
( [xxii]) المصدر نفسه، ص: 335.
( [xxiii]) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص: 120.
( [xxiv]) إسماعيل، عز الدين، الشعر العربي المعاصر، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967، ص: 237.
( [xxv]) المصدر نفسه، ص: 139.
( [xxvi]) التبريزي، الخطيب، شرح القصائد العشر، تقديم عبد السلام الحوفي، دار الكتب العلمية، ط1، 1987،
ص: 115.
( [xxvii]) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 278.
( [xxviii]) المصدر نفسه، ص: 302.
( [xxix]) المصدر نفسه، ص: 305.
( [xxx]) العشماوي، محمد زكي، أعلام الأدب واتجاهاتهم الفنية، دار المعرفة الجامعية، ط1، 1995، ص: 80.
( [xxxi]) العقاد، عباس محمود، الديوان، ص: 276.
( [xxxii]) المصدر نفسه، ص: 277.
( [xxxiii]) المصدر نفسه، ص: 283.
( [xxxiv]) المصدر نفسه، ص: 286.
( [xxxv]) فقي، محمد حسن، الديوان، مج1، ص222.
( [xxxvi]) المصدر نفسه، ص: 222- 223.
( [xxxvii]) معلوف، شفيق، عبقر، ص: 155- 156.
( [xxxviii]) المصدر نفسه، ص:154.
( [xxxix]) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 269.
( [xl]) المصدر نفسه، ص: 276.
( [xli]) المصدر نفسه، ص: 279.
( [xlii]) ساسي، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص: 51.
( [xliii]) المصدر نفسه، ص53.
( [xliv]) القلعجي، عبد الفتاح، ملحمة القيامة، ص: 15.
( [xlv]) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص: 39.
( [xlvi]) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 93.
( [xlvii]) المصدر نفسه، ص: 94.
( [xlviii]) المصدر نفسه، ص: 95.
( [xlix]) الزهاوي، جميل صدقي، الديون، ص:736.
( [l]) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص: 150.
( [li]) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 301.
( [lii]) المصدر نفسه، ص: 304.
( [liii]) المصدر نفسه، ص: 305.
( [liv]) معلوف، شفيق، عبقر، ص: 10- 11.
( [lv]) هلال، محمد غنيمي، الأدب المقارن، ص: 376.









 


رد مع اقتباس
قديم 2010-11-27, 21:19   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
fatimazahra2011
عضو ماسي
 
الصورة الرمزية fatimazahra2011
 

 

 
الأوسمة
وسام التألق  في منتدى الأسرة و المجتمع 
إحصائية العضو










افتراضي


















رد مع اقتباس
قديم 2011-01-23, 23:47   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
norsun
عضو جديد
 
إحصائية العضو










Hot News1 شكر وتقدير

شكراااااااا










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الخيالية, الرحلات


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 09:46

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc