ضوابط وعظ المبتدعة. الإنكار على المبتدع والردّ عليه, ومناصحته, من أعظم الوسائل التي تُدْحَرُ بها البدعة, وتُحْيَ بها السنّة, ويُذَاذُ بها عن حياض الدين؛ ولكن ينبغي أن تراعى فيه الضوابط الشرعية, والشروط المرعية التي يمكن من خلالها تحقيق المقصد الشرعي: ومن ذلك:
1- أن يكون النصح بإخلاص, ونية صادقة:
في نصرة الحق والتجرد له؛ وقمع البدعة وإخماد نيرانها.
ومن لوازم الإخلاص فيه: أن يحبّ هداية المبتدع, ورجوعه للحق, وأن يحرص على ذلك أشدّ الحرص, وأن يسلك كل المسالك الشرعية الممكنة في تقريب قلب المبتدع لا تنفيره.
وأن يصحب ذلك دعاء الله له أن يهديه؛ خصوصاً إن كان من أهل السنة, أو من غيرهم من المسلمين؛ وقد دعى النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الكفار بالهداية فكيف بالمسلمين الموحدين !!
2- أن يكون النصح من عالم راسخ القدم في العلم:
يعلم على وجه التفصيل جوانب المسألة المتعلقة بموضوع البدعة من حيث الأدلة الشرعية عليها, وكلام العلماء فيها, ومدى مخالفة المبتدع للحق, ومنشأ الشبهة عنده, وأقوال العلماء في رد هذه الشبهة, والاستفادة من كلامهم في ذلك.
كما ينبغي أن يتسم الداعية بقوة الحجة في تقرير الحق, وإزالة الشبهة, ودقَّة العبارة, بحيث لا يظهر عليه في شيء من ذلك أو يفهم من كلامه غير ما أراد؛ وإلا حصل الضرر العظيم بتصدي من فقد هذه الشروط للوعظ والنصح.
نقل الشاطبي في الاعتصام أنّ رجلاً من أهل السنّة كتب إلى الإمام مالك رحمه الله: "إن بلدنا كثير البدع, وإنه ألف كتاباً في الرد عليهم, فكتب إليه مالك يقول له: إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك, لا يرد عليهم إلا من كان ضابطاً عارفاً بما يقول لهم, لا يقدرون أن يعرِّجوا عليه, فهذا لا بأس به, وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه, أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تمادياً على ذلك"
3- أن يراعى في النصح تفاوت المبتدعة في درجة البدعة:
ومكانة المخالف في الدين والدنيا؛ ويفرِّق أيضاً بين دعاة البدعة المجاهرين بها, وبين المتسترين, وكذلك التفاوت في الباعث على هذه البدعة أهو الجهل, أم الهوى, أو تأثر بشيخ, أو أهل البلد, أو التأويل, أو غير ذلك من المقاصد الكثيرة للمخالفات الشرعية، فمن لم ينتبه إلى هذه المفارقات ويراعيها عند النصح لربما وقع في شيء من الإفراط أو التفريط الذي يمنع الانتفاع بكلامه أو يقلل النفع به.
4- أن يراعى في الإنكار على المبتدع تحقق المصلحة الشرعية:
فإن ترتب عليه مفسدة راجحة على مفسدة البدعة فلا يشرع الإنكار في هذه الحالة؛ فإنه لا تدرأ مفسدة بما هي أعظم منها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين؛ بتحصيل أعظم الضررين فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد, وتقليلها بحسب الإمكان؛ ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً, ودفع شر الشرين إذا لم يتفقا جميعا.
5- أن يراعى في النصح والإنكار أن يكونا على قدر البدعة وانتشارها:
فإن كانت البدعة نشأت في بلد أو مجتمع؛ فلا ينبغي أن يُشَاع الإنكار سواء عن طريق نشر كتاب, أو شريط, أو غيرهما من الوسائل الأخرى في بلد, أو مجتمع لم يسمع بالبدعة؛ لأن في نشر الرد نشر بطريق غير مباشر للبدعة؛ فقد يطلع الناس على الرد فتبقى الشبهة في نفوسهم, ولا تحصل لهم القناعة بالرد.
فترك الناس في سلامة وعافية من سماع الباطل أصلاً؛ خير من سماعهم له ورده بعد ذلك.
وقد كان السلف رحمهم الله يراعون ذلك في ردودهم ونصحهم وتذكيرهم, فكثير من كتبهم في الردود يستدلون فيها للحق في مقابل الباطل من غير ذكر للبدعة, وهذا من فقههم الذي قصر عنه بعض المتأخرين.
وقد هجر الإمامُ أحمد الحارثَ المُحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك ! ألستَ تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم ؟! ، ألستَ تحمل الناسَ بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث"
وما قيل في التحذير من نشر الرد في بلد لم تنتشر فيه هذه البدعة يقال في التحذير من نشرها في طائفة من الناس لم تعرف تلك البدعة؛ وإن كانت في بلد المخالفة.
فلا ينبغي أن يُسعى في نشر الردود من كتب وأشرطة بين العامة إن لم يعرفوا الخطأ والبدعة, ولم يسمعوا بها؛ فكم فُتـِنَ من العامة ووقعوا في الشك والارتياب في أصل الدين بسبب إطلاعهم على ما لا تدركه عقولهم من كتب الردود مما لا يحصيه إلا الله.
وأهل السنّة والجماعة لا يعاملون المستتر ببدعته كما يعاملون المظهر لها أو الداعي إليها, فالمظهر للبدعة والداعي إليها يجب كفّه وبيان خطره, وأما المستتر ببدعته فينكر عليه سراً ويوعظ وينصح, ويستر علي
6- الترفق بالمبتدعة, ومداراتهم:
الرفق مطلوب في المعاملات كلّها حتى مع الكفار الجاحدين, والطغاة المارقين؛ لأنّ الرفق كثيراً ما يفتح القلوب المقفلة, ويسكن الأرواح النافرة.
وينبغي للدعاة أن يفرقوا بين الرفق والمداراة المشروعين, وبين المداهنة والتميّع المذمومين.
فالمداراة مطلوبة, وهي متعلقة باللين في المعاملة, جاء في لسان العرب: "مداراة الناس: ملاينتهم, وحسن صحبتهم, واحتمالهم لئلا ينفروا منك"
والمداهنة مذمومة, وهي: متعلقة بالدين؛ قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)
قال الحسن البصري رحمه الله في معنى هذه الآية: "ودوا لو تصانعهم في دينك, فيصانعونك في دينهم"
فالمداري يلين في المعاملة من غير أن يتنازل عن شيء من دينه, والمداهن يتقرب للناس بترك شيء من الدين.
ولكن قد يُلْجَأُ إلى التغليظ على المبتدعة, وهجرهم, وزبرهم, وزجرهم, إذا لم تنجع فيهم الموعظة والنصيحة, وخِيْفَ من انتشار ضررهم, وشيوع بدعتهم, وافتتان الناس بهم.
فالهجر والزجر مشروعان عند غلبة الظن في انزجار المبتدع, ورجوعه.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "ولا هجرة إلاّ لمن ترجو تأديبه بها, أو تخاف من شرِّه في بدعة, أو غير ذلك"
7- إنّ الحكم على الناس في الدنيا يكون بحسب الظاهر:
فإذا أظهر المسلم البدعة, وعلم الداعية ذلك منه إما بالمعاينة والسماع, أو بالشهرة والاستفاضة؛ حَكَمَ عليه بأنّه من أهل البِدع, وَوَكَلَ أَمْرُهُ إلى الله تعالى.
وبالمقابل فإنّ المسلم إذا ظهر منه سلامة الاعتقاد مع العمل بمقتضاه حُكِمَ عليه بأنه من أهل السنّة, وليس للواعظ أن ينقِّب عما في قلوب العباد ليُمحِّص صدقهم من عدمه, لأنّ السرائر أمرها موكول إلى علاّم الغيوب.
وهذا من الأصول العظيمة عند أهل السنّة والجماعة, وقد دلّت عليه نصوصٌ كثيرة:
ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «في قصّة الرجل الذي راجع النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة, وقال له: يا رسول الله ! اتّق الله ! ...أنّ خالد بن الوليد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه, فقال النبي ز: لعلّه أن يكون يصلي؟ فقال خالد: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقِّب قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم...»
قال النووي رحمه الله -في شرح هذا الحديث-: "معناه: أني أُمِرْتُ بالحكم بالظاهر, والله يتولَّى السرائر"
فالطريق الذي تثبت به الشهادة على الرجل أنّه من أهل البدع هو: المعاينة أو الاستفاضة؛ أما الحكم على الناس بمجرّد الظن والهوى, أو بشيء لم يصدر منهم, هو من باب الوقيعة في أعراض المسلمين, وداخل في الظن السيئ المنهي عنه شرع
من كتاب رفقا أهل السنة بأهل البدع و المخالفين
لأخونا أبو يزيد سليم بن صفية المدني حفظه الله و سدد خطاه