حضارة من الحضارات السابقة """ قوم ثمـــــود """
قال تعالى:"" 'وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين""
السقوط الحضاري' كما تجسده قصة العرب البائدة: عاد وثمود
الحضارة : المظاهر الفكرية التي تسود أيّ مجتمع
أهمية هذا التعريف أنه يتجاوز المظاهر المادية للحضارة، مع أنها أول ما يلفت النظر
لدى دراسة واقع أية أمة!. ومن المعلوم أن الحضارة تسير ضمن ثنائية القيام والسقوط؛ كأنها كائن حي، وهذا ما أشار إليه كتاب الله عندما عرض لسنن قيام الحضارات وسقوطها على مر التاريخ قال تعالى: (﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، وقال ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
و'السقوط الحضاري' لا يعني الفناء بالضرورة، وإنما يعني أيضاً الانهيار الداخلي
للمجتمعات، وذهاب قوة الأمة وعزتها، وهوانها على الأمم الأخرى، والقرآن الكريم يشير
إلى حالتي 'السقوط الحضاري' هذه: الهلاك والانهيار. قال تعالى عن الأمم الهالكة
(وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْما آخَرِينَ﴾، وقال واصفاً حال الأمم المنهارة، كحال العرب قبل الإسلام: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ .
عاد وثمود؛ عربٌ بائدة من ذرية نوح
قسّم لمؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام؛ بحسب السلالات التي ينحدرون منها
ـ العرب البائدة:
وهم العرب القدامى الذين انقرضوا تماماً، مثل: عاد، وثمود، وطَسْم، وجَدِيس،
وعِمْلاق، وأُمَيْم، وجُرْهُم، وحَضُور، ووَبـَـار، وعَبِيل، وجاسم، وحَضْرَمَوت، وغيرها.
ـ العرب العاربة:
وهم العرب المنحدرة من صلب يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان، وتسمى بالعرب القحطانية.
مَهْدُها في بلاد اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها من ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن
قحطان. فاشتهرت منها قبيلتان: حِمْيَر بن سبأ، وكَهْلان بن سبأ، وأما بقية بنى
سبأ ـ وهـم أحـد عشـر أو أربعة عشـر بطنًا ـ فيقال لهم: السبئيون.
3ـ العرب المستعربة:
وهي العرب المنحدرة من صلب إسماعيل عليه السلام، وتسمى بالعرب العدنانية.
ومن المعلوم أنه كان لنوح -عليه السلام- أربعة أولاد هم: يافث، وسام، وحام، وكنعان،
وهذا الأخير هو الذي لجأ إلى الجبل ليعصمه من الماء، فكان من المُغرقين، أما
الثلاثة الباقون فقال ابن كثير عنهم: 'إن كل من على وجه هذه الأرض اليوم من سائر
أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة الباقين (سام، وحام، ويافث).
وقد روى الإمام أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: 'سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم'. وذكر القلقشندي في 'نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب' أن يافث هو أكبرهم، وسام
هو أوسطهم، وحام هو أصغرهم.وإلى سام بن نوح تنتسب عاد وثمود؛ عاد هم
قوم عاد بن عوص بن سام بن نوح. كانوا عرباً يسكنون الأحقاف - وهي جبال الرمل
وكانت باليمن بين عُمان وحضرموت، بأرض مطلة على البحر. أما ثمود فهم
عرب أيضاً، وقد سادوا في الجزيرة العربية بعد قوم عاد،
وهم من أبناء عائر بن إرم بن سام بن نوح
.
معنى السقوط الحضاري في القرآن
لعل ما يقصد بالسقوط الحضاري من خلال القرآن ليس هو دائماً زوال الأمم من الوجود وفناء أفرادها في العدم ولكن ما يعني بالسقوط الحضاري هو الانهيار الداخلي للمجتمعات وذهاب قوة الأمم وعزتها وهوانها على الأمم الأخرى، ذلك عندما تذوب في غيرها وتنمحى شخصيتها المعنوية والروحية وهذا ما هو كائن في حياة الأمم التي سقطت حضاراتها.
والثابت في تاريخ الإنسانية أن الأمم التي شهدت تلك الإمبراطوريات والحضارات الغابرة لم ينقرض نجمها ويندثر كيانها البشري كلية، وإنما ضعفت واستكانت وغاب تأثيرها المباشر في مسرح الحياة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فاستوعبتها حضارات أمم أخرى هي أشد وأبقى حتى صارت جزءاً منها لا ينفصل، وأنشئت على أنقاض كيانها الحضاري حضارات جديدة تسلمت علم الريادة ووساد السيادة
ولعل أوضح مثال تطبيقي في هذه النقطة هو حضارة العرب البائدة كعاد وثمود الذين بلغوا شأناً عظيماً في التحضر حكى القرآن الكريم بعضه للاعتبار ودلت عليه بقايا الدهر وأبحاث التاريخ، والثابت أن هؤلاء العرب العاربة وغيرهم من الأمم الهالكة لم يستأصلوا استئصالاً كلياً تاماً وإنما أهلك الله الظالمين والكافرين منهم وأنجا رسلهم والذين آمنوا منهم ليستمروا في عمارة الحياة.
وقد جرت سنة الله أن يعامل البشر حسب ما عملوا، وهذا بصريح قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
فالله عز وجل لا يزيل ما بقوم من العافية والنعمة، والرخاء، والهناء ويبدلها بالآلام والأمراض والنوازل والفتن والأحداث وغيرها من ضروب العقاب الرباني حتى يزيلوا هم ويغيروا فيجحدون النعمة ويعلنون الكفر والمعاصي ويتمردون عن سنن الله في إسعاد البشر ويتظاهرون بالفحش والمنكر والفساد، فتكون النتيجة أن تحل بهم قوارع الدهر، وينزل بساحتهم عذاب من الله
وآفة الحضارات الجانحة التي نقرأ عنها في بطون التاريخ، أو نجد بقاياها وأطلالها منثورة على جنبات الأرض هي الفساد أو الإفساد في الأرض بكافة أشكاله وأنواعه فساد العقيدة ـ الشرك ـ فساد العلاقات بين أفراد الأمة بترك التوادد والتعاون، مما يؤدي إلى العداء والتباغض ثم الظلم، وفساد النفوس بالغرور والتكبر والعجب وهذا هو الفساد الذي ظل القرآن الكريم يكرر الحديث عنه، ويكثر التحذير منه ويلفت نظر الإنسان إلى مغب+ات التورط في أسبابه وينبه إلى الرزايا والمصائب التي لابد أن يتحملها الإنسان على أعقابه وما فسدت هذه الأرض يوماً ما بعادية من عوادى الطبيعة ولا بسوء آخر ألم بها من هياج الحيوانات والوحوش، وإنما استشرى فيها الفساد وألم بها البلاء يوم تاه بنو الإنسان وخرجوا عن هواياتهم وطبيعتهم وحقيقة خصائصهم البشرية فتأله الأقوياء وذل الضعفاء، وخرج بذلك كل فريق عن حدود إنسانيته، ذلك نحو التعالي والتجبر في الأرض وذاك نحو الخنوع، فتمت بذلك قصة الفساد في الأرض وهي قصة قديمة تتكرر أسبابها أو عواملها في الإنسان ذاته.
كيفية السقوط الحضاري في القرآن
أما عن كيفية سقوط الحضارات ودمار الأمم والمجتمعات فنجد أن أدق العلل وأصغرها، قد تؤدي إلى أعظم النتائج وأخطرها، ويعد عدم وجود صلة ظاهرة منظورة بين صغير العلل وعظيم النتائج من أكثر الحوادث نجاحاً في حياة الأمم وتبدل ظروفها الحضارية سياسياً واجتماعياً، ذلك أن عيون المراقبة والملاحظة عادة ما تغفل الجزئيات وتهمل صغائر الأمور وأدقها، ولعل هذا ما يمكن أن نفسر به تلك المفاجئات في التقلبات السياسية وتبديل القيادات العسكرية في الدول والحكومات، وكثير ما يدخل التاريخ من هذا الباب أناس لا حساب لهم في حس المراقبين واهتمامهم، وقد كانوا يتحركون ويعيشون في منأى عن أنظار خصومهم وفي القرآن الكريم إشارات وتنبيهات إلى هذا، قال تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).
وللتذكير فإن الآية نزلت في قذف عائشة، وقد حسب بعض المؤمنين ذلك هيناً وعقوبته عند الله شديدة.
ولذا كان مبدأ العلة أو السببية من أكبر القضايا الفلسفية التي شغلت المفكرين وفلاسفة التاريخ والاجتماع، والعلة هي حادث يؤدي إلى حادث آخر أو مجموعة من الحوادث تتراكم في شبكة واحدة ذات اتجاه معين حتى تؤلف عاملاً قد يكون له دور في تغيير وجه من أوجه الحياة أو تغيير مسار التاريخ كله.
والثابت تاريخياً انه ما انتصرت أمة أو انهزمت إلا بفعل العوامل والأسباب الداخلية. وما العوامل الخارجية إلا متممة ومكملة للداخلية، ولعل هذا ما كان يطلق عليه مالك ابن نبي ـ رحمه الله ـ القابيلة للاستعمار، ويرى أنه العامل الأكبر في هزيمة المسلمين في العصر الحديث.
وإن كان كثير من المؤرخين والمفكرين يميلون إلى الاهتمام بدور الأسباب المباشرة والعوامل الخارجية الظاهرة في دراسة الأحداث التاريخية والتبادلات الاجتماعية والسياسية والتقلبات الحضارية.
ومن سنة الله في البشر أن كل ما يصيبهم من بلاء وأذى في الأنفس والأبدان وشئون الملك والسلطان إنما هي آثار للأعمال ونتائج للسلوك الفاسد، مع وجود عفو الله الكثير كما قال تعالى: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)
ولذا نجد القرآن لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ولم يترك الله ذرة من أعمال الإنسان إلا وسجلها يوم القيامة: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً)
وتبقى سنة الله ثابتة تعمل عملها في حركة التاريخ، والله يتخذ من الظالمين والمترفين وأهل الشرك والضلال وغيرهم من كل ذوى الفساد والانحراف أدوات ووسائل يسوق بها القرى والدول والحضارات والأمم والمجتمعات نحو الفواجع والمصائر الكالحة.
والقرآن الكريم يطرح على الإنسانية قضية السقوط الحضاري من أوسع الأبواب وأكثرها شمولاً، بصيغ عديدة واصطلاحات كثيرة كلها تؤدي إلى حالة واحدة بالأمة وهي الهلاك والسقوط.
فالظلم مثلا عامل من أكبر عوامل سقوط الحضارات وله مفهوم شامل وعريض يؤدي إلى فقد التوازن في كافة مجالات الحياة، وعلاقات الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره، وعن هذا تنبثق حالات وظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضية وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية كافة، كما قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين، فأقم وجهك للدين من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون).
"ظهر الفساد في البر والبحر" نحو القحط والجدب، وقلة البركة في الزراعة والتجارة، وكثر الحرائق والغرق،" بما كسبت أيدى الناس" أي بسبب معاصيهم وذنوبهم، وأن الله أفسد بعض أسباب دنياهم ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل الآخرة والحكمة "لعلهم يرجعون" بمعنى لكي يرجعون عما هم عليه وحتى ينجو من عذاب الآخرة، وهو العذاب الأكبر، ثم أمر الله الأمم أن تسير في الأرض وتنظر لترى كيف أهلك الله إمما كانت على الظلم وأذاقها سوء العاقبة بمعاصيهم. ودل قوله تعالى (كان أكثرهم مشركين) على أن الشرك لم يكن هو السبب الوحيد لتدمير القرى والأمم بل هو سبب إلى جانب أسباب أخرى.
وتكشف الآيات عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية عامة، بأعمال الناس وسعيهم، وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم، وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملأها براً وبحراً به، فظهور الفساد في البلاد واستفحال شره لا يتم عبثاً، ولا يقع صدفة، وإنما يكون وفق سنة جارية وحكمة مدبرة، وهي (ليذيقهم بعض الذي عملوا) من الشر والفساد والمنكر والباطل والظلم، وما إلى ذلك، والله يذيقهم بعض أعمالهم وليس كل أعمالهم ذلك لأنه رحمن رحيم يعفو عن كثير، وها هم أهل القرى الظالمة والحضارات الفاسدة يكتوون بنار أعمالهم وتصرفاتهم ويتألمون لما يصيبهم، بما فكرت عقولهم وصنعت أيديهم و "لعلهم يرجعون" لكي يرجعوا الى الله بالعمل الصالح والتوبة، ويعزموا على مقاومة الفساد والظلم، وفي هذا تحذير لمن جاء من الأمم من بعد، وهي تعرف عاقبة السابقين وترى آثارهم وتمر بها، وفي العاقبة وآثار الباقين من الهالكين عبر وعظات تستخلص منها التجارب والدروس وتستقرا منها السنن والقوانين التاريخية والحضارية.
وإننا نجد صورة متكاملة لسنن الإقبال والإدبار الحاضرين في قصص الأمم في القرآن كقصة فرعون وبنى إسرائيل ذلك أن أهل مصر من آل فرعون لما وصلوا إلى الرقى والازدهار أخلدوا إلى الأرض ومارسوا الظلم والعدوان كمنهج سياسي واجتماعي وجعل فرعون يذبح أبنائهم ويستحى نسائهم، ولما بلغ ظلمه نهايته جاءت سنة الله وقضى رب الملك أن يخفض هذا الفرعون ويزول ملكه ويرفع تلك الأمة المستضعفة بني إسرائيل. وإذ أراد الله أمراً هيأ له أسباباً حيث ولد موسى عليه السلام وتربى في قصر فرعون كما تربى كثير من العظماء في قصور الطغاة وتلك سنة من أعظم سنن الله، ولما كبر عليه السلام آتاه الله الوحي والعلم والحكمة كما هو شأن كل الأنبياء.
فنصح فرعون بلطف ولم ينتصح له كعادة الظالمين والمتجرين في كل العصور.
ثم جاءت النذر والإنذارات لفرعون وآله فتعاقبت عليهم المجاعات والسنون ونزل عليهم الدم وأذتهم كثرة القمل والضفادع وأكل حرثهم الجراد ومسخوا مسخاً غريباً متى كان منهم الخنازير والقردة وعبدة الطاغوت وحتى أخذهم الطوفان وأغرقوا في إليمِّ وهو مليم.
ولما تمت الحجة ولم يبق للظالمين عند الله عذر سقطت الحضارة الفرعونية وفق نفس السنن سقطت بها غيرها من الحضارات سقوطاً لم تنهض منه إلى الأبد وهلك فرعون وآله هلاك استئصال وتلك هي عاقبة الظالمين.
وسارت حركة التاريخ ودارت الحضارة دورتها وجاءت نوبة أو دورة بني إسرائيل وفق سنن الاستخلاف والوراثة أو التداول والاستبدال الحضاري. وبعد أن نصرهم الله على فرعون بهلاكه آتاهم الملك وأورثهم الأرض. ولكن هذه الوراثة والاستخلاف كانا منوطين بسنة الاستقامة بالاعتقاد السليم والعمل الصالح وهذه سنة وشرط للاستمرار وللاستخلاف، ليس خاص ببني إسرائيل وحدهم في التاريخ بل يجب أن تلزمه كل أمة تمنح حكومة الأرض.
ولما كان انحراف بني إسرائيل في تاريخ الإنسانية كانحراف الفراعين أو أشد نزعت من أيديهم الوراثة، وسلبوا التمكين والملك بنفس السنن العادلة وسلطت عليهم سهام المؤمنين تارة وسهام الجبابرة أمثالهم تارات أخرى، وأخرجوا من ديارهم وشردوا في الأرض مرات ومرات في بؤس وشقاء، وضربت عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم القيامة ولن يرفعها عنهم الله إلا إذا عادوا للحق وحكموا بالعدل، وإن كانوا تمكنوا في الأرض هذه الأيام فما تلك إلا فترة استثنائية في تاريخ القوم، ومن باب وسنة تسليط الظالمين على ظالمين مثلهم أو أشد
.
حضارة ثمود؛ النشأة والزوال
ساد قوم ثمود في جزيرة العرب بعد عاد، دون أن يتعظوا بما حل بأسلافهم. قال تعالى:
﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
وقال سبحانه: ﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾.
وقد ذُكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة، فكانوا يبنون البيوت من المدار فتخرب قبل
موت الواحد منهم، فنحتوا لهم بيوتاً في الجبال.
قال تعالى:
﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ* وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾.
والثابت أن الله خصهم بكثير من نعمه وجعل أرضهم خضراء، فيها جنات وعيون، فعلت
حضارتهم بمفهومها المادي، لكنهم كانوا خواء في معتقدهم، فحلّ بهم ما حل بالأولين.
بعث الله في قوم ثمود رجلاً منهم، هو عبد الله ورسوله صالح بن عبيد بن ماسح بن عبيد
بن حادر بن ثمود بن عاثر بن إرم بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له،
لكنهم:
﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ مُرِيبٍ* قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ
فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾. وقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ* فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا
إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ* أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ* سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾.
وقد ذكر المفسرون أن ثمودَ اجتمعوا يوماً في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح، فدعاهم
مجدداً إلى الله، وذكّرهم وحذرهم ووعظهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه
الصخرة -وأشاروا إلى صخرة محددة- ناقة، صفتها كيت وكيت،-وذكروا أوصافاً سمّوها
ونعتوها- نؤمن لك، فأخذ عهدهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه، فصلى لله عز
وجل، ودعا ربه أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن
ناقة عظيمة، على الوجه الذي طلبوا، فلما عاينوها رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً
هائلاً، ودليلاً قاطعاً، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم.
يقول ابن كثير: 'قال لهم صالح هذه ناقة الله -أضافها لله سبحانه وتعالى إضافة تشريف
وتعظيم-، فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب، فاتفق الحال
على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم، ترغي حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يوماً بعد
يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجتهم من
الماء في يومهم لغدهم، وكانوا يشربون من لبنها كفايتهم، فلما طال عليهم هذا الحال
اجتمع سادتهم، واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة، ليستريحوا منها ويتوافر عليهم
ماؤهم، وزيّن لهم الشيطان ذلك. قال تعالى:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا* إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا* فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا* وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾.
استحق قوم ثمود العذاب، فقال لهم صالح: 'تمتعوا في داركم ثلاثة أيام'، أي أن العذاب
سيأتيكم بعد ذلك الميعاد، فلم يصدقوه، بل هموا بقتله هو أيضاً، و'تقاسموا بالله
لنبيتنه وأهله'، فلما أشرقت شمس اليوم الرابع جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم،
ورجفة من أسفل منهم، فزهقت النفوس، وأصبحوا في دارهم جاثمين، جثثاً لا أرواح فيها
ولا حراك بها.
روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بالناس على تبوك، نزل بهم منطقة الحجر، عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا القدور، فأمرهم رسول الله عليه الصلاة والسلام فأرهقوا القدور، وعلفوا العجين للإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم
على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذّبوا
وقال: 'لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا
تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم . وفي بعض الروايات أنه عليه
السلام لما مر بمنازلهم قنع رأسه وأسرع راحلته.
وقد كانت منطقة الحِجر مسكونة من بعض السكان في المملكة العربية السعودية، في بيوت
طينية فتم إخراجهم منها، بعد صدور فتوى تحريم هذه الأرض، من هيئة كبار العلماء في
المملكة، استناداًً إلى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام المتقدم، وقد عُوّض عليهم، بأراضٍ في منطقة قريبة من 'الحِجر'، وأخليت المنطقة تماماً حتى نبتت فيها أشجار كثيرة وكأنها محمية طبيعية.
إشارة إلى أن حضارة الثموديين امتدت حتى البحر الأحمر، وأن هذه المناطق مليئة اليوم
بكتابات ورسوم ثمودية، ولا سيما في منطقة مدائن صالح، وصولاً إلى تيماء وجنوب وادي القرى.
هكذا مثّل القرآن الكريم 'السقوط الحضاري' في قومين من أسلافنا العرب، لكي يبقيا
إلى يوم القيامة شاهداً وواعظاً لهذه الأمة، ولكل أمة على وجه الأرض.
.