وقبل أن تميل يده الشريفة وتفارق روحه جسده قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير))، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))، قلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي قوله: ((اللهم الرفيق الأعلى)) رواه البخاري. وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: ((اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق)).
ويقبل ملك الموت على النبي لينادي على روحه الطاهرة: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ورب راض عنك غير غضبان، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 27-30]، وتسقط يد النبي وتخرج عائشة تصرخ وتبكي: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مات خير خلق الله، مات إمام النبيين، مات سيد المرسلين، مات الحبيب، ويقابلها عمر بن الخطاب، فيصرخ ويشهر سيفه في الناس وهو في ناحية المسجد ويقول ـ كما في صحيح ابن ماجه ـ: (والله، ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم).
وفي هذا الوقت كان أبو بكر في بيته في عوالي المدينة، فبلغه الخبر في وقت الضحى، قالت عائشة: وأقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم النبي ـ أي: قصده ـ وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. رواه البخاري. وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - أن أبا بكر دخل على النبي بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه
وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي أنه قال في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا. متفق عليه. وفي مرضه الذي مات فيه وصى بالأنصار خيرًا، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ((أما بعد: فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئا يضر فيه قوما وينفع فيه آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) رواه البخاري عن ابن عباس. وكان من آخر وصاياه ما قاله أنس بن مالك: كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم))، حتى جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. رواه الإمام أحمد في المسند.
بإسناد صحيح.
أما تغسيله فقالت عائشة - رضي الله عنها -: لما أرادوا غسل النبي قالوا: والله، ما ندري أنجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟! فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. رواه أبو داود.
وأما الصلاة عليه ففي مسند الإمام أحمد سئل أبو عسيب مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف صلي عليه؟ قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه، ثم يخرجون من الباب الآخر. وفي مصنف بن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع على سريره، فكان الناس يدخلون زمرا زمرا يصلون عليه ويخرجون، ولم يؤمهم أحد
وأما دفنه فقال ابن إسحاق: "وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وألحد في قبره لحدًا. وعن أنس بن مالك قال: ولما نفضنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأيدي وإنا لفي دفنه ـ مشغولون ـ حتى أنكرنا قلوبنا، أي: لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة؛ لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول من التأييد والتعليم. رواه الترمذي وصححه.
ولما دفن قالت فاطمة - رضي الله عنها -: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب؟! أخرجه البخاري. قال أبو ذؤيب الهذلي ـ كما في فتح الباري ـ: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعا بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال عثمان: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم من آطام المدينة ـ وقد بويع أبو بكر ـ إذ مر بي عمر فسلم علي، فلم أشعر به لما بي من الحزن. وفي الصحيحين عن أنس أن الله - عز وجل - تابع الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولنا معه لقاء على الحوض المورود، وهذا ما يعزينا في نفوسنا من فقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أننا نرجو لقاءه والشرب من يده شربة لا نظمأ بعدها أبدا إن شاء الله - تعالى -، ومما يعزينا أيضا أننا نحرص على اتباعه والتمسك بسنته والأخذ بما أمرنا به والانتهاء عما نهانا عنه.
اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولا عن رسالته، اللهم لا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم احشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة، لا نرد ولا نظمأ بعدها أبدا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فقد اجتمع في هذا الشهر ـ أعني شهر ربيع الأول ـ أحداث ثلاثة هي مولده وهجرته ووفاته، ولا ريب أن كلا منها كان حدثا مهما في حياة المسلمين، لا بل في حياة الثقلين أجمعين. ولو وقفنا أمام هذه الأحداث محاولين الوقوف على أهمها لجاز لنا أن نقول: إن ميلاد النبي حدثٌ مبارك، حيث أشرقت الدنيا بمولده، لكن هذا الحدث ليس له تميز عن سائر ولادات الناس لو لم يبعث ويرسل - عليه الصلاة والسلام -. والحدث الأهم من ولادته هو هجرته التي أوجدت لنا المجتمع المسلم والدولة المسلمة التي استمرت قرونا طويلة، وقدمت للإنسانية حضارة فريدة على مر الزمن، ولأهمية هذا الحدث فقد أرخ به عمر بن الخطاب والمسلمون بعده التاريخ الإسلامي، وقد روى ابن أبي شيبة عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم: أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها.
ولكن الحدث الأهم في سيرة النبي هو وفاته - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن وفاته ليست كوفاة سائر الناس ولا كسائر الأنبياء، إذ بموته انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا أصاب أحدكم مصيبةٌ فليذكر مصيبته بي؛ فإنها من أعظم المصائب)) رواه الدارمي وصححه الألباني. قال القرطبي: "وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه". فأشار - رحمه الله - إلى أمر عظيم انقطع بموت النبي، ألا وهو انقطاع الوحي الذي كان يتنزل من يوم أهبط آدم إلى الأرض، فانقطع بموته.
إخواني في الله، دخل أبو بكر وعمر على أم أيمن بعد وفاة النبي يزورانها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟! ما عند الله خيرٌ لرسوله، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. رواه مسلم.
أجل،
أجل، لقد كان موت النبي – صلى الله عليه وسلم - أعظم مصيبة ابتليت بها الأمة مطلقا، وكان له أثره العظيم على نفوس الصحابة وحالهم، حتى صدق فيهم وصف عائشة - رضي الله عنها -: صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم. يقول أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. صحيح سنن الترمذي. ويقول أنس أيضا: قل ليلة تأتي علي إلا وأنا أرى فيها خليلي - عليه السلام -. يقول ذلك وتدمع عيناه. رواه الإمام أحمد.
فموته كان حدثا جللا عظيما، يقول ابن رجب في لطائف المعارف: "ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية".
قال ابن حجر: "وكانت وفا
وكان سبب مرض النبي مؤامرة اليهودية حين دست له السم في طعامه الذي دعته إليه في خيبر، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه وأكل القوم فقال: ((ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة)) رواه أبو داود، وفي مرضه الذي مات فيه قال: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) أخرجه البخاري. والأبهر: عرق في الإنسان متصل بقلبه متى انقطع مات صاحبه.
ته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعا...
,وقد كان من تكريم رب العزه لرسوله الكريم عليه افضل صلاه ونسليم
انه دفن الى جواره صاحبيه في الدنيا والاخره حتى في مماته ابيا ان الا يرافقا حبيبهما
الرسول العظيم
ابابكر وعمر على جانبي الرسول ورفقيه حتى في الجنه فطوبى لها من رفقه وهنيئا لهما بهذه الرفقه
جزاك الله كل الخير على هذا الموضوع الهام