قال الله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ[1]، وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[2]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[3]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[4]، وقال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[5] وقال عز وجل: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[6]المسلم مأمور شرعا بأن يعلم حكم الله في كل عمل يريد القيام به - صغيرا كان أو كبيرا - حتى يصيب الطاعة ويجتنب المعصية ، فيأتمر بما أمره الله ، وينتهي عما نهاه ، قال صلى الله عليه وسلم : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) ، وبذلك يكون دائرا مع الشرع حيث دار ، والطاعة لا تكون إلا لله ورسوله ، والمعصية لا تعتبر كذلك إلا إذا كانت في حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : ** وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } [الأحزاب36].
وجاء في معرض التنبيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم - تنبيها للأمة من ورائه ، فقد قال عز وجل : ** يا أيها النبي اتق الله ولا تتطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله بما تعملون خبيرا } [الأحزاب201].
ومما هو مأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتباعه ما يوحى إليه " الحكم بما أنزل الله " سبحانه وتعالى .
إنه لمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الحكم لله وأن حكم المسلمين لا يكون إلا بما شرع الله - قرآن وسنة - ، قال عز وجل : ** أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يؤقنون } [المائدة50].
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الجهاد من ديننا ، بل تقوم عليه حياة أمتنا ، فهو من الوسائل العملية التي تحفظ الدين في الأرض والعباد ، وبه تدفع الفتنة ويتحقق العدل والسلام ، قال تعالى : ** وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [الأنفال39] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق )) الحديث ...
والسؤال :
هل قتال حكام الجزائر طاعة أم معصية ؟ بلغة أخرى هل قتال حكام الجزائر جهاد ؟
قبل الإجابة عن السؤال يجب أن نعرف باختصار شديد : ما الجهاد ؟ وما حقيقته ؟ وما هدفه ؟
والجهاد لغة : من الجهد ، وهو الطاقة والمشقة .
وشرعا : - نورد تعريف ابن عرفة رحمة الله عليه حيث قال - " قتال مسلم كافرا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى ، أو حضوره له ، أو دخول أرضه " اهـ
وقد بين حقيقته شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال : ( الجهاد حقيقته الإجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان ) .
أما الهدف ، فقد حددته الآية الكريمة : ** وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير } [الأنفال39].
والفتنة - كما ذهب المفسرون - هي " الكفر " أو " الخزية " - القتل أو السجن أو التعذيب - ، وبلغة لا تدع مجالا للإختلاف : حتى لا يكون للكفر والكافرين سبيل على المؤمنين ، أو حتى لا تكون سطوة وسلطة على البشرية من قبل الكفار ، ولهذا قالوا : ( كل قتال لا يراد به إعلاء كلمة الله فليس بجهاد ) .
والسؤال الآن :
هل كلمة الله في الجزائر هي العليا ؟ هل أراد في يوم ما حكام الجزائر تباعا منذ الاستقلال - 62 - أن يفسحوا المجال لتكون كلمة الله هي العليا ؟
التاريخ والواقع يشهدان أن هذا لم يقع ، بل كل ما وقع على العكس من ذلك .
قال تعالى : ** ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار * وجعلوا لله انداد ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } [إبراهيم28-30]
لقد بدلوا نعمة الله - الإسلام - كفرا - الاشتراكية - وقتها ، وأحلوا بالجزائر الخراب بشهادة من يسعون اليوم لاستبدال الديمقراطية والليبرالية بالاشتراكية ، فإلى متى يا عباد الله يبقى المسلمون يحصدون ما زرعت الجاهلية من أشواك ؟!
والسؤال الثاني - الذي يكمل السؤال السابق - :
هل الذين رفعوا السلاح في وجه حكام الجزائر يريدون إعلاء كلمة الله ؟
، فالسؤال المطروح :
هل وجب الجهاد ضد هؤلاء الحكام ؟ وإذا كان الجواب " نعم وجب الجهاد " فما هو المستند الشرعي في ذلك ؟
أقول وبالله التوفيق :
بعد دراسة لا بأس بها للنصوص الشرعية - كتابا وسنة - والتي تناولت مسألة الطاعة - طاعة أولي الأمر ، كونهم أولي أمر فعلا ، أي يحكمون بما أنزل الله - وجد أن الطاعة أنحصرت فيما ليس بمعصية ، وأنت تمسك أي كتاب فقهي أو كتاب سنة إلا وتجد العبارة ( ما لم يأمر بمعصية ) تعقب على الكلام على الطاعة مباشرة ، أو تجد ما يؤدي معناها ، فالطاعة مقيدة دائما بعدم وقوع معصية لله .
أخرج البخاري من حديث أنس : ( أسمعوا واطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد خبشي رأسه زبيبة ، ما أقام فيكم كتاب الله تعالى ) .
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر : ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) .
هل الإحتكام إلى غير شرع الله معصية ؟ نعم معصية ، وهو كفر أو يؤدي إلى الكفر المخرج من الملة ...
هل القيام على المعصية طاعة ؟ نعم طاعة ...
غير أن المشكلة هي تحديد وسيلة هذه الطاعة - طاعة القيام ضد المعصية - ، وهذا ما نحن بصدد التأصيل له - هذه دائر المرتكز الأول - .
بالرجوع إلى كتب السنة والفقه المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة تبين أن دائرة الحاكم الجائر إنحصرت في الجور في أمور الدنيا ، أما جعل زبالة البشر من قوانين زائفة بدل شريعة الله ، فلم يذهب أحد إلى تسويتها بالجور في الدنيا ، بل ما يفهم من فقه الأئمة الأعلام : أن هذا غير وارد أصلا في كلامهم وهم يبحثون في باب " الإمامة الجائرة " وفي حديث حذيفة ( تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع واطع )) ...
إذن قد تبين- والله أعلم - أن رفض شريعة الله - قولا وعملا - لا يندرج تحت دائرة الجور الذي يصبر عليه وينهى فيه عن معصية اصحابه والخروج عليهم بالسلاح .
وهذا النهي عن الخروج على الذين لم يبدلو نعمة الله كفرا من حكام الجور ، هو في حد ذاته مختلف فيه بين العلماء ، فكيف بالذي رفض شرع الله في جملته لا في جزئية من جزئياته - هذه دائرة المرتكز الثاني -
بالرجوع إلى كتب السياسة الشرعية تبين أن مقصد الإمامة " حراسة الدين وسياسة الدنيا به " و، وبلغة أدق وأوضح " سياسة الدنيا وفق مقتضى الشرع " ، وعليه وجب على الأمة إزاحة من لا يحقق مقصد الإمامة ، إذ لا مبرر لبقائه على الإطلاق ، ذلك أن الإمامة منصب ديني قبل أن يكون منصب دنيوي ، فهل يعقل أن يؤم الناس في الصلاة من وقف أمامهم ليس ساكتا ! بل وقف يمنعهم من أداء الصلاة ؟! إنه لا يقول بهذا مجنون ولاعاقل ، (( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، إذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا ... الحديث )) ، فإذا لم يكبر ولم يركع ولم يسجد ، أزحناه ووضعنا مكانه وفقا لشروط الإمامة - هذه دائرة المرتكز الثالث - ، ولا يخفى أنه إن منعنا من إقامة الصلاة يُقاتل .
بعد مراجعة لفقه الجهاد من خلال الكتاب والسنة ، تبين أن الجهاد شرع لإعلاء كلمة الله ، ومنه فقد وجب جهاد كل من وقف ضد تحقيق هذا الهدف ...
ووأقول لأولئك الذين يتساءلون عن مدى شرعية قتال الحكام في الجزائر : والله لو لم يُسخر الله في عالم الأسباب جنودا له ، لضحك الشعب الجزائري قليلا وبكى على دينه كثيرا .
لقد جند حكام الجزائر أنفسهم لأن تكون كلمة الذين كفروا هي العليا وكلمة الله هي السفلى - والعياذ بالله -
(1) ألغوا نتائج الإنتخابات ، فاغتصبوا بذلك حق الشعب وسلبوا إرادته التي كانت مع إقامة شرع الله .
(2) زجوا بالالاف في المعتقلات والسجون ، وقتلوا وشردوا ، وانتهكوا الحرمات ، واقتحموا المساجد ، وداسوا المصاحف ... إلى غير ذلك من المنكرات .
(3) حموا وشجعوا - ولا زالوا يشجعون - الفسق والفجور وكل عصيان لله من تفسخ وإلحاد وردة ، ووقفوا بالمرصاد لكل من حدثته نفسه أن يلتزم الإسلام نظام حياة ، ورغم ذلك كتب لهذا الدين أن ينتصر ... فلما كان ذلك حورب جهارا .
في الجزائر نعتبر أن الحكم الإسلامي كان قاب قوسين أو أدنى من التحقق ، ومن سياستنا الشرعية : أن من تمت له البيعة وجبت نصرته ، ومن خرج عليه ينازعه الكرسي قوتل وعومل معاملة الباغي ، فكيف بالذي خرج ينازع الشعب - أغلبية الشعب - في أن لا يكون دينه الإسلام كشرع يحتكم إليه بعد أن اختار رجالا لذلك ؟
بكل صراحة ووضوح فقد رفضوا شرع الله بشكل لا يحتمل التأويل - هذه دائرة المرتكز الرابع - .
بعد مراجعة باب الردة ، تبين أن أبا بكر الصديق ومعه الصحابة رضي الله عنهم ، ألحق بالمرتدين المانعين للزكاة مع الإعتراف ، جاء في فتح الباري [275/12] : ( ... وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل لأنهم نصبوا القتال ) اهـ
وحكام الجزائر :
(1) أنكروا تحكيم شرع الله ، وكانوا مانعين مع الإعتراف .
(2) نصبوا القتال - قتال من أرادوا تحكيم شرع الله -
.
من أهل الحديث الذي يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( لن يبرح هذا الدين قائما ، تقاتل عليه عصبة من المسلمين حتى تقوم الساعة )) [رواه مسلم] .
:وفي الأخير قد تقول عني خارجية أو تكفيرية او مسميات أخرى لكن والله يشهد عني أنني ضد الاسلام المسيس والذي يختار في صناديق الاقتراع ..وضد ما يسمى الارهاب الاعمى الذي لايمشي بوفق الشرع والمنهج ..وضد اسلوبه الهمجي الذي كان اسلوب إنتقامي وليس اسلوب طالب حق ..لقد افسد في الشعب أكثر ما فعل في الدولة ....لم يقم باسلوب السلف ..وهي الدعوة السلمية
"قال تعالى جلّ ذكره:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }.
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بإتباع إبراهيم عليه السلام، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه، فقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة}.
واعلم أنه تعالى أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن، وقد ذكر الله تعالى هذا الجدل في آية أخرى فقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (العنكبوت: 46) ولما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض، وجب أن تكون طرقاً متغايرة متباينة، وما رأيت للمفسرين فيه كلاماً ملخصاً مضبوطاً.
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة، والمقصود من ذكر الحجة، إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين، وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه.
أما القسم الأول: فينقسم أيضاً إلى قسمين: لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية مبرأة عن احتمال النقيض، وإما أن لا تكون كذلك، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل، فظهر بهذا التقسيم إنحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة.
أولها: الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية، وذلك هو المسمى بالحكمة، وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات، وهي التي قال الله في صفتها: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} (البقرة: 269). وثانيها: الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية/ وهي الموعظة الحسنة. وثالثها: الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم، وذلك هو الجدل، ثم هذا الجدل على قسمين:
القسم الأول: أن يكون دليلاً مركباً من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل، وهذا الجدل هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.
القسم الثاني: أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب، والحيل الباطلة، والطرق الفاسدة، وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل إنما اللائق بهم هو القسم الأول، وذلك هو المراد بقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول: أهل العلم ثلاث طوائف: الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة،
والقسم الثاني الذي تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام، وهذان القسمان هما الطرفان. فالأول: هو طرف الكمال، والثاني: طرف النقصان.
وأما القسم الثالث: فهو الواسطة، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة، وأدناها المجادلة، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة والغلبة، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة،
فقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة، وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية، والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل.
ومن لطائف هذه الآية أنه قال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة، أما الجدل فليس من باب الدعوة، بل المقصود منه غرض آخر مغاير/ للدعوة وهو الإلزام والإفحام فهلذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن، بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة، وإنما الغرض منه شيء آخر، والله أعلم.
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار.
ثم قال تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} والمعنى: أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاية، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين،
في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية، فبعضها نفوس مشرقة صافية قليلة التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها،
فلهذا قال تعالى: اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل وتجنب المضرة والفتنة والمفساد العظيمة وارواح كثيرة ، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة ، كما قال: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم: 30) والله أعلم." اهـ.
(تفسير الرازي - سورة النحل آية 125)
بسيدّنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا، إمام المهتدين، صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم، والحمد لله رب العالمين
أسأل الله العلي القدير، أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، الداعين إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، امتثالا لأمره سبحانه وتعالى، وإقتداءاً
والذي عندي