سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( .. إن الذي لم يختلف فيه المسلمون قديماً وحديثاً هو أن الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا هو طريق الكتاب والسنة، فإليه يردون ومنه يصدرون، وإن اختلفوا في وجوه الاستدلال بهما.
ذلك؛ لأن الله ضمن الاستقامة لمتبع الكتاب فقال على لسان مؤمني الجن: (يا قَوْمَنا إنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوْسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيْ إِلى الحَقِّ وإِلى طَرِيْقٍ مُسْتَقِيْمٍ).
كما ضمنها لمتبع الرسول - صلى الله عليه وسلّم - الذي قال له ربه: ( وإِنَّكَ لَتَهْدِيْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيْمٍ ).
لكن الذي جعل الفرق الإسلامية تنحرف عن الصراط هو إغفالها ركناً ثالثاً جاء التنويه به في الوحيين جميعاً، ألا وهو{ فهم السلف الصالح للكتاب والسنة } وقد اشتملت سورة الفاتحة على هذه الأركان الثلاثة في أكمل بيان:
فقوله تعالى اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيْمَ ) اشتمل على ركني الكتاب والسنة، كما سبق.
وقوله صِراط الَّذِيْنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) اشتمل على فهم السلف لهذا الصراط ، مع أنه لا يشك أحد في أن من التزم بالكتاب والسنة فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم ، إلا أنه لما كان فهم الناس للكتاب والسنة منه الصحيح ومنه السقيم ، اقتضى الأمر ركناً ثالثاً لرفع الخلاف ، ألا وهو تقييد فهم الأخلاف بفهم الأسلاف ؛ قال ابن القيم وتأمل سراً بديعاً في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره؛ فالإنعام عليهم يتضمن الإنعام بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح )
وقال فكل من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم ، ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم - ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض ... ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلّم ...".
وفي هذا تنصيص منه - رحمه الله - على أن أفضل من أنعم الله عليه بالعلم والعمل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم - ؛ لأنهم شهدوا التنزيل ، وشاهدوا من هدي الرسول الكريم - صلوات ربي وسلامه عليه - ما فهموا به التأويل السليم ، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - :" من كان منكم مُسْتَنَّاً فلْيستنَّ بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلّم - كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً ، وأعمقها علم اً، وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم ؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم )
وقال أيضاً إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلّم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، ,فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيّء )
إذاً فالمسلمون المقصودون لابن مسعود هم الصحابة رضي الله عنهم؛ قال الإمام أحمد -رحمه الله- " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والاقتداء بهم".
ومن حظي برضى الله من بعدهم فلاقتدائه بهديهم، قال الله تعالى والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِيْنَ والأَنْصارِ والَّذِيْنَ اتَّبَعُوْهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ الّلهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ).
وقد جاء تحديد زمن السلف الذين لا تجوز مخالفتهم بإحداث فهْم لم يفهموه، في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"خيرُ الناسِ قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قومٌ تسبقُ شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه" متفق عليه.
ولهذا الأصل نظائر وأدلة من الكتاب والسنة، منها قول الله تعالىومَنْ يُشاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيْراً)، والشاهد هنا في ضم مجانبة سبيل المؤمنين إلى مشاقة الرسول لاستحقاق هذا الوعيد الشديد، مع أن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلّم وحده كفيلة بذلك كما قال تعالىإِنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيْلِ الّلهِ وشاقُّوا الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى لَنْ يَضُرُّوا الّلهَ شَيْئَاً وسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ).
ومنها ما رواه عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام فينا فقال:" ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة" رواه أبو داود وغيره وهو صحيح.
والشاهد هنا في وصف الفرقة الناجية بالجماعة، والعدول عن إضافتها إلى الكتاب والسنة، مع أنها لا يمكن أن تخرج عنهما قط؛ والسر في ذلك يكمن في التنبيه على الجماعة التي فهمت نصوص الوحيين وعملت بهما على مراد الله ورسوله، ولم يكن يومئذ جماعة إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولذلك صحح أهل العلم -في الشواهد- اللفظ الآخر الوارد في هذا الحديث من رواية الحاكم وغيره وهو قوله صلى الله عليه وسلّم في وصف الفرقة الناجية :" ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
ومنها ما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح لغيره عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم موعظة بليغة، ذرَفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة موَدع فماذا تعهد إلينا؟ فقال:" أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشيّاً؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
والشاهد هنا في الجمع بين اتباع السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، ثم تأمل كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلّم كلمته هذه وصية لأمته من بعده لتعلم صدق القول بأصالة هذا المنهج، ثم تأمل كيف قابل الاختلاف بالتزام هذا المنهج لتعلم أن ضابط (فهْم السلف الصالح) سبب النجاة من التفرُّق، قال الشاطبي رحمه الله:" فقرن عليه السلام -كما ترى- سنّة الخلفاء الراشدين بسنّته، وأن مِنَ اتباع سنّته اتّباع سنّتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليست منها في شيء؛ لأنهم رضي الله عنهم فيما سنُّوا: إمّا متَّبِعون لسنّة نبيّهم عليه السلام نفسها، وإمّا متبعون لما فهموا من سنّته صلى الله عليه وسلّم في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثلُه، لا زائدة على ذلك".
من كتاب ( مدارك النظر في السياسة )