[size="4"]الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين سيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وبعد :
فلا يخفى على أحد ما وصل إليه حال أمة الإسلام من الذل والضعف والهوان حتى اجترأ عليها أعداؤها فصارت لهم نهبا يعيثون فيها كيفما شاءوا , وصار الكثير من أراضي المسلمين تحت الغزو والاحتلال العسكري , والكثير منها تحت الغزو والاحتلال الفكري نسال الله العفو والعافية
وهذا مقال موجز في حكم جهاد الاحتلال العسكري لبلاد المسلمين كما هو الحال في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وغيرها من بلدان المسلمين وقد جعلته في مبحثين :
المبحث الأول :في حكم جهاد الاحتلال العسكري
والمبحث الثاني :في ما يترتب على ذلك الحكم
المبحث الأول
حكم جهاد الاحتلال
تمهيد : في حالات الجهاد
الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام وهو سبب عزة المسلمين ورفعتهم , وتركه سبب الذل والضعف والهوان كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفضائله لا تخفى على أحد , والجهاد من حيث الحكم الشرعي يكون فرض كفاية أحيانا ويكون فرض عين أحيانا :
أولا : فرض الكفاية :
يكون الجهاد في سبيل الله فرض كفاية في حالة الغزو والطلب , وذلك لنشر الدعوة الإسلامية في الأرض لا لأجل القتل وسفك الدم وتحصيل الأموال فهذه الأمور تبع لا أصل , فالقتال وسيلة لا غاية قال الإمام منلا خسرو الحنفي في درر الحكام 1/282 : ( وجه كونه فرض كفاية أنه لم يشرع لعينه ; لأنه قتل وإفساد في نفسه بل شرع لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه ودفع الفساد عن العباد ) اهـ وقال الإمام ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج 9/211 : ( جزم الزركشي بأن وجوبه وجوب الوسائل لا المقاصد ; إذ المقصود منه الهداية , ومن ثم لو أمكنت بإقامة الدليل كانت أولى منه ) اهـ
صحيح أنه من النادر أن يقبل الكفار الإسلام ويقرون بسلطانه على أرضهم بغير الجهاد ولذا قال ابن حجر بعد حكاية كلام الزركشي: ( على أن هدايتهم لا سيما على العموم بمجرد إقامة الدليل نادرة جدا , بل محال عادة ) اهـ لكن مع ذلك تبقى الدعوة هي الأصل والغاية , والقتال وسيلة لنشرها
ولا يشترط في جهاد الغزو والطلب أن يبدأ الكفار بقتالنا بل هو فرض وإن لم يقاتلونا فإن بدؤونا صار الجهاد جهاد دفع لا جهاد طلب قال الإمام منلا خسروا في درر الحكام 1/282 : ( هو فرض كفاية بدءا ) أي ابتداء يعني يجب علينا أن نبدأهم بالقتال وإن لم يقاتلونا ) اهـ وفي الجوهرة النيرة 2/257 : ( وقتال الكفار واجب علينا وإن لم يبدءونا ) لأن قتالهم لو وقف على مبادأتهم لنا لكان على وجه الدفع وهذا المعنى يوجد في المسلمين إذا حصل من بعضهم لبعض الأذية وقتال المشركين مخالف لقتال المسلمين ) اهـ
وأقل ما ينبغي أن يُفعل جهاد الطلب في السنة مرة واحدة إلا لحاجة قال المرداوي في الإنصاف 4/116 : ( وأقل ما يفعل مرة في كل عام ) مراده : مع القدرة على فعله . قوله ( إلا أن تدعو حاجة إلى تأخيره ) . وكذا قال في الوجيز وغيره . قال في الفروع : في كل عام مرة , مع القدرة . قال في المحرر : للإمام تأخيره لضعف المسلمين ) اهـ
وفي هذه الحالة – أي حالة الغزو والطلب – يعرض جيش المسلمين على الكفار الإسلام فإن قبلوه فقد كفى الله المؤمنين القتال وحصل المطلوب والأصل فإن أبوا الدخول في الإسلام فلا إكراه في الدين , فيعرض عليهم أن يبقوا على دينهم لكن مع دفع الجزية على تفاصيل للفقهاء فيمن تقبل منهم الجزية , ومعنى قبولهم الجزية أي أن تكون تلك البلاد تحت سلطان الإسلام على أن يوفر المسلمون لهم الحماية قال تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )
فإن أبوا دفع الجزية فآخر العلاج الكي فلم يبق إلا مناجزتهم بالسيف وعندئذ تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم وتغنم أموالهم وأراضيهم قال تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )
وبهذا الترتيب – الإسلام ثم الجزية ثم السيف - كان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الجيوش التي كان يرسلها لقتال الكفار ففي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال ... إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم : ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ) اهـ
قال الدردير في شرحه على خليل 2/176 :
- ( ودعوا ) وجوبا ( للإسلام ) ثلاثة أيام بلغتهم الدعوة أم لا ما لم يعاجلونا بالقتال , وإلا قوتلوا
- ( ثم ) إن أبوا من قبوله دعوا إلى أداء ( جزية ) إجمالا إلا أن يسألوا عن تفصيلها ( بمحل يؤمن ) متعلق بالإسلام والجزية
- ( وإلا ) بأن لم يجيبوا أو أجابوا ولكن بمحل لا تنالهم أحكامنا فيه , ولم يرتحلوا لبلادهم ( قوتلوا وقتلوا ) أي جاز قتلهم ) اهـ
وما سبق ذكره من فرضية جهاد الطلب لنشر الإسلام وسلطانه :
- هو مذهب جماهير أهل العلم وعليه المذاهب الأربعة ولا أريد الإطالة بذكر أقوالهم هنا لأننا إنما ذكرنا جهاد الطلب هنا من باب التمهيد لما سيأتي
- وهناك من أهل العلم من قال باستحباب جهاد الطلب ولم يوجبه ومن هؤلاء : سفيان الثوري وعطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة ( أحكام القرآن للجصاص 4/311 ) , وعبد الله بن الحسن ( بداية ابن رشد 1/305 ) , وسحنون ( قوانين ابن جزي 163 ) , وابن عبد البر ( حاشية الدسوقي 2/173 )
- ومن المضحك المبكي قول بعض من ينتسب إلى العلم من المعاصرين أن جهاد الطلب محرم لأن الجهاد إنما شرع للدفاع عن النفس فقط وما عدا ذلك فهو من الاعتداء وسفك الدماء بغير حق !!!!!
ثانيا : فرض العين :
يكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يلتحم الصفان :
فيتعين على من حضر الصف البقاء ولا يجوز لهم الفرار إلا لتحيزٍ أو تحرّف قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ... الآية )
لكن إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعفي عدد المسلمين جاز لهم الفرار قال تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين ... الآية )
وهناك حالات أخرى لجواز الفرار عند التحام الصفين وللفقهاء تفاصيل كثيرة في ذلك تراجع في مظانها وكلامنا هنا إنما هو عن حكم جهاد الاحتلال فلا داعي لذكر تلك التفاصيل
الحالة الثانية :عند الاستنفار :
بأن يستنفر الإمام الناس للجهاد قال تعالى : ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ... ) اه فيتعين على من استنفرهم الإمام أن يخرجوا للجهاد كما حصل ذلك للمسلمين في غزوة تبوك
الحالة الثالثة : جهاد الاحتلال :
بأن يدهم العدو بلاد المسلمين فيتعين على أهل تلك البلاد أن يدفعوا العدو عنهم فإن عجزوا أو أهملوا تعين على من يليهم من المسلمين نصرتهم فإن عجزوا فمن يلي من يليهم حتى تعم الدائرة كل المسلمين وقد تعين الجهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين في المدينة عندما دهمهم الأحزاب في غزوة الخندق
قال ابن قدامة في المغني 9/163 : ( ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع :
- أحدها : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام …
- الثاني : إذا نزل الكفار ببلد , تعين على أهله قتالهم ودفعهم .
- الثالث : إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه …) اهـ
وزاد الحنفية والشافعية - وهو قول في مذهب المالكية - حالة رابعة وهي : فك الأسير انظر للحنفية مثلا البحر الرائق لابن نجيم 5/78 وللمالكية كفاية الطالب لأبي الحسن المالكي في 2/3 وللشافعية شرح البهجة لشيخ الإسلام الأنصاري 5/130
وحالة جهاد الاحتلال هي محل بحثنا ومقالنا هذا فنقول وبالله التوفيق