الأعمال الأدبية الخالدة تنقش حروفها في وجدان الأجيال على مر الزمن . و إن كان سر خلود عمل أدبي يعود إلى عوامل عديدة مختلفة تصل أحيانا إلى حد التناقض ، إلا أن أهم هذه العوامل |أن يلامس العمل الأدبي الجوهر الإنساني الذي لا يحول مهما تبدلت الأزمنة و الأمكنة .
من ذلك هذان البيتان الجميلان لأبي تمام في التعلق بالحب الأول :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... و حنينه أبدا لأول منزل
أذكر جيدا أني سمعت هذين البيتين أول مرة في حياتي و أنا فتى بالثانوية ، سمعتهما من أستاذ سوري ، أستاذ فلسفة بثانويتنا آنذاك ، كان أستاذا أنيقا في شكله و في لغته يمارس علينا سحرا جماليا و سلطة معرفية عميقة .
حين سمعت البيتين حفرا عميقا في وجداني فوجتني أحفظهما من غير أدنى جهد ذهني ، و أطرب لترديدهما على أندادي في مجالس سمرنا . و أتغني بهما بيني و بين نفسي ساعات الوجد في ميعة الشباب الأول .
ثم أخذتني الكلمات شرقا و غربا ، و سحت في دنيا الأدب أدخل بساتينه أقطف ما اشتهت نفسي من ثماره ، و أرتشف ما طاب لي من سلافه و خمرته الحلال .
في بستان الشاعر ديك الجن وقفت على بيت له يذهب نقيضا لبيتي أبي تمام .
يقول ديك الجن :
مقتي لمنزلي الذي استحدثته ... أما منزلي الذي ولى فليس بمنزلي .
فأنكرت عليه ذلك و أصبت بنوع من الخيبة نحو ديك الجن لهذا الجحود .
ثم اكتشفت أن أبا تمام أخذ المعنى من ديك الجن و حوره في صيغة تناص ، بل عكسه إلى النقيض فخرج إلى معنى لطيف لامس مشاعر إنسانية رفيعة في الناس فحفظوا بيتيه و تغنوا بهما ، و لم يحفظوا بيت ديك الجن رغم أسبقيته .
في بيت ديك الجن تمرد و قطيعة و هتك لقيم الوفاء و الإخلاص التي يعززها الضمير الجمعي في الأجيال .
وديك الجن كان يعلم أن القراء سينكرون عليه قوله فوظف في بيته أسلوب الخبر الإنكاري ، الخبر الإنكاري هو أن يحس المتكلم أن المتلقي ينكر الخبر فيؤكده بأكثر من أداة توكيد . وهكذا تلاحظ البيت مؤكدا بأداتين : ب "أما" التفصيلية و بالباء الزائدة " ليس بمنزلي ".
وكرد فعل من القراء على هذا الإصرار منه على تنكره لحبه الأول جعلوا بيته في طي النسيان و احتفوا ببيتي أبي تمام و رددوهما على مر الأزمان .
فماذا ترى يا صاح ؟
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
أو
مقتي لمنزلي الذي استحدثته ... أما الذي ولى فليس بمنزلي ؟؟؟