لصوم يُكسِّر جُل الشّهوات
اعلم أنّ شهوة البطن من أعظم المهلكات وبها أخرج سيّدنا آدم عليه السّلام من الجنّة.. ومن شهوة البطن تحدُث شهوة الفرج والرغبة في المال، ويتّبع ذلك آفات كثيرة، كلّها من بطر الشبع. وفي الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ''المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء''. وفي حديث آخر يقول عليه الصّلاة والسّلام: ''ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه''. وقال عقبة الراسبي: دخلتُ على الحَسَن وهو يتغذّى فقال: هَلُمَّ، فقلت أكلت حتّى لا أستطيع. فقال: سبحان الله أو يأكل المسلم حتّى لا يستطيع أن يأكل؟ فأكل في مقام العدل يصح البدن وينفي المرض، وذلك أن لا يتناول الطعام حتّى يشتهيه ثمّ يرفع يده عنه وهو يشتهيه. وطريق الرياضة في كسر شهوة البطن أنّ مَن تعوّد استدامة الشبع، فينبغي له أن يقلّل من مطعمه يسرًا مع الزمان إلى أن يقف على حد التّوسُّط الّذي أشار إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث السابق. ''وخير الأمور أوسطها''، فالأولى تناول ما لا يمنع من العبادات ويكون سببًا لبقاء القوّة، فلا يحس المتناول بجوع ولا شبع، فحينئذ يصح البدن وتجتمع الهمّة ويصفو الفكر، ومتَى زاد في الأكل أورثه كثرة النوم وبلادة الذهن، وذلك بتكثير البخار في الدماغ حتّى يغطى مكان الفكر وموضع الذِّكْر ويجلب أمراضًا أخرى. وليحذَر مَن ترك شيئًا من الشّهوات أن تتطرّق إليه آفة الرياء، وقد أشار إلى هذه الآفة الإمام البوصيري رحمه الله في بردته فقال:
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوعٍ وَمِنْ شَبَعٍ
فَرُبَّ مَخْمَصَة شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
وقد كان بعضهم يشتري الشّهوة ويعلّقها في بيته وهو زاهد فيها يستر بها زهده، وهذا هو زهد الصدّيقين لأنّه يجرّع نفسه كأس الصبر مرّتين والثانية أمر.