كان عمي واحدا من بين الشخصيات التي أثرت في حياتي بحق . و كان رغم هدوئه النسبي ،مليئا بالآمال و الأحلام و كان جسما نشيطا يعج بالحياة .
بدأ يقارع الحياة مبكرا جدا، حين حمل حقيبته شبه الفارغة إلا من الملابس و عدة الحلاقة و انطلق في رحلة لم تنته إلا بوفاته ، و بسرعة عجيبة تدرج في الوظائف فمن ميكانيكي بسيط إلى رئيس للميكانيكيين ، و من رئيس مصلحة العمال، إلى مسؤول رفيع المستوى في شركة وطنية . و من المشي على الأقدام إلى الفورد و المرسيدس. و كان نجاحه بالنسبة لي أيقونة تنفتح على معنى الصبر و الارتجال و المثابرة . انطلق في زمن طوق فيه الفشل ألسن العباد و أقدامهم و كانت المغامرة حينها رديفا للموت أو الانتحار.
و بحث في جبال الظلام عن خيط من النور لعله يرشده ،و سار محاذرا، و لم يكن الشاب أبدا ليعلم كم من المفاجآت تنتظره ، أما أنا فكنت أكبر شيئا فشيئا لأتعرف على ذلك الإنسان الرائع ، الضاحك عبر التلفون ، المازح في الجماعة و المحافظ على الصلاة .
كان يرى بأن سلوك الإنسان هجين غير مفهوم و وحده العلم هو الذي يدجن الحواس ، و يزرع الوقار و الهيبة في العيون و العقول . و لكن ظروفه لم تساعده يوما لاكمال دراسته فلم يتعد تعليمه السنوات الأولى أين تعلم فك الحرف و الرمز . و أذكر عندما أصبحت أستاذه حين طلب مني أن أعلمه توحيد المقامات . فاكتشفت أنه ذكي في الحساب و القسمة والضرب إلا أنه كان فاشلا في توحيد المقامات ، فكنت أذكره بفشله على سبيل المزحة فيسخر مني بابتسامة جميلة قائلا : وين كنتوا يا خرفان كي كنا حنايا جزارة ؟
في الصيف كان يأتي رفقة عائلته ليقضي العطلة عندنا ، و أيامي معه في حارتنا كانت تمضي بما لا يصفه عقل ..... نقاش في السياسة ، و آخر في الرياضة ثم نظرة على القنوات الإخبارية ثم جولة في السوق.
و كانت رغبتي في زيارة لبنان شديدة جدا . لبنان قبل أن تدمره حرب 2006 . كان بالنسبة لي كالحلم ،بيروت و النبطية و مرجعيون و الهرمل و الباروك . ثراه و هواه لا زالا يسبحان في دمي .......آه.... يا لبنان سلام عليك و على ذكرياتك . تحققت يا حلم .
أما عمي فكان يتمنى زيارة تونس ، و طلب مني ذات مرة أن أستخرج له جواز سفر، و كان مستعدا للرحلة في الصيف و لكن ظروف العمل دفعت برغبته بعيدا، فتأجلت من صيف إلى صيف حتى انقطع الأمل ،يوم وقع مريضا بشدة.
خفنا عليه من القلوب ، و تكاثرت المكالمات الهاتفية المطمئنة على صحته ،الى أن أكد لنا طبيبه المعالج أن شفاءه الوحيد سيكون في عيادة متخصصة في تونس .
نقل بسرعة الى تونس و رغم وهنه و ضعفه الا أنه تحمل عناء الرحلة ، و كان ينظر عبر الزجاج الى المناظر غير مصدق ...... و عاد بعد عشرة أيام إلينا بعد أن تماثل للشفاء . حيث حدثت أمور أخرى بعد ذلك .
و لكن رغبة قديمة قد تحققت !!