لميناء بالميناء.. والمطار بالمطار!
أمجد ناصر
5/27/2010
'حاصر حصارك لا مفرُّ'.. تلك نفثة حارقة من محمود درويش في مستهل الخروج من بيروت. كان غرض الحصار إنهاء التاريخ، أو تشريده على الأرصفة، أو جعله خادماً في هيكل القوة المتغطرسة. ذلك هو، كما بدا لاحقاً، مسعى حملة الحديد الاسرائيلي الجرار. أبعد من 'سلامة الجليل'، أبعد من دفع منظمة التحرير وراء 'الزهراني'، أبعد من تغيير 'قواعد اللعبة'، أبعد من القاء القبض على عرفات وحمله في قفص إلى تل أبيب. على التاريخ أن يتنحى، تماماً، عن الطريق، أو أن يتفرغ من القوى التي تحتشد فيه وتحرك دواليبه ومسنناته. والتاريخ ليس روزمانة نطوي أوراقها ورقة بعد ورقة، ولا أياماً نعدها. إنه بناء الموجة من هبة هواء، والجسد من عضلة ساعد، والحياة من خفقة قلب، والحقل من بذرة. التاريخ هو مقعدك في مسرح العالم. قدرتك على أن تكتب فصول روايته بالحبر الذي تشاء، وبالمعاني التي تختارها لنفسك. أن تتمكن من كتابة معنى وجودك يعني أنك في قلب التاريخ ولست شريداً على أرصفته الباردة.
' ' '
هذه الأيام يحتفل اللبنانيون، أو بعضهم، بالذكرى العاشرة لتحرير الجنوب اللبناني من الدبابة الاسرائيلية. هذا يعني أن حملة الحديد والنار التي أريد لها أن تنهي التاريخ أو أن تلحقه في ملجأ للأيتام أو دار للعجزة لم تنجح. لم تمت فكرة كتابة المعنى. لم ينته التاريخ. فقد رأينا، بأم العين، أولئك الذين عملوا على تضميد جراحه يطلعون في المكان نفسه الذي اثخن فيه بالطعنات. أبعدت منظمة التحرير وراء نهر الزهراني، أخرجت من بيروت، بعد حصار ثقيل استمر نحو ثلاثة أشهر، حُملت في سفن التشرد وإعادة الإيواء إلى عواصم قريبة وبعيدة.. تحولت، لاحقاً، الى سلطة اسمـــــية على جزر معزولة في أجزاء من وطنها التاريخي، لكن معنى الإبعاد والخروج والتشرد، أي إنهاء التاريخ في المنطقة، لم يتحقق. لأن هناك من التقط الذراع التي سقطت، حسب وصف درويش، وأعاد استخدامها. ليس مهماً أن يكون متلفعاً بكوفية أو بعصبة صفراء، ليس مهماً اسم تنظيمه وفصيله ما دامت الفكرة واحدة: كتابة المعنى.
في السنين العشر التي تلت تحرير الجنوب اللبناني (وهناك من يسميه بخبث 'انسحاباً اسرائيلياً') امتحنت صلابة فكرة المقاومة وفعلها. حرب تموز أكدت أن ما قام به الاسرائيليون لم يكن انسحاباً طوعياً بل هزيمة. لأن الهزيمة (وهي فعلية آخذين في الاعتبار قوة 'جيش الدفاع' التي لا تقهر) تكررت. فعندما يحسب 'جيش الدفاع' تقدمه بالمتر في قرى ومواقع دمرتها الطائرات قبل أن تطأها دباباته يعني أنه لا يتقدم فعليا. شيء من هذا لم يحصل في حروبه السابقة، الكاسحة، مع الجيوش العربية الرسمية. وبدل أن تتقدم جحافل 'جيش الدفاع'، مع استمرار الحرب، إلى الأمام صارت تتراجع إلى الخلف. هل هذا انسحاب أيضاً؟
لن أذكركم بقصف العمق 'الاسرائيلي'، بمئات الآلاف الذين لازموا الملاجىء، بالخضة الكبيرة التي طالت المجتمع الاسرائيلي، ولا بمقولة 'ما بعد بعد حيفا'. فهذا تعرفونه. وأظن أنكم تصدقونه. ما أريد الحديث عنه اليوم هو كلام الرجل، نفسه صاحب مقولة 'ما بعد بعد حيفا'، عن قدرة المقاومة على حصار شواطىء فلسطين المحتلة وضرب المطارات الاسرائيلية إن أقدمت تل أبيب على الحرب في لبنان: الميناء بالميناء والمطار بالمطار. هذا كلام لا يُسمع من زعيم عربي، بمن في ذلك قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، في زمن 'الاعتدال'. زمن جولات جورج ميتشل الم****ة التي لم تسفر عن تجميد بناء كوخ حراسة في مستوطنة. وهذا، كما يعرف الاسرائيليون قبل غيرهم، ليس كلاماً في الهواء الطلق. ليس استعراضا لعضلات اللسان.. إنه الكلام المجرَّب في اقترانه بالفعل.. وهذا بالضبط، ما يفهمه، الاسرائيليون. أي لغة أخرى غير هذه اللغة التي تعني ما تقول، لا تعني شيئاً لدولة الاستيطان الصهيوني. أي لغة لا تعود الى 'أصل اللعبة'، لا تحرر الوضوح من حالة الالتباس، لا تنفض الغبار عن البديهي، لا تفهمها اسرائيل. كلام صاحب مقولة 'ما بعد بعد حيفا' و'الميناء بالميناء والمطار بالمطار ' هو وضع النقاط على الحروف كي لا تلتبس القراءة. فهذه هي الكلمات وهذه هي معانيها. هنا الوردة فلنرقص هنا.
' ' '
هل هذا قرع لطبول الحرب؟ بعضهم يمكن أن يذهب الى ذلك. كأن الحياة العربية ترفل بالسلام وتنعم بثماره. ولكن أين هو السلام الذي يصفون؟ أهو هذا المستنقع الكبير، شلل الارادة التام؟ البعض لا يزال يتحدث، بلا خجل، عن 'عملية السلام'. ولكن ما هي 'عملية السلام' هذه؟ لقد مر عقدان، تقريباً، على توقيع اتفاقيات 'أوسلو'. عقدان من المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، بضمانات ورعايات دولية، لم تمكِّن الفلسطينيين من السيطرة على منفذ بري سيادي واحد، ناهيك عن جو أو بحر أو مياه. الادارات الامريكية تأتي وتروح، الحكومات الاسرائيلية تتــغير، المبعوثون الدوليون يعــــيّنون ويجــــــولون ويتقاعدون، المفاوضون يهرمون ثم يموتون، ولا شيء، على أرض الواقع، يتغير، وإن حصل تغير، فمن سيىء الى أسوأ.
لا سلام إذن، ولا من يحزنون. فما يجري مجرد توسيع رقعة حالة الاستنقاع التي تعرفها الحياة العربية منذ عقود. المزيد من شلل الارادة المفروض، أو التطوعي، لا فرق، في مقابل المزيد من ابتلاع الارض، المزيد من الاستيطان والتنمّر حتى على أقرب الحلفاء.
والحل؟
لا شيء أوضح من اللغة عندما تعني ما تقول وتقول ما تعني. وكلام صاحب 'ما بعد بعد حيفا' لا يحتاج شرحا أو تأويلاً.. لأنه، ببساطة، كلام مجرَّب.