لماذا نتعلم؟ لماذا نجدّ في تحصيل العلوم واكتسابها ودراسة تفاصيلها ؟ فيم قد نحتاجها؟
قد يكون جوابك: حتى نزداد وعيا وتفهما للواقع والبشر أو لتكون معاملاتنا أرقى وأكثر نضجا فنترفع عن تفاهات الحياة، أو لتكون حواراتنا ذات أبعاد فلسفية أكثر عمقا من غيرها، نعم ربما هو ذاك لكن هذا ليس كلّ شيء.
بحثت طويلا عن إجابة لسؤالي هذا، فلم أجد غير جواب واحد .. نحتاج أن نتعلم حتى نستطيع أن نقف في وجه الفاجعة.
بل إننا نعيش حياتنا كلّها نحاول جاهدين أن نستعدّ بكلّ ما أوتينا من قوة وفكر وعقل لأجل تلك اللحظة، لحظة وقوع المصيبة، لحظة الانكسار، أقصى لحظات الضعف الانساني، هناك حيث تنهار كلّ الفضائل والقيم والمعارف التي كانت بارزة وقت الرخاء والهدوء، يختفي زيف المثقف السطحيّ، تتراقص أطياف الجهل فتسكن الجميع، وأرى نفسي وقد سقطت في الذي سقطوا فيه، وفعلت الّذي فعلوا ، بكيت كما بكوا ولطمت كما لطموا واجهت حتفي بالصراخ وبالعويل وبالضياع ..
مثلي مثل التي لم تقرأ قط كتابا أو خطابا أو رأت كراسة وقلم؟؟
مالفرق بين من يعلم ومن لا يعلم؟
يعايش الطبيب جلّ أصناف البشر، هو أكثر الناس فهما لطبيعة الانسان وتكوينه وأكثر الناس إدراكا لحقيقة الموت والحياة، لذلك أيا كان الذي قد يموت من أقاربه رد فعله أمام تلك الفاجعة لابدّ أن يكون أقلّ حدّة من غيره، إذ ما سيحرّكه هو المشاعر الغريزيّة بالحزن والفقد وألم المعرفة .. ألم أن يعرف أنه لا يملك سلطانا أمام الموت هنا يظهر أمامنا الحزن الواعي مشاعر مكتنزة أكثرها داخليّ يسيّرها العقل وتمنطقها المعرفة، أي لو أنّ طبيبا وقف مشدوها مذهولا أمام موت أحد القريبين منه أهله أو أحبابه ينتف شعره ويمزّق ملابسه ويركض في الشوارع ركض المجنون فعلمه وسنين اجتهاده ما هي إلا هباء كباقي الهباء.
يدرس طالب الأدب في مسيرته نحو تحصيل العلم علوما كثيرا: فلابدّ لفهم الأدب من الاطلاع على علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والمنطق، وعلم النفس، وكتب الفكر والدّيانات على اختلافها والأساطير بأشكالها، ويدفعه فضوله لدراسة حياة الشعوب في بيئتها وتعاملاتها وطريقة عيشها، كلّ ذلك حتى يحيط بمختلف أبعاد النّص الأدبي ويسبر أغواره فيكشف من خلال كلماته حياة كاملة لشخصيّات ورقيّة تعبّر عن مجتمع بأكمله عاش على وجه البسيطة ذات يوم.
بعد كلّ ذلك يذهب إلى بيته، يجده في فوضى غارقا في إحدى ابتلاءات الحياة ونوائب الدّهر، وكلّ تلك العلوم والقراءات تسكن عقله ألا يحضره قول حكيم أو رأي أو فكرة أو حتى بعض عبارات تحفظ له عقله وتعينه على الصبر للوهلة الأولى إلى أن يستجمع شتات نفسه ويجد لنفسه مخرجا؟، لابدّ أن الحلول عنده في مكان ما بين رفوف عقله، لكنه يحتاج تلك القيم والمبادئ والمفاهيم التي كانت تغرسها فيه قراءاته وجولاته بين الكتب والبلدان والأزمان، يحتاجها فقط ليتجاوز اللحظات الأولى أو هي لحظة واحدة يتميّز فيها من يعلم عمّن لا يعلم، "الوقع الأوّل لخبر المصيبة" حيث يُلهم الله قويّ الإيمان أن يقول*:"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"؛ فقوّة الإيمان إذن جزء منها يأتي من المعرفة بتعاليم الدّين قلبا وعقلا؛ والبقيّة تأتي من تخصّصات العلوم الأخرى أيّا كان تخصّصك لكن يجب أن يكون علما وفهما في الرّأس لا في الشّهادات والكرّاس فقط.
وأخشى ما أخشاه أن أجدني أقف في المصائب موقف الجاهل الذي لا يعلم فأكتشف أن حياتي كانت هباء، وأني أثناء استعدادي لها فقدت بوصلتي وانشغلت بالوسيلة عن الغاية، لذلك أجدد ذاكرتي كلّ مرّة بسؤالها: أفمن يعلم كمن لا يعلم؟.