الفصل الرابع: تمويل العمليات الدولية
أولا: تمويل التجارة الدولية
تمهيد
إن اختلاف ظروف الإنتاج من بلد إلى آخر يؤدي إلى انتشار ظاهرة التخصص الدولي وقيام التجارة الدولية. وغني عن البيان أن من ِشأن انسياب السلع من بلد إلى آخر قيام مجموع ضخم من علاقات المديونية التي تتطلب تسويتها إجراء مدفوعات دولية بين مختلف البلدان. ويمكن الإلمام بفكرة عامة عن هذا المجموع الضخم من المدفوعات الدولية إذا تصورنا الآلاف المؤلفة من السلع التي تدخل في التجارة الدولية ـ سواء تمثلت هذه السلع في منتجات غذائية، أو من مواد أولية زراعية، أو خامات معدنية، أو مواد الوقود، أو سلع نصف مصنعة، أو سلع تامة الصنع، أو غير دلك.
لا عجب إذا كانت التجارة الخارجية أهم مصادر المديونية الدولية( )ومع ذلك فليس التبادل الدولي للسلع المصدر الوحيد للمديونية الدولية( ). إذ تنشأ هذه المديونية، ويقتضي الأمر إجراء مدفوعات دولية، بمناسبة القيام بغير دلك من وجوه النشاط الخارجي. فقد يقدم الأفراد المقيمون بالدولة أو مشروعاتها خدمات إلى أفراد أو مشروعات غيرها من الدول ( ). كما قد يتلقى الأفراد المقيمون بالدولة أو مشروعاتها خدمات من أشخاص غير مقيمين فيها – بما يترتب على ذلك من إجراء مدفوعات لصالحها أو قيامها بإجراء مدفوعات لصالح غيرها. مثال ذلك المدفوعات التي تنشأ عن خدمات الملاحة ( كأجور الشحن البحري )، والمدفوعات التي تنشأ عن السياحة، والمدفوعات التي تنشأ عن خدمات التأمين وغيرها من الخدمات المالية والمصرفية، والمدفوعات التي تنشأ عن إيجار الأفلام السينمائية، والمدفوعات الحكومية التي تنشأ بمناسبة النشاط السياسي أو الدبلوماسي أو القنصلي للدولة في الدول الأخرى. ومدفوعات الفوائد والأرباح التي قد تتحصل للدولة عن خدمات رؤوس أموالها المستثمرة في الخارج أو التي تدفعها لغيرها عن خدمات رؤوس الأموال المستثمرة فيها.
أ: مشكلة تسوية الديون الدولية :
تستخدم النقود في المعاملات الاقتصادية الدولية لنفس الاعتبار الذي تستعمل من أجله في المعاملات الداخلية – أي يقصد التخلص من عيوب المقايضة. وتتحصل مشكلة تسوية الدين الدولية من أمرين:
الأول- عدم وجود وحدة نقدية مشتركة يتخذها المتعاملون أساسا للحساب.
والُثاني- عدم وجود عملة مشتركة تتمتع بقوة إبراء قانونية في الوفاء بالالتزامات، وبعبارة أخرى، ينحصر الفارق الجوهري بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية في أنه على حين يستعمل الناس عملة واحدة مشتركة في المعاملات الداخلية، يستخدم العالم عددا كبيرا من العملات التي لا تتمتع الواحدة منها –كقاعة عامة – بقبول عام في الوفاء بالالتزامات خارج حدود دولتها كالدينار الجزائري.... ومن هنا تنشأ مشكلة تحويل هذه العملات لبعضها، ويقتضي الأمر تحليل الجهاز الذي تتم بواسطته إجراء المدفوعات الدولية تحت مختلف الظروف، وتعرف القوى التي تتداخل في تحديد نسب مبادلة عملات الدول المختلفة ببعضها.
1- لا يستخدم الذهب بصفة أساسية في تسوية الديون الدولية:
ولا اعتراض على هذا بأن في الامكان استعمال الذهب في تسوية الديون الدولية بما له من قبول عالمي كأداة للوفاء. فمن المعلوم أن معظم ذهب العالم النقدي في حيازة البنوك المركزية أو الحكومات التي فضلا عن عدم التزامها ببيعه للأفراد ( لفرض السعر الإلزامي للعملة، ) تحظر تصديره للخارج بلا ترخيص إداري في معظم الحالات.
حقيقة أن بيع الذهب وتصديره كان مباحا للأفراد في الماضي، ومع هذا فلم يستخدم الذهب حتى في ذلك الوقت كأداة للوفاء بالمدفوعات الخارجية إلا عندما كان اللجوء إلى ذلك من وسائل تسوية المدفوعات الخارجية أمرا متعذرا أو باهظ التكاليف. ذلك أنه لو تطلب الأمر استعمال الذهب في تسوية كافة المدفوعات الخارجية لأقتضى الأمر انتقال المقدار المخصص منه لهذا الغرض بسرعة بالغة من بلد إلى آخر، حيث لا تتجاوز القيمة الكلية لأرصدة العالم من الذهب نسبة محدودة من جملة المدفوعات التي تنساب سنويا بين مختلف بلدان العالم. أضف إلى هذا أن توزيع الذهب بين بلاد العالم المختلفة قد لا يهئ لهذه الدولة أو تلك أن تحوز رصيدا ذهبيا يتلاءم مع مقدار مدفوعاتها الخارجية.
وأخيرا فإن نقل الذهب وسيلة بطيئة لتسوية المدفوعات، غالية التكاليف، محفوفة بالمخاطر. فما يتعرض الذهب لفقدان جزء من وزنه بكثرة تداوله فحسب، ولكن يتعرض للضياع كلية في غمار عملية النقل أيضا.
2- تسوى الديون الدولية أساسا عن طريق المقاصة
لا عجب والحالة هذه، إن كان المبدأ الأساسي في إجراء المدفوعات الخارجية هو تسوية الشطر الأعظم منها عن طريق استعمال حقوق الدولة قبل الخارج في تسوية ديونها قبل للخارج – أو بعبارة أخرى، عن طريق المقاصة أو تهاتر الحقوق والديون، دون ما حاجة لنقل الذهب إلا لتسوية الفرق بين جملة الحقوق والديون ويتم ذلك في العمل عن طريق استعمال الكمبيالات ، والاعتمادات والحوالات المصرفية أو بعبارة أخرى – عن طريق استعمال الصرف الأجنبي ، حيث ينصرف المراد باصطلاح الصرف الأجنبي إلى كافة الحقوق القابلة للتحويل والمعبر عنها بعملة اجنبية .
ولإيضاح الفكرة، نفترض أن أحمد من الناس بالجزائر أراد أن يفي لدائنه بتونس بألف دولار، وأن علي بالجزائر يداين عميلا له بتونس بنفس المبلغ. عندئذ يمكن تسوية الدينين بأن يسحب علي كميالة على عميله التونسي ويبيعها إلى أحمد ليبعث بها إلى دائنة المقيم بتونس الذي يستوفي حقه باقتضاء قيمة الكمبيالة من العميل التونسي.
وهكذا ينقضي الدينان الخارجيان عن طريق استعمال ورقة تجارية واحدة، وعملية وفاء واحدة في كل من البلدين. على أنه لما كان من المستبعد أن يعثر أحمد فورا على شخص بالجزائر يداين شخصا بتونس بالمبلغ المطلوب بالضبط، فقد قامت أسواق في مختلف بلدان العالم لتسهيل مبادلة مختلف أنواع النقد ببعضها. وتعرف هذه الأسواق بأسواق الصرف، وتتألف بصفة أساسية من البنوك التجارية.
ومن، فإن الجاري عملا في مثل الفرض المتقدم هو أن بيع التاجر الجزائري الكمبيالة التي يسحبها على عميله التونسي إلى أحد البنوك المحلية فيرسله البنك إلى فرعه أو مراسله ( أي وكيله ) بتونس ليتولى تحصيلها من المدين وقيد قيمتها بحسابه لديه. كما أن الجاري عملا هو أن يتجه أحمد إلى قسم الكمبيو ( أي الصرف الأجنبي ) بأحد البنوك المحلية ليشتري منه " حوالة مصرفية " على فرعه أو مراسله في تونس. وليست هذه الحوالة في واقع الأمر سوى شيك يسحبه البنك الجزائري على حسابه الجاري لدى فرعه أو مراسله في تونس. ويتقاضى البنك في كلتا الحالتين عمولة على خدماته.
3- سعر الصرف:
وأخيرا فإن من الواضح أن مبادلة عملة بأخرى يقتضي وجود نسبة لمبادلة هذه العملة بتلك، أو ثمن لهذه العملة مقومة بتلك، ويسمى هذا الثمن سعر الصرف. فسعر الصرف بين عملة وأخرى عبارة عن نسبة مبادلة العملة الأولى بالعملة الأخرى.وقد سبة أن تطرقنا إليه.
ب- أدوات تسوية المدفوعات الدولية:
رأينا حالا كيف يسوى الشطر الأعظم من المدفوعات الخارجية عن طريق استعمال الصرف الأجنبي. كما رأينا كيف تقوم الحوالات المصرفية والكمبيالات والاعتمادات التجارية بدورها الأساسي كوسيط عالمي للمبادلة أو كأداة للوفاء بالمدفوعات الدولية. ولما كانت هذه الحوالات والكمبيالات إنما تسحب في المعتاد على البنوك التجارية، كما أن تلط والاعتمادات إنما تفتح لدى تلك البنوك، فسيتضح لنا من ثنايا هذا الفصل ماهية الدور الأساسي الذي تلعبه الأرصدة الخارجية للبنوك في تسوية الديون الدولية، وبصفة خاصة في تمويل وتسوية المدفوعات الناشئة عن التجارة الدولية.
1- الحوالات المصرفية:
ترتبط البنوك التجارية في مختلف أنحاء العالم بعلاقات مالية متبادلة مع المؤسسات المماثلة في الخارج. فما يتوفر للبنوك المحلية الهامة مراسلون ( أي وكلاء ) في معظم البلاد الأجنبية فحسب، ولكن قد تنشئ البنوك فروعا لها في بعض البلدان الأجنبية أيضا. وتحتفظ البنوك لدى مراسليها بحسابات جارية تتجمع أرصدتها من حصيلة ما تشتريه من عملائها من حقوق أجنبية يتولى المراسلون تحصيل قيمتها وإضافة مبالغها إلى الحساب الدائن. وتستعمل البنوك هذه الأرصدة الدائنة الموزعة بحساباتها بمختلف أنحاء العالم في سد حاجات عملائها إلى الصرف الأجنبي: وذلك عن طريق بيع الحوالات المصرفية للطالبين.
2- الكمبيالات التجارية:
أشرنا فيما تقدم إلى أن التجارة الدولية أهم مصدر من مصادر المديونية الدولية وقد توافرت للتجارة الدولية عدة طرق خاصة لتمويل حركات السلع بين مختلف البلدان، وتسوية الديون المترتبة عليها. صحيح أن في الامكان استعمال الحوالات المصرفية على اختلاف أنواعها في هذا المجال. بل إنها تستعمل بالفعل على نطاق ملحوظ في تسوية المدفوعات الناشئة عن التصدير أو الاستيراد. ولكن تبقى للتجارة الدولية وسائلها الخاصة التي يرجع استنباطها إلى رغبة المصدر في عدم التخلي عن ملكيته للبضاعة حتى يستوثق من مقدرة المستورد على الوفاء بقيمتها. وتقوم البنوك هنا أيضا بالدور الأساسي في تسوية المدفوعات.
ولا شك أن الكمبيالات التجارية ( أي الكمبيالات التي يكون المسحوب عليه فيها شخصا طبيعيا أو معنويا خلاف البنوك ) وهي أقدم وسائل تميل حركات السلع بين مختلف البلدان. والكمبيالة بكل بساطة عبارة عن أمر يصدره شخص معين يعرف بالساحب إلى شخص آخر يعرف بالمسحوب عليه يأمره بدفع مبلغ معين لإذن شخص ثالث اسمه المستفيد أو لحامله.وأبسط صورة للتعامل بالكمبيالات في التجارة الخارجية هو أن يسحب البائع الجزائري مثلا كمبيالة على المشتري التونسي لصالح البنك الذي يتعامل معه أو لحامله بقيمة البضاعة التي صدرها إليه، ثم يسلم الكمبيالة بعد ذلك إلى البنك ليتولى تحصيلها بواسطة مراسله لحسابه أو بيعها إلى البنك الذي يشتريها منه بعد خصم عمولته ومبلغ الفائدة التي يتقاضاها على قيمة الكمبيالة ما لم تكن مستحقة الدفع لدى الإطلاع.
ومع ذلك فقد لا يطمئن البائع الجزائري إلى يسار العميل التونسي أو حسن استعداده للوفاء. وعندئذ فقد يتعلق تسليم الفاتورة وسندات الشحن البحري والتأمين وغير ذلك من السندات اللازمة لاستلام المشتري للبضاعة من الجمارك على قبول ذلك المشتري للكمبيالة إذ يتحقق بذلك القبول صيرورة المشتري طرفا مسئولا عن الوفاء للحامل بقيمة الكميالة بعد أن كان غريبا عنها. ويطلق على هذا الشرط اصطلاح "المستندات رهن القبول". بل قد يعلق البائع استلام المشتري للمستندات على وفائه بقيمة البضاعة. وعندئذ يتوقف حصول المشتري على البضاعة على الوفاء بالثمن. ويطلق على هذا الشرط اصطلاح " المستندات رهن الدفع ". وتسمى الكمبيالة في كلتا الحالتين " كمبيالة مستندية "، نظرا لتعليق الساحب حصول المسحوب عليه على المستندات اللازمة لاستلام البضاعة على قبوله الكمبيالة أو الوفاء بقيمتها على حسب الأحوال.
3- والاعتمادات المستندية:
ومع ذلك، فلم يعد اليوم للكمبيالات التجارية على اختلاف أنواعها ما كان لها من الأهمية في تمويل التجارة الخارجية قبل الحرب العالمية الأولى. إذ أصبح يتم ذلك التمويل اليوم عن طريق فتح المستوردين للإعتمادات لصالح المصدرين لدى البنوك التجارية أو المؤسسات المتخصصة في هذه العمليات. ويرجع ذلك إلى ما يصطدم به المتعاملون بالكمبيالات التجارية من صعوبات. فقد يجد البائع صعوبة في بيع الكمبيالة مقابل عمولة مناسبة. لا سيما إذا كانت مسحوبة على عميل غير معروف. كما قد لا يتفق اشتراط الدفع قبل تسلم السندات مع ظروف المشتري، وخاصة إذا كان يعتمد على تسويق البضاعة أو الاقتراض عليها في الوفاء بثمنها. وهكذا يجد المشتري أن من مصلحته اللجوء إلى البنك الذي يتعامل معه طالبا منه فتح اعتماد لحسابه بالمبلغ المطلوب، مقابل تقديم ضمانات كافية ودفع العمولة المتفق عليها.ويتعهد البنك في هذه الحالة بقبول الكمبيالة التي يسحبها المصدر عليه بعد إخطاره بخطاب فتح الاعتماد، فضلا عن الالتزام بدفع الكمبيالة في موعدها. ويتعهد المستورد في المعتاد بوضع المبالغ اللازمة للوفاء بقيمة الكمبيالة تحت تصرف البنك عند حلول أجلها.
ولا شك أن هذا الوضع مرضي للجميع: إذ يستطيع المصدر أن يطمئن إلى حصوله على حقه أو سهولة بيعه للكمبيالة، نظرا لسحبها على بنك يعتمد على حسن استعداده للوفاء. كما يستطيع المستورد أن يجد من بيعه البضاعة بالنسيئة( أي بالأجل دون أن يقتضي الأمر سبق الدخول في معاملات تجارية معه. وتستفيد البنوك ماديا من وراء إحلال ائتمانها محل ائتمان العميل بما تتقاضاه من عمولة مقابل تعهدها بالقبول، دون أن تخرج للعميل في واقع الأمر شيئا من أموالها.
4- وسائل أخرى:
ومع ذلك فليست الكمبيالة التجارية والاعتمادات والحوالات المصرفية هي كل ما يستطاع استخدامه في الوفاء بالمدفوعات الخارجية من أدوات الدفع. ذلك أن في الامكان الوفاء بشيك يسحبه المستورد على حساب جار يحتفظ به لدى مصرف محلي في بلد المصدر، أو بشيك على حسابه المصرفي في بلده هو، فيكلف المصدر مصرفه أو وكيله بتحصيله لحسابه، أو بكمبيالة مسحوبة على تاجر مقيم ببلد المصدر.
وفي جميع الحالات المتقدمة يبدو دور البنوك التجارية في تسوية المدفوعات الخارجية واضح وبين. فالبنوك التجارية هي التي تبيع الحوالات للمستوردين أو تفتح لهم والاعتمادات وتتعهد بقبول الكمبيالات المسحوبة عليها والوفاء بقيمها في الميعاد، وهي التي تشتري من المصدرين الكمبيالات أو تحصل قيمها لصالحهم فتتوسط بهذا كله بين الطلب على الصرف وعرضه في البلاد، وتقوم بتسهيل تسوية المدفوعات الخارجية عن طريق المقاصة أو تهاتر الحقوق والديون.
ثانيا- تمويل الاستثمارات الدولية:
غالبا ما تعالج مشاكل الاقتصاد الدولي من منظور كلي، أي من خلال العلاقات بين الدول أو الاقتصاديات الوطنية، وانعكاسات ذلك على ميزان المدفوعات أو التمويل والسياسات التجارية. وقل أن تعالج هذه القضايا من منظور جزئي، أي من خلال علاقات الأعمال والمشروعات أو الأفراد عبر الحدود الوطنية. والواقع أنه لا يوجد في العالم المعاصر، دولة ما يمكنها أن تفصل بين الحياة الداخلية أو السوق المحلية وبين القوى الخارجية والسوق الدولية. فنحن الآن في مرحلة التحول تجاه تكامل الاقتصاديات وسيادة آليات السوق وظواهر الخوصصة، بما يتضمنه ذلك من حرية دخول وخروج البضائع والخدمات ورؤوس الأموال عبر الحدود المختلفة، دون عوائق أو قيود أو إجراءات تنظيمية، مع محاولة تطبيق الأسعار الطبيعية ( دون دعم أو إعانات مستترة ) طبقا لقواعد العرض والطلب. وفي مجال تسوية المدفوعات، هناك اتجاه نحو عالمية قواعد الصرف العائمة، وتوحيد الأسعار الدولية. كما أن غالبية النشاط التجاري الدولي من صادرات أو واردات يقوم بها الآن الأفراد والمشروعات المتخصصة. وتقوم البنوك التجارية الخاصة بعملية التقييم وتقديم التسهيلات الائتمانية. حتى عمليات الإقراض والاقتراض والمديونية العامة ( أي القروض التي تعقدها الحكومات والدول )
أصبحت الآن مجرد علاقات بين دولة ما ومشروع خاص ( البنك التجاري). ويقتصر التدخل الحكومي في الدول الدائنة أو المقرضة على تقديم الضمانات لوحداتها المقرضة. وتحكم هذه العلاقات في الكثير من الأحيان قواعد القانون الدولي الخاص والتحكيم التجاري وقوانين التجارة الدولية الخاصة، متجاوزة في ذلك مبادئ سيادة الدولة.
فالنشاط الاقتصادي الخاص يزدهر على حساب النشاط الاقتصادي العام حتى في النطاق الدولي. وعندما تكتمل عناصر حرية التجارة وقواعد السوق، ويقتصر دور الدولة على التنظيم والتوجيه والرقابة، ويترك النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، وتصبح الأسواق الوطنية المختلفة سوقا دولية للتجارة والمال، أطرافها المتعاملة هي المشروعات، وموضوعها يتناول السلع والخدمات، وتتميز بالتخصص والمهارات التكنولوجية المختلفة، فإن نشاط العلاقات الاقتصادية الدولية الرئيسي يصبح هو النشاط الدولي للأعمال.
ولعل من أبرز صور النشاط الدولي للأعمال الآن، أو الخصوصية في العلاقات الاقتصادية الدولية، هو ما يتعلق بحركات رؤوس الأموال، أو ما يسمى بالاستثمار الدولي. وهنا أيضا نلاحظ ذات الاتجاهات، أي زيادة رؤوس الأموال المستثمرة من قبل القطاع الخاص في الدول الأجنبية الأخرى بالمقارنة بالقطاع العام أو الدولة. وحتى حينما تقوم دولة ما باستثمار أموالها في الخارج، فإنها تتبع في ذلك آليات السوق، فيما يتعلق بفرص الاستثمار والعائد ومواجهة المخاطر وغيرها. ولقد اقتصر دور الدولة الآن على تقديم القروض والإعانات ( دولة إلى دولة ) أو ضمان الاستثمار الخاص. أما الاستثمار الدولي الحقيقي، والذي يتعلق بالتوظيف والإنتاج فهو من نصيب القطاع الخاص من الأفراد والمشروعات والمؤسسات التمويلية وشركات التوظيف وشركات الإنتاج والتسويق وغيرها.
إن توظيف الاستثمار الدولي يتم من خلال قناتين: الأولى ويطلق عليها الاستثمار من خلال حيازة "محفظة دولية للأوراق المالية، والثانية من خلال الاستثمار المباشر " والفرق، يتعلق بمدى السيطرة على السلطة الاقتصادية والإدارة في المشروع من جهة، وطريقة ونوعية تخصيص الأموال من جهة أخرى.
فالاستثمار من خلال محفظة الأوراق المالية الدولية، أو بمعنى آخر الاستثمار غير المباشر، ليس سوى مجرد توظيف للأموال أو الادخارات في اقتصاد ما، ومن قبل الأشخاص والمشروعات التي تنتمي لهذا الاقتصاد، في شراء الأوراق المالية الأجنبية، سواء كانت أسهما أو سندات أو أوراق تجارية ( خصم ـ استبدال ديون ). والهدف من هذا التوظيف هو أساسا الحصول على عائد مالي في شكل أنصبة أو فائدة أو مكاسب رأسمالية ( في حالة المضاربة على قيمة الأصل ذاته ). ولا يحاول المستثمر من خلال هذا التوظيف التأثير في السياسة الاقتصادية في المشروع، أو التحكم في الإدارة أو التدخل في عمليات الإنتاج والأسعار والمبيعات. فالأمر هنا يقتصر على تولد حقوق مالية قبل أصول المشروع. وغالبا ما يلجأ المستثمر الوطني إلى ذلك التوظيف الأجنبي، عندما لا تتوافر لديه فرص التوظيف الاستثماري، أو إمكانية تعرض التوظيف الداخلي للمخاطر دون توافر الضمانات، أو أن العائد المقارن يكون في صالح التوظيف الأجنبي وعلى حساب التوظيف الداخلي. ومما يشجع الأفراد على مثل هذا الاستثمار الخارجي، هو توافر الأسواق المالية والبورصات الخارجية، وسهولة التعامل فيها، وإمكانية تسييل الأصول والأوراق المالية، وتوافر الحوافز الضريبية، وحرية التحويل. ولهذا فإننا نجد الكثير من المدخرين الأمريكيين يوظفون أموالهم في شراء الأسهم والسندات الخاصة بالشركات اليابانية المنتجة للأجهزة والآلات الكهربائي والالكترونية، نظرا لتقدم هذه الشركات فنيا، وسيطرتها على الأسواق، وارتفاع معدلات المبيعات والأرباح. وبالمثل فإن الكثير من الأوروبيين يفضلون توظيف أموالهم في الشركات الأمريكية الضخمة مثل I.B.M و Xerox وغيرها ، نظرا لتفوقها الاحتكاري في مجالات إنتاجها وقدرتها على الاختراع والابتكار.
وهكذا نجد الكثير من المدخرين أو الشركات والمؤسسات المالية يوظفون جزءا لا بأس به من مواردهم السائلة والفائضة في تكوين مثل هذه المحافظ المالية المتنوعة المصادر والأشكال، لمشروعات وشركات تعمل في بلدان عديدة. وهم يتعاملون من أجل ذلك مع العديد من البورصات في لندن ونيويورك وباريس وطوكيو وغيرها. وبصفة عامة فإن حجم هذا الاستثمار ونموه يتوقف على معدلات العائد والأرباح المتوقعة، ونجاح سياسات الشركات المصدرة للأوراق والسندات في الإنتاج والتسويق والتقدم التكنولوجي، وعل مدى صدق الميزانيات المعلنة والظروف السياسية والاستقرار والأنظمة القانونية في البلدان الأجنبية. وعلى أية حال فهذه النوعية من الاستثمار هي في حقيقتها استثمار قصير أو متوسط الأجل. وربما تستمر أي عملية لمدة يوم أو شهر أو حتى سنوات. حيث تباع وتشترى هذه الأوراق في الأسواق المالية والبورصات كردود فعل لتوقعات المستثمرين ورغبتهم في المضاربة على قيمة الأصول أو تفضيل الحصول على الأرباح والدخول.
أما النوعية الثانية من التوظيف والخاصة بالاستثمار المباشر، فإنها تسمح للأفراد والمشروعات والشركات الوطنية بالحصول على تسهيلات ومميزات مباشرة في الاقتصاديات الأجنبية تمكنها من السيطرة الاقتصادية على مشروعات اقتصادية إنتاجية أو خدمية، وعلى أصول هذه المشروعات المادية من المخازن والمصانع والمكاتب والبنوك وحقوق الملكية المعنوية وغيرها. وهذه الأصول المادية تمثل أدوات المشروع الإنتاجية والتسويقية والتمويلية. فالمستثمر هنا يحوز ويشتري بعض الأصول المادية والمعنوية ( التي تتواجد في الاقتصاديات الأجنبية ) والتي لها القدرة على إنتاج السلع والخدمات خارج نطاق حدود جنسيته. وهو يتمكن بذلك من إدارة هذه الأموال بطريقة مباشرة. وهذه النوعية من الاستثمار هي غالبا استثمار طويل الأجل. لأنه يتضمن الحيازة والملكية والإدارة الشاملة لأصول أجنبية، ويحتاج تسييل هذه الأصول أو تطويرها مدة طويلة من زمنيا. والإدارة الشاملة تحقق للمستثمر السلطة الاقتصادية داخل المشروع. ويتمكن بذلك من وضع وتوجيه السياسة الاقتصادية له من حيث الإنتاج والتوزيع والمبيعات والأسعار والاختيار التكنولوجي وسياسة التوظيف وغيرها، بما يحقق أهدافه الخاصة. وسواء تعلقت تلك الأهداف بتحقيق الحد الأقصى من الأرباح، أو سرعة الانتشار، أو السيطرة على التكنولوجيان أو السيطرة الاحتكارية وغيرها من الأهداف. ولذلك فإن الاستثمار المباشر أخطر بكثير في نتائجه من الاستثمار غير المباشر.
*الدوافع الإستراتجية للاستثمار الأجنبي المباشر:
إن الدوافع الرئيسية للشركات المتعددة الجنسية في القيام بالاستثمار الأجنبي المباشر تستند على أربعة أنواع من الاعتبارات الإستراتجية وهي:
أ: إن هذه الشركات تطلب وتفتش عن الأسواق الجديدة.
ب: أو أنها ترغب في الحصول على المواد الخام.
ج: وكذلك تهدف إلى طلب الكفاية في الإنتاج من خلال استخدام عوامله بكل كفاءة.
د: إنها تتحرى عن المعلومات بما في ذلك كامل الاستخبار الاقتصادي وما يرتبط به كحلقة متكاملة.
فهي إذن، بالنسبة للنوع (أ) تنتج في أسواق أجنبية إما لمواجهة الطلب المحلي أو للتصدير إلى أسواق غير السوق المحلية كما في صناعة السيارات الأمريكية مثلا فهي تنتج في أوروبا للاستهلاك المحلي كباعث لها في طلب التفتيش عن السوق الخارجية.
وبالنسبة للنوع (ب) فهي تستخرج المواد الأولية أينما وجدتها إما لغرض التصدير أو للقيام بعمليات أخرى عليها وبيعها في البلد أو الدولة المضيفة للاستثمار الأجنبي. وهذا ينطبق على مؤسسات الشركات الكبيرة في ميدان إنتاج النفط بكل عملياته من الاستخراج والتكرير، والتسويق، والتعدين أو المزارع ومنتجات الغابات التي تستخدم كل هذه الأنواع من المنتجات في صناعات تقع ضمن نطاق استخدامات المواد الأولية و المنتجات الأولية.
وبالنسبة للنوع (ج) طالبي الكفاية في الإنتاج حيث ينتجون في دول تتوفر فيها واحدا أو أكثر من عوامل الإنتاج بأسعار رخيصة قياسا للإنتاجية، كإنتاج يستخدم العمل الكثيف في مجال المعدات الالكترونية، في تايوان والمكسيك كأمثلة تحصل فيها تلك الظروف أمام الاستثمار الأجنبي المباشر.
وأخيرا بالنسبة للنوع (د) لطالبي المعلومات والخبرة والمعرفة حيث يستهدف الاستثمار المباشر في الدول الأجنبية للحصول على فرص التقنية أو الخبرة الإدارية مثال الشركات الألمانية والهولندية التي اشتهرت ببعض إنتاج الأجهزة الدقيقة لأغراض تطوير تقنيتها.
ثالثا- الأسواق المالية الدولية : ( )
تعرف هذه الأسواق بأنها أسواق الديون المقومة بالعملات المختلفة وإن كان الدولار أهمها، والصادرة عن الحكومات والمؤسسات الخاصة من مختلف الجنسيات والتي لا تخضع لرقابة السلطات النقدية والمالية لأي من الدول. وعرفت انطلاقا مكن دورها حيث أن دور أسواق رؤوس الأموال الدولية هو تمويل العمليات الدولية، كالصادرات من سلع وخدمات والعمليات الداخلية كقروض الشركات الوطنية.
وعليه فإن أسواق المال الدولية هي مصدر من مصادر التمويل بالنسبة للمؤسسات العمومية والخاصة وكذا الحكومات لتمويل العجز أو المشاريع المختلفة. هذه المصادر قد تكون قصيرة، متوسطة أو طويلة الأجل، ويتم جمعها من الجمهور والمؤسسات المالية المختصة من طرف البنوك والمؤسسات المالية الأوروبية المرخصة والتي تقوم هي الأخرى بإعادة استثمارها أو إقراضها للمؤسسات والحكومات الطالبة لمصادر التمويل.
- أقسام أسواق رأس المال الدولية:
إن أسواق المال الدولية تنقسم إلى عدة أنواع أو فروع أهمها:
سوق النقد الدولية:
تشبه هذه السوق بالخزان الذي يحتوي على رؤوس الأموال السائلة قصيرة الأجل من العملات الصعبة. ويرجع السبب في تطور سوق النقد الدولية إلى أن المدخرين استطاعوا تحقيق عائد أكبر مما لو ادخروا في السوق الوطنية، كما أن المستثمرين والمقترضين من هذه السوق تمكنوا من الحصول على رؤوس أموال بسعر فائدة أقل مما لو كانت قروضهم من السوق الوطنية. لهذه الأسباب توسعت هذه السوق من سنة إلى أخرى، خاصة منذ منتصف الستينات من القرن الماضي.
لقد عرفت أيضا بأنها مجموعة الصفقات التجارية والمالية التي تتم بواسطة العملات الصعبة خارج بلدانها، أي خارج بلدان إصدارها كأن نتكلم عن الدولارات الأوروبية الموجودة خارج الولايات المتحدة. لهذا يمكن القول أن السوق النقدية الدولية هي ذلك النظام الذي يمكن المؤسسات والحكومات من التزود برؤوس الأموال قصيرة الأجل.
لقد تطورت السوق النقدية الدولية تطورا كبيرا بتطور المنتجات المالية المتداولة فيها. ففي أول الأمر كانت هذه السوق تقوم أساسا على الودائع الآجلة التي تتراوح مدد استحقاقها من عدة أيام إلى 5 سنوات. كما أن معظم هذه المدد تقل عن 6 أشهر. أما سعر الفائدة وتاريخ الاستحقاق فهما محل تفاوض بين المودع والبنك، وعادة ما يحدد المبلغ الأدنى الذي يمكن قبوله كوديعة في السوق النقدية الدولية، وهو 25000 دولار.
الوسيلة الثانية لتغذية السوق النقدية الدولية برؤوس الأموال هي: شهادات الإيداع التي تتراوح مدد استحقاقها من شهر إلى سنة. لقد تداولت هذه الشهادات لأول مرة سنة 1966 حيث أصدرت من قبـل ( First National City Bank ) في لندن.
من إيجابيات هذه الشهادات أنه يمكن تداولها كأية ورقة مالية في السوق الثانوية. كما أنها تساعد على استقرار السوق النقدية الدولية لأن المبالغ الموظفة تبقى ثابتة في البنوك نسبيا وذلك لتبادل الشهادات المقابلة لتلك المبالغ بين المستثمرين ( بالبيع و الشراء ).
سوق رأس المال الدولية:
لقد عرفت بأنها تلك السوق التي يقوم فيها المقرضون والمستثمرون بعرض فروض مالية متوسطة وطويلة الأجل مقابل الحصول على أصول مالية يعرضها المقترضون أو حاملوها الأصليين. إن هذه السوق شبيهة إلى حد ما بالسوق المالية الوطنية، غير أن المتعاملين فيها من مقرضين ومقترضين هم بنوك ومؤسسات مالية دولية وشركات متعددة الجنسيات وغيرها من الشركات العالمية. إذ تقوم هذه الأخيرة بإصدارات مختلفة للأوراق المالية وبيعها في أسواق المال الدولية والحصول على مصادر التمويل من النوعين المتوسط والطويل الأجل.
لقد نشطت هذه السوق مع بداية الستينات من هذا القرن وتطورت كثيرا منذ ذلك الوقت. لق
تجلى هذا التطور في انقسامها إلى عدة فروع وفقا لنوع الأوراق والمنتجات المالية من جهة،
ولإجراءات الإصدار من جهة أخرى. وهذه أهم تلك الفروع:
أ- سوق الإقراض المصرفي بالعملات الأجنبية ( Euro-crédits) :
لقد عرفت تلك القروض بأنها " القروض الممنوحة من طرف البنوك باستعمال عملة أجنبية، أي خارج الدولة التي أصدرتها ". وبذلك فإن سوق الإقراض المصرفي بالعملات الأجنبية هي سوق منح القروض متوسطة وطويلة الأجل على المستوى العالمي، والتي عادة ما تكون بمبالغ معتبرة. بالإضافة إلى ذلك فإن البنوك العالمية المتخصصة في منح مثل هذه القروض لا تخضع في معظم الأحيان لتشريعات وحماية دولة معينة وأن الخطر الذي يميز تلك القروض عادة ما يكون عاليا نسبيا. وعليه فإن القروض الدولية تغطى من طرف مجموعات من المصارف لتقسيم وتخفيض المخاطر من جهة، ولتغطية القروض التي يعجز بنك واحد عن تغطيتها من جهة أخرى. لهذه الأسباب وغيرها تجمعت البنوك والمؤسسات المالية العالمية في شكل تكتلات بنكية ( consortiums ) تمنح قروضا متوسطة وطويلة الأجل بكثير من العملات الأجنبية، خاصة بالدولار الأمريكي.
ب- سوق السندات الدولية ( Euro-obligations ) :
السندات الدولية هي أوراق مالية تمثل دينا على المصدر لها وتصدر بالعملة غير عملة أو عملات الدول التي تتداول فيها. من الأمثلة على ذلك السندات المصدرة باستعمال الدولار الأمريكي والمباعة في الأسواق الأوروبية. تنشأ هيأة دولية لإصدار وتسويق تلك السندات عبر أقطار العالم، تـعرف ب( Syndicat )، كما تقوم بشراء الأوراق المالية ( السندات ) التي لم تبع في السوق حتى توفر السيولة لها. من ناحية أخرى فإن السندات الدولية هي وسيلة من وسائل جلب رؤوس الأموال من دول أخرى بغرض تمويل المشروعات، إذ تتراوح مدد استحقاقها من 10 إلى 15 سنة، وعليه فهي وسيلة تمويل طويلة الأجل.
ومن خصائص السندات الدولية أن الفوائد عليها ثابتة على مدى الفترة الخاصة بالإصدار وهذا شيء إيجابي بالنسبة للمقترضين. إذ يمكنهم الحصول على مصادر التمويل بسعر فائدة ثابت، مما يجنبهم مخاطر ارتفاع هذا الأخير في الأسواق المالية ويمكنهم من تحديد سياساتهم الطويلة الأجل على هذا الأساس.
ج – سوق الأسهم الدولية (international equities market ) :
على العكس من المتوج المالي السابق أي السندات الدولية، فإن الأسهم الدولية تمثل ملكية المستثمر أو المشتري لتلك الأسهم لجزء من الشركة المصدرة. يتم الإصدار من قبل شركة معينة في بلدان غير البلد الأصلي لها. أما التوزيع فتقوم به هيئة دولية مكونة من بنوك ومؤسسات مالية متخصصة.
يمكن للمؤسسات المالية المختصة والبنوك أن تشتري هذه الأسهم كما يمكن للأفراد أن يوظفوا أموالهم فيها وذلك بقصد تحقيق أرباح أكبر في الأمد القصير أو بغرض تنويع حوافظهم المالية والتقليل من المخاطر في مدة أطول.وعليه فإن سوق الأسهم الدولية هي وسيلة أخرى من وسائل التمويل التي تستطيع الشركات ( خاصة ذات المركز المالي الجيد ) بواسطتها الحصول على الأموال الضرورية لإنشائها وتوسعها من بلدان أجنبية، مع إتاحة فرصة التملك لتلك الأطراف الأجنبية التي وظفت أموالها في شراء أسهمها الدولية. بذلك تساعد هذه الإصدارات على لقاء المحتاجين لرؤوس الأموال، لا سيما الذين يريدون تدعيم بند الأموال الخاصة، مع أصحاب الفوائض المالية وتوزيعها على مستوى عالمي بصورة فعالة.
د- السوق الدولية للقسيمات وسندات الخزينة ( Le marché des Euro-notes et des Euro-billets de trésorerie ):
هذه الأدوات متشابهة إلى حد ما، إذ تمثل دينا على المؤسسة المصدرة لها وبذلك تضمن وسيلة من وسائل التمويل قصير الأجل. كما أنه يمكن تداولها في السوق النقدية. فالقسيمات الدولية هي عبارة عن أوراق مالية تقوم المؤسسات بإصدارها بالاستعانة بمجموعة من البنوك والمؤسسات المالية المختصة وبذلك تضمن تلك المؤسسات مصدرا من مصادر التمويل قصير الأجل من السوق النقدية.
أما سندات الخزينة الدولية فهي أيضا وسيلة تسمح للمؤسسات بالدخول إلى السوق النقدية للتزود بما تحتاجه من مصادر التمويل قصير الأجل على فترات شبه منتظمة خلال السنة حسب الحاجة. لعل الجديد في هذا كله هو أن سندات الخزينة تسمح بالتمويل قصير الأجل فيما بين المؤسسات نفسها دون المرور بالنظام النقدي والمالي. أي تسمح بإقراض الشركات التي تمتاز بفائض في السيولة لإلى تلك المحتاجة إلى تمويل قصير الأجل، أو التي تسجل عجزا في الخزينة.
الفصل الخامس: الخطر المالي الدولي.
أزمة المديونية الدولية:
لا تعتبر المديونية الخارجية للدول النامية بمثابة قضية جديدة إذ هي محل بحث ودراسة من قبل. غير أن مشكلة خدمة الديون واللجوء إلى الجدولة كانت الاستثناء لا القاعدة، وكانت فضلا عن ذلك تتعلق بديون صغيرة القيمة نسبيا، مستحق غالبيتها لدائنين رسميين. أما بالنسبة لأزمة الديون المعاصرة فهي تؤثر في عدد كبير من الدول، وتتعلق بمبالغ ضخمة مستحق جزء كبير منها للبنوك التجارية. كما اقترن تغير حجم أزمة المديونية بتغير بعدها النوعي. فهي الآن لا تمس دول مدينة معينة، ودائنيها فحسب، بل أصبحت تؤثر بشكل خطير، على عملية التنمية بأسرها، وعلى نظام التجارة والمدفوعات. فمع النمو الشديد الذي حدث في هذه الديون، وما جره ذلك من نمو متعاظم في أعبائها، وجد عدد كبير من الدول المدينة نفسه أمام اختيار مرير بين النمو والتنمية من ناحية وخدمة الديون الخارجية من ناحية أخرى. بيد أن مشكلة المديونية تتجاوز البلاد المدينة إلى البلاد الدائنة، نظرا لما تنطوي عليه من مخاطر على البنوك التجارية الدائنة وخصوصا البنوك العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان. كذلك فن مشكلة الديون ترتبط أوثق ارتباط بالنظام المالي والائتماني العالمي، حيث أن النجاح أو الفشل في نجاحها يؤثر تأثيرا عميقا على مستقبل حركة رؤوس الأموال الدولية وعلى التعاون الدولي ولا سيما منظمات بريتون وودز.
ورغم تعدد الأسباب التي أدت إلى تطور الديون الخارجية المستحقة على مجموعة الدول النامية إلى وضعها المتأزم في الوقت الحالي فإن الصورة العامة لأزمة الديون الخارجية للدول النامية يمكن النظر إليها من زاويتين: الأولى هي عدم استقرار وتدهور موارد النقد الأجنبي لهذه الدول، بسبب تقلب وركود صادراتها من المواد الأولية، وخصوصا مع احتدام أزمة الكساد التضخمي بالدول الرأسمالية المتقدمة، مع ما جرته هذه الأزمة من ركود في التجارة العالمية في المواد الأولية، ومن انهيار في نظام النقد الدولي، ومن تزايد الضغوط الحمائية والتمييزية في مختلف دول العالم. أما الثانية، فتتمثل في زيادة مبلغ النقد الأجنبي اللازم لخدمة أعباء هذه الديون، نتيجة لتعقد وارتفاع كلفة الاقتراض الخارجي وخصوصا مع ارتفاع أسعار الفائدة وجنوحها نحو التزايد بشكل مستمر، وانخفاض حجم ونسبة القروض المقدمة بشروط ميسرة، وتزايد صافي التدفقات الرأسمالية من الدول النامية إلى الدول المتقدمة ( وفيما يلي نتناول بعض جوانب هذه المشكلة.
1- التمويل الخارجي وطاقة الدولة على خدمة ديونها الخارجية:
تنشأ الحاجة للتمويل الخارجي نتيجة لوجود فجوة في الموارد المحلية، أي بسبب زيادة معدل الاستثمار عن معدل الادخار المحلي. وينقسم التمويل الخارجي إلى نوعين رئيسين: الأول هو التمويل عن طريق القروض الخارجية، أي طريق الاستدانة من مصادرها المتعددة ( )، والثاني هو التمويل عن طريق استقدام رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة للاستثمار المباشر داخل الاقتصاد الوطني. وتختلف الأعباء التي تتحملها الدولة باختلاف نوعية التمويل الخارجي. فبينما يتمخض الحصول على القروض الخارجية عن دفع أعباء منتظمة في شكل أقساط وفوائد ( ) ، وبغض النظر عن طبيعة استخدام القرض ، فإن الاستثمارات الأجنبية يتمخض عنها تحويلات مالية للخارج تتمثل في الأرباح المحولة للخارج، والفائدة على رأس المال المستثمر ، وتحويل جانب من أجور العاملين والخبراء الأجانب ، ومدفوعات خدمة نقل التكنولوجيا والمتمثلة في رسوم براءات الاختراع والعلامات التجارية والتراخيص وتكاليف الإدارة والخبرة الفنية . ومع التسليم بضرورة التمويل الخارجي، أي المزج بين مصادر التمويل المحلي ومصادر التمويل الخارجي، فإن المشكلة الرئيسية التي تواجهها الدول النامية تتمثل في نسب هذا المزج، وتأثير ذلك على اتجاهات ومستقبل التنمية.
وعموما فإن تمكن الدولة من الوفاء بالتزاماتها الخارجية الناتجة عن الاستثمارات الأجنبية الخاصة المباشرة أو الناشئة عن القروض الخارجية يتطلب وجود فائض في الميزات التـــجاري للــدولة
المدينة( ) . وإذا ما عجزت الدولة عن تحقيق هذا الفائض، فإنها سوف تواجه صعوبات شديدة في ميزان المدفوعات. إذ تواجه، والحال هذه، حرجا في المواءمة بين دفع خدمات الموارد الأجنبية وتمويل الواردات اللازمة للاقتصاد اوارداتها.ا.ر إلى الاستدانة من جديد للحصول على نقد أجنبي كي تستمر في الوفاء بخدمة التزاماتها الخارجية وتمووارداتها.ا . وجدير بالذكر أن ظهور هذا الفائض يتوقف، إلى حد كبير، على الكيفية التي يتم بمقتضاها استخدام هذه الموارد.
ويقصد بطاقة الدولة على خدمة ديونها والتزاماتها الخارجية مدى مقدرة الاقتصاد الوطني على تدبير الموارد اللازمة لمواجهة التزامات الدفع الخارجي المختلفة التي نشأت عن اعتماده على التمويل الخارجي ومدى تأثير ذلك على الأوضاع الاقتصادية بالداخل. وفي هذا المجال ينبغي التفرقة بين الأجل القصير – أو المتوسط – وبين الأجل الطويل، حيث أن الأبعاد التي تحكم هذه الطاقة تختلف باختلاف المدى الزمني الذي نتحدث فيه عن حجم هذه الطاقة.
ففي الأجل القصير ترتبط مشكلة خدمة أعباء الديون الخارجية ارتباطا وثيقا بمشكلة السيولة ( ) . وهي لهذا ترتبط بالحالة التي يكون عليها ميزان المدفوعات للدولة. والمشكلة الرئيسية التي تواجهها الدول النامية عند تدبير أمر خدمة ديونها الخارجية في الأجل القصير تتمثل فبي أنه على حين أن مبالغ خدمة الديون الخارجية الواجبة السداد إنما هي مبالغ ثابتة ومحددة سلفا، طبقا لشروط عقد هذه القروض، إلا أن الجزء الأكبر من مصادر الدول النامية من العملات الأجنبية هي مصادر ذات طبيعة متقلبة، أي لا تتسم بالثبات والاستقرار. وبصفة عامة تتعدد وتتنوع مصادر العملات الأجنبية المتاحة للدول النامية، وتتفاوت فيما بينها من حيث ثقل الأهمية النسبية لكل مصدر بالقياس إلى المصادر الأخرى. وتتمثل هذه المصادر أولا في حصيلة النقد الأجنبي المتأتي من صادرات السلع والخدمات. والأمر هنا يتعلق بالمتغيرات الهيكلية التي يتعين على الاقتصاد الوطني أن يحققها في غمار عملية التنمية. وثانيا في رؤوس الأموال الأجنبية الوافدة من الخارج على اختلاف أنواعها. وثالثا في إمكانية السحب من صندوق النقد الدولي.
أما في الأجل الطويل فإن طاقة الدولة على خدمة ديونها ترتبط ارتباطا وثيقا بمرحلة النمو الاقتصادي التي تصل إليها الدولة وبطبيعة وسرعة مسار عملية التنمية الاقتصادية. ومن ثم فهي تتوقف على الشروط والأوضاع والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر في مدى نجاح، أو تعثر، عملية التنمية التي يعتمد تمويلها، في جزء منها، على وسائل التمويل الخارجي ( ) . وهكذا ترتبط مشكلة الديون الخارجية في الأجل الطويل بمشكلة التنمية الاقتصادية، حيث أن العوامل والمتغيرات التي تحدد حجم طاقة الاقتصاد الوطني لخدمة أعباء التمويل الخارجي تتوقف أولا و أخيرا، على مقارنة مدى النفع، المباشر أو غير المباشر، الذي يعود على الاقتصاد الوطني نتيجة اعتماده على التمويل الخارجي بمدى التكلفة التي يتحملها من جراء ذلك.
2- مصادر التمويل الخارجي:
ينصرف النظام المالي الدولي إلى المصادر المختلفة للتمويل الخارجي التي تلجأ إليها البلاد النامية لتمويل عملية التنمية أو لتغطية العجز في ميزان المدفوعات. ويمكن أن نميز في هذا الصدد بين خمسة مصادر للتمويل الخارجي ( ) :
أ- المصادر السمية الجماعية: وعلى رأسها مجموعة البنك الدولي ( البنك الدولي للإنشاء والتعمير وهيئة التنمية الدولية وهيئة التمويل الدولي ) وصندوق النقد الدولي. ويدخل فغيها كذلك البنوك الإقليمية للتنمية مثل بنك التنمية الإفريقي وبنك التنمية الآسيوي. ويضاف إليها مؤسسات التنمية الإقليمية الأخرى مثل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وكذلك صندوق النقد العربي. ويعتبر هذا المصدر من أهم مصادر التمويل بشروط ميسرة.
ب- المصادر الرسمية الثنائية: وهي تشمل المساعدات الإنمائية بين حكومتين أو بين هيئات حكومية. وفضلا عن أن هذا المصدر يشتمل على نسبة عالية من التمويل بشروط ميسرة فإنه يشتمل كذلك على تمويل بشروط تجارية أو شبه تجارية. ومثال ذلك الفروض التي تعطيها بنوك التصدير والاستيراد الحكومية أو الهيئات الحكومية للتأمين على الصادرات.
ج –البنوك التجارية في البلاد الصناعية:ولم يكن هذا المصدر ذا أهمية في تمويل البلاد النامية إلى عهد قريب. غير أن أهميته بدأت في التزايد بعد ثورة البترول خلال عقد السبعينات وأصبح من أهم مصادر التمويل بالنسبة لعدد كبير من الدول النامية خصوصا في أمريكا اللاتينية.
د- الاستثمار المباشر:
وكان هذا المصدر يمثل أهم مصادر التمويل الخارجي للدول النامية قبل الحرب العالمية الثانية. غير أن أهميته تراجعت بصورة ملحوظة خلال الفترة الأخيرة وأصبح لا يمثل أكثر من 10% من مجموع التدفقات المالية للدول النامية.
هـ الاقتراض بإصدار سندات من الأسواق المالية: وكان هذا المصدر من أهم صور الاقتراض الخارجي خلال القرن التاسع عشر. ولكنه أصبح الآن مقصورا على عدد محدود جدا من الدول النامية مثل المكسيك والبرازيل وكوريا الجنوبية.
3- تطور حجم وهيكل ديون الدول النامية:
تطورت صورة الديون الدولية بشكل يثير الانتباه ويدعو للقلق ابتداء من النصف الثاني من عقد السبعينات وحتى الآن. فمذ ذلك الوقت ثمة نمو متزايد قد حدث في أحجام هذه الديون، وفي شروط انسيابها إلى البلاد المدينة. وفي الأعباء الحقيقية التي نجمت عنها. وقد انطوى هذا التطور المتزايد على تغيير محسوس في هيكل هذه الديون، وذلك بارتفاع النصيب النسبي للديون المستحقة لمصادر خاصة ( البنوك التجارة، تسهيلات الموردين، والاقتراض من أسواق السندات الدولية). على أن المتتبع لتطور هذه الصورة، سوف يلحظ أن عام 1982 يشكل، في الحقيقة، نقطة تحول رئيسية لهذا التطور. ففي هذا العام أعلنت ثلاثة من أكبر الدول المدينة ( وهي المكسيك والأرجنتين والبرازيل ) عدم قدرتها على دفع أعباء ديونها الخارجية. ثم توالت بعد ذلك حالات واحتمالات التوقف عن الدفع. وهو الأمر الذي خلق ذعرا شديدا في سوق لاقتراض الدولي، وبالذات بين البنوك التجارية، التي بدأت تدرك م}خرا مدى الكارثة التي تهددها نتيجة تورطها في إعطاء كثير من القروض بأسعار فائدة باهضة، لدول ذات قدرة ضئيلة على دفع وتسوية هذه الديون.
ويرجع هذا التحول الذي حدث فيمسا قضي المديونية العالمة إلى تأثير تعميق أحوال الكساد التي حدث بشكل خاص في الدول الرأسمالية الصناعية خلال الفترة ما بين 80-1982، وانعكاس ذلك على أحوال الدول المدينة بشكل سيء من ناحية، وإلى بدء الانحسار على نحو واضح في موجة التضخم العالمي من ناحية أخرى. ذلك أن تردي معدلات النمو الاقتصادي في غالبية الدول الرأسمالية الصناعية خلال هذه الفترة قد جر معه ركودا شديدا في صادرات الدول المدينة، ومن ثم تدهورا في حصيلتها من النقد الأجنبي، الذي يشكل أساس قدرتها على دفع أعباء ديونها الخارجية.وبعد عام 1982 بدأ الاقتصاد العالمي، تحت تأثير السياسات الانكماشية التي طبقت منذ بداية عقد الثمانينات، يتجه نحو انخفاض معدلات التضخم ( مع تزايد معدلات البطالة ). وقد كان لانخفاض معدلات التضخم أثرا هاما على قضية المديونية، فخلال الفترة الممتدة ما بين منتصف السبعينات وحتى عام 1982، كانت الأموال التي اقترضت للبلاد المدينة تتم بأسعار فائدة حقيقية منخفضة ( نسبيا ) بسبب موجة التضخم العالمي التي سادت في هذه الفترة ( رغم ارتفاع هذه الأسعار من الناحية الاسمية ). وابتداء من عام 1982، ومع انحسار موجة التضخم، أصبحت هذه الفوائد باهضة من الناحية الحقيقية. صحيح أن أسعار الفائدة قد مالت أيضا إلى الانخفاض، لكنها في سرعة انخفاضها، كانت أقل بكثير من سرعة انخفاض التضخم.
وهكذا نجد أن التحول النوعي الذي حدث في العبء الحقيقي لأسعار الفائدة، مع استمرار موجة الكساد العالمي، قد أثر بشكل واضح على قدرة الدول المدينة على الدفع، هذا في الوقت الذي استمرت فيه هذه الدول في حالة عوز دائم لمزيد من الاستدانة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن من أهم التحولات التي شهدها عقد لسبعينات وحتى أوائل الثمانينات هو ذلك التحول المتعلق بقيام المصادر الخاصة وبصفة أخص المصارف التجارية الدولية بالدور المحوري والرئيسي كمصدر للتمويل ومنح الائتمان تجاه الدول النامية ولتحل محل المصادر الرسمية في هذا الخصوص. وفيما يلي أهم التطورات التي لحقت بقضية المديونية خلال عقي السبعينات والثمانينات:
- شهدت ديون الدول النامية تزايدا مستمرا وتضخما شديدا في حجمها منذ أواخر الخمسينات وحتى الآن. ففي عام 1960 كانت تلك الديون تقدر بحوالي 18 مليار دولار، ثم أصبحت 74 مليار دولار في عام 1970، وصارت 160 مليار دولار في عام 1980، وبلغت حوالي 1000 مليار دولار في عام 1987. ولقد قفزت إلى 1229 مليار دولار في عام 1988. وكانت خدمة الديون لا تزيد على 2, 6 مليار دولار في عام 1960 فأصبحت تستوعب 1305 مليار دولار في عام 1986. وقد كانت المديونية تنمو حتى نهاية الستينات بمعدل سنوي لا يتجاوز 15% في المتوسط، فارتفع هذا المعدل المتوسط في النصف الأول من السبعينات إلى 20%، ثم ارتفع إلى 25% ابتداء من النصف الثاني من السبعينات، وعاد في الثمانينات فهبط إلى حوالي 10%. أما نسبة هذه الديون للناتج الوطني الإجمـالي ( ) للدول المدينة فقد تجاوزت 40% عام 1986 في كثير من الأحوال بينما لم تتجاوز هذه النسبة 12% عام 1974 . أما إجمالي الديون كنسبة من قيمة الصادرات من السلع والخدمات الخاصة بالدول النامية فقد كانت حوالي 91% عام 1979، ارتفعت إلى حوالي 120% عام 1982، وواصلت الارتفاع بعد ذلك بشكل كبير حيث بلغت 147, 8% عام 1985، وفي عام 1987 كانت هذه النسبة 1986, 6% ( ) .
- ميل ديون العالم الثالث إلى التركز ف بعض المناطق الجغرافية من العالم أكثر من غيرها، فالجانب الأكبر من هذه الديون تخص عددا محدودا من الدول النامية تعرف بكبار الدول المقترضة ويقدر عددها ب15 دولة. وقد بلغ نصيب كبار الدول المدينة من إجمالي القروض 473, 9 مليار دولار عام 1988، وهو ما يعادل حوالي 39% من إجمالي ديون البلدان النامية في نفس العام. وتأتي على قائمة الدول المدينة دول أمريكا اللاتينية وخاصة البرازيل والمكسيك والأرجنتين وفنزويلا، تليها الدول الإفريقية، فالدول الأوروبية النامية، ودول الشرق الأوسط النامية من غير الدول النامية البترولية، وأخيرا الدول الآسيوية.
- حدث تحول رئيسي في السبعينات من التدفق الرسمي إلى التدفق الخاص للقروض، وتميزت معظم الديون التي عقدتها الدول النامية بنمو الاقتراض من المصادر الخاصة أكثر من الاقتراض من المصادر الرسمية. وكان لهذا التغير في هيكل الديون أثر كبير في تفاقم مشكلة المديونية الخارجية. إذ أن القروض من المصادر الرسمية بصفة عامة تمثل قروضا أسهل من حيث الشروط والتكلفة إذا قورنت بالقروض المعقودة مع المؤسسات الخاصة. ومن بين المصادر الخاصة فإن الاقتراض من البنوك التجارية لعب دورا هاما في تفاقم الأزمة. ويرجع هذا لنمو في أعمال البنوك التجارية إلى الإفراط الشديد الذي حدث في حجم السيولة الدولية من جراء تراكم الفوائض البترولية وإعادة تدويرها من ناحية، بالإضافة إلى ما تراكم عن الشركات والبنوك الدولية النشاط من حجم هائل لرؤوس الأموال الساخنة لأسواق الدولار الأوروبي، من ناحية، إذ يقدر أن احتياطي البنوك الدولية قد تضاعف إحدى عشرة مرة خلال عقد السبعينات وحده. وتجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الديون شديد الوطأة وغلي التكلفة، إذ يرتفع فيه سعر الفائدة ارتفاعا ملحوظا ويتسم بقصر مده الزمنية، وبعدم وجود فترة سماح فه فضلا عن استحقاقه بالعملات الصعبة. وضاعف من حرج الموقف اتجاه البنوك والهيئات الدولية إلى تعويم سعر الفائدة وربطه بسعر السوق والذي يحدد على أساس أسعار الفائدة بين البنوك في لندن والمعروفة اختصارا باسم " ليبور" ( ). وقد أخذت أسعار الفائدة المتغيرة في الارتفاع بصورة مضطردة في أواخر السبعينات حتى وصلت إلى ما يقرب من 20% عام1981. وقد ازداد نصيب الديون ذات الفوائد المتغيرة لإجمالي ديون الدول النامية من 7% عام 1972 إلى 22, 8 عام 1976 ثم 33% عام 1980 وإلى 43, 2% عام 1982. وفي ظل سعر الفائدة المرتفع فإن عبء خدمة الدين أصبح كبيرا ومرهقا بالنسبة للبلدان النامية ( )
- زيادة حجم القروض قصيرة الأجل سواء بصورة مطلق أو بصورة نسبية بالنسبة لغيرها من الديون، ولا شك أن ذلك يلقي عبئا ثقيلا على البلدان المدينة إذ يفرض عليها ضرورة تدبير الموارد لسداد هذا النوع من الديون، الذي لا تستطيع استخدامه استخداما منتجا في أي مجال وإنما يتجه أساسا لأغراض استهلاكية، فضلا عن أن الجز الأكبر من تلك القروض تتجه لسداد التزامات ديون سابقة. وبالنسبة للديون القصيرة الأجل فقد زادت من 107, 2 مليار دولار عام 1979 إلى 187, 2 مليار دولار. أما من ناحية أهميتها النسبية في إجمالي الديون فبعد أن كانت تمثل 7, 3% خلال عامي 73-1974 وصلت إلى 20, 1% عام 1979، ثم ارتفعت قليلا إلى 20, 8% عام 1983، ثم عادت وانخفضت في الأهمية إلى 17, 5% عام 1985، ثم إلى 15, 3% عام 1988. وجدير بالذكر أن القروض القصيرة الأجل تزداد بصفة بالنسبة للدول التي تعتمد أساسا على المصادر الخاصة للحصول على قروضها، كما أن هذا النوع من الديون ازداد بمعدل كبير خلال السنوات الأخيرة من السبعينات مع ظهور المصادر الخاصة والبنوك التجارية في ميدان الإقراض الدولي. ولاشك أن من شأن انخفاض هذا النوع من القروض – كما هو واضح- أن يساعد في تخفيف حدة المديونية الواقعة على البـلدان النامية ( ) .
- ترتبط قضية ازدياد عبء الديون وعبء خدماتها بمسألة الشروط المصاحبة لها. وتشير التقارير الدولية أن الاتجاه العام للشروط – وسوء تعلق الأمر بمتوسط مدة القروض أو متوسط فترة السماح أو متوسط نسبة عنصر المنحة –التي تصاحب القروض يكون عادة في غير صلح البلدان النامية المقترضة. إذ أنه في الوقت الذي تزداد فيه أسعار الفائدة الحقيقة منذ بداية السبعينات تقريبا نجد أن بقية مكونات الشروط تميل إلى الانخفاض سواء أكان ذلك بالنسبة لفترة الاستحقاق أو فترة السماح أو عنصر المنحة.
4- أهم العوامل التي ساعدت على تضخم أزمة المديونية:
بداءة ظهرت أزمة الديون في صورة أزمة مدفوعات خارجية وكأنها ظاهرة مالية صرفة غبر أنه سرعان ما اتسع نطاقها. فبد أن كانت أزمة المديونية تشكل جانبا منفردا ومستقلا من جوانب التنمية تحولت فأصبحت عاملا مهيمنا يؤثر على النظام الملي والنقدي الدولي. وعلى النظام التجاري المتعدد الأطراف، وأصبح لها دور مؤثر وخطير في إمكانية تحقيق النمو والتنمية في الاقتصاد العالمي. وربما يمكن تشبيه أساسيات أزمة الديون الخارجية للدول النامية بحركة حدي المقص: تصاعد أسار الفائدة، وانخفاض أسعار السلع الأساسية، وتصاعد مدفوعات خدمة الديون، وانخفاض تدفقات رؤوس الأموال، وتصاعد العجز في موازين التجارة في الدول النامية، وانخفاض الاستثمارات..الخ وعلى ذلك فقد أدى تشابك العوامل الدولية والعوامل المحلية إلى ظهور مخاطر أزمة المديونية على النظام الاقتصادي الدولي عامة وعلى الدول المدينة بصفة خاصة.
4-1 العوامل الخارجية:
ومن أهم العوامل ذات البعد الدولي، الكساد الاقتصادي الدولي، وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية فضلا عن الارتفاع الكبير في سعر الدولار الأمريكي، والتغيرات في الأسعار العالمية للبترول، وتدهور شروط التبادل الدولي لبلاد المدينة، وزيادة الاعتماد على القروض التجارية، وانخفاض معونات البلدان الصناعية.
لقد قامت البلدان النامية خلال ركود السبعينات في البلدان الصناعية بالاقتراض المضاعف منها، ومن ثم أدت إلى تماسك الطلب في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وهكذا استطاعت المصارف الدولية الخاصة التي كانت تحتفظ بسيولة هائلة لا تستطيع السوق الرأسمالية استيعابها، إعادة تدويرها من البلدان النفطية إلى البلدان النامية طالبة القروض. وشهد العالم في الفتلارة بين عامي 72-82 تصعيد التدفقات المالية الدولية من المصارف التجارية الكبرى إلى العالم النامي. غير أن انتشار الركود الاقتصادي في الدول الصناعية خلال الفترة 80-82 أثر سلبا على اقتصاديات البلدان النامية مما زاد من حدة مشكلة المديونية في هذه الدول. إذ أدى الركود الاقتصادي في الدول الصناعية المتقدمة إلى انخفاض معدلات الطلب مكنها على الخدمات والسلع المختلفة، الأمر الذي أدى إلى لجوئها لفرض الحواجز الجمركية المرتفعة لمواجهة نمو الاستيراد من الدول النامية وحماية منتجاتها وتسويقها محليا، الأمر الذي ترتب عليه تناقص واضح في الحصة النسبية لصادرات الدول النامية من إجمالي الصادرات العالمية وزيادة عجزها عن دفع الديون المستحقة عليها. فمع تدهور حجم وقيمة صادرات الدول النامية إلى الدول الرأسمالية الصناعية انخفض حجم العملات الأجنبية فيها، وانخفض أيضا انسياب رؤوس الأموال الأجنبية الميسرة لها، هذا في الوقت الذي تزايدت فيه مدفوعات خدمة الديون وتزايدت صعوبات الاقتراض الخارجي وبخاصة بعد انفجار أزمة الديون المصرفية في عام 1982 ولجوء غالبية البنوك الأجنبية إلى تطبيق معايير قاسية في الاحتراس للائتماني وحساب الجدارة الائتمانية للمدينين.
وكان لارتفاع الذي طرأ على أسعار الفائدة التي اقترضت بها مجموعة الدول المدينة دورا حاسما في تفاقم مشكلة الديون العالمية. حيث أدى هذا الارتفاع إلى زيادة المبالغ المخصصة لدفع أعباء الديون، في الوقت الذي تعرضت فيه موارد النقد الأجنبي لتلك الدول للتدهور والتقلب، ولقد زاد الأمر سوءا اتجاه كثير من مؤسسات الإقراض الدولي – وبخاصة البنوك التجارية – إلى تعويم سعر الفائدة الذي تقرض به مجموعة البلاد النامية، وبالذات خلال الفترة 1979-1984. كذلك فقد ساهم الارتفاع الشديد في سعر الدولار في الفترة بين 1981-1984 في زيادة العبء الملقى على عاتق الدول المدينة ولاسيما أن حوالي 80% من القروض الخاصة بالدول النامية تم التعاقد عليها بالدولار الأمريكي. وتشير بعض التقارير أن حوالي 40% من الارتفاع في معدل الديون في الفترة 1979-1983 يرجع إلى ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي. من هنا فإن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية وارتفاع أسعار الدولار وإعادة جدولة الديون بأسعار فائدة أعلى قد عمل كله على زيادة حجم الديون فنمت نموا خياليا. وظهر أن هناك ميلا طبيعيا لدى القروض لأن تنمو مع سعر الفائدة، بمعنى أن هناك استمرار دينا جديدا مساويا لسعر فائدة الدين القديم، وظهر أن المديونية صارت مديونية طويلة الأجل فعلا.
وقد جاء لك متزامنا مع تدهور شروط التبادل التجاري للدول المدينة، والذي يجد تعبيره في تدهور نسبة أسعار صادرات الدول النامية إلى أسعار السلع التي تستوردها من الدول المتقدمة. الأمر الذي يؤدي بشكل مباشر إلى التأثير على حالة ميزان المدفوعات للدول المدينة، حيث يزيد عجز هذا الميزان، ومن ثم يزيد من الميل إلى الاستدانة من ناحية، ويؤدي أيضا إلى إضعاف قدرة هذه الدول عن الوفاء بأعباء ديونها من ناحية أخرى. وعموما فقد أسهم التدهور في شروط التبادل التجاري للبلدان النامية بشكل واضح فيتأزم قضية المديونية الخارجية هذه الدول.
ومع تصاعد أسعار النفط م عام 1974 حدث عجز واضح في الموازين التجارية وفي الحسابات الجارية للدول المستوردة للبترول الأمر الذي أدى إلى زيادة اقتراضها من الخارج. ولم يؤدي الارتفاع في الأسعار العالمي للنفط إلى تحسين موقف المديونية الخارجية للدول النفطية المدينة، مثل المكسيك ونيجيريا وفنزويلا. حيث حصلت في السبعينات على قروض كبيرة من البنوك التجارية التي اعتقدت بسبب هذا الارتفاع أنه لا غبار على قدرة الدول على سداد أقساطها( ) . ولكن مع انخفاض أسعار البترول في الثمانينات أصبحت تلك الدول في] مأزق لعدم قدرتها على دفع عملية التنمية الاقتصادية وفي نفس الوقت سداد ديونها المستحقة. أما بالنسبة لمجموعة الدول غير النفطية، فم الواضح أن آثار انخفاض أسعار البترول عالميا سوف تعمل في اتجاهين متضادي، الاتجاه الأول، إيجابي الأثر ويظهر في دعم وتحسين قدرتها على الوفاء بأعباء ديونها الخارجية. أما الاتجاه الثاني، فإنه يحمل آثار سلبية تتمثل في انخفاض حجم المعونات والقروض الميسرة التي كانت تحصل عليها من دول الأوبك، فضلا عن تدهور حجم تحويلات العاملين بالخارج والذي يمثل في بعض الدول المدينة المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي.
ومع ظهور المصارف الدولية الخاصة أخذ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير في قبض أيديهما عن الدول النامية. وأخذ الاقتراض الدولي يتحول ليصبح إقراضا خاصا في نهاية الستينات وخصوصا بعد عام 1973. وقد ارتبط ذلك بعاملين حاسمين هما ظهور سوق الدولار الأوروبي وإعادة تدوير فوائض النفط بعد رفع أسعاره بواسطة الدول المنتجة والمصدرة له. فمع نمو السوق الأوروبية للدولار، اصطحب تدويل رأس المال بتدويل الإنتاج، واستدعى البحث عن رأس المال تطويرا مستمرا في التمويل الدولي. وبذاءة اتجهت الأموال للبلدان الصناعية، إلا أن الكساد الذي أصاب تلك الدول في مطلع السبعينات جعل المصارف الدولية الخاصة توجه أموالها نحو البلدان النامية، خصوصا وقد حلت الحقبة النفطية وأعادت تلك المصارف تدوير الفوائض النفطية. وهكذا ساهم الوضع الدولي في تضخم المديونية الخارجية للدول النامية. فالكساد يحرم هذه الدول من موارد نابعة من مصادرها، وهو نفسه يخلق السيولة الفائضة التي تمكنها من الحصول على القروض(. وفي ظل هذه الأوضاع أخذت البلدان الصناعية تخفض من نسبة ما تقدمه من دخولها الوطنية إلى البلدان النامية في صورة قروض ميسرة. حيث أخد نصيب القروض الميسرة، أو المعونات، من إجمالي قيمة القروض التي تحصل عليها البلدان النامية في التدني بصورة مستمرة خلال السبعينات والثمانينات. فبينما كانت القروض الميسرة كنسبة من قروض الدول النامية ككل 43% عام 1974، انخفضت إلى 33% عام 1978، وإلى 23, 5% في عام 1983. وبالنسبة لكبار الدول المدينة والتي تواجه صعوبات جمة في خدمة ديونها، انخفض نصيب هذه القروض من 42, 6% عام 1974، إلى 31, 1% عام 1978 وإلى 18, 6% عام 1983 ( ) .
مجمل القول أن مجموعة الدول النامية قد عانت في من ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعتمد على رأس المال الأجنبي في تمويل عجز الموازنة العامة، ومن تدهور شروط التبادل الدولي وتناقص دخولها من تصدير خاماتها في ظل أوضاع الحماية والركود في التجارة الدولية ابتداء من عام 1982. ومن تقييم الدولار بأعلى من قيمته. ومن الركود الاقتصادي الذي أصاب -وما زال- الدول الصناعية المتقدمة، ومن التغيرات التي حدثت في أسعار النفط عالميا. فضلا عن ممارسة الدول الدائنة كافة الضغوط الممكنة على البلدان النامية. وتخفيض كافة أنواع التدفقات المالية إليها من معونات اقتصادية وقروض ميسرة واستثمارات مباشرة وقروض مصرفية.
4-2 العوامل الداخلية:
ومن أهم العوامل الداخلية التي ساعدت على تفاقم أزمة المديونية نذكر أولا إهمال تنمية مختلف القطاعات والذي يرجع إلى اهتمام الدول النامية بقطاع السلع الأولية المصدرة كأساس لما تحصل عليه من عملات أجنبية. وقد أدى سوء التخطيط وعدم وجود دراسات جدية لمشروعات التنمية إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي والاعتماد المتزايد على العالم الخارجي والعجز عن تعبئة الفائض الاقتصادي. والواقع أن تزايد الاعتماد على العالم الخارجي، وما يواكب ذلك من نمو مواز في الديون الخارجية يعود إلى طبيعة التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة على الدول النامية، وهذا ينجم أساسا عن كيفية أوجه التصرف في الفائض الاقتصادي، بين الاستهلاك والتراكم، وغلى تسرب جزء هام منه نحو الخارج في ضوء علاقة هذه التشكيلات مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي. كما أن اتساع فجوة الموارد المحلية ( ) وخاصة في العقد السابع ، يرجع إلى نمو الاستهلاك المحلي بمعدلات تزيد عن معدلات نمو الناتج المحلي ، بسبب زيادة السكان والدخول النقدية وشيوع أنماط استهلاكية ترفية غير رشيدة ،والإسراف في الإنفاق العام في أوجه غير إنتاجية ضرورية وغياب التخطيط السليم للاستهلاك والإنتاج والتجارة الخارجية وأنماط الاستثمار .
ويرتبط بهذا عامل آخر وهو فشل نمط التنمية والتصنيع في الدول النامية والذي كان له آثارا وخيمة على تفاقم مشكلات ديونها الخارجية، حيث أدت هذه التجارب إلى تزايد الاعتماد على العالم الخارجي، وإذكاء قوى الاستهلاك الترفي، وإضعاف قوى الادخار المحلي، وإلى زيادة نهب مواردها وبخاصة في ضوء استراتيجيات تصنيع بدائل الواردات والإنتاج الموجه للتصدير.
كذلك فقد كشفت أزمة المديونية لعدد كبير من الدول النامية، عن اقترانها بوجود فساد إداري ضخم في أجهزة الدولة في هذه الدول. وقد نجم عن هذا الفساد نهب جانب كبير من القروض الخارجية التي عقدتها خلال عقد السبعينات وأوائل الثمانينات. وقد تم ذلك في شكل أمال ضخمة دفعت لأصحاب النفوذ على أنها عوائد لقاء عمليات الوساطة والسمسرة والوكالة، حينما سحبت هذه القروض وأخذت سبيلها لتنفيذ بعض المشروعات الترفيهية والاستهلاكية أو لتمويل توريد صفقات سلعية معينة. هذه الأموال الكبيرة التي نهبت من القروض، تم تهريبها للخارج وأودعت في بعض البنوك الخارجية لحساب من استولوا عليها ( ) . وساعد على ذلك ما عملت عليه المؤسسات العالمية والبنوك الدولية على إقراض الدول دون إخضاع تلك العمليات لأية رقابة أو متابعة في محاولة منها لاستغلال السيولة النقدية التي توفرت نتيجة لأموال البترول الهائلة في السبعينات ونمو حجم سوق الدولارات الأوروبية.
ومن بين تلك العوامل أيضا التضخم المحلي والذي يؤثر سلبا على ميزان المدفوعات حيث يضعف من الموقف التنافسي لصادرات الدولة في السوق العالمي ( ) . وفي الوقت نفسه يشجع على زيادة الاستيراد حينما تكون أسعار السلع المستوردة، التي لها مثيل محلي، منخفضة على الأثمان المحلية. وهكذا تقل الصادرات وتتزايد الواردات في ظل التضخم، ويتزايد عندئذ عجز الميزان التجاري. يضاف إلى ذلك أن التضخم المحلي يضغط على سعر الصرف للعملة المحلية فيتدهور هذا السعر ويشجع هروب رأس المال إلى الخارج ويضع العراقيل أمام انسياب الاستثمارات الأجنبية الخاصة، ولا يخفي ما يجره ذلك كله من تأثيرات سلبية على حالة ميزان المدفوعات، فيتزايد عجز الحساب الجاري وتضطر الدولة للاستدانة الخارجية ( ) بيد أنه لزيادة الديون أيضا تأثيرها على إذكاء قوى التضخم في الدول النامية. أي أننا إزاء علاقة جدلية آت تأثير متبادل، فحينما تتزايد الديون، وتتفاقم أعباء خدماتها فإن تأثيرها التضخمي يكون واضحا. فالتضخم يؤدي إلى الاستدانة الخارجية والاستدانة الخارجية تزيد من التضخم المحلي.
ومن بين العوامل المحلية أيضا غياب السياسة السليمة للاقتراض الخارجي والذي كان له دورا كبيرا في حدوث كثير من المشكلات الراهنة الناتجة عن تضخم الدين الخارجي وتفجر أعباء خدمته. ولعل عدم الشعور بأهمية وجود مثل هذه الإستراتجية لدى هذه الدول، كان ناجما عن ظروف الاقتراض الخارجي في السبعينات، إذ لم تحرص جهات الإقراض على مراعاة قدرة المدين على السداد مستقبلا ولم تعط لحسن استخدام المدين للقروض أية اعتبارات كما سبق ورأينا.
وأخير تجدر الإشارة إلى أن جانبا كبيرا من الإفراط الذي حدث في هذه الاستدانة يعود إلى السياسات الليبرالية في قطاع التجارة الخارجية والنقد الأجنبي. فبالرغم من أن أزمات النقد الأجنبي والعجز المستمر في موازين مدفوعات هذه الدول كانت تتطلب وجود قواعد صارمة لضبط إيقاع الحركة في قطاع التجارة الخارجية، حتى يمكن مواجهة تلك الأزمات وتقليل العجز وترشيد استخدامات هذا القطاع، إلا أنه على العكس من ذلك، حدثت ليبرالية مفرطة في هذه الدول تجاه هذا القطاع. بل إنه حتى السياسات التي كانت قد لجأت إليها هذه الدول في أعقاب حصولها على استقلالها السياسي كمحاولات التخطيط الجزئي للتجارة الخارجية، وترشيد الواردات والرقابة عليها، وتشجيع ودعم الصادرات، ونظم الرقابة على الصرف الأجنبي..الخ كل هذه السياسات تم التخلي عنها، في الوقت الذي زادت الحاجة إليها لمواجهة تلك الأزمات. تلك السياسات التي تتعلق بالتجارة الخارجية والنقد الأجنبي والتي أسهمت في تأزم مشكلة الديون الخارجية وأعبائها في هذه الدول، كانت نتاجا لسياسة الباب المفتوح، سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي انحازت إليها التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة في تلك الدول إما اختيارا، وإما تحت ضغوط الدائنين وصندوق النقد الدولي الذين نظروا إلى تلك السياسات على أنها عمليات تكييف ضرورية لتصحيح أوضاع ميزان المدفوعات وضمان تسديد الديون، بينما أن نتائج تلك لسياسات كان وخيما على تلك الدول.
5- البدائل المطروحة لمواجهة أزمة المديونية:
كان ظهور أزمة مديونية الدول النامية في أغسطس 1982 حفزا لتقديم عدد كبير من المقترحات لمواجهة الجوانب المختلفة لتلك الأزمة. ولم تقتصر هذه المقترحات على الديون التجارية فقط، بل امتد نطاقها لتشمل أشكال أخرى من الاقتراض مثل الديون الرسمية، وائتمانا التصدير.
وتعلق يعض هذه المقترحات بالنظام المالي والنقدي الدولي بشكل عام، وعلى العلاقات بين الدول النامية والبنوك التجارية، وعلى آليات إعادة جدولة الديون، وعلى حالة الدول الأقل نموا. ومن بين المقترحات التي تهدف إلى تعزيز النظام المالي والنقدي الدولي، يمكن تحديد إجراء توزيع جديد لحقوق السحب الخاصة، وزيادة موارد البنك الدولي بما يتناسب مع الاحتياطيات المالية للدول النامية، وتحسين قدرة المؤسسات المالية المتعددة الأطراف على معالجة آثار أزمة المديونية وأهمية تطوير مشروطة صندوق النقد الدولي وإنشاء مرفق جديد لأي إطار الصندوق للتعويض عن الخسائر الناتجة عن ارتفاع أسعار الفائدة، وثمة مقترحات أخرى تهدف إلى معالجة العلاقة بين الدول النامية والبنوك التجارية بشكل مباشر ومن بينها، توفير آليات تمكن البنوك من أن ستبدل بالقروض عديمة الأداء أصولا أكثر أمانا، على أن يقترن ذلك بتوفير قدر من التدابير التي تخفف عن الدول النامية عبء مدفوعات خدمة ديونها. وقد دعت بعض المقترحات الحديثة إلى ضرورة اعتماد تدابير تهدف إلى مد فترات التثبيت، وإطالة آجال الاستحقاق في عمليات إعادة جدولة الديون، وتسهيل عملية إعادة الجدولة على عدة سنوات، والتخلي عن شرط توصل الدول المدينة إلى اتفاق مسبق مع صندوق النقد الدولي كشرط أساسي لعملية إعادة الجدولة، وضمان استمرارية توفير إمكانيات التصدير خلال عملية إعادة الجدولة ذاتها ( ) .هذا بالإضافة إلى ضرورة قيام الدول الصناعية بتطبيق سياسات اقتصادية تساعد على تخفيف النمو في الدول النامية وزيادة الموارد الحقيقية المخصصة لتمويل التنمية، ودعوة الولايات المتحدة والدول الغربية لخفض العجز في موازين مدفوعا تهم، والحد من ارتفاع أسعار الفائدة، وإلغاء كافة القيود الحمائية القائمة، حتى يمكن نفاد صادرات الدول النامية إلى الأسواق لدولية.
وجدير بالذكر أنه من غير المتوقع أن تؤدي تلك المقترحات، وغيرها إلى وضع علاج مرض لكافة الصعوبات المالية التي تواجه الدول النامية من جراء تفاقم أزمة المديونية، إذ أن ذلك يرتبط بضرورة قيام الدول المدينة بإصلاحات اقتصادية جوهرية تشمل تغير الأنظمة المصرفية والمالية والضريبية والجمركية بهدف تقليل العجز في موازين المدفوعات، والحد من الواردات والاستغناء عن القروض، ومحاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي عن طريق زيادة الإنتاج وتشجيع الاستثمار وتحويل جزء من الميزانيات المخصصة للنفقات العسكرية للمشاريع الصناعية والزراعية والصحية، مما يساعد على دفع التطور الاقتصادي إلى الأمام. فلما كان المنهج المتبع للتصدي لأزمة المديونية يتسم بعدم التناسق( ) فإن الدول المدينة لا بد أن تقوم بإجراء التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية اللازمة حتى تفلت من فخ المديونية.فالاستراتيجية الملائمة للتنمية والتي تكفل من خلال تحققها عدم تكرار أزمة المديونية ترتكز في نواتها الأساسية على فكرة الاعتماد على ألذات، أي على تعبئة الفائض الاقتصادي الممكن، وعل صياغة نموذج تنموي يستهدف أن يتوجه، أساسا، إلى الداخل وليس الخارج، أي إلى إشباع الحاجات الأساسية للسكان، وليست حاجة من لديهم الطلب الفعلي في ضوء التفاوت الشائع في توزيع الدخل.
6- الاستراتيجية الدولية للديون في الثمانينات:
منذ أن تفجرت أزمة الديون الدولية عام 1982، حين أعلن المكسيك توقفها عن الدفع، يمكن القول أن الاستراتيجية الدولية لمواجهة مشكلة المديونية مرت بثلاث مراحل:
أولا: احتواء الأزمة:
وهي تمتد من وقت أزمة المكسيك في أوت 1982 إلى سبتمبر سنة 1985 حينما أعلن جيمس بيكر مشروعه لعلاج مشكلة الديون الدولية. وكان الهدف الأساسي في هذه المرحلة هو مساعدة المكسيك على العودة إلى استئناف خدمة ديونها، والحيلولة دون انتشار عدوى التوقف إلى البلاد المدينة الأخرى وتفادي حدوث انهيار للنظام المصرفي في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قام صندوق النقد الدولي بدور قيادي في الجمع بين الأطراف المعينة وإقناع كل طرف بالمساهمة بنصيب في علاج الأزمة. وكان لا بد من إقناع البنوك التجارية بضرورة تقديم قروض جديدة للمكسيك لتمكينها من خدمة ديونها. فقد تفجرت الأزمة بداءة بسبب توقف البنوك عن الإقراض بعد أن بلغ حجم المديونية حدا ينوء به الاقتصاد المكسيكي ولا سيما بعد التهور الكبير في ميزانها التجاري على أثر الكساد العالمي.
وبالفعل نجح صندوق النقد الدولي في إقناعها بأن المحافظة على أصل الديون المستحقة للبنوك التجارية، وكانت تبلغ حين ذاك نحو 60مليار دولار، يبرر تقديم قروض جديدة للمكسيك. ومن هنا كانت "القروض الاضطرارية"، وفيها يساهم كل بنك دائن بنسبة من حصته من أصل الدين. وقد تم ذلك ضمن ما يعرف "بحزمة الإنقاذ" ( involuntary lending ) وهي الاتفاق بين جميع الأطراف المعنية على التزامات وحقوق كل منها في نطاق علاج الأزمة. وهي تقوم على أساس التزام البنوك التجارية بتقديم قدر محدد من القروض الجديدة وقبول إعادة جدولة نسبة معينة من أصل الديون المستحقة وفي مقابل ذلك تلتزم المكسيك بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي على تنفيذ برنامج تصحيحي لاستعادة ائتمانها الدولي وذلك في إطار ترتيب استعدادي ( stand by arrangement ) من بنك التسويات الدولية وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أصبحت حزمة الإنقاذ المالية هذه نموذجا يحتذي بالنسبة لعدد من الدول المدينة مثل البرازيل والأرجنتين ويوغوسلافيا.
وعل الرغم من أن نتائج هذه الاستراتيجية جاءت مشجعة خلال فترة الانتعاش النسبي في الاقتصاد العالمي خلال عامي 1983 و 1984، إذ تمكنت المكسيك والدول المدينة الأخرى من تخفيض العجز في ميزان معاملاتها الجارية وتحقيق فائض في الميزان التجاري ومن خفض نسبة التضخم، فإن هذه الإنجازات ما لبثت أن تلاشت بعد انقضاء فترة الانتعاش في الاقتصاد العالمي. وبات واضحا أن هذه الاستراتيجية تنطوي على تكلفة اقتصادية باهضة للدول المدينة لا يمكن احتمالها سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية. ذلك أن ما طرأ من تحسن على ميزان المدفوعات كان يرجع إلى خفض شديد في الواردات أكثر من نمو في الصادرات، واقترن ذلك بانخفاض كبير في حجم الاستثمارات ومستوى الاستهلاك والأجور الحقيقية ومعدلات النمو مع تفاقم عجز الموازنة ومعدلات التضخم. وأصبح من العسير الاستمرار في سياسة تبدو كأنها تنطي على التضحية باقتصاد البلاد المدينة في سبيل استرضاء لبنوك الدائنة وتمكينها من استفاء حقوقها.
ثانيا: التصحيح الائتماني:
بينما في المرحلة الأولى ساد الاعتقاد بأنه يمكن السيطرة على مشاكل الديون خلال فترة قصيرة نسبيا( ). أثبت الواقع العملي أن الأمر يقتضي نهجا أقوى في معالجة مشاكل الديون والنمو، وأن القضية التي تجري مواجهتها ذات طابع طويل الأجل. فالعيب الأكبر في تلك الاستراتيجية أن بؤرة الاهتمام فيها كانت إعادة التوازن الخارجي للبلاد المدينة، ولم تحظى اعتبارات النمو والتنمية باهتمام يذكر. ومن ثم أصبحت القضية الكبرى عام 1985 هي كيفية التوفيق بين ضرورة التوازن الخارجي وضرورة النمو والتنمية من ناحية أخرى. وفي ضوء هذا اقترح بيكر " برنامجا للنمو المستمر " وتقوم مبادرة بيكر على ثلاثة عناصر أساسية:
ـ التزام البلاد المدينة ببرنامج تصحيحي لا يقتصر على المتغيرات الكلية ( ) إنما يمتد إلى المتغيرات الهيكلية ( ) .
ـ زيادة التمويل الخارجي للبلاد، وذلك بزيادة الإقراض، من البنوك التجارية والبنك الدولي وبنوك التنمية الدولية الأخرى، إلى الدول ذات المديونية الثقيلة والتي تلتزم ببرنامج تصحيحي يتفق عليه مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ـ إعطاء دورا خاصا للبنك الدولي إلى جانب صندوق النقد الدولي وذلك بزيادة القروض التي يقدمها للبلاد المدينة والتعاون في صياغة المضمون الهيكلي للبرامج التصحيحية. هذا بجانب استمرار قيام صندوق النقد الدولي بدور رئيسي في معالجة مشكلة المديونية الدولية للبلاد متوسطة الدخل سواء من حيث مساعدة البلاد المدينة في صياغة البرامج التصحيحية أو من حيث تمويلها من موارده الخاصة والمساعدة في الحصول على قروض جديدة من البنوك التجارية.
وعلى الرغم من أن المغزى الرئيسي لمبادة بيكر هو الاعتراف بضرورة وضع مشكلة النمو والتنمية في مركز الاستراتيجية الدولية للديون، كما أنها تؤكد على الطابع طويل الأجل لعملية التغلب على صعوبات الدين، فإن هذا التحول في السياسة العامة تجاه تلك القضية لم يؤد إلى تغيير هام في المبادئ والافتراضات العامة التي تقيدت بها استراتيجية الديون منذ البداية.
وجدير بالإشارة في هذا المجال أن مبادرة وزير الخزانة الأمريكي برادلي لا تختلف كثيرا، من حيث جوهرها عن مبادرة بيكر أو خطة وزير الخزانة الياباني ميازاوا . فهدفها هو تسهيل تطبيق نهج صندوق النقد الدولي في معالجة أزمة الدين في البلاد ذات المديونية الخارجية الثقيلة.
ثالثا: قائمة الاختيارات:
وتدور أساسا حول ابتداع أدوات جديدة غير مجرد القروض التقليدية لاجتذاب البنوك التجارية نحو التعامل مع البلاد المدينة. وتتخذ تلك الأدوات صورا مختلفة، وتتفاوت فيما بينها من حيث طبيعة كل منها ومدى اتفاقها مع قوى السوق المالية. وفيما يلي نستعرض سريعا بعض منها:
1- تحويل أصل الدين إلى مشاركة الدائنين في ملكية بعض الأصول بالبلاد المدينة. وتعتبر هذه الطريقة من أخطر الأدوات الجديدة وأكثرها شيوعا. وقد نشأت فكرة تحويل الدين إلى مشاركة على أثر نشوء سوق يتم فيه تداول ديون البلاد النامية بسعر يقل عن السعر الاسمي لتلك الديون. ورغم ما تنطوي عليه سياسة تحويل الدين من بعض المزايا فإنها تخضع للعديد من العيوب. فمن ناحية يعتقد أنصار هذا الاقتراح أنه سيؤدي إلى تخفيض العجز الداخلي لهذه الدول، وتخفيف عبء ديونها، وتقليل حاجتها للاستدانة الخارجية، وتصبح هناك مشاركة بين الدائنين والمدينين في تحمل المخاطـر( ) . كذلك فهناك فائدة للدائنين، بما يؤدي إليه من تحويل جانب من الديون المشكوك في تحصيلها إلى أصول إنتاجية ذات عوائد مستمرة، وهنا يتحول الدائنون إلى مستثمرين مباشرين ( ) ، وتتحول أعباء الأقساط والفوائد إلى أرباح تحول للخارج ، فبحالة غدارة المشروعات بشكل ناجح، ومن ناحية أخرى فإن برامج التحول تتوفك على وجود ديون قابلة للتداول بخصم ملموس ، وهذا قد لا يتوافر على المستوى المطلوب . كذلك فإن برامج التحويل ما زالت في حدود ضئيلة بالقياس إلى الحجم الكلي لديون البنوك التجارية، ويرجع ذلك إلى عدم وجود مشروعات كافية تحفز المستثمر الأجنبي، أو لعدم ترحيب الحكومة بزيادة حجم الاستثمار الأجنبي ( ) . وأخيرا وليس آخرا فإن تحويل الدين الأجنبي إلى عملة محلية يصدرها البنك المركزي لا بد أن يؤدي إلى زيادة كمية النقد المتداول على النحو الذي يهدد بمزيد من التضخم. لذلك فإن برامج التحويل تسير ببطء شديد في معظم البلاد المدينة ( ) ، ولا ينتظر أن تشكل سياسة فعالة للتخفيف من عبء الديون الدولية .
2- سندات الخروج ( ) :
وتلجأ إليها بعض البنوك الصغيرة في الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تريد الاستمرار في تحمل نصيب من القروض الجديدة للبلاد النامية، وهي في ذلك تختلف عن البنوك الكبرى التي تشترك في القروض الاضطرارية التي ينظمها صندوق النقد الدولي. وفي هذه الحالة تقوم البنوك بتحويل قروضها إلى سندات بسعر فائدة منخفضة وآجال وفاء طويلة ثم تبيع هذه السندات بخصم كبير، الأمر الذي يمكنها من الخروج من هذه الحلبة. وفي نفس الوقت تستفيد البلاد المدينة من الشروط التساهمية لسندات الخروج. والواقع أن هذا الأسلوب محدود الأثر حيث أنه لا يمس النسبة العظمى من الديون المستحقة للبنوك الدولية.
3- تخفيض سعر الفائدة ووضع حد أقصى للفوائد المستحقة:
سبق وأن رأينا كيف ارتفعت أعباء الفوائد المستحقة على الديون الخارجية للبلاد المدينة، إلى الحد الذي سبب لها مشاكل جمة. وأصبحت مدفوعات الفوائد تلتهم نسبا متزايدة من حجم الاقتراض السنوي الجديد لتلك الدول. كذلك أدى تعويم سعر الفوائد المستحقة على القروض إلى تغير عبء الفوائد ارتفاعا وانخفاضا تبعا للتغير في السعر البيني ( ) أو السعر الممتاز ( ) . من هنا فقد ظهر العديد من المقترحات في الدوائر المالية والنقدية بالدول الدائنة للخفيف من هذا العبء الشديد مع ضمان تسديد الفوائد. ومن بين هذه المقترحات وضع سقف لمدفوعات الفائدة. ويتخذ ذلك صورا متعددة. فقد يكون في صورة اتفاق على متوسط سعر الفائدة ( ) ، وقد يتخذ السقف صورة حد أقصى لما يدفعه المدين في خدمة الدين ( ) ، وقد يتخذ صورة التزام من الدائن لتقديم قروض إضافية لتعويض الزيادة المتفق عليها ( ) . وهناك من يقترح عمل تسهيل تمويل تعويضي بصندوق النقد الدولي، يخصص للبلاد المدينة للسحب منه عند ارتفاع أسعار الفائدة. كذلك يرى البعض، أنه بالنسبة للقروض الجديدة ينبغي على المقرضين أن يقبلوا أسعار فائدة تقل عن أسعار الفائدة بالسوق، مقابل تملكهم لحصة ـ معادلة للفرق ـ في ملكية المشروعات المجودة بالدول المدينة. وهناك من ينادي بضرورة تزايد القروض المشتركة التي ينظمها البنك الدولي لتمويل حالات إعسار دفع الفوائد.
4- إعادة جدولة الديون:
مع انفجار أزمة الديون العالمية، وبالذات بعد نشوب أزمة القروض المصرفية في عام 1982، أصبحت عمليات إعادة الجدولة أمرا مألوفا في علاقات الدائنين بالمدينين ( ) .فهناك اتجاها متزايدا لهذه العمليات، سواء من حيث كثرة عدد الحالات، أو من حيث زيادة قيمة المبالغ المعاد جدولتها، أو منحين إعادة تكرار عمليات الجدولة للدولة الواحدة. وبعد أن كانت عمليات إعادة الجدولة تقتصر عادة على الديون الرسمية المعقودة بين الحكومات، تطورت الظاهرة لكي تشمل أيضا ديون البنوك التجارية. وعملية إعادة الجدولة ليست بالأمر اليسير أو الهين، فهي تنطوي على كلفة وعلى شروط مجحفة، وهي لا تعدو أن تكون تأجيلا لدفع فاتورة الحساب لفترة قادمة ز وكما هو الحال بالنسبة لقواعد نادي باريس، تتم مفاوضات إعادة الجدولة مع البنوك في إطار متعدد ( ) . صحيح أنه لا يوجد حتى الآن، إطار عام محكم ومحدد للمفاوضات المتعددة الأطراف لإعادة الجدولة للديون المصرفية ـ كما هو الحال لمجموعة القواعد والشروط العامة في إطار نادي باريس ـ ولكن ثمة نهجا مشتركا يطبق في هذه المفاوضات، وإن كانت كل حالة تتم معالجتها في ضوء خصوصياتها، كما أن المفاوضات مع البنوك شبيهة تماما بالمفاوضات مع نادي باريس، مع فرق رئيسي، وهو أن المفاوضات الأخيرة يتم التوصل إليها بسرعة، نسبيا، بالمقارنة مع المفاوضات مع البنوك. ويرجع ذلك إلى الطبيعة المعقدة لقروض النظام المصرفي وتعدد الدائنين. ويضاف إلى ذلك فارق آخر، وهو أن عبء كلفة التأخير على دفع المستحقات المجمدة هي أكبر في حالة الديون المصرفية عنها في حالة نادي باريس.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الاقتراحات والأفكار ما زالت بعيدة كل البعد عن تقديم علاج حاسم لمشكلة الديون الدولية. وهي إما محدودة الأثر وإما مجرد أفكار لم تدخل بعد حيز التطبيق. والأمر لا يخرج عن تأجيل مدفوعات الأقساط لفترات قادمة، ولكن بكلفة مالية وسياسية واجتماعية باهضة. أو التخفيف من عبء الفوائد على المدينين، أو تأجيل دفعها، مع عدم إنقاصها ووضع شروط ضامنة لذلك، أو بتحميل كلفة التأجيل أو التخفيض على عاتق الآخرين.
والواقع أن تلك المقترحات تنطلق من تشخيصها للمشكلة على أنها مجرد أزمة بسيولة دولية (، أي أنها أزمة وقتية لا تلبث أن تزول متى انحسرت الظروف التي أدت إلى قيامها. بيد أن أزمة الديون هي أزمة إعسار ( ) ، بمعنى أن البلاد المدينة لن تقوى على الوفاء بديونها الدولية حتى في أكثر الأحوال تفاؤلا إلا بتكلفة اقتصادية وسياسية باهضة لا يمكن احتمالها . جوهر الأمر إذن أن قضية الديون هي بعد رئيسي من أبعاد قضية أشمل وأعم وهي قضية التنمية. الخ.كانت أزمة المديونية العالمية هي قضية دولية فإنه لا يكفي لحلها، أن تقوم البلاد المدينة بإجراء التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية اللازمة، وإنما لا بد وأن يتغير إطار الاقتصاد الدولي وآليات سيره، مثل نظام النقد الدولي، وأوضاع التجارة العالمية، وسوق الإقراض الدولي، وآليات السيولة الدولية، والمنظمات الاقتصادية العالمية، وهيمنة الشركات المتعددة الجنسية..الخ .
إن التعديل الجذري للعلاقات غير المتكافئة القائمة بين الدول المدينة ودول العالم الرأسمالي لن تتحقق إلا عبر تعديلات جذرية وأساسية في النمط الراهن لتقسيم العمل الدولي، وخلق نموذج تنموي مستقل لهذه البلاد على النحو الذي يحطم قيود التبعية التي تربط البلاد المدينة بالبلاد الدائنة. وهي أمور تتصل بمهام الأجل الطويل. وعموما فإن فاعلية أي جهد تبدله الدول المدينة، على النحو الذي يصون استقراها السياسي والاقتصادي، ويحمي تنميتها وتقدمها الاقتصادي والاجتماعي من شبح الديون يجب أن يقاس بمعيار ذي بعدين رئيسيين: الأول هو مدى فاعلية هذا الجهد في رفع قدرة البلاد المدينة على الوفاء بأعباء ديونها الخارجية التي تراكمت في الماضي، مهما حدث من تخفيض في أعباء وحجم هذه الديون. والثاني هو مدى تأثير هذا الجهد على تقليل حاجة هذه البلاد للاقتراض الخارجي في الحاضر والمستقبل. والواقع أن تحقيق هذا الهدف يتطلب التفرقة بين الجهود المطلوب بذلها في الأجل القصير والمتوسط وتلك التي يتعين القيام بها عبر الأجل الطويل. فإذا كان المطلوب في الأجل القصير هو محاصرة الأزمة، فمن الضروري في الأجل الطويل الخلاص منها نهائيا. ولن يتأتى ذلك إلا بالوصول إلى تلك المرحلة التي يصبح بعدها الاقتصاد الوطني قادرا على الاستمرار في طريق التنمية دون الاعتماد بشكل أساسي على الموارد الأجنبية.
المراجـــع :
1- د.زينب حسين عوض الله . الاقتصاد الدولي. دار المعرفة الجامعية. مصر 1992 .
2- د. كامل بكري . الاقتصاد الدولي ، التجارة الخارجية والتمويل. الدار الجامعية .مصر2001 .
3- د. عادل أحمد حشيش.د . مجدي محمد شهاب. الاقتصاد الدولي.الدار الجامعية .مصر1988 .
4- د.سميرة إبراهيم أيوب .صندوق النقد الدولي،وقضية الإصلاح الاقتصادي والمالي .دراسة تحليلية
وتقييمية . جامعة الاسكندرية .2000 .
5- د. منير إبراهيم هندي . أساسيات الاستثمار في الأوراق المالية .منشأة المعارف .الإسكندرية
1999 .
6- د. غازي عبد الرزاق النقاش .التمويل الدولي والعمليات المصرفية الدولية .دار وارث
للنشر.1996 .
7- د.جبار محفوظ . البورصة وموقعها من أسواق العمليات المالية .الجزائر.2002.
8- د.عبد المطلب عبد الحميد . العولمة واقتصاديات البنوك . الدار الجامعية . مصر .2001 .
9- فرانسوالرو. ترجمة:د. حسين الضيقة. الأسواق الدولية للراساميل .م.ج.ن.ت.1991 .
10- ريمون برتران.ترجمة: محمود بهير أنسي .الاقتصاد المالي الدولي .دار المعرفة .1975 .
11- غايل فاين. ترجمة:كامل مجيد سعادة. توظيف الأموال .منشورات عويدات .لبنان.
12- جيمس س انجرام. ترجمة: اسماعيل مصطفى شدى . المشكلات الاقتصادية الدولية .دار
المعرفة. 1973.
13- .دومينيك سلفاتور.ترجمة: د.محمد رضا عبد العدل .الاقتصاد الدولي.
د.م.ج.الجزائر.1992 .
14- ali boukrami. les mécanismes monitaires et financiers internationaux.
e.n.p.Alger.1986.
15- roger dehem . précis d'economie internqtionale.dunod.1985.
16- maurice bye. G.destanne de bernis. Relations économiques fnternationales.
Dalloz.1977.