الملخص
تناولت هذه الدراسة موضوع فقه الأقليات المسلمة في مسائل الأحوال الشخصية (الزواج المدني)، وقد هدفت الدراسة إلى الحديث عن أبرز مسائل الأحوال الشخصية الموجودة في مجتمع الأقليات المسلمة في واقع الدول الغربية، وذلك وفق المنهج الفقهي الاستقرائي التحليلي في دراسة مسائل الفروع الفقهية مع مراعاة خصوصية واقع الأقليات المسلمة والظروف المحيطة بأفرادها.
وقد تناولت في هذا المبحث المطالب التالية:
المطلب الأول: الصيغة في عقد الزواج المدني.
المطلب الثاني: الاستشهاد في عقد الزواج المدني.
المطلب الثالث: الولي في عقد الزواج المدني.
المطلب الرابع: المهر في عقد الزواج المدني.
المطلب الخامس: القول المحتار.
وفي النهاية أقول إن أخطأت فمن نفسي، وإن أصبت فمنه سبحانه.
Abstract
This study dealt with the legal ruling, which concern the Muslim minorities in the personal status issues with the aim to studying the most important cases existing in the society of Muslim minorities in the Western countries, in accordance with the analytical juristic, inductive methodology in studying juristic disciplines issues taking into consideration the true state of affairs of Muslim minorities and the circumstances involving its individuals and consequently, perceive it within its special framework with in the general jurisprudence domain for the sake of achieving the aims of legislation represented in preponderances and judgments it reaches.
الزواج المدني
تمهيد:
يقصد بعقد الزواج المدني: ذلك العقد الذي يتم إجراؤه عند الجهات الحكومية المختصة في الدولة –وفي الغالب البلدية- ليخضع بطريقة إجرائه وشروطه وآثاره للقانون المدني المعمول به"(1).
ومعلوم أن الدول الغربية تشترط على مواطنيها ممن يحملون الجنسية إجراء عقود زواجهم بالطريقة المدنية وتسجيلها وتوثيقها عند الجهات المختصة حتى يتم الاعتراف بها سواء سبقه أو تبعه عقد زواج في دولة أخرى، أم في مركز إسلامي"(2) ، إلا أنه في النهاية يتعين إذا كان أحد الزوجين أو كلاهما ممن يحملون الجنسية أن يتم إجراء عقد زواج مدني، ولا يمتنع أيضاً إجراء عقد زواج مدني للمقيمين إقامة قانونية في الدولة" (3).
وبالتالي نستطيع – من خلال واقع الأقليات المسلمة في الغرب ومن خلال وجود شريحة منها ممن هم مواطنون أصليون أو ممن تجنسوا بجنسية هذه البلاد- إدراك أنهم ملزمون حسب القانون بإجراء عقد زواج مدني يضمن حقوق طرفي العقد ويحفظها من أثر عدم التوثيق والاعتراف بها.
ويعنينا بالبحث فيه – كأمر بدهي- ما كان منه بين مسلم ومسلمة أو بين مسلم وكتابية، كأحد أنواع عقود الزواج الرئيسة الموجودة في أوساط الأقليات المسلمة في الغرب.
ولدراسة هذا العقد ومعرفة حكمه من الصحة أو البطلان، نحتاج لمعرفة الكيفية التي يتم بها، وتلمس ما احتواه أو فقده من مقومات عقد الزواج الشرعي".
إن السلطة المدنية المختصة بعقد الزواج المدني تتبع إجراءات قانونية وإدارية هي في كثير منها إجراءات شكلية تصاحب إجراء أي عقد آخر، وليس فقط عقد الزواج وهذه قد تتشابه أو تتباين من دولة لأخرى، إلا أنها في مجموعها تطلب من المتعاقدين الأوراق الثبوتية، وإثبات مكان الإقامة وشهادة عزوبية، والأوراق الخاصة بمستوى الدخل وما شابه من الإجراءات الشكلية.
وبعد التأكد من صحة هذه الأوراق واعتمادها، يتم تحديد موعد لإجراء عقد الزواج المدني.
وفي مجلس العقد (4) يحضر طرفاه: الرجل والمرأة، مع شاهدين اثنين قد يكون أحدهما من طرف الزوج والآخر من طرف الزوجة، ولا يشترط أن يكون الشاهدان من معارف طرفي العقد.
ويقوم الموظف المسؤول بالتأكد من الأوراق الثبوتية للجميع، ومخاطبة الرجل والمرأة، والتأكد من حضورهما برغبة الإقدام على هذا العقد, ثم يقرأ عليهما القوانين التي تتعلق بحقوق الزوجين وواجباتهما تجاه بعضهما وتجاه أبنائهما، وما يلزمهما من إجراءات قانونية بالنسبة لسكن أسرتهما.
ثم يوجه سؤاله للرجل: هل ترغب بالزواج من ... (ويسمي المرأة) فيجيب بـ: نعم، وقد يقول: نعم أوافق على الزواج منها.
ثم يوجه سؤاله للمرأة: هل ترغبين بالزواج من ... (ويسمي الرجل) فتجيب بـ: نعم، وقد تقول: نعم أوافق على الزواج منه.
فيعلنهما زوجاً وزوجة وفق القانون المدني المعمول به، ويسجل ويوثق هذا العقد.
وبعد هذا العرض المبسط لكيفية إجراء عقد الزواج المدني أشرع في دراسته في المطالب الخمسة التالية:
المطلب الأول: الصيغة في عقد الزواج المدني.
المطلب الثاني: الإشهاد في عقد الزواج المدني.
المطلب الثالث: الولي في عقد الزواج المدني.
المطلب الرابع: المهر في عقد الزواج المدني.
المطلب الخامس: القول المختار في حكم عقد الزواج المدني
والله ولي التوفيق
المطلب الأول: الصيغة في عقد الزواج المدني:
وأتناولها بالبحث في مسألتين: المسألة الأولى: الصيغة إذا جاءت بغير العربية. المسألة الثانية: الصيغة إذا جاءت استفهامية.
الفرع الأول: الصيغة إذا جاءت بغير اللغة العربية:
ذهب جمهور الفقهاء إلى انعقاد الزواج بغير العربية، إذا كان أحد المتعاقدين أو كلاهما لا يفهم العربية (5) ، فيصح ممن لا يحسن العربية عقد الزواج بلسانه، لاعتبار عجزه عن اللغة العربية حين العقد من جهة، ولإمكانية إتيانه بالمعنى الذي يدل عليه اللفظ العربي من جهة أخرى(6).
أما إذا كان العاقد يفهم اللغة العربية ويستطيع العقد بها، ففي المسألة قولان رئيسان:
القول الأول: انعقاد النكاح بغير العربية:
وهو مذهب الجمهور من الحنفية (7) ، والمعتمد عند الشافعية (8) ، واختيار ابن تيمية من الحنابلة(9).
ودليل هذا القول أنه قد أتى بلفظ خاص بالزواج وإن كان بغير العربية، إلا انه كمعناه، فيقوم مقامه، وينعقد الزواج به.
القول الثاني: عدم انعقاد النكاح بغير العربية.
وهو الصحيح في مذهب الحنابلة(10) ، وأحد الأقوال عند الشافعية(11).
ودليل القول الثاني أنه عدول عن اللفظ الخاص بالزواج الوارد في القرآن الكريم الدال على انعقاده، مع القدرة عليه، فلا يقبل منه كما لا يقبل التكبير في الصلاة إلا باللغة العربية(12).
مناقشة القولين وبيان القول المختار:
إن قياس ألفاظ الزواج على ألفاظ التكبير في الصلاة غير متجه، ذلك أن الثاني يقصد منه العبادة، فاختص بألفاظ معينة بلغة واحدة هي اللغة العربية، بخلاف الألفاظ الدالة على عقد الزواج، فهي وإن وردت في القرآن الكريم كلفظ الزواج والإنكاح، لكن لم يكن القصد منها في العقد الإعجاز الذي يختص به القرآن الكريم – بل قصد منها التعبير عن إرادة هذا العقد والرضا به، بمعنى يصح به الدلالة على عقد الزواج- وهذا تستوي فيه العربية وغيرها، إضافة إلى أن إرادة التعبد بألفاظ عقد الزواج، بحاجة إلى دليل شرعي، ومعلوم أن عقد الزواج كغيره من العقود لا تعبد فيه من جهة اللفظ، بدليل صحته من الكافر وغيره(13).
وبالتالي فإن الألفاظ الواردة في صيغة عقد الزواج المدني وإن كانت ألفاظاً غير عربية إلا أن من شأنها أن ينعقد الزواج بها لأنها تدل بمعناها على ما يدل عليه اللفظ العربي من الإنكاح أو التزويج، وتعبر عما في نفس المتعاقدين من إرادة هذا الزواج والرضا به(15).
وهو ما يتفق مع قول الجمهور بانعقاد الزواج بغير اللغة العربية خاصة مع عدم وجود نص من الكتاب أو السنة على اشتراط اللغة العربية في انعقاد الزواج.
ولا بد من التنبيه في هذا المقام، على ضرورة فهم كل من العاقدين كلام نفسه وكلام الطرف الآخر، سواء عقد الزواج بالعربية أم بغيرها(16) حتى يقع الرضا والاتفاق بين الطرفين حول إرادة هذا العقد، وبالتالي تحقق الركن الأول فيه وهو الرضا من المتعاقدين المعبر عنه بالصيغة، لذلك وجدنا من الفقهاء من يقول بضرورة وجود مترجم بين العاقدين حين العقد إذا لم يفهم أحدهما لغة الآخر(17).
الفرع الثاني: الصيغة إذا جاءت استفهامية:
يظهر في عقد الزواج المدني – كما تمت الإشارة إليه مسبقاً- أن صيغته استفهامية، وذلك عندما يوجه الموظف المسؤول السؤال لكلا الطرفين: هل ترغب بالزواج من فلان (فلانة)؟ فيجيب بـ:نعم، فهل هذا يخالف اشتراط دلالة الإيجاب والقبول على إنشاء العقد إذ إنّ الصيغة إنما هي تعبير عن الإرادة الكامنة في نفس كل من المتعاقدين. ولذلك اختيرت صيغة الماضي لإفادة إنشاء العقد، لدلالتها على ثبوت إرادة العقد وتحققها عند كل من المتعاقدين قبل الإخبار بذلك، فتكون أدل على الوجود لإخبارها عن دخول المعنى المراد وتحققه بشكل تندفع به الحاجة عن إرادة سواه أو ما يخالفه(18).
فقول الولي للخاطب: زوجتك ابنتي، ورده عليه بـ: قبلت أو رضيت أو نحو ذلك(19) كلتاهما بصيغة الماضي، تدل دلالة واضحة على تحقق إرادتهما للعقد وثبوتها عندهما بشكل تندفع به الحاجة عن إرادة معنى آخر، وبذلك تكون صيغة الماضي دالة على إنشاء العقد.
وورد خلاف بين الفقهاء حول انعقاد الزواج بالصيغة الاستفهامية على النحو التالي:
القول الأول:
انعقاد الزواج بالصيغة إذا جاءت استفهامية، كأن يقول الخاطب للولي: أزوجت؟، فقال: نعم، وقال للزوج: أقبلت؟ قال: نعم، فقد انعقد النكاح إذا حضره شاهدان. وهو مذهب الحنفية(20) والحنابلة(21).
القول الثاني:
عدم انعقاد الزواج بهذه الصيغة حتى يقول معه: زوجتك ابنتي(22) ، ويقول الزوج: قبلت، هذا التزويج وهو المذهب عند الشافعية(22).
أدلة القول الأول:
استدل من قال بانعقاد الزواج بهذه الصيغة بعدة أدلة:
1. قالوا: إن "نعم" جواب لقوله: أزوجت؟ وأقبلت فالسؤال يكون مضمراً في الجواب معاداً فيه، فيكون نعم (من الولي) زوجت ابنتي، ومعنى "نعم" من المتزوج: قبلت هذا التزويج ولا احتمال فيه، فيجب أن ينعقد به(23).
2. اعتبار فهم الحال بما تقتضيه طبيعة المجلس، فإن صيغة الاستفهام السابقة الذكر إن كانت في مجلس للوعد، فهو وعد، وإن كان المجلس للعقد فهو عقد زواج(24).
3. إن المعنى المراد من صيغة عقد الزواج هو إرادة إنشاء هذا العقد واندفاع شبهة إرادة المساومة أو الوعد، فهو حكم معلل وليس تعبدياً(25) ، وهذه العلة قد تتحقق بأصل وضع اللفظ كما هو الأمر في صيغة الماضي، وقد يكون بما اقترن من القرائن ودلالة الحالة باللفظ المشار إليها في الدليل السابق- من الجلوس في مجلس العقد ونحوه، إذ إن الغالب والمعتاد أن المتعاقدين لا يجلسان في مجلس عقد الزواج إلا بعد الاتفاق مسبقاً على تفاصيل الزواج.
دليل القول الثاني:
- اعتبر أصحاب هذا القول أن على العاقدين الالتزام بصيغة الإيجاب والقبول من قول الولي للخاطب: زوجتك ابنتي، وقول الخاطب: قبلت أو وافقت، وما وافقها من صيغ في عقد الزواج- لأن هذه الألفاظ خاصة بالإيجاب والقبول اللذين يمثلان ركني العقد الذي لا ينعقد بدونهما(26).
القول المختار:
من خلال التأمل في الأدلة السابقة، وبالنظر في صيغة عقد الزواج المدني، عندما يوجه كاتب الأحوال المدنية، السؤال لكل من الرجل والمرأة، بقوله: هل توافق على الزواج من فلانة؟ فيجيب بـ: نعم، وهل توافقين على الزواج من فلان؟ فتجيب بـ: نعم، ندرك أنه يمكن القول بدلالتها على إنشاء العقد من أكثر من وجه.
أما الأول: فلأن قول كل من المتعاقدين نعم، إنما هو جواب لصيغة استفهامية وردت تلقيناً من الموظف المختص لإجراء عقد الزواج في مجلس ومكان مخصصين لهذا الأمر، فهذه الصيغة، وإن كانت بأصل وضعها لا تستخدم لإنشاء العقد إلاّ أن القصد من استعمالها هنا إثبات رضا الطرفين وإرادتهما لعقد الزواج في مجلس مختص بهذا الأمر، فيندفع بذلك احتمال إرادة غير الإنشاء، وتقوم قرينة الحالة بالدلالة على إرادة الإنشاء، وهذا هو المراد.
يقول ابن الهمام –رحمه الله تعالى: "… ثم لما علمنا أن الملاحظ من جهة الشرع في ثبوت الانعقاد ولزوم حكمه جانب الرضا كما نص عليه في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (سورة النساء، 29)، عددنا ثبوت الانعقاد ولزوم حكم العقد إلى كل لفظ يفيد ذلك بلا احتمال مساوياً للطرف الآخر… لا باعتبار وضعه للإنشاء بل باعتبار استعماله في غرض تحقيقه واستفادة الرضا منه، حتى قلنا لو صرح بالاستفهام، اعتبر فهم الحال في شرح الطحاوي، لو قال: هل أعطيتنيها؟ فقال: أعطيت، إن كان المجلس للوعد، فوعد، وإن كان للعقد فنكاح"(27).
والوجه الثاني: أن الجواب بنعم يضمر فيه صيغة السؤال معادة ومجاباً عليها. فكأنه يقول: نعم أوافق على الزواج من فلانة، وهي تقول: نعم أوافق على الزواج من فلان وقريب منه ما جاء في قوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ (الأعراف: 44)، كان إقراراً منهم بوجدان ذلك لأنهم قد وجدوا فعلاً ما وعدهم ربهم(28) ، فهذا يدل بلا احتمال على الرضا وإرادة إنشاء العقد.
الوجه الثالث: إن الملاحظ أن الموظف المتولي لإجراء عقد الزواج المدني، يوجه السؤال لكلا الطرفين لاستنطاقهما حتى يأتيا بصيغة تدل على رضاهما وإرادتهما لإنشاء العقد، وليس ليكون هو طرفاً في عقد الزواج، فجواب كل من المتعاقدين بـ: نعم، لا يمتنع الإضافة إليه من كل من المتعاقدين: رضيت، أو وافقت على الزواج من فلان أو فلانة... فيكون جمع إلى قوله نعم، صيغة الماضي الدالة على إنشاء العقد، بلا خلاف.
ومن كل ما تقدم ندرك أن علة الحكم على الصيغة من تحقيقها لإرادة إنشاء العقد وإثبات رضا كلا الطرفين بهذا الأمر، قد وجدت هنا في صيغة عقد الزواج المدني مع انتفاء احتمال غيرها، مما يعني إمكانية القول بانعقاد الزواج بها، والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني: الإشهاد في عقد الزواج:
يظهر من خلال الكيفية التي يتم بها إجراء عقد الزواج المدني ضرورة وجود شاهدين اثنين على العقد(29) فما موقع الإشهاد على عقد الزواج في الشريعة الإسلامية، وما هي الشروط الواجب توافرها في الشهود؟