الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ن أما بعد :
تخصيص يوم السبت بالصيام منهيّ عنه على الراجح من أقوال أهل العلم وهذا النهي للتنزيه لا للتحريم وبه قال جماهير السلف والخلف من أهل العلم ، وأما إذا صام يوما قبله أو بعده انتفت الكراهة وأصبح أمرا جائزا وبه تجتمع الأدلة الشرعية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم*يقول:لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا يوما قبله أو بعده.
و عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس قالت لا قال تريدين أن تصومي غدا –أي: يوم السبت- قالت : لا قال فأفطري.
وعن الصماء بنت بسر رضي الله عنها قالت :دخلت على رسول الله* صلى الله عليه وسلم* وهو يتغدّى وذلك يوم السبت فقال : تعالى فكلى . فقالت : إنى صائمة . فقال لها : أصمت أمس ؟ فقالت : لا قال: كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك.[1]
وعن كريب مولى ابن عباس: أن ابن عباس وناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم* بعثوني إلى أم سلمة أسألها الأيام التي كان رسول الله r* أكثر لها صياماً، قالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم وكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا وذكر أنك قلت كذا وكذا، فقالت صدق، إن رسول الله r أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، كان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم.[2]
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم* يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم.[3]
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما.[4]
وعن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان واتبعه بستٍ من شوال فكأنما صام الدهر.[5]
والغالب في* الذي يصوم يوما ويفطر يوما كذلك الذي يصوم ستا من شوال أنه يوافق أحدها يوم السبت، وقد استحب أهل العلم صيام ست من شوال متتابعة، وأيضاً لم يقل النبي r :وأتبعه ستاً من شوال إلا يوم السبت، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر فعن أبي هريرة رضي الله عنه* قال :وصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر.[6]
وهذا مطلق يشمل صوم ثلاثة أيام من الشهر , والسبت أحدها.
وأما حديث الصماء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصوموا يوم السبت إلا في ما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه. [7]
فدل هذا الحديث على تحريم إفراد صيام يوم السبت ما لم يوافق فرضا أو قضاء أو نذرا.
لكن وردت عدة نصوص شرعية صرفته إلى الكراهية -وقد سبق ذكرها-وأما إذا صام يوم السبت مقرونا بغيره فيصبح أمرا جائزا -وقد سقنا بعض تلك الأدلة فلتراجع- .
قال أبو عيسى الترمذي* رحمه الله : ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم يوم السبت.[8]
وقال ابن خزيمة رحمه الله:"باب النهي عن صوم يوم السبت تطوعاً إذا أفرد بالصوم بذكر خبر مجمل غير مفسر بلفظ عام مراده خاص، وأحسب أن النهي عن صيامه، إذ اليهود تُعظمه وقد اتخذته عيداً بدل الجمعة". ثم ذكر حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه* السابق. ثم قال: "باب ذكر الدليل على أن النهي عن صوم يوم السبت تطوعاً إذا أفرد بصوم، لا إذا صام صائم يوماً قبله أو يوم بعده". وقال: "في إخبار النبي* r* في النهي عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله أو بعده يوماً دلالة على أنه قد أباح يوم السبت إذا صام قبله يوم الجمعة أو بعده يوماً ثم قال: باب الرخصة في يوم السبت إذا صام يوم الأحد بعده": ثم ذكر حديث كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال ابن قدامة* رحمه الله : قال أصحابنا يكره إفراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " ، والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره لما قدمناه.[9]
وقال ابن القيم رحمه الله : وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديماً وحديثاً فقال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت، واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره وحديث النهي على صومه وحده، وعلى هذا تتفق النصوص.
وقال أيضا : وذلك يوجب العمل به ، وسائر الأحاديث ليس فيها ما يُعارضه لأنها تدل على صومه مُضافا ، فيُحمل النهي على صومه مفردا كما ثبت في يوم الجمعة ، ونظير هذا الحكم أيضا كراهية إفراد رجب بالصوم وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده .
وقال* رحمه الله : وعلى هذا فيكون معنى قوله r :لا تصوموا يوم السبت ، أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض ، فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت ، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده .
وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يُكره بخلاف قصده بعينه في النَّفل فإنه يكره ، ولا تزول الكراهه إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة ، فالْمُزِيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا المقارنة بينه وبين غيره ، وأما في النَّفل فالْمُزِيل للكراهة ضمّ غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك .
والجمع بين الأحاديث هو المتعيّن.
وقال المناوي* رحمه الله* -في شرحه لحديث بن بسر رضي الله عنه* -:لا تصوموا يوم السبت إلا في فريضة..، وهذا النهي للتنزيه لا للتحريم، والمعنى فيه: إفراده كما في الجمعة، بديل حديث :صيام يوم السبت لا لك ولا عليك، وهذا شأن المباح، والدليل على أن المراد إفراده بالصوم حديث عائشة: إنه كان يقوم شعبان كله، وقوله: إلا في فريضة ، يحتمل أن يراد ما فرض بأصل الشرع كرمضان لا بالتزام كنذر ويحتمل العموم.[10]
وقال الشوكاني رحمه الله:وقد جمع صاحب "البدر المنير" بين هذه الأحاديث فقال: النهي متوجه إلى الإفراد.[11]
وقال ابن عثيمين رحمه الله : إن أفرد فهو مكروه، وإن جمع مع يوم الأحد الذي بعده، أو يوم الجمعة الذي قبله فلا كراهة في ذلك وهذا هو الأقرب.اهـ[12]
ونظير هذا الحكم أيضاً: كراهية إفراد رجب بالصوم وعدم كراهيته موصولاً بما قبله أو بعده ونظيره أيضاً: ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان: أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه، وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول، فلا يكره.
وخلاصة الأمر أنه لا يكره صيام يوم السبت إذا صام يوماً قبله أو بعده ويكره إفراد يوم السبت بصيام لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ،وهذه الكراهة كراهة تنزيهية.
وذهب بعض أهل العلم إلى تحريم صيامه مطلقا-أي:يوم السبت في غير الفرض- ،وهو غير وجيه والله أعلم ،وذلك لما يلي:*
أولا :
تقديم الترجيح على إمكانية التوفيق والجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض،وهذا خلاف ما عليه الأئمة، ولا يلجأ إلى الترجيح -كما هو معلوم- إلا عند تعذر الجمع و هو غير متعذر في هذه المسألة، وهذا مما لانزاع فيه عند الأصوليين.
قال النووي رحمه الله :ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها.[13]
وقجاء في "المحصول": العمل بكل منهما من وجه، أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر، انتهى. وبه قال الفقهاء جميعاً.[14]
وقال أحمد شاكر رحمه الله : إذا تعارض حديثان ظاهراً ، فإن أمكن الجمع بينهما فلا يُعدَل عنه إلى غيره بِحالٍ ، ويجب العمل بهما.[15]
وقال الشنقيطي رحمه الله :وإنما قلنا إن هذا القول أرجح عندنا لأن الجمع واجب إذا أمكن ، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة كما علم في الأصول.[16]
ثانيا :
الترجيح بين أحاديث غير متساوية في القوة ،وترجيح حديث ليس في البخاري أو في مسلم وقد اختلف حكم الأئمة فيه اختلافا كبيرا –فأكثرهم على رده[17]- على أحاديث الإباحة منها ما هو متفق عليه ومنها ما انفرد به البخاري أومسلم التي تلقتها الأمة بالقبول، وهذا مخالف لما أجمع عليه المحدثون من طرق الجمع فتنبه.
قال النووي رحمه الله :الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري و مسلم، ثم ما انفرد به البخاري،ثم مسلم، ثم على شرطهما، ثم على شرط البخاري، ثم مسلم، ثم صحيح عند غيرهما. قال السيوطي في "التدريب":فائدة التقسيم المذكور تظهر عند التعارض والترجيح.
وقد ذكر أبو زهرة رحمه الله في "أصول الفقه": أن علماء الحديث مجمعون على ما ذكره النووي آنفاً، ثم قال: وقال جمهور الفقهاء: أنه يقدم بعد ذلك ما كثر رواته ...إلخ.
ثالثا :
ورود الأحاديث -التي سبق ذكرها- الدالة على الإباحة صرفت دلالة حديث النهي عن صوم يوم السبت منفردا في غير يوم فريضة إلى الكراهة التنزيهية ،ومن المقرر أن الأصل في النهي- إذا تجرد عن القرائن التي تصرفه عن أصله - التحريم ، وإن وجد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة فهو لكراهة التنزيه.
قال ابن تيمية رحمه الله* : المقرر عند عامة الأصوليين أن النهي عن الشيء قاضٍ بتحريمه أو كراهته على حسب مقتضى الأدلة.[20]
رابعا :
فتوى عبد الله بن بسر رضي الله عنه* -وهو راوي حديث النهي- لمن سأله عن صيام السبت فقال: صيام السبت لا لك ولا عليك، ـ فهو لا يقول بحرمة صيام السبت فقوله رضي الله عنه :"لا عليك"، دليل قاطع على رفع الإثم عن صائم يوم السبت، فحينئذ يحمل النهي على الكراهة إذ لا إثم على من أتى بالمكروه، أما معنى قوله :" لا لك و لا عليك"، فقد قال العلامة المناوي في:صيام يوم السبت لا لك ولا عليك أي لا لك فيه مزيد ثواب ولا عليك فيه ملام ولا عتاب....[21]
قال الشيخ الألباني رحمه الله* وقوله: "و لاعليك "هذا معناه أنك إذا صمته فليس عليك وزر تؤاخذ عليه.[22]
فإن عبد الله بن بسر رضي الله عنه* هو راوي الحديث المرفوع* وجوابه رضي الله عنه هو ما فهمه مما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ففهمه مقدم على فهم غيره لأنه راوي الحديث ،وفيه أنه ينفي الإثم عمن صام يوم السبت.
فقوله الموقوف حجة لأنه لم يعلم له مخالف من الصحابة ولا فهمه خالف نصا شرعيا ،ولم يعرف عنه رضي الله عنه أنه كان يأخذ من الإسرائيليات ، فوجب تقديم فهمه على فهم من بعده وهو فهم السلف في هذه المسألة عبر هذه القرون الذي يجب أن يرجع إليه وذلك لعدم المخالف.
خامسا :
القاعدة* التي استدل بها بعض أهل العلم -على تحريم يوم السبت في غير الفرض- وهي أن:"الحاظر مقدم على المبيح" وهي من قواعد الترجيح لا الجمع فتنبه ،والذي عليه أهل العلم أنه لايصار إليها إلا عند تعذر الجمع وهو غير متعذر، وهي من قواعد الترجيح من قبل المتن وهذا لا يكون إلا بين الأدلة المتساوية في القوة وقد سقت آنفا عدة نصوص شرعية مفادها إباحة صوم يوم السبت في غير الفرض مقترنا بغيره من الأيام .
منها: ما هو متفق عليه .
ومنها : ما هو في البخاري أو مسلم مما تلقته الأمة بالقبول.
أما حديث النهي عن صيام يوم السبت فأكثر أهل العلم لا يرون ثبوته فضلا عن العمل به لكن الصحيح أنه يحسّن بالشواهد والمتابعات.
قال الشوكاني رحمه الله: ومن شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه ولم يجز المصير إلى التراجيح.[23]
كذلك هذه القاعدة-الحاضر مقدم على المبيح- من الخطأ تنزيلها في مثل هذه المسألة لأن حديث عبد الله بن بسر رضي الله حاضر يقابله حاضر آخر وهو حديث جويرية رضي الله عنها والمسلك الصحيح الجمع بين النصوص الشرعية إذا أمكن لا الترجيح وهو غير متعذر في مثل هذه المسألة.
سادسا:
القاعدة التي اعتمد عليها بعض أهل العلم في تحريم صيام يوم السبت في غير الفرض- وهي تقديم القول على الفعل وهي محلّ تأمّل ،وذلك لما يلي:
حديث جويرية رضي الله عنها قولا ، وحديث ابن بسر رضي الله عنه* قولا ،فقول عارضه قول ، وليس ثمة قول وفعل فتنبّه.
والقول والفعل والتقرير منه r كلّه حجة على السواء ولا يفرق بينها إلا بالمرجحات لا بمثل هذه القاعدة التي اعتمد عليها الشيخ رحمه الله ،وذلك لعموم قوله تعالى
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) ،وأمره يشمل قوله وفلعه وتقريره على السواء،ولقوله تعالى : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}الآية ووجه الشاهد أن الفعل والقول وتقريره r كل ذلك يشمله الذكر.
قال شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي حفظه الله -رادا على هذه القاعدة- :
اعلم** بأن** فعله قد* احتوى******** جميع أنواع البيان* فانطوى
فالقول والفعل سواء في* البيان******** إذ " لتبين" صريح* قد أبان
فلو** تعارضا*** نرجّح*** بما******** نرى* مرجّحا* فهذا المعتمى
إذا تعارض القول والفعل الأرجح أن يسلك فيه مسلك الترجيح .
قال أبو المظفر رحمه الله :وإن تعارض قوله وفعله في البيان ففيه أوجه من أصحابنا-يعني الشافعية- من قال:القول أولى من الفعل لتعدّيه بصيغته.
ومنهم من قال:الفعل أولى لأنه أدل وأقوى في البيان على ماسبق من خبر حلق الرأس في الحديبية.
ومن أصحابنا من قال:هما سواء وعندي أن هذا هو الأولى ولابد من دليل آخر لترجيح أحدهما على الآخر ووجه التسوية ماذكرناه في المسألة الأولى وهو اتفاق الصحابة ي على التسوية بين القول والفعل وأخذهم بيان الشرع منهما على* وجه واحد من غير ترجيح والكتاب يدل أيضا على ذلك وهو المواضع التي ذكرناها والله أعلم .انتهى كلام السمعاني رحمه الله ،وهو كلام نفيس وتحقيق أنيس.
وخلاصة القول في المسألة أن الحق أن الفعل والقول سواء في بيان الشرع ؛فلوتعارضا طلب الترجيح ولا يقال :إن القول أولى بالتقديم والأدلة على ذلك كثيرة:
منها :عموم قوله عز وجل{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}الآية ,ووجه ذلك أنه أطلق البيان فدخل فيه الفعل كالقول فهما في البيان سواء.
*و منها: قولة تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } الآية،فالائتساء بقوله على سواء.
و منها : ما أخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تواصلوا "، قالو: إنك تواصل ، قال: " لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى " ووجه ذلك أنه لما نهاهم عن الوصال، ثم واصل ظنوا أنه نسخ، فواصلوا ، فسألهم عن سبب مخالفتهم لنهيه ، فاحتجوا بفعله ، فلو كان القول مقدما لقال لهم : إذا تعارض قولي وفعلي، فخذوا بقولي ، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن الفعل مثل القول ، فيكون تعارضه كتعارض القولين ، فيسلك مسلك الترجيح، فالنبي* صلى الله عليه وسلم أقرّ الصحابة على معارضتهم قوله* بفعله ، لكنه بين لهم أن هذا من خصوصياته ، وإذا كان الفعل خاصا به، فلا يعارض القول، وهذا الحديث من أقوى الحجج لهذه المسألة، فتأمله بإنصاف،ولاتكن أسير التقليد فإنه حجة البليد،ومتمسك العنيد.
و منها : اتفاق الصحابة ي على ذلك ، كما سبق في كلام* السمعاني المذكور، فكان بعضهم يحتج على بعض بالقول ، فيعارضه الآخر بالفعل ، فابن عباس رضي الله عنهمالما سمع أن كسب الحجام خبيث، قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو كان حراما لما أعطاه ، متفق عليه، وقد سبق* أن ابن عمر رضي الله عنهما احتج على جواز استدبار القبلة عند قضاء الحاجة في البنيان* بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه ، وقال جابر* رضي الله عنه : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول ،فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها ، حديث حسن ، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن.
وبالجملة لو سلكنا نعدد ما وقع للصحابة ي من هذا النوع لخرجنا عن موضوعنا ، فينبغي مراجعة كتب السنة في ذلك.
وإنما أطلت في المسألة لأني رأيت أهل العلم الجامعين بين الرواية والدراية ، كالشوكاني رحمه الله يقولون دائما :لا يعارض الفعل القول ،فالفعل له، والقول لنا، فلو قرأت كتابه "نيل الأوطار" من أوله إلى آخره لرأيت العجب العجاب من هذا القبيل ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب.اهـ[24]
سابعا:
ومن الأدلة التي استدلوا بها في منع صوم يوم السبت إلا في صوم فرض ،وهي قولهم في* حديث الصماء رضي الله عنها أن الاستثناء فيه دليل التناول بحيث أن النهي يتناول كل صور صوم النفل إلا صورة الفرض كقضاء ونذر ونحو ذلك والجواب عليه ما يلي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول r ومسجد الأقصى.[25]
"فظاهر النص أن شد الرحال مطلقاً وعلى العموم لا يجوز إلا إلى ثلاثة مساجد وهذا النهي من أبلغ النهي وأشدّه.
قال الطيبي رحمه الله: هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزياره إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به.
وقال ابن حجر* رحمه الله : والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد.[26]
ومع ذلك وجد في الأدلة جواز سفر عبادةٍ كالرحلة في طلب العلم كسفر موسى إلى الخضر عليهما السلام ، وسفر الصحابة لذلك ، والسفر لزيارة الأصدقاء وصلة الأرحام كحديث الرجل الذي زار أخاً له في الله وسافر لذلك فأرصد الله على مدرجته ملكاً ، وكمن سافر عن بلده السيء إلى بلد صالح كحديث الذي قتل مائة نفس
وغير ذلك من الأدلة التي تبين أن المراد بشد الرحال لا يقصد به عموم السفر بل إذا قصد به التعبد في بقعة معينة أو لفضل مكان معين غير المواضع المستثناة..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله* : يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك. فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان.[27]
وهذا التفسير أوجبه تلك الأحاديث التي تعارضه ، ولا يقال هنا : إن الحاظر مقدم على المبيح أو القول مقدم على الفعل أو أن الاستثناء دليل التناول فلا يستثنى غيرها ..
فمن قارن بين هذا الحديث ، وبين حديث النهي عن صيام السبت في غير الفرض عرف أن الذي أوجب تفسير الحديث بخلاف ما يظهر منه هو النصوص المعارضة ..
والجمع مقدم على الترجيح..
المثال الثاني:
عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة.[28]
ومع أن الاستثناء دليل التناول ، وعليه يكون معنى الحديث أن دم المسلم لا يحل إلا في هذه الحالات الثلاث ولا يجوز استثناء حالة رابعة حتى لا يكون استدراك على الشرع!!
وهذا غلط،بل قد جاء في الشرع استثناءات أخرى كقتل اللوطي ، وفاعل الفاحشة بالبهيمة.
وعمل من عمل بتلك الأحاديث جمعا بين النصوص..".[29
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي
18/10/1434
مكة المكرمة
الحواشي :
[1] ـ أخرجه أحمد (27121) وحسنه الألباني في "الصحيحة" (225)،وفي " صحيح الجامع" (3852).
[2] ـ أخرجه البيهقي (8280)، وأحمد (26750), ،والنسائي في الكبرى (2788)، و ابن حبان في "صحيحه"(3616) وصححه ،و ابن خزيمة في "صحيحه"(2167)،وصححه،والحاكم في "مستدركه"( 1593)وصححه ووافقه الذهبي، كلهم عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن كريب به .
وهوحديث حسن ، خلافا لمن ضعفه بحجة جهالة حال راويين وهما :عبدالله بن محمد بن عمر وأبيه،وهو مردود :
فإن عبد الله بن محمد بن عمر هو : عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو محمد، وأمه: خديجة بنت علي بن الحسين، يلقب بدافن. روى عن: أبيه، عن جده. روى عنه: ابنه عيسى بن عبد اللّه، وابن المبارك، وأبو أسامة، وغيرهم. قال ابن سعد: مات آخر زمن أبي جعفر روى له: أبو داود، انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (16/ 3546).
ومحمد" بن عمر بن علي بن أبي طالب الهاشمي أمه أسماء بنت عقيل روى عن جده مرسلا وأبيه وعمه محمد بن الحنفية وابن عمه علي بن الحسين بن علي والعباس بن عبيد الله بن العباس وعبيد الله بن أبي رافع وكريب مولى ابن عباس وغيرهم روى عنه أولاده عبد الله وعبيد الله وعمر وابن جريج وابن إسحاق ويحيى بن أيوب وهشام بن سعد وغيرهم قال بن سعد قد روى عنه وكان قليل الحديث وكان قد أدرك أول خلافة بني العباس وذكره ابن حبان في الثقات قلت وقال روى عن علي ذكره ابن حبان في " الثقات "، وأكثر روايته عن أبيه وعن على بن الحسين. روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، والثوري. كنيته: أبو عبد اللّه، وأمه: أسماء بنت عقيل بن أبي طالب، وكثر روايته عن أبيه، وعليّ بن الحسن. وجده: عمر بن علي بن أبي طالب، ذكره ابن حبان. أيضاً في" الثقات "، وقال: يروي عن: أبيه، روى عنه: ابنه محمد بن عمر، قتل سنة سبع وستين، أمه: أم النجوم بنت جندب بن عمرو، وفي " الكمال " قال أحمد بن عبد اللّه: هو تابعي ثقة. روى له: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه ،انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (12/ 4289) .
قال البرقاني : قلت للدارقطني الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن ابيه عن جده عن علي ،فقال:كلهم ثقات.
وقال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري"(2/711):محمد بن عمر بن علي وثقه الدارقطني وغيره.
وقبل حديثه* الألباني / كما في " الصحيحة" (1904)*
انظر :"التاريخ الكبير" (5/187)، و"الجرح والتعديل" (5/155)، و"الثقات" لابن حبان (5/353)و"سؤالات البرقاني" (ص22)، و"تهذيب الكمال" (16/94)، و"التهذيب" (6/16)، و"التقريب" (321/ت3595),"ميزان الاعتدال"(3/668)
وممن صحّح هذا الحديث:
*ـ شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاقتضاء"(2/575)******
ـ ابن القيم* الجوزية في" زاد المعاد" 2/79
(أراه حسنا))
ـ ابن مفلح كما في "الفروع" (3/92)- قال :"صححه جماعة وإسناده جيد"
ـ وحسنه ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام(4/269)
ـ الشيخ عبد العزيز ابن باز كما في "مجموع الفتاوى"(15/411)
وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (ظ¤ظ¨ظ*ظ£) ثمَّ ترجَّح عنده ضعفُ إسناده كما بيَّنه في «السلسلة الضعيفة» (ظ£/ ظ¢ظ،ظ©) وفي «الإرواء» (ظ¤/ ظ،ظ¢ظ¥)، ثمَّ قال على هامش «الإرواء»: «وقد حسَّنتُه فى تعليقى على «صحيح ابن خزيمة» (ظ¢ظ،ظ¦ظ¨) ولعلَّه أقرب فيعاد النظر».
وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط وشعيب في تعليقهما على الحديث في «زاد المعاد» لابن القيِّم (ظ¢/ ظ§ظ¨): «وسنده حسنٌ لأنَّ عبد الله بن عمر وأباه قد وثَّقهما ابن حبَّان وروى عنهما أكثرُ من واحدٍ».
[3] ـ تقدم تخريجه
[4] ـ أخرجه البخارى (3238) ، ومسلم (1159)
[5] ـ تقدم تخريجه
[6] ـ أخرجه البخاري (1124)
[7] ـ أخرجه أحمد (27120) ، وأبو داود (2421). والنسائي (2762) ، والترمذى (744) وقال : حسن . وابن ماجه (1726) ، والحاكم (1592) وقال : صحيح على شرط البخارى . والبيهقي (8276) . وابن خزيمة (2164) ، والطبراني (820) ،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2421).
[8] ـ "سنن الترمذي" (3/120).
[9] ـ "المغني" (3/171).
[10] ـ "فيض القدير" (6/408).
[11] ـ "نيل الأوطار"( 4/340).
[12] ـ "فتاوى منار الإسلام" (2/365-366).
[13] ـ "شرح مسلم" (3/155)
[14] ـ "الإرشاد "(ص :276)
[15] ـ "الباعث الحثيث" (2/482) .
[16] ـ "أضواء البيان" (2/304) .
[17] ـ الأئمة الذين لم يقبلوه:
1 . ابن شهاب الزهري ( ت 124) قال: حديث حمصي ولم يعده حديثاً كما قال الطحاوي.
2. الأوزاعي (ت 157) قال: ما زلت له كاتماً حتى رأيته انتشر.
3. مالك بن أنس (ت 179) قال: هذا كذب.
4. يحيى بن سعيد القطان ( ت 194 ) أبى أن يحدث الإمامَ أحمد به وكان ينفيه.
5. أحمد بن حنبل (ت 241) وقد نقل عنه ذلك الأثرم كما في الاقتضاء لابن تيمية.
6. أبو بكر بن الأثرم ( ت 261 ) قال: شاذ أو منسوخ كما في الاقتضاء.
7. أبو داود ( ت 275) قال: منسوخ، نسخه حديث جويرية .
8. النسائي ( ت 303 ) قال: مضطرب.
9. الطحاوي ( ت 321 ) قال: شاذ.
10. ابن العربي ( ت 543 ) قال: لم يصح فيه الحديث.
11. ابن تيمية ( ت 728) قال في الاقتضاء: شاذ أو منسوخ.
12. ابن القيم ( ت 751 ) قال في "تهذيب السنن": شاذ أو منسوخ.
13. ابن مفلح ( ت 762 ).
14. ابن حجر ( ت 852 ) قال: مضطرب.
15. ومن المعاصرين العلامة ابن باز فقال: منسوخ أوشاذ، وشيخنا ربيع بن هادي وغيرهم.
[18] ـ اتفق العلماء الذين قالوا بصحة حديث عبد الله بن بسر في النهي عن صيام السبت على حمل هذا النهي على الكراهة :
*1. الترمذي ( ت 279 ) قال: حسن.
2. ابن خزيمة ( ت 311 ) أورده في صحيحه.
3. ابن حبان ( ت 354 ) أورده في صحيحه.
4. الحاكم ( ت 405 ) قال في المستدرك: صحيح على شرط البخاري.
5. ابن السكن ( ت 353 ) ذكره الشيخ الألباني في المصححين.
6. الضياء المقدسي ( ت 643 ) في المختارة.
7. ابن قدامة ( ت 620 ) قال في الكافي: وهذا حديث حسن صحيح.
8. النووي ( ت 676 ) قال في المجموع : يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له لحديث الصماء.
9. ابن عبد الهادي ( ت 744 ).
10. الذهبي ( ت 748 ) أقر الحاكم على قوله: صحيح على شرط البخاري.
11. العراقي ( ت 806 ) قال: حديث صحيح.
12. ابن الملقن ( ت 804 ) قال: والحق أنه حديث صحيح غير منسوخ.
[19] ـ وأما ما نقله بعضهم عن الإمام الطحاوي : أنه نقل قول السلف بتحريم صيام يوم السبت فليس بصحيح فقد قال في "شرح معاني الآثار"ما نصه (قال أبو جعفر فذهب قوم إلى هذا الحديث فكرهوا صوم يوم السبت تطوعاً وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بصومه بأساً)
وما ذكره ليس فيه أنهم قالوا بالتحريم أو عدم جواز صيامه بل إنهم قالوا بالكراهة فقط، وهو : يذكر المذهبين المشهورين في هذه المسألة، الأول: كراهة صومه وتزول هذه الكراهة إما باقترانه بغيره أو موافقته لعادة أو عدم تخصيصه بالصوم، و الثاني: عدم الكراهة، فيظهر من ذلك أن من استشهد بكلام الطحاوي على نقله عن السلف القول بالتحريم لا يؤيد مذهبه
[20] ـ "مجموع الفتاوى" (27/201)
[21] ـ "فيض القدير" (4/230)
[22] ـ في الشريط(182) من "سلسلة الهدى والنور"
[23] ـ "الإرشاد"(ص :276)
[24] ـ "المنحة الرضية في شرح التحفة المرضية"(1/433ـ 434)
[25] ـ أخرجه البخاري (1189)ومسلم ( 1397 )
[26] ـ "فتح الباري"(3/64)
[27] ـ "مجموع الفتاوى"(27/21)
[28] ـ أخرجه البخاري (6484)* ومسلم (1676).
[29] ـ مابين المعكوفتين نقلته من مقال معنون بــ" القول القويم في استحباب صيام يوم السبت في غير الفرض من غيرتخصيص ولا قصد تعظيم".
رد مع اقتباس