تناولي هذا الموضوع ليس فقط لدواعي السلامة في معظم عواصم ومدن العالم العربي، وهذا مهم، وليس فقط لترشيد الإنفاق وإيجاد البدائل لبعض الهدر المالي، وهذا مهم أيضاً، بل للتوقف عن استمرار ارتكاب الأخطاء والتعايش معها، وكأن الوضع جيد ومقبول. بيئة البناء والتنمية والمحافظة على الصحة الفردية والقدرة على التنافس لا يمكن أن تقترن بوجود العشوائية التي ينعدم فيها النظام والقانون ثم يصبح كل ذلك لا حسياً واقعاً مقبولاً.
لفت انتباهي في حديث الرئيس الاميركي ترامب مع محطة cbn الأسبوع الماضي تناوله موضوع إعادة تقويم وتجديد البنى التحتية في الولايات المتحدة، والتي ينوي الرئيس إعادة هيكلتها في مدن وولايات عدة. تحدث تحديداً عن الطرق واستشهد بمقاول يملك ويؤجر الآليات الخاصة بالبناء، وكان هذا الرجل مهتماً في السابق باقتناء أفضل العربات والآليات ويقوم بتنظيفها وتلميعها، أما اليوم وبسبب رداءة الطرق قرر خفض المعايير واقتناء عربات وآليات بمواصفات أقل. الرجل يتحدث عن الخراب الذي تواجهه العربات الغالية الثمن بسبب إهمال صيانة الطرق أو صيانتها بجودة متوسطة.
أحد الأصدقاء في الرياض اقتنى سيارة ألمانية جديدة قبل سنتين، ومنذ ذلك الحين قام باستبدال عدد من قطع الغيار المتصل بسبب تلفها بكثرة المطبات والحفر. ليتنا اكتفينا بقبول الأخطاء في التنفيذ لكننا وحتى بعد التعبيد الجديد للطريق نضع ما يسمى «عيون قطط» متعددة الأحجام وفي كل مكان. لا أذكر أي منطقة في العالم تستنزف هذا العدد من هذا الاختراع المصمم أصلاً للطرق السريعة غير المضاءة. في السعودية أصبحنا نضعها في المدن وبكثافة شديدة في الشوارع والطرق وفوق الجسور وفي الأنفاق كبديل من الطلاء الأبيض والأصفر. النتيجة إضرار في الإطارات وخصوصاً في مثل هذه الأجواء وتأثير مدمر على تماسك جميع أجزاء هيكل السيارة بسبب الانتفاض المستمر وبتردد ثابت. وكما هي حال الإنسان فقد قبلنا بها وأصبحت أمراً واقعاً وغير مستنكر. والمؤسف أكثر أنها لم تمنع السائق من تغيير المسارات برعونة ولم تمنع من تخفيف السرعة في غياب العقوبات. فوق كل ذلك تعمدنا وضع الأجسام الأسمنتية فوق الرصيف الجديد في الشارع الجديد، والقصد ليس الجمال والزينة كما قد يظن البعض بل لمنع السائق من قيادة سيارته فوق الرصيف. مرة أخرى نلجأ للعوائق بسبب فشلنا في إثبات وجود النظام الذي يعاقب من يقفز فوق الرصيف وفشلنا في تأكيد هيبة الشرطة والمرور. نضع هذه الحواجز بالضبط كما يلجأ صاحب الحظيرة لمنع الماشية من الخروج. كم تبلغ تكاليف عيون القطط وهذه المجسمات الأسمنتية؟ ألم يكن بمقدورنا استثمار هذه التكاليف الباهظة في رفع الوعي وتطوير الأجهزة الرقابية نفسها وتدريب مهارات الأفراد وبناء نظام مرور صارم مهاب؟
أعرف أننا تأخرنا كثيراً عن الإصلاح، والمدن الرئيسة في عالمنا العربي تضخمت وأصبح صعبة السيطرة عليها بقرار أو لوائح جديدة في يوم وليلة. الرياض بعد أن كنا نتوقع منافستها نظامياً أي مدينة في شمال أميركا قبل أربعة عقود أصبحت غير بعيدة من العشوائية الطاغية في وسط مدينة القاهرة على رغم كل ما يتم إنفاقه على الطرق. اليوم لم تعد الحلول سهلة. تحدثت في مقالة سابقة عن الحاجة إلى تقسيم المدن إدارياً في ما يخص تقديم الخدمات، ومنها المرور والشرطة بما يسهل إحكام الرقابة على منطقة صغيرة ومحددة وخلق التنافس بين هذه المناطق ومكافأة المتفوقين الذين أنجزوا ونجحوا في تحقيق الأهداف. تحدثنا عن ضرورة استحداث ما يعرف بقوانين الاشتباك الحالية (ما المفروض أن يحدث مع توقيف المخالف؟) التي تتيح للسائق الوقوف والنزول من السيارة للتفاوض وشرح المبررات لرجل الأمن بما يتيح السماح والتغاضي عن المخالفة في ما بعد. تحدثنا عن الحاجة إلى ضبط وتغريم الوقوف في الأماكن الممنوعة. تحدثنا عن المرور السري، وهذا تم تطبيقه في السعودية، لكنه لم يعد سرياً مع الأسف كون قائد هذه العربة «السرية» أصبح يشعل أضواء التحذير الخاصة بعربات الشرطة والمرور، التي يفترض، ما لم يكن في عملية قبض، أن تبقى مطفأة، سواء كان واقفاً أو متحركاً، ومع هذا التصرف لم يعد وجوده سرياً.
خطورة عدم البدء بتطوير هائل بما يشبه الانقلاب على كل المفاهيم السابقة في أنظمة وقواعد المرور والشرطة تحديداً تكمن في قبول وتعايش المواطن والمقيم مع ممارسة الخطأ. باستثناء المنامة ودبي وربما مسقط (في هذه المدن بالمناسبة لا تكاد ترى سيارة مرور ولا رجل مرور في طريقك وهذا يحث على التأمل) نحن نتحدث عن بيئة فوضوية لا تتناسب وحجم الإنفاق على تطوير المدن والرفع من مستويات الوعي بما ينتج معه من إقلال الحوادث والإصابات والتخفيف من تكاليف العلاج. هناك جانب الحالة النفسية المتمثلة بغياب الهدوء وانتصار الغضب والضجر والضيق والتململ في الشوارع بين المستخدمين بل وحتى في الأحياء والمنازل بسبب غياب الثقة بوجود الأنظمة الصارمة وملء هذا الفراغ بواسطة الأفراد ممن لا يعترف ولا يقر بخطئه. أعرف عدداً من الأصدقاء ممن اضطر إلى استخدام سائق ليحافظ فقط على حالته النفسية من التوتر.
من الآثار الجانبية السلبية الأخطر على المدى البعيد ضياع الوقت وتشتت التركيز على الإنتاج في العمل. قيادة السيارات في فوضى كهذه تقتل روح الإبداع وتدفع الفرد لهدف يومي رئيس، وهو الانتهاء من معاناة الطريق. الفرد منا أصبح يشعر بنوع من الإنجاز لمجرد وصوله إلى مقر عمله أو عودته إلى المنزل بسلام. تخيلوا لو أن منطقة وادي سيليكون، واحة التكنولوجيا المتقدمة عالمياً، على سبيل المثال، بهذه الفوضى، هل كان بمقدورهم اقتناص فرص التخطيط وإنتاج ما هو بين أيدينا من تكنولوجيا متقدمة؟ نخطئ عندما نتصور إننا قادرون على التخطيط والتفوق والبناء والتنافس الخلاق، ونحن لم نتمكن بعد من ضبط مثل هذه البدائيات، ولم نهيئ المناخ النفسي والاجتماعي لذلك.
اقتصرت في هذا الموضوع على ضعف المرور والشرطة وسوء صيانة الشوارع والطرق. قريباً سنحاول الوقوف على أسباب الفشل في تخطيط المدن وغياب توزيع الثروات على مدن الأطراف ومناطق الجذب داخل الدول. للاستشهاد بخطورة هذا الموضوع يكفي إلقاء نظرة على أي مدينة عربية مهمة، ومعاينة تكدس الصناعات والمؤسسات الحكومية والخاصة بداخلها، وما يتبع هذا التكدس من زحام وجرائم وفساد وتحديات متنوعة تدفع أي توجه لتطويرها إلى الفشل.