هدوءٌ ..هدوءٌ ..هدوءْ
أستطيع أن أرى الهدوء في خُلوتِيْ ...أُحِسّهُ وألمسهْ ..
أَوَتَعرفون ما الهدوءْ ؟
ليسَ الهُدوءُ في الصّمتِ والسّكونِ فحسبْ..
ليسَ الهدوءُ في العُزلةِ والوحدةِ.. وإنّماَ
الهدوءُ أن تَتَـقفَّى ما يَعطسهُ قلمي مِمّا سأذكرهُ على هذه الصّحيفه..
وبعد اِستيقاضي من قيلولةٍ وجيزةٍ طلبتُ على كوبِ شايٍّ مُزيّنٌ ومُنكّهٌ بِوُرَيقاتِ نعناعٍ أخضرٍ تعلوهْ ..
بعد تَنَاوُلِيهِ ورغيفُ خبزٍ ساخنٍ تحشوهُ زُبدةٌ ذائبـه ..اِرتديتُ عَبَاءَتِيْ كانت بيضاءَ اللّونِ بُنّيةَ حَلقاتِ الأكمامِ والعُنقِ وكـذَا جَيْبَ الصَّدرِ..
أخذتُ مفتاح سيّارتيْ من علّاقة المفاتيح في بهو المنزل .. نظرتُ في جنبها إلى المرآة ..صفّفت شعري من شِمالهِ إلى يمينهِ كالعادة ..
وضعت قبّعةَ العباءةِ على رأسي، كانت بيضاء اللّون بالمثلِ واِنتعلتُ نعلاً أبيضًا كانْ..لأنّهُ يومُ جُمُعةٍ..
سألتُ زوجتي هل لي من حاجيات أجلبها للعشاء حين عودتي؟
ردّت عليّ أيْ نعم...أحتاجُ سلامتك...أحتاج سلامتك للعشاء وبعده وطولَ العُمر..
حيّيتها واِستودعتُها اللهَ والجنينَ الّذي في جوفها .. عزمتُ أمريْ ..توكّلت على الله
قاصدا المسجد لصلاة العصر، وبعد الخروج منه خطر ببالي أن أَخْتَلِيْ بنفسي لفترةٍ
خارجَ المدينة لأرتاح من ضجيجها وصَخَبِها إلى أحد المرتفعات الصّخرية كانت على حافة الطريق الوطني ..
وفِعلا كان ذلك ..ركنتُ سيّارتي على حافّة الطّريق في مساحةٍ تسمح لذلك وعلى مرأى من عينيّ ..
أخذتُ سجّادًا للصّلاة من الصّندوق الخلفيّ وتقدّمت في خُطواتٍ أبعدَ بقليل لأنتهي على حافّة أحد تلك المرتفعات.
اِفترشتُ السّجّاد ووضعت في جنبها نَعْلِيْ وجلستُ مُرسِلَ رِجْلايَ للأمام واضعًا يمينها على شمالها ..
أسندتُ بثِقلِ جسمي على كِلتـا ذراعيْ ، كنتُ قد أخّرتهما خلفي .. وأخذتُ نفسًا عميقًا ورحتُ أتأمّل في خلق الله ..سماءٌ زرقاء
يتوسّطها غمامٌ أبيض وكأنّها لوحةُ زيتيّة.
جبالٌ منثورةٌ في إبداعٍ هنا وهناك.. يتصدّرها جبلٌ من هَاهُنَا شامخٌ متجانسُ الشّكل..
أراضٍ زراعيّةٍ .. غابات.. بساتينْ زيّنتِ الطّبيعةَ في حُلّةٍ منمّقةٍ ألوانُها..
وأنا على تِلكُمُ الحالْ إذْ برَجُلٍ في بذلة مُزارعٍ وفي جنبه طفلٌ صغيرٌ ربّما كان اِبنه
لايكاد يتجاوز العاشرة من العُمُرْ..يسوقُ أمامه حِمارهْ في رَوِيّةٍ وتثاقلْ..على ظهره براميل ماءٍ ..تارةً يحمل الأبُ اِبنهُ على حماره
وتارةً يُرجّله .. تتبّعتهم بنظرات غائرةٍ عميقه ..وفي هدوءٍ كأنّها تَصِلُنِي بعضًا من ألفاظِ الأبِ لاِبنهِ قائلاً..تعال في جنبي ..تريّث..
إنتبه صغيري..والإبن في بهجةٍ وسرورٍ والقهقهات تملئ فاهْ..
زقزقة العصافيرْ..صهيلُ خيلٍ تردّه الجبالْ ..نباح الكّلاب..خُوارُ البقر يُطمئن النّفوس ..زبدةٌ وحليبْ.. عجولٌ صِغار..ثمّ المزيد والمزيد..
إنها الطّبيعة وسحرها ..إنّه الأصل إنّه موطن الإلهام..
ما أجمل الهدوء الدّاخلي وصفاء البال ما أحوجنا للخلوة من حين لآخر..
بدأ ذهني يصفى وفكري يقوى ..وأهدافي تتّضح ..بدأ نَفَسِيْ ينتظم وخفقان قلبي يعتدل..إنّها نسمة في آخر موسمِ الرّبيعِ
تهبُّ على تلك المرتفعات..ترفرفت على إثرها عباءتي وكأنّها رايةٌ في أعلى بناية تنتفض..
أغمضت عينايْ.. وجمعتُ ذراعاي المُسنداني ،وضعتهما على صدريْ وتمدّدتُ مُستلقٍ مُسندا ظهري على الأرض ..
بقيت كذلك لدقائق ودقائق..حتى أحسست وكأنّي ولدتُ من جديد..مُفعمٌ بالحيوية..مرتفعَ المعنويات ..مُعتدل المِزاج..
صحيح النّظر ..سويّ ضغط الدّم..
إنّـــــه الهدوء بعينيه ....
غفوت قليلا على الحال الذي كنت ..حتى أيقضني رنين هاتفي وإذ أنا بمتّصلٍ
يسأل عن مكان تواجدي..طلبت منه اللقاء في المدينة وإنتظاري لدقائق ريثما
أصل..لم أشأ أن أكشف عن مكان هدوئي ومصدر إلهامي وشاحن بطّاريتي ..
لم أشأ أن أدلّ عن مكان تجديد ولادتي ...
هكذا أردت..أردتهُ أن يكون سرٌّ بيني وبين السّماء والأرضْ