.. واستفاق أهل الحي ذات يوم بائس على نبإ أكثر فضاعة عندما خيَّمت الكآبة على بيت صغير تحيط به هذه المنازل التي فقدت ترتيبها وتزحزح بعضها ، بيت لبـِناتـُه تصدَّعَ معظمها ، وعشَّشت الطيور في أعاليه .. الغبار متصاعد في عنان السماء ، وشجيرات تريد أن تنمو فيمنعها ضيْق المكان ، وصوت الدراجات النارية والسيارات المارة من هناك يقتل دخانها الأنفاس .. وأطفال صغار حافـِيو الأقدام في كرٍّ وفـرٍّ وراء عجلات مطاطية ، وسباق دائر رحاه في المكان المجاور بين أطفال يجرون وراء كرة يتقاذفونها .. ويخرج من ذاك البيت رجل خانه النعاس ليلة أمس وأسقطته الهموم خلف ماض ٍ حزين ليس بالبعيد ؛ فاغرورقت عيناه بالدموع وأكل اليأس قلبه وأدْماه بعدما كان ينبض حيوية ونشاطا قبل يومين من هذه المصيبة التي حلـّت بعائلته الصغيرة ، فلم يكن أحد من أهل الحي بل القرية جميعها يتصوّر أنَّ عمي سعيد يصيبه مكروه يوماً ما كهذا .
وتستيقظ المدينة بدورها على مخلـَّفات الحادث ، فعمَّت الأنباء أرجاءها .. يومان كاملان وعمي سعيد لم يعثر على فلذة كبده الصغيرة .. أين ابنتي ؟ من أخذها ؟ هل خـُطِفت ؟ هل بلعتها الأرض ؟ يا إلهي ما الذي يحدث معي ؟!
كان عمي سعيد يبدو كالمتشرد هائما ًعلى وجهه في الأرض من جرّاء ما أصابه ، يتنقـّل بين هذا المكان وذاك ، يبحث هنا وهناك ، يركب سيارة تارة ، ويُقلُّ أخرى تارة .. كان محل احترام جيرانه وزملائه الذين يعرفونه ، سألهم واحداً واحداً : هل منكم من رأى ابنتي ؟ ولا يجد أي جواب عندهم .
ـ ارجع بذاكرتك للوراء ( قال جاره عبد الكريم وهو يشد من أزره ) .
لم يعرف أحد ما الذي حدث بالفعل ، وتواترت الأخبار أن عمي سعيد كان برفقة عائلته في حفل زفاف عند صهره فغفل وزوجه عن ابنتهما فاستغل الخاطف الفرصة وقام بتنفيذ خطته ، ومن الناس من رأى أنها خرجت تريد اللعب أمام البيت في غفلة عن أمها وغياب أبيها عن المنزل ففعل الخاطف فعلته .
عاد عمي سعيد خائباً من بحثه هو وأخوه علي ؛ لقد جابا القرية كلها وفتـَّشوها ركناً ركناً دون جدوى ، وكانت الشرطة قد مشـَّطت المدينة ولا فائدة .
نزل عمي سعيد من السيارة التي ركنت أمام بيته والدمع لا يفارق عينيه ، وأهل الحي حوله يشدون من عزيمته ويواسونه وقلوبهم وجـِلة لِما أصاب هذه العائلة الصغيرة .. وبدأت الأقاويل والإشاعات تنتشر كالنار في الهشيم ، وعمّ المدينة الخبر فاستولى الرعب على معظم العائلات وشددت الحراسة على أبنائها الصغار .
بدأ المتعاطفون يتوافدون على بيت عمي سعيد فرادى وجماعات يواسونه متضرعين إلى الله أن يكون مع هذا الرجل الذي بدا وسط الحضور كشجرة اجتثت من الأرض ، يرتدي قميصاً طوَّقه العرق من كل ناحية ، الوجه شاحب فـَقـَدَ لونه وبريقه وابتسامته التي لم تفارق شفتيه قبل هذا الحادث ؛ فاندثرت وحلّ محلها القنوط ، فضرب أحدهم على كتفه قائلا :
ـ لا تقنط من رحمة الله .
يومان كاملان فـَعَلا فـِعلتهما ب عمي سعيد وجرَّداه من قوَّتِه فأضحى شيخاً في فترة لازال أقرانه ينعمون في الشباب ، فارتخت عضلاته ، وبرزت عروقه واحتقن الدم فيها ، واعتصر الأمل بداخله ولم يعد يفرِّق بين ليله ونهاره ، فحُرم النوم منذ تلك اللحظة الفجيعة ، وانطوت زوجته فتيحة على نفسها متثاقلة الجراح ، ولم يعد يُسمع إلا همس بكائها ونحيبها الذي ينفجر عن شعور مرير ، فحاولت نساء الحي منعه دون جدوى ، فمرارة الفراق كانت أقوى في نفسها ؛ فاحترقت داخل بيتها كمداً .
لماذا اختـُطِفت مريم ابنة عمي سعيد بالذات ؟ سؤال طرحه أهل الحي على بعضهم البعض ، فكان كل من سمع الخبر يختلق إجابة من عنده ؛ لكن المقرّبين منه يؤكدون على وجود ثأر بينه وبين الخاطف الذي حاول الانتقام من عمي سعيد مراراً فلم يتمكن منه إلى أن سنحت الفرصة ففجـَّر كامل نقمته على ابننه ظنا منه أنه انتصر لنفسه .
أيُّ ثأر بيني وبين الناس ؟ بدأ عمي سعيد يرجع بذاكرته للوراء علـّه يتذكر شيئا .. أنا لا أحمل ضغينة لأحد ، هذا افتراء عليّ وبهتان ( قال عمي سعيد وهو يمسح الدموع من على خدّيه التي جعلت منهما ممرا تتصارع فوقه حبَّات النسيم البارد الذي كان يهبُّ هبّاً لم يألفه أهل القرية في مثل هذا الشهر ) .
ـ ابنك خطفه الإرهابيون يا سعيد! ( قال أحد الجيران وهو يهز رأسه ) .
لم يكد يهضم محمود هذا القول حتى أوشك أن ينقض على ذا الرجل لولا منعه من قبل رجل آخر وهو يبعده قائلا : عمي سعيد أبعد من أن تناله يد من أيديهم الحقيرة .
وبينا الناس في أشغالهم هائمون إذ بالأخبار تتناقل وتنتشر ؛ فقد وُجـِدت الابنة الصغيرة مريم .. الحمد لله ! تنفـَّس أهل الحي الصعداء ، حيٌة أم ميتٌة ؟ .. يا الله ؛ لقد عثر عليها أحد المارة وهو يجوب الطريق بسيارته فأخذها إلى المستشفى .
ونزل الخبر كالصاعقة على عمي سعيد وزوجته ، فهبَّا رفقة بعض أهل الحي إلى المستشفى .
ابنة سبع سنوات لا نفرِّق بين الخير والشر يرمي بها القدر في يد وحش عبث بها وأذاقها من جحافل نفسه الخبيثة ، وسقاها من مياهه العكرة فلم تدر ما يحدث لها ، والطبيب يُصاب بالذهول لرؤيتها على هذه الحال ؛ فتذرف عيناه الدموع الثقال وهو ينقذ ما يمكن إنقاذه ..
وصل الأب والأم إلى المستشفى وهما يجـُرَّان خلفهما أحزان يومين كاملين ، وكم كانت صدمتهما كبيرة لمـَّا علـِما بما جرى لابنتهما ، ويزداد توترهما فترتفع درجة حرارة الأم حتى كاد يُغمى عليها لولا عناية الله .
وخيَّم الظلام على الحي العتيق كما خيَّم الحزن على عمي سعيد وزوجته ، واحتار مَن فيه لسماعهم الخبر ، واحترق بعضهم كمداً ، وأضرب آخرون عن الطعام ليلتهم تلك ، وتربـَّع الأسى على قلوب أفراده ، فهلـَّل من هلـَّل وكبَّر من كبَّر لعثور عمي سعيد وزوجته على جوهرتهما الضائعة ، وخرج شبانه يتوسَّدون الحصى ويتكئون على الجدران متبادلين أطراف الحديث ، حامدين الله على خلاص الابنة الصغيرة من ظلمات الوحش المنكسر .. إلا أنّ الشرطة كانت تجوب المكان فأمرتهم بالدخول إلى بيوتهم لأنّ إرهابيَيْن دخلا القرية وربما يدخلان الحي .
ويضرب البعض كفـّاً بكفِّ ؛ ليتهم يفعلون شيئاً للإيقاع بالمجرم ، ليته يكون بأيديهم اللحظة فينتقمون لعمي سعيد وعائلته شر انتقام .. وكثـَّفت نسوة الحي من حذرهن خشية على أبنائهن ، فما حدث لعمي سعيد قد يحدث لكل واحد منهم ، والمجرمون سواء في أفعالهم مهما تعددت مشاربهم واختلفت طبائعهم .. فتعجَّب الناس من هذا الفعل الشنيع الذي بكى لأجله الجماد قبل بكائهم ، وأعلـِنت حالة الطوارئ في الحي العتيق ، وأصاب الخوف والهلع بقية الأحياء ، وكثـُرت الوصايا والتحذيرات بعد ذلك في المساجد ؛ فهذا أمر دُبِّر بليل ولا يمكن السكوت عنه ، فالساكت عن الحق شيطان أخرس كما قال إمام مسجد الحي .. ورفع المصلون أيديهم في صلاة الجمعة متضرعين لله أن يهلك الفاسق ويُوقِعه ..
ولم يمض وقت طويل حتى اجتمع سكان الحي ليتدارسوا الوضع الذي حل بحيهم ، ففكروا في وضع خطة للإيقاع بالمجرم ، وبثوا العيون في كل زاوية من زوايا الحي الذي بدأ يسترجع أنفاسه مع استرجاع العائلة الصغيرة أنفاسها ، وعادت الحياة للأم على الرغم من حرقتها التي لازالت تـُكابدها وهي ترى ابناها الوحيدة بهذه الحالة التي لم تخطر على بالها في يوم من الأيام .. وأقام عمي سعيد مأدبة عشاء شكرا لله على سلامة ابنته حضرها جمع غفير جدَّدوا تعاطفهم ومواساتهم له ..
وبعد مرور أسبوعين جاءهم نبأ سقوط الخاطف في أيدي الشرطة ؛ فانتفض عمي سعيد من مكانه وجـُنَّ جنونه ، ففكـّر في الانتقام ، ثم صحبه أخوه وبعض جيرانه وسارعوا إلى مركز الشرطة ، فيُعلِمَهم مفتشها بعد وصولهم بكيفية وقوع الخاطف ، فلم يصدِّقوا أنه أراد تكرار طقوسه مع طفلة أخرى ؛ لكن هذه المرة افتضح أمره ، والعناية التي رأفت بابنته كانت سبباً في وقوع الفاعل الذي أنكر ما نـُسِب إليه في البداية ؛ لكن خبرة مفتش الشرطة وحنكته في مثل هذه الحوادث كشفت خداعه وإنكاره ، فاعترف بفعلته ، وزُجَّ به إلى السجن .
كان عمي سعيد في هذه الأثناء يصرخ بأعلى صوته :
ـ جبان ، حقير ، لستَ رجلا ، لن تمنع مني ، حتى إن خرجت من السجن سألاحقك ما دمتُ حيّاً ..
كاد عمي سعيد أن يفلـِت من بين أيدي الشرطة الذين منعوه من الاقتراب ناحية المجرم فيقترب المفتش منه قائلا :
ـ هوِّنْ عليك ، فالعدالة ستأخذ مجراها .
للأمانة : منقولة عن الكاتب : الطيب عطاوي .