دراسة في الهوية
إن النظام العالمي الجديد هو تنميط العالم بأسره وفق رؤية إيديولوجية واحدية الطرف تسعى فيه القوة المهيمنة الو.م.ا/إسرائيل إلى جعل المشروع الحضاري ينبذ الخصوصية الثقافية ويطمس الهويات ويؤطر الحياة من منظور أمريكي خالص ، وقد سميت فترته بما بعد الحداثة حيث اتجهت المركزية من الإله إلى الذات ومنها إلى الشيء ،واتجه العقل البشري إلى نبذ كل القيم والمبادئ التي نادت بها الحداثة ،فالعقلانية التي كانت سليلة عصر الأنوار أثبتت فشلها إزاء مظاهر الدمار والعدمية التي شاعت في عالم اليوم ،وظهر على اثر ذلك التشيؤ الذي افرزه اختفاء الذات والمعنى والحقيقة ،أين اختفى معها أيضا حسب ما يسميه بودريار الاقتصاد السياسي والحال الاجتماعية فاختفت الرسالة وحلت محلها الوسيلة وحل الشيء محل الذات ،وأصبحت سمة الواقع عدم الوضوح وعدم الاستقرار على المستوى السياسي والاجتماعي وحتى العقائدي….الخ ،لقد كانت الحداثة ترجمة لثنائية الإلغاء/الحضور أي إلغاء الإله وحضور الأنا والذات الفاعلة فجاءت مرحلة ما بعد الحداثة لتقويض المشروع الحداثي وتنشئ على أنقاضه خلخلة المفاهيم والمسلمات وإحلال المصلحة والشتات محل الثبات ،وهذه المرحلة حسب رؤية الغرب أعلنت عن نهاية الإيديولوجية التي أخذت من مفهوم فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ ،أين تنتهي كل الإيديولوجيات لتفسح المجال إلى عولمة العالم ساقطة في فخ إيديولوجيا من نوع جديد هي النظام العالمي الجديد ،يتم فيه إلغاء الآخر وطمس الخصوصيات السياسية والثقافية وإنكار الحق والحقيقة مما ينتج أو يفرز العنف الذي يستخدم لتغيير الواقع لصالح الأعلى والأقوى ،إذن خطاب العولمة خطاب مخاتل انه خطاب مهادن/معارض أي يدعي المصالحة مع جميع القوى في حين انه يعارض كل من يرفض الانخراط في هذا المشروع إلى حد النفي والإقصاء وممارسة العنف عليه ،وبالتالي فظاهره دعوة إلى المساواة وباطنه دعوة للتسوية وطمس الخصوصية ،هدفه إنتاج مجتمع فاقد للهوية وللماضي والذاكرة والانتماء لا يعرف غير الاستهلاك فحسب .
إن مشاهد العالم اليومية تنبئ عن حالة التوتر والانفصام واللامعقول وفي هذا تقويض وهدم لمفهوم الحقيقة ،لان الأخيرة حسب تصور ميشال فوكو تنتجها القوة والمصلحة ،وادعاء امتلاكها هي شكل من أشكال الإرهاب والشمولية ،حيث يعاد إنتاج الواقع حسب منطق القوة ،فالو.م.أ امتلكت هذه القوة فاصطنعت قناع التعددية لخداع العالم وإخفاء النظام الشمولي والاستبدادي من وراء خطابها ،لان الاحتواء ينطوي على طمس الهويات والمعالم تحت بوتقة واحدة ونظام واحد تؤدلجه حسب رؤيتها ومقاصدها فتصبح صانعة للتاريخ،ولا احد يدخل معها في هذه اللعبة إلا من قبيل المباركة أو مساندة هذا المشروع ،في ظل الظروف التاريخية ترعى دولة صهيونية ، ولا نقول أنها رأي الدولة الإسرائيلية . وجدت مع بداية هذا المشروع بل نقول أنه شكل أرضية تطابقت مع الذات اليهودية الموسومة بالتشتت والضياع ، فاليهودي عاش أزمة الحياة المادية بكل مستوياتها على هذه الأرض الخراب على حد تعبير إليوت ، وتعززت لديه ثنائية الحضور/ الغياب ، حيث حاول التغلب على ذلك الوضع بفرض الحضور الكامل المتمثل في فكرة الاستيطان بعد أن عانى مدة طويلة من النبذ والإقصاء و التهميش، أما غيابه فهو المترجم لحالة المنفى و الغربة و فقدان الهوية و التشتت التي زامنت حضوره حيث يشعر في قرارة نفسه أنه فوق أرض هي ليست أرضه ، وحالة اللاإنتماء هذه ترتبط بمفهوم نهاية التاريخ على حد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري .
وعلى إثر ذلك تطفو على سطح الشخصية اليهودية ثنائية وعي المطابقة /وعي الاختلاف فالوعي الأول يتمظهر فيه الحلم اليهودي بالأرض الموعودة و يتموضع في إطار الترابط و التجذر بالأرض الفلسطينية وأما وعي الاختلاف فيتميز بهيكلة الشخصية في إطار التمايز عن الآخر بحكم الاصطفاء وأن هذا الآخر الفلسطيني هو نقيض الحلم و مهدد له وبالتالي فهو نقيض التاريخ . إن الوعي الأول ـ أي وعي المطابقة ـ وعي زائف ، ودليله إحساس اليهودي بالغربة والضياع حيث كتب موشي شامير مبينا أن العرب في فلسطين عاشوا في الضمير اليهودي بوصفهم أصحاب الأرض أي بوصفهم رموزا حقيقية للوضع الطبيعي للوجود و للتجذر ،وأما الوعي الثاني وهو وعي الاختلاف فيتمثل في شعور اليهودي باختلافه دائما عن الآخر، وأن الحلم لا يتحقق إلا بنبذ هذا الآخر وذلك باستعمال العنف و الانتقام [خلق السوبرمان ] حسبما بينت ذلك البريطانية اليهودية ليندا غرانت .
عاش اليهودي في الضمير الغربي بوصفه ممثلا للشيطان كما عبر عن ذلك المفكر عبد الوهاب المسيري ، وانتقل من موضع الإقصاء والنبذ إلى موضع التقديس فظل دائما خارج المكان والزمان ، إذ القداسة هي تهميش أيضا وعومل على أساس أنه أيقونة تمثل الضياع والظلام والتبعثر والعبث والاغتراب وهذا هو جوهر الحضارة الغربية حاليا في عصر اللاعقلانية ، إذ استعملت هذه الأيقنة كتعبير عن الاعتذار الصهيوني تمرر من خلاله رسالة تبرير الاستيطان في فلسطين ، وتبرير حوسلة اليهود أي تحويله إلى وسيلة كما بين ذلك المسيري ، تذكر إسرائيل من خلال هذه الرسالة بحادثة الهولوكست ومعناه تبرير العنف بالعنف الذي لحقها ومن هذا التبرير نتلمس هوية اليهودي بوصفها نسيجا من ثنائية تعلقت به وحده هي الهوية المعلقة / المتعالقة ، فالأولى وكأنها اللاهوية أي التشتت و الاضمحلال وفقدان الوطن الذي يعني فقدان الثبات والتواجد في اللامكان ، أما المتعالقة فهي تعبر عن جملة اشتباكات من هويات مختلفة متضافرة نظرا لتواجده في المكان المتعدد بحكم أن اليهود عاشوا متناثرين في مختلف بقاع الأرض ، والمكان / اللامكان عاش في الضمير اليهودي بوصفه مرادفا لمعنى الضيافة ففي حوار ديدييه أيريبون مع جاك دريد ا طالب الأخير بضرورة تحسين أوربا لأدب الضيافة أي أن توقف لإيجاد قانون لضيافة عادلة غير مشروطة فيه نرحب بكل منخرط جديد دون أن تحاسبه عن هويته أو تطالبه بتحديد من أي مكان أتى أو أي جنسية تمتع بها قبلا ،و كأن في ذلك دفاع عن تعددية المكان و تبرير بمفهوم مخالف لحالة الاستيطان إذ المكان المتعدد ينتج حالة الهوس بالحلم ،إساءة الضيافة ـ و إن رمزيا ـ يؤدي إلى البحث عن حالة الثبات في المكان وتأطيره تاريخيا لإقناع العالم بضرورة الرجوع إلى أرض الميعاد ـ أي إن كان العالم ضدنا لابد من إيجاد مكان لنا تتخففون به من وطأة وجودنا في ضميركم ـ ولو حساب شعب آخر .وهذا ما يبرر الصمت الغربي و مساندة الو.م.أ لمشروع إسرائيل على مر الزمان .
هاشمي غزلان
سوق أهراس