... نفسي فِداؤُك أيها المعلِّم المبدِّدُ نورُهُ ظلام الجهالة العمياء ، نفسي فِداؤُك ونحن نقفُ عند بابك نرجو أن تغفر لنا زلاتنا وتمحو عنا عاراً دفيناً ، ولامبالاة هضمناها .
فأيَّة أحرف وأيَّة كلمات تستطيع أن تفيك حقك أيها البطل المنقذ ؟ يا من وقفتَ ولا تزال تعلِّمنا كيف نرسم مستقبل الأشراف ، ونحذو حذو الأسلاف .
أيامنا تصلبها ذكرياتك الرائعة وأنت تطوف بنا عبر الأحقاب ، بين الخِلان والأصحاب ..فهل تُرانا نفيك حقك والخامس من أكتوبر يمضي من كل عام ؛ أم أنها أهواءٌ جعلتْ منه يوم لتذكُّرك ؟
" زمانك بستانٌ وعصرك أخضرُ " أيها المعلم المعطاء ، وتذكُّرك لا يسعه يوم أو أسبوع أو شهر أو عام .. فأنت في سُويداء قلوبنا كل يوم تحوم ، إننا نراك تعبر بنا السنين العِجاف لننزع عنا ما كان يحرقنا زمن النذالة ، ويدخلنا أقبية الجهالة .
إننا مساكين في حضرتك أيها المربِّي المصلح ، يا من تعبتَ وجاهدتَ وربَّيتَ ، ذكرك في الخالدين عظيم ، وأجرك عند الله كبير .
إن رسالة المجد جوفاء من دونك أيها الرُبَّان ، فسُفننا غرقى في غير وجودك ، فما بالها صغار العقول ونفوس الحمقى تهضم حقك وتقزِّم مجهودك ؟ ألا تعي تلك العقول أنها كبرتْ ونمتْ ، وأكلتْ وشربتْ ، ونامتْ ونهضتْ تحت سماءٍ " أنت فيه اليتيمة العصماء " ( الذرَّة الفريدة من نوعها ) ؟!
من أين أبدأ وأين أنتهي يا من جعلتَ منا قادة ورؤساء وعلماء ، يا من حقنْتنا بمياه إصْرارك لنكون سادة وطلبة أوفياء ، يا من صنعتَ أجيالاً وأبطالا ، يا شمعةً تضيء للسَّاري كل حين وتنيرُ دربه كي يصل برَّ الأمان ؟
يا عظيماً في عرينِهِ يتربَّع من أين أبدأ وأنت وليُّ نعمتنا وحامي وحدتنا ، يا من طهَّرتنا من أضغانٍ صنعناها من تلقاء أنفسنا ، و" خُزعبلاتٍ رضعناها من ثدي أمسنا " .
أين نحن منك وأنت تاجٌ فوق رؤوسنا يلمع ، وقمر ترنوه أبصارنا ويأبى أن يفارقنا ؟ أين نحن منك يا رحيماً يعطف علينا كلما بلغت القلوبُ منا الحناجر ، وطوَّقتنا بأرجلها الملوَّثة الصغائر ؟
كيف لضمائرنا أن تستيقظ ولأفئدتنا أن تصحو ونحن نلهث خلفك بالكلمات الماحقات ذكرك ، المقصيات حقك ، السابيَّات قدرك ؟!
كلٌّ منا لعق من شهْدِك قبل أن ينفخَ نفسه الكِبْرُ ، ويمحوَ ذكره القبرُ ، فما بالها " أعين الجبناء لا تنام " لمّا أيقنتْ أنها لا تنفعها " شفاعة الشافعين " حينما تفكر أن تمدَّ أيديها على أرزاق الآخرين ، وتُطعم لحومنا للحاقدين .
في حضرتك تستقيم الكلمات وتعلن عن فوضاها الحواس ، في حضرتك نستسلم لما تمليه علينا أيها المعلِّم ، نستسلم غير آبهين للزمن كيف يمضي من أعمارنا ، وللساعات كيف " تمرُّ مرَّ السحاب " ، نرضى بحُكمك كيفما كان ، ونرضخ لقرارك علَّنا نستفيق من أوهامنا ، ونحمل رايات حبِّك في كل مرحلة من مراحل تعليمنا .
لمن نشكو همومنا ونبث أحزاننا وموائد العاشقين ليس فيها ذكرُك ؟ لمن نقرأ أعمارنا ونحن نستنشق من عطرك ، ونأبى أن ننصاع وراءك لأنك معلِّم ؟!
لمن تكِلُنا أيها المضحِّي بحياته من أجل أن نبلغ العلياء ؟ لمن تدعنا ونحن لا نساوي شيئاً في غير وجودك ، ولا يطيب لنا الاستظلال تحت أشجار ليست تكسوها روائح طبشورك ، ولا تغزوها نفائس حضورك ؟
لمن تكِلُنا وألواح أطفالنا شاهقةٌ تنتظر تشجيعك وتوجيهك في آنٍ واحد ؟ لمن تدعنا ومآزر تلامذتنا غير مقفلةٍ تنتظر توبيخاتك لتقفلها أياديهم بعد اعتراف وتقصير منهم ؟ لمن تتركنا ودفاتر المجتهدين تتلهَّفُ لتصحيحها وإبداء رأيك فيها ؟ لمن تتخلى عنا والخطر يحدقُ بأمَّتِنا وأجيالها ؟ لمن تدعنا والجهل يغزونا عبر السماوات لنبيع أعراضنا ونتبرَّأ من ماضينا وننسلخ من هوِّيتنا وأخلاقنا ومبادئنا ؟ أويعزُّ عليك أيها المعلِّم أن تستسلم لأبواق الجاهلين ونحن لمَّا نبلغ رُشد العِلم بعد ؟!
أتراها وحدها الكلمات تغفر لنا خطايانا ، وتعتقنا من أنانيتنا ؟ أم أن زمن الاعتراف لا يسعه حرف أو تسدَّ منافذه الجُمل والعبارات ؟
إننا نخاف من أنفسنا أن نعترف بقيمتك ، وقدرتك وهيبتك ، لأننا نخشى أن ننسب فضل ما ننعمُ فيه إليك ، نخشى من بعضنا البعض أن نردَّ لك جميل صنيعك بنا ونحن عجائن طريَّة بين يديك .
أنت الذي صنعتَ منا حدائق العِشق ، وبنيتَ بنا أسوار الحق ، ورفعتَ بنا أعمدة العِلم ، فكيف بنا نغار منك ولا نعترف بعبقريتك ونقول في خِداع لست مُنتِجاً ؟
أيُعقل هذا وأنت نور أعيننا وجلاء همومنا ، أيُعقل هذا والناس عطشى تنتظر ميعادك ، أيُعقل هذا يا معلِّمنا وأستاذ مدارسنا ، أيُعقل هذا يا راعي صبيتنا وحادي قوافلنا ؟
في يومك العالمي أنهديك وردة أم زنبقة ؟ أم نهديك قلماً لأنك بالقلم علَّمتنا ؟ أم أن إهداءك إياه سخرية منك أم من القَدَر حينما نلتفُّ حولك زاعمين أننا نحبُّك و" نتبخَّر بعطرك " تباهياً وسمعة ورياء ؟!
إيهٍ أيها المعلِّم ما أشقاها الكلمات وهي تتفنَّن في تبجيلك وتقديسك أمام الملأ ، وتنفرُ منك حينما يتوارى الملأ !
ما أشقاها الأفواهُ وهي تدغدغ شعورنا بزيف أحرفها وتنميق تشبيهاتها وسحر استعاراتها لتعلن في حضرتك أنها لا تستغني عن خدماتك ، فتبدأ في عدِّ حسناتك ، وتعلن في غير حضرتك عن سيِّئاتك !
ما أشقاها العيون وهي " تنظر إليك من طرْفٍ خفي " لتقول أنها ضائعة ناصبة ، عارية تنتظر أن تُلبسها أثواب الحِلم ، وتسقيها مياه العلم ! ما أشقاها وهي تخدع أبصارها ضاحكة غير مستبشرة ، تتقاطر من وجوهها حماقات اليأس والغرور لأنك معلِّم !
سامحنا أيها المعلِّم إن تعرَّضنا لك بسوء أو سخرية مفتعلة أو غير مفتعلة ، سامحنا على قلة عقولنا وحُمق تفكيرنا ، فما أنت بالذي نُهينك أو نلعب بمشاعرك أو نصوِّر حياته على مسرح الملهاة .
أنسخرُ منك وأنت منقذنا ورمزُ عزَّتنا ؟! أنسخرُ منك يا باني حضارتنا ، وصانع أفكارنا ومعلِّم أخيارنا ؟! أم أننا لا نفقه حقيقة الحضارة إلا حينما تأتينا عبر نوافذ الجاهلين وأبواق الناقمين ؟
سامحنا إن خُنْنا أمانة العلم واستبدلناها بحماقة الجهل ، سامحنا لأننا خُدِعنا بما رُوِّج ضدَّك ، فأمطرتْنا عيونُ الحاقدين بوابل القهر ، وعضَّتنا أنياب الأعداء فغرستْ في مفاصلنا سُمّاً زُعافاً وشلَّتْ حركاتنا فأضحينا نسخرُ منك لأنك لا تُنتج ، ومثلك عقلُهُ وكلُّ ما فيه يُنتج .
بالعلم كنتَ ولا تزال معلِّما أيها الأستاذ الفاضل ، والنِّحريرُ الماهر ، والجِهْبيذُ الحاذق . بالعلم نركع أمام حضرتك لنقول لك " كِدْتَ أن تكون رسولا " ، بالعلم نحن عبيدُكَ وخَدَمَتُكَ ، يا من علَّمتنا كيف نقرأ ونكتب ، كيف نجدُّ ونجتهد ، كيف نحبُّ ونعمل ، كيف نمدح ونفخر ، كيف نسوق بعدك أجيالا ، ونفتح إثرك أقفالا .
شكراً عظيماً على كلِّ حرفٍ علَّمتنا إياه ، وكلِّ كلمةٍ استنطقتنا إياها ، وكلِّ جملةٍ عرَّفتنا فحواها . شكراً جزيلا موصولا إليك ما دامتْ أجوافُنا تتنفس ، وقلوبنا تهفو بذكرك ، وعيوننا تبصرُ في طريق مجدك . وأيُّ طريق نسلكُهُ إن لم يُذكر فيه اسمُك ؟!