![]() |
|
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() التعريف بالتصوف جواب: سُئل الجنيد[1] عن التصوف فقال: (هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة) وقال الجنيد: الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، ثم إنه كالأرض يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالقطر يسقي كل شيء. وخلاصة الأمر الذي نحن عليه هو ما قاله القاضي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري على هامش الرسالة القشيرية (التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن، لنيل السعادة الأبدية) فهو عندنا تزكية للقلب، لحفظ لطيفته، كحفظ الطب للأبدان، حتى يبقى القلب دائما محلاً طاهراً لنظر الله عز وجل. اشتقاق لفظ "التصوف" جواب: لقد قيل في اشتقاق لفظ التصوف الكثير، فمنهم من قال بأنه من صُفّة المسجد النبوي، حيث كانت ملاذاً لفقراء المسلمين الذين خرج بعضهم من مكة مهاجراً تاركاً المال والعيال والعبيد والإماء والديار والعقار، فلما هاجروا خرجوا عن ذلك كله وتركوه لله، وانتقلوا إلى المدينة دون أي حظ من حظوظ الدنيا، فبنى لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الصُفّة في طرف مسجده، يصلون في الليل ويصومون ما قدر لهم من النوافل في النهار، وعند الجهاد فرسان في النهار رهبان في الليل، فاستشهد منهم في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم من استشهد، وهم الذين قال فيهم الحق تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (28 الكهف) ومنهم أبو ذر الغفاري وأبو عبيده ومعاذ وأبو الدرداء رضي الله عنهم، وغيرهم لا يحصى ممن جعل التقوى أساس العلم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (282 البقرة). ومنهم من قال إن التصوف من الصوفة. لأن الصوفي مع خالقه كالصوفة المطروحة لا فعل لها ولا تدبير؛ لأنه مستسلم لله في حركاته وسكناته. قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (65 النساء). ومنهم من قال إنه من الصفاء المحمود، وضده الكدورة المذمومة. روى الدارقطني عن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال: (ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر فالموت اليوم تحفة لكل مسلم). أما من قال إن التصوف من لبس الصوف، فأذكر هنا من كلام ابن الجوزي: (كان الزهد في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب، كان الزهد حُرْقَة، فصار اليوم خِرْقَة، ويحك صوّف قلبك لا جسمك، وأصلح نيتك لا مُرَقَّعَتَك). أما نسبته الى "سوفيا" فيقول زكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي: (إن هذا ضربٌ من الإغراب، وكلمة "سوفيا" اليونانية معناها الحكمة، ومنها فيلسوف أي محب الحكمة، وكان كثير من فلاسفتهم أطباء، وقد ترجمها العرب فسموا الطب حكمة. وكلمة حكيم لا تزال تؤدي معنى كلمة طبيب. والفلسفة نفسها سماها العرب الحكمة، فهم عرفوا من "سوفيا" الفلسفة والطب، أما الحكمة الروحانية فمن البعيد أن يكونوا لمحوها، لأنهم كانوا يرون اليونان من عبدة الأوثان. فلم يبق إلا أن يكون ورودها في البيروني من الإغراب) وهذا يعني بأنه لا علاقة بين الفلسفة والتصوف، بمفهومه الذي نتحدث عنه. وجملة القول أن أهل هذا الطريق أشهر وأسمى من أن يُحتاج في التعرف عليهم إلى لفظ مشتق أو قياس على هذا اللفظ، فالسالك لا يهمه الاسم الذي يطلق عليه مهما كان، طالما أنه مع الله والى الله في عمله وقصده، وإنما همه ومبتغاه هو أن يكون مع خالقه بلا غرض ولا مطلب ولا تحقيق شهوة دنيوية؛ اللهم إلا علاقة الشكر الدائم الذي لا ينقطع، والشعور بالقصور، والشعور بالقرب بعد كدورة البعد {اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْرًا} (13 سبأ). وسواء سمي السالك صوفياً، أو أي اسم آخر، فهذا ليس بالأمر المهم، فنحن لا نهتم بالألفاظ والمسميات بقدر ما نهتم بالحقائق والمبادئ، فإذا ذكر أمامنا لفظ الصوفي أو التصوف، تبادرت إلى أذهاننا معاني تزكية النفوس، وصفاء القلوب، والسعي حثيثاً لإصلاحها، وصولاً إلى مرتبة الإحسان التي هي مقام كل العارفين الربانيين، الذين تحققوا من معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فهذه الحقائق سميت في القرن الثاني للهجرة تصوفاً، ولنا أن نسميه الآن: «الجانب الروحي في الإسلام» أو «أخلاق الإسلام» أو «التحقق من معاني الإحسان» أو أي اسم يتفق مع معاني شريعتنا الغراء وما جاء به الكتاب والسنة، وهما مصدر التصوف وحقيقته. أما إنكار بعض الناس على هذا اللفظ (التصوف) بأنه لم يُسمع في عهد الصحابة والتابعين فهو مردود جملةً وتفصيلاً، لأن معظم الاصطلاحات أُحدثت بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، واستعملها جيل الصحابة والتابعين، ولم تُنكر من كبار الصحابة وأئمة التابعين، كألفاظ التابعين، وتابعي التابعين، وأمير المؤمنين، وألفاظ النحو والفقه والمنطق وعلوم الإدارة و الدواوين وعلوم القرآن والتفاسير وعلوم الحديث والجرح والتعديل، كل هذه الاصطلاحات لم تكن تستعمل زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعملت فيما بعد ولم تنكر. وسنتعرض لهذا الأمر في حديثنا عن مفهومنا للسنة والبدعة. الصوفية في صدر الإسلام جواب: لم تكن هناك حاجة إلى هذه الدعوة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابة كانوا بسبب قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، أهل ورعٍ وتقوى، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو المرشد والمزكي والمربي، فليست هناك حاجة لتلقينهم علوماً ترشدهم إلى أمور، هم قائمون عليها، وهم القدوة الحسنة والمثل الأعلى بها. فالرجال الذين سبقوا التسمية باسم (الصوفية) من الصحابة والتابعين، وإن لم يَتَسَمَّوا بالصوفية، كانوا في حقيقة الأمر صوفيين، ولا يهمنا الاسم بقدر الجوهر والحقيقة. وإلا فما هي الصوفية إن لم تكن تعني إلا أخلاق الصحابة والتابعين، الذين هم خير من أقبل على الله بالقلب والروح في السر والعلن، في السراء والضراء، وهم الذين قاموا بفرائض الإسلام وعقائد الإيمان، وتحققوا من مرتبة الإحسان، فاستنارت بصائرهم، وهم الذين تربوا على يدي مرشد البشر وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم!. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني هذا، فالذي يليه والذي يليه). ثم تقادم العهد واتسعت العلوم ودونت علوم التوحيد والحديث والفقه والتفسير والمنطق والأُصول وغيرها من العلوم، التي بانتشارها واهتمام الناس بها وانفتاحهم على خيرات الدنيا وزينتها، أخذ الجانب الروحي يتضاءل، مما دعا أهل الألباب والزهد لتدوين علوم الإحسان، التي هي علوم الصوفية. ولا يُفهم من هذا أن ذلك كان احتجاجاً على العلوم الأخرى كما يُظن، مثلما كان بعض أهل الكلام يحتجون على أهل الحديث، إنما هو استكمال لحلقة الإسلام الذي عني بالمادة والروح والجسد والقلب. قال الشيخ زروق: (نسبة التصوف في الدين نسبة الروح من الجسد، وإن هذا العلم لا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ من أهل الأذواق، ولا يُنال بالقيل والقال، وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال. وكما قالوا: والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح). وهذا ابن خلدون يقول في مقدمته:(وهذا العلم «التصوف» من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، هي طريقة الحق والهداية؛ وأصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذةٍ ومالٍوجاهٍ، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف،فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختُصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية). وفي فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله لما سُئِلَ عن أول من أسس التصوف أجاب: (أما أول من أسس الطريقة فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي، في جملة ما أسس من الدين الإسلامي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما بيَّنها واحداً واحداً ديناً بقوله في حديث مسلم في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب: (هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم) فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذه هي الصوفية، فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك، لتركه ركناً من أركانه. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه، هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان).
|
||||
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() علاقة التصوف بالأديان الأُخرى سؤال: يُتَّهم التصوف من بعض الجهلة وأدعياء العلم بأنه مستقى من أصول غير إسلامية كالفارسية والهندوسية والبراهمية، كما أَطلق بعض أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم اسم التصوف على الرهبنة والبوذية والكهانة النصرانية والشعوذة الهندية، فقالوا هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي؛ أين التصوف من كل هذا، وأين هو من الشرع الإسلامي؟ جواب: إن علم التصوف مستمد من الكتاب والسنة النبوية جملةً وتفصيلاً، ومما سبق من نصوص يتبين لنا أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً، ولكنه مأخوذ من الكتاب والسنة وحياة الصحابة الكرام، ومن إلهامات الصالحين الربانيين وفتوحات العارفين الصديقين. وعلى القارئ إذا أراد أن يتبحر في ذلك أن يعود إلى كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وأن يقرأ في أربعة كتب منه وهي: «كتاب العبادات» و «كتاب العادات» و «كتاب المهلكات» و «كتاب المنجيات» ليعرف السالك أن التصوف هو التطبيق العملي للإسلام وأنه يستمد فكره من الكتاب والسنة، وأنه ليس هناك فعلاً إلا التصوف الإسلامي فقط. وإنما أُريدَ بتلك التهم تشويه اسم التصوف باتهامه بأنه يرجع في نشأته إلى تلك الأصول القديمة والفلسفات الضالة، ومن ثَم إبعاد المسلمين عن حقيقة وجوهر وروح دينهم، حتى يكونوا مجردين من الروح والخلق، حافظين لنصوص دينهم دون عمل وفهم وتذوق. إن مصدر علوم التصوف هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق بالإجماع. وقد جاءت هذه العلوم لتحقيق الكمالات علماً وعملاً وحالاً، ولتكميل العقائد وتطهير النفوس وتحسين الأخلاق. وهذه رسالته صلى الله عليه وسلم. أما ثبوت شرف التصوف، فلا شك أن الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وردت بمدح جزيئات التصوف ودعائمه، كالتوبة والتقوى والإحسان والاستقامة والصدق والإخلاص والطمأنينة والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والمحبة والمراقبة والصبر والشكر وغير ذلك من المسائل. وهذه ليست جديده ولا مبتدعة، وليست قديمة من فلسفات الفرس والهندوس وغيرها، إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ربطنا بها إلا حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصوفية أتبع الناس وأكثرهم إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل ذلك على أنهم أحب الخلق إلى الله. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (31 آل عمران) وروى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) وعلامة المحبة الإتّباع. أما حكم الشرع في التصوف فقد قال الغزالي: (إنه فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم السلام) على اعتبار أن التصوف هو المدخل إلى تزكية الأنفس. وقال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مُصِرّاً على الكبائر من حيث لا يشعر ولا يدري، وحيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه إذا عُرف بالتربية والإرشاد واشتهر الدواء على يده). قال أحد العارفين يُعرفنا مقامَ السالكين: (الناس ثلاثة، عالم وعابد وعارف صوفي. وكلهم أخذوا حظاً من الوراثة المحمدية، فالعالم ورث أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً بشرط إخلاصه، وإلا خرج من الوراثة بالكلية، إذ الأعمال بلا إخلاص أشباح بلا أرواح، فمن ورث عن أبيه جارية ميتة فليس بوارث. والعابد ورث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من قيام وصيام ومجاهدة ظاهرة. فقد قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه وكان يصوم كثيرا ويفطر. والصوفي العارف ورث الجميع، فأخذ في بدايته ما يحتاج إليه من العلم، وقد يتبحر فيه ثم ينتقل إلى العمل على أكمل حال، ثم زاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من زهد وورع وخوف ورجاء وصبر وحلم وكرم وشجاعة وقناعة وتواضع وتوكل ومحبة ومعرفة وغير ذلك). ويؤكد شيخنا وسيدنا عبد الرحمن الشريف في رسائله التي تضمنت نظرته النقية الواضحة للتصوف يؤكد على قول القائل: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تفقه وتصوف فقد تحقق). ويقول رضي الله عنه: (إن الشريعة أقوال والطريقة أفعال والحقيقة أنوار والمعرفة أسرار. فالشريعة القشر الظاهر والطريقة اللب الفاخر والحقيقة الذهن الذي لا يُدرَك إلا بالذوق، والمعرفة هي اللذة المعجلة لأهل الحب فيه والشوق. فلا وصول إلى اللُّب إلا بعد الإحاطة بالقشر، وهي أوامر الشريعة ونواهيها. ولا ذوق إلا لمن سهر بالذكر والفكر). |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() علاقة التصوف بالأديان الأُخرى سؤال: يُتَّهم التصوف من بعض الجهلة وأدعياء العلم بأنه مستقى من أصول غير إسلامية كالفارسية والهندوسية والبراهمية، كما أَطلق بعض أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم اسم التصوف على الرهبنة والبوذية والكهانة النصرانية والشعوذة الهندية، فقالوا هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي؛ أين التصوف من كل هذا، وأين هو من الشرع الإسلامي؟ جواب: إن علم التصوف مستمد من الكتاب والسنة النبوية جملةً وتفصيلاً، ومما سبق من نصوص يتبين لنا أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً، ولكنه مأخوذ من الكتاب والسنة وحياة الصحابة الكرام، ومن إلهامات الصالحين الربانيين وفتوحات العارفين الصديقين. وعلى القارئ إذا أراد أن يتبحر في ذلك أن يعود إلى كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وأن يقرأ في أربعة كتب منه وهي: «كتاب العبادات» و «كتاب العادات» و «كتاب المهلكات» و «كتاب المنجيات» ليعرف السالك أن التصوف هو التطبيق العملي للإسلام وأنه يستمد فكره من الكتاب والسنة، وأنه ليس هناك فعلاً إلا التصوف الإسلامي فقط. وإنما أُريدَ بتلك التهم تشويه اسم التصوف باتهامه بأنه يرجع في نشأته إلى تلك الأصول القديمة والفلسفات الضالة، ومن ثَم إبعاد المسلمين عن حقيقة وجوهر وروح دينهم، حتى يكونوا مجردين من الروح والخلق، حافظين لنصوص دينهم دون عمل وفهم وتذوق. إن مصدر علوم التصوف هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق بالإجماع. وقد جاءت هذه العلوم لتحقيق الكمالات علماً وعملاً وحالاً، ولتكميل العقائد وتطهير النفوس وتحسين الأخلاق. وهذه رسالته صلى الله عليه وسلم. أما ثبوت شرف التصوف، فلا شك أن الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وردت بمدح جزيئات التصوف ودعائمه، كالتوبة والتقوى والإحسان والاستقامة والصدق والإخلاص والطمأنينة والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والمحبة والمراقبة والصبر والشكر وغير ذلك من المسائل. وهذه ليست جديده ولا مبتدعة، وليست قديمة من فلسفات الفرس والهندوس وغيرها، إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ربطنا بها إلا حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصوفية أتبع الناس وأكثرهم إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل ذلك على أنهم أحب الخلق إلى الله. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (31 آل عمران) وروى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) وعلامة المحبة الإتّباع. أما حكم الشرع في التصوف فقد قال الغزالي: (إنه فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم السلام) على اعتبار أن التصوف هو المدخل إلى تزكية الأنفس. وقال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مُصِرّاً على الكبائر من حيث لا يشعر ولا يدري، وحيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه إذا عُرف بالتربية والإرشاد واشتهر الدواء على يده). قال أحد العارفين يُعرفنا مقامَ السالكين: (الناس ثلاثة، عالم وعابد وعارف صوفي. وكلهم أخذوا حظاً من الوراثة المحمدية، فالعالم ورث أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً بشرط إخلاصه، وإلا خرج من الوراثة بالكلية، إذ الأعمال بلا إخلاص أشباح بلا أرواح، فمن ورث عن أبيه جارية ميتة فليس بوارث. والعابد ورث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من قيام وصيام ومجاهدة ظاهرة. فقد قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه وكان يصوم كثيرا ويفطر. والصوفي العارف ورث الجميع، فأخذ في بدايته ما يحتاج إليه من العلم، وقد يتبحر فيه ثم ينتقل إلى العمل على أكمل حال، ثم زاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من زهد وورع وخوف ورجاء وصبر وحلم وكرم وشجاعة وقناعة وتواضع وتوكل ومحبة ومعرفة وغير ذلك). ويؤكد شيخنا وسيدنا عبد الرحمن الشريف في رسائله التي تضمنت نظرته النقية الواضحة للتصوف يؤكد على قول القائل: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تفقه وتصوف فقد تحقق). ويقول رضي الله عنه: (إن الشريعة أقوال والطريقة أفعال والحقيقة أنوار والمعرفة أسرار. فالشريعة القشر الظاهر والطريقة اللب الفاخر والحقيقة الذهن الذي لا يُدرَك إلا بالذوق، والمعرفة هي اللذة المعجلة لأهل الحب فيه والشوق. فلا وصول إلى اللُّب إلا بعد الإحاطة بالقشر، وهي أوامر الشريعة ونواهيها. ولا ذوق إلا لمن سهر بالذكر والفكر). |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||
|
![]() أهمية التصوف سؤال: ما هي ضرورة التصوف بالنسبة للمسلم؟ جواب: إن التصوف هو المظهر المعنوي الروحي للإسلام، فإذا بحثنا عن الصفاء والاندفاع والحرارة في العاطفة الإسلامية وجدناها عند الصوفية. ومن أحب أن يعرف شيئا عن الحب الإلهي وسمو رفعة الصلة الروحية بين المسلم وخالقه فليصحب القوم السالكين، ويتدبر أقوالهم وأحوالهم، ليتبين له أن التعليم والاصطلاحات التي سميت تصوفا هي حقيقة وجوهر وروح الإسلام. وبها نمت العاطفة الدينية والحياة الروحية عند المسلمين. وبهذه الروح التي تغلغلت في حياة المسلمين وعقائدهم وعبادتهم ومعاملاتهم انتشر الإسلام في إفريقية والهند والصين وإندونيسيا ودول المغرب العربي. وذلك بحسن سيرة أولئك الأعلام من مشايخ الطرق وتأسِّيهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الأعمال التي يقوم بها المسلم نوعان: جسمية وقلبية، الجسمية منها تقوم على الأوامر والنواهي كالأمر بالصلاة والزكاة والحج، والنواهي كالنهي عن السرقة أو القتل أو الزنى. والأعمال القلبية تقوم أيضا على أوامر ونواه، فالأوامر كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله... الخ، والنواهي تنهى عن الكفر والنفاق والحسد والحقد والغرور والكبر والعجب والشح والبخل. وهذا القسم الذي يتعلق بالقلب هو مدار بحثنا إذ أن عليه مدار الأمر رغم أهمية الكل، لأن الباطن أساس الظاهر، وفي فساده إفساد للأعمال الظاهرة، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركز اهتمامه على إصلاح قلوب أصحابه وأن صلاح الإنسان بصلاح قلبه. ولا أعني الجسم الصنوبري الذي يعالجه الأطباء، إنما أعني اللطيفة الروحانية المتعلقة به، وهي التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). فعلى المرء أن يُعنى بإصلاح قلبه وتخليته من الصفات المذمومة التي نهى عنها طالما أن صلاحه منوط بصلاح قلبه. قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (88-89 الشعراء). وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم). إن أهمية التصوف الإسلامي تنبع من تنقية القلب من الشوائب وتهذيب النفس وتخليصها من الآفات. ولذلك قال العلماء إن التخلص من كل هذه الآفات هو فرض عين؛ بدليل ما ورد في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (151 الأنعام). ويأمرنا تعالى في آية أخرى بترك الفواحش الظاهرة والباطنة، بقوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } (120 الأنعام) فالفواحش الظاهرة كالقتل والزنى والسكر والسرقة، أما الباطنة فهي كالحقد والحسد والشح والبخل والنفاق وغيرها من آفات النفس المتعددة. وإذا تأملنا معنى الآية الكريمة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37 ق) وجدنا في معناها أنه ليس لكل إنسان قلب، لأن الآية تعني اللطيفة المتعلقة، لا العضلة، واللطيفة المتعلقة لا يمكن أن تكون في قلب ممتلئ بالحقد والرياء والنفاق والحسد والشح والبخل، فكل هذه الآفات وغيرها مما يُعنى التصوف بزوال وجودها من تلك اللطيفة. أما إذا استعرضنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجد كثيرا منها ينهى عن هذه الآفات التي تحول دون حال التزكية التي يحرص التصوف عليها، كآفات الحقد والرياء والشح والكبر والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة والمكر والخديعة والقسوة وطول الأمل وغير ذلك. ونجد كثيراً من الأحاديث التي تأمر بالتحلي بالأخلاق والمثل العليا والمعاملة الطيبة، كخلق التواضع والتناصح والصبر واحتمال الأذى وخدمة الإخوان ومحبتهم والكرم والحب والشكر وخفض الجناح واللين والعفو، وغير ذلك. هذه الأخلاق جزء من ثمرة السلوك في طريق القوم. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبه فأعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من شعب الإيمان). وهذه الأخلاق هي أيضاً جزء من درجات الإيمان. يقول صاحب مراقي الفلاح: (لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة بالإخلاص والنـزاهة عن الغل والغش والحقد والحسد وتطهير النفس عما سوى الله، فيعبده لذاته لا لعلةٍ، مفتقراً إليه، وهو يتفضل عليه بالمنّ بقضاء حوائجه المضطر بها عطفاً عليه، فتكون عبداً فرداً للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياء سواه ولا يستملكك هواك عن خدمتك إياه). ولكي ندرك أهمية التصوف نقول بأن الإنسان يسعى دوماً إلى أن يظهر على الملأ بصورة لائقة من حيث جمال ملبسة وجمال مظهره وأناقة لبس أولاده وفخامة ركوبته ومحيطه، كل هذا مما يكلف الشيء الكثير من المال ينفقه الإنسان حتى يظهر في عيون الناس بصوره حسنة ولائقة لأنه محل نظرهم، فلا حرج في ذلك. لكن أيجوز له أن يزين محل نظر الناس، وهو الظاهر، ويترك محل نظر رب الناس وهو الباطن، ملطخاً بكل الآفات التي ذكرناها. أليس هذا قصوراً في النظر وضرباً من ضروب طمس البصيرة والجرأة على الله!؟. إن التصوف وأهله هم الذين اعتنوا بتصحيح هذه الآفات ونقلها من حال السوء والبشاعة إلى حال الحسن والجمال، وتزكية النفس من كل الصفات الناقصة، وهو الذي يكشف آفات الرجال الذين يظنون بأنفسهم الكمال، ويسعى لتقويمها وتعريف صاحبها بها، حتى ينجلي القلب ويسير في طريق الله في صدق ووفاء، ويزرع فيه كل خصال الخير التي حثنا ديننا عليها وأمر أن نزين بها بواطننا. إن التصوف ليس كما يظن البعض بأنه مجرد أوراد تقرأ، وتسابيح تردد، بل هو بالإضافة إلى ذلك المنهج الإسلامي العلمي الذي يرقى بالسالك حينما يملك الأشياء ولا تملكه، والتطبيق العملي لكل الفرائض والعبادات، إنه أركان الإسلام الخمسة ثم أركان الإيمان الستة ثم أركان الطريق السبعة التي سيأتي ذكرها. فهو روح الإسلام والطريق العملي إلى درجات الكمال الإيماني وهو أيضاً الخلق السوي (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فالتصوف هو تمام مكارم الأخلاق إضافة إلى تطبيق أوامر الشرع والبعد عن نواهيه. وما وصل المسلمون إلى هذه الحالة من التحلل والتخاذل والتفكك وذهاب القيم الروحية والأخلاقية والتكالب على الدنيا ومتاعها، إلا حين تنادوا بالنصوص دون العمل، وبالعقل دون القلب، وبالجسم دون الروح، وبالظاهر دون الجوهر، وبالقشر دون اللب، فكان ما كان. ولهذا فإني أنصح إخواني بالتزام المنهج العملي للتصوف الذي سيأتي ذكره، بالجمع دوماً بين نصوص الإسلام وتطبيقها وبين مادة الإسلام وروحه، حتى يعود للأمر صفاؤه وجلاؤه ويقينه وروحه وذوقه. وأنصحهم بالصبر والمصابرة والجلَد والجد في طريق القوم، لأن طريقهم ليس سهلاً على النفس، ولأن سلعة الله غالية ومهرها ثمين، فلا بد من دفع الثمن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية (ثلاثاً)، ألا إن سلعة الله الجنة). قال الفُضيل بن عياض[i] رحمه الله: (عليك بطريق القوم ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين، وكلما استوحشت من تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك) ويعني بهؤلاء المشككين بطريق القوم، القاطعين الصادين عن سبيل الله. [i]. هو أبو علي التميمي شيخ الحرم ولد بخراسان عام 105 هجريه وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً كثير الحديث. |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 5 | |||
|
![]() المفهوم الصحيح للسنة والبدعة تمهيد يكثر الحديث بين الحين والآخر، عن خلافات تحدث في المسائل الفرعية من الدين، وفي تفسير السنة والبدعة، حتى رأينا عددا ممن ينتسبون إلى الدين، وهم من الذين أخذوا بظواهر الآيات والأحاديث، لا يرون الحق إلا معهم، ويرمون من يخالفهم بالضلال والابتداع أو الكفر والشرك، بل لا يستمعون إلا لمن كان منهم وعلى شاكلتهم، وينظرون إلى جمهور الأمة بالمنظار الأسود، فإما مبتدعة أو مشركون خارجون عن الإسلام، حتى تطاولوا على علماء المسلمين عبر التاريخ الإسلامي. والعجيب الغريب أن الذين يعملون على إثارة الخلافات في المسائل الفرعية، ويبدِّعون فيها من يخالفهم، لا نجد لهم صوتا ولا رأيا في المسائل الكبرى التي وقع فيها المسلمون، وأحيانا كانوا يقفون في فتاواهم مع أعداء الإسلام في حربهم ضد المسلمين، مع أن مواجهة خطر الأعداء فرض عين! مما يضع عليهم علامة استفهام، ذلك لأن إثارة المسائل الخلافية في الفروع وفي هذا الزمن بالذات، وهي المسائل التي وسعت المسلمين وأصحاب المذاهب منذ القدم، فإن إثارتها في هذا الزمن بالذات تفرِّق ولا تجمع، مما يساعد على التناحر والتنافر والتراشق بالتهم والتبديع والتضليل، ولا مصلحة للمسلمين في ذلك. والمقصود من حديثنا هذا أن نقول لهؤلاء ومن يقع في دائرتهم، إن واجب المسلم أن يحسن الظن بالمسلمين، فضلاً عن علماء المسلمين، لأن إثارة المسائل الفرعية التي اختلف العلماء فيها بطريقة تسيء الظن بهؤلاء المجتهدين، فيها هدم للدين، وتفرقة للأمة التي استوعبت اختلاف الأئمةِ في الفروع منذ عصورها الأولى، دون أن يفرِّق الاختلاف بينهم في العقيدة والاحترام والتضامن والتعاطف، وكلهم ملتزمون بالدين، غيورون عليه، لا كما يظن المتفيهقون في هذا العصر الذين يدّعون الاجتهاد في مسائل الدين، وليس لديهم من أدوات الاجتهاد شيء إلا مجرد الادعاء. بل هم مقلدون لأناس مشبوهين طلعوا على الأمة بآراء ينقضون فيها اجتهادات الأئمة الذين شهدت لهم الأمة على مدى يزيد عن ألف سنة بالعلم والفقه والورع والدين، وكان لهم في الأمة لسانُ صدق - كما قال ابن تيمية - كالشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل وغيرهم رحمهم الله أنواع التوسل سؤال:ما هي أنواع التوسل؟ وهل هناك خلاف حولها؟ جواب: التوسل ستة أنواع، ثلاثة منها لا خلاف فيها بين المسلمين جميعاً: النوع الأول: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم: وهو أساس التوسل بالصالح الحي إلى الله تعالى. ومن أدلته: الحديث الأول: ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أنـس بن مالك رضي الله عنه (أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من بابٍ كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا. قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحابٍ ولا قزعةٍ، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار، قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، قال: ثم دخل رجلٌ من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال: اللهم حَوْلَنا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس. قال شريك فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري). وفي الحديث دليل واضح على جواز التوسل بالحي الصالح، وإلا لأُمر ذلك الرجل بالدعاء من بيته أو أي مكان آخر دون الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث الثاني: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير وابن ماجة في السنن ونص على صحته النسائي وأبو نعيم والبيهقي والمنذري والهيثمي والطبراني وابن خزيمة وهو ما رواه الترمذي بسنده عن عثمان بن حنيف (أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أُصبت ببصري، فادع الله لي، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بحق نبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني استشفع بك على ربي في رد بصري -وفي رواية "في حاجتي لتقضى لي اللهم شفعه فيَّ" - ثم قال صلى الله عليه وسلم وان كانت حاجة فافعل مثل ذلك). وهذا الحديث حجة قوية في صحة التوسل بالحي، ومفهومه حجة لصحة التوسل بالميت. وسيأتي ذكره في مكان آخر. وروى أبو داود في سننه وغيره: (أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هلك الزرع وجف الضرع وإنّا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله عليك. فسبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه فقال: ويحك أتدري ما الله تعالى! إن الله تعالى لا يُشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك). فيلاحظ هنا إنكاره صلى الله عليه وسلم قول الرجل(إنا نستشفع بالله تعالى عليك). ولم ينكر قوله (إنا نستشفع بك إلى الله تعالى). وفي الصحاح مجموعة عطرة من هذه الأحاديث، لا يتسع لها المجال هنا في إثبات صحة التوسل بالحي الصالح. النوع الثاني: التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته: وهو التوسل إلى الله بذاته تعالى وبأسمائه وصفاته ونحوها. وهذه الأنواع متفق على مشروعيتها. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (186 البقرة). وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (180 الأعراف). وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (60 غافر). والأدلة على هذا النوع أكثر من أن تحصى. النوع الثالث: التوسل بالعمل الصالح: وهو توسل الحي بالعمل الصالح إلى الله تعالى. أخرج البخاري في صحيحه ومسلم في كتاب الذكر عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى آووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم، اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غُبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتْ، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أُحِلَ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، وفي رواية: أسألك بالله أن لا تفض الخاتم إلا بحقه. فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال يا عبد الله: أدِّ إليّ أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئًا. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون). وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة قوله: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة). وهذا الحديث أيضا توسل بالعمل الصالح والرجل الصالح "بحق السائلين عليك" "وبحق ممشاي هذا". النوع الرابع: التوسل بالميت الصالح: وهو الأمر الذي اشتد الخلاف فيه في هذا الزمن ولم يكن مطروقا في الماضي. علماً بأن جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة قد أجازوه بالدليل الشرعي. وفي الشرع من الأدلة النقلية الصحيحة ما يؤكد هذا النوع من التوسل. ولقد أوردنا في النوع الأول من أنواع التوسل حديث الأعمى لأنه المحور الأساسي في إثبات شرعية هذا النوع الرابع من التوسل. ونص الحديث حجة صحيحه للتوسل الأول، ومفهومه حجة لصحة التوسل بالميت. فقد بينا في التمهيد عقيدتنا في التوسل في أننا لا نتوسل بالجسم ولا بالحياة ولا بالموت، ولكن بالمعنى الحسن والجاه الرفيع المقبول عند الله للصالح حيا كان أو ميتا، إذ الفعل لله، ولا فرق بين حياة المتوسَّل به أو مماته. وقوله في الحديث (يا محمد إني استشفع بك) نداء للغائب يستوي فيه الحي والميت. ورغم ذلك فهناك أثر طيب أخرجه الطبري في معجمه الصغير عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف: وهذه الرواية هي امتداد للمفهوم والمعنى الذي ورد في حديث الأعمى (أن رجلا كان يختلف إلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يتلفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك (وهذه الحادثة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد خلافة أبي بكر وعمر) فقال له عثمان بن حنيف [وهو الصحابي المحدث العالم بدين الله] إيت الميضأة، فتوضأ، ثم إيت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد: إني أتوجه بك إلى ربي، فيقضي حاجتي قال: وتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل يصنع ما قاله له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة (الوسادة) فقال ما حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال ما كانت لك من حاجة فاذكرها. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلمتَه (يظن أن ابن حنيف كلمه، وتوسط له عند أمير المؤمنين عثمان) فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمتُه، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوَتصبر؟ فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال صلى الله عليه وسلم إيت الميضأه، فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات. قال ابن حنيف فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل (الأعمى) كأن لم يكن به ضر قط).والحديث محقق مع الحديث الأول. سؤال:يقر البعض بجواز التوسل بالصالح الحي والعمل الصالح وبعدم جوازه بالصالح الميت. ويستشهدون على ذلك بتوسل الصحابة بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، أين الحقيقة في ذلك؟ جواب: حديث التوسل بالعبـاس حديث صحيح رواه البخاري والطبراني وابن ماجة (أن الأرض أجدبت في زمن سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه وكادت الريح تذر ترابا كالرماد لشدة الجدب فسمي (بعام الرمادة) ولذلك خرج سيدنا عمر يستسقي، فقال للناس: هل فيكم من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ سيدنا عمر بيده وأوقفه أمامه وقال (اللهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيك فأنت تقول وقولك الحق {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (82 الكهف) فحفظتهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيك في عمه، فقد دنونا به إليك مستغفرين، ثم أقبل على الناس وقال: استغفروا ربكم انه كان غفارا، والعباس عيناه تنضحان وهو يقول (اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الكبير والصغير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم أغثنا بغيثك فقد تقرب القوم بي إليك لمكانتي من نبيك عليه الصلاة السلام). فنشأ طرير من سحاب وقال الناس: أترون أترون! ثم تراكمت الغيوم وماست فيها ريح ثم هرت ودرت حتى قلعوا الحذاء وقلعوا المآزر، وعاد الناس يتمسحون بردائه ويتبركون به، ويقولون هنيئا لك ساقي الحرمين). جملة القول في موضوع التوسل بالصالح الميت ينحصر في الآتي: أولاً: جاء في كتاب «الاستيعاب» لابن عبد البر: "سبب توسل الصحابة بالعباس أن هذا لا يتنافى مع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في قبره لأن سبب توسلهم به رضي الله عنه هو قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم توسلوا بالرسول وبعمه في وقت واحد". وكانت طائفة في العام نفسه وللسبب نفسه تتوسل إلى الله مستسقين بالرسول صلى الله عليه وسلم في قبره، كما أخرج ابن أبي شيبة عن مالك الدار بسند صحيح كما في فتح الباري وأخرجه البخاري في التاريخ وابن أبي خثيمة والبيهقي في الدلائل (أن بلال بن الحارث المزني الصحابي، أتى إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الرماد في عهد عمر بن الخطاب وقال: (يا رسول الله استسق لأمتك فانهم قد هلكوا.)..الخ). وهو نص لم ينكر على الصحابي فأخذ قوة الاجماع. وقد أخرج ابن عساكر وابن الجوزي وابن النجار بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: (أتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فزرته فجلست بحذائه، فجاء أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثى من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله تعالى ووعينا عنك وكان فيما انزل عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي. فنودي من القبر أنه قد غفر لك). وفي هذا جواز التوسل واستمداد المغفرة والمدد من الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم. ثانياً: إن الأمر بالنسبة للأنبياء والشهداء يستوي في الحياة والممات لأنهم أحياء في قبورهم وأن الأرض لا تأكل أجسادهم لما روى النسائي عن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) وروى البيهقي في كتاب الأنبياء وصححه من حديث أنس رضي الله عنه أنـه صلى الله عليه وسـلم قال (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون). وروى مسلم في باب فضائل موسى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مررت على موسى ليلة اسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره). وروى الحافظ الهيثمي عن عبد الله بن مسعود وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح أن النبي صـلى الله عليه وسـلم قال (حياتي خير لكم تحدثون ويُحدّث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيراً لكم تُعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله وان رأيت شراً استغفرت لكم). وهذا العرض كل يوم، وقد عُد من خصائصه صلى الله علية وسلم. وكثرة الأحاديث بهذا المعنى تدل دلالة لا شك فيها على أن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من باب أولى، لأن هذا هو حال الشهداء أيضاً وان كانت حياتهم دون حياة الأنبياء. قال تعالى {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (154 البقرة). ثالثاً: هذه الوسيلة كانت قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر القرآن الكريم قصة بني إسرائيل في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (89 البقرة) يقول صاحب الكشاف ما نصُّهُ "وكانوا يعني اليهود من قبل: أي من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. يستفتحون: أي يستنصرون به. على الذين كفروا: يعني مشركي العرب، وذلك انهم كانوا إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو يقولون اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة وكانوا ينـتصرون. وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما جاءهم ما عرفوا: أي الرسول صلى الله عليه وسلم عرفوا نعته وصفته. كفروا به: أي جحدوه وأنكروه بغيا وحسدا وكفراً". رابعاً: يستفاد من حديث التوسل بالعباس درسٌ لقننا إياه أمير المؤمنين عُمر للتبرك والمحبة لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (23 الشورى). النوع الخامس:التوسل بالصالح الحي: وقياسا على حديث العباس والاستسقاء به أجاز العلماء التوسل بالصالح الحي الذي عُلم صلاحه من غير النبي صلى الله عليه وسلم، كما أجازوا التوسل بالصالح الميت قياساً على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. وهذا عمر بن الخطاب يتوسل إلى الله بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج بن عبد الحكم عن زيد بن أسلم قال:(لما أبطأ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح مصر كتب إلى عَمرو بن العاص رضي الله عنه: أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على القتال وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس وأمر الناس أن يكونوا لهم صدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنـزل فيها الرحمة). وهذا خالد بن الوليد يتوسل ويستنصر بشَعر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الطبراني عن جعفر بن عبد الله بن الحكم أن خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال: اطلبوها فلم يجدوها، فقال اطلبوها فوجدوها، فإذا هي قلنسوة خَلقة (بالية) فقال خالد (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره، فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصرة). وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري (أنه نظر إلى ابن عمر رضي الله عنهما وضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه). و عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال (رأيت ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد أخذوا برمانة المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون). والعقيدة الصحيحة التي نحن عليها أن الأنبياء والأولياء والصالحين لا فعل لهم ولا قدرة ولا تصرف لا الآن ولا حين كانوا أحياء في دار الدنيا لأن صفتهم الفناء والاستهلاك. وهو ما أكده الشيخ يوسف الرفاعي في كتابه «أدلة أهل السنة والجماعة» بقوله: "لو كان هذا التوسل شركاً وتوجهاً إلى غير الله كما يزعم المنكرون، فينبغي أن يمنع التوسل وطلب الدعاء من الصالحين من عباد الله وأوليائه في حال الحياة أيضا. وليس ذلك مما يُمنع فانه مستحبٌ ومستحسن شائع في الدين، ولو زعم أنهم عزلوا واخرجوا من الحالة والكرامة التي كانت لهم في الحياة الدنيا فما الدليل عليه. ومن اشتغل من الموتى عن ذلك بما عرض له من الآفات فليس ذلك كافياً ولا دليلاً على دوامه واستمراره إلى يوم القيامة". ويقول أيضاً "نعم إن كان الزائر يعتقد أن أهل القبور متصرفون ومستبدون وقادرون من غير توجه إلى حضرة الحق والالتجاء إليه كما يعتقده العوام الغافلون الجاهلون، وكما يفعل أولئك من تقبيل القبر والسجود والصلاة إليه مما وقع عنه النهي والتحذير، فذلك مما يمنع ويحذر منه وفعل العوام لا يعتبر قط، وهو خارج عن البحث وحاشا من العالم بالشريعة والعارف بأحكام الدين انه يعتقد ذلك ويفعل هذا". وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك رحمه الله تعالى للخليفة الثاني من بني العباس وهو المنصور جد الخلفاء العباسيين في المناظرة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال له الإمام مالك: (يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (2 الحجرات). وقد مدح قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} (3 الحجرات) وذم قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} (4 الحجرات). وإن حرمته ميتاً كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر فقال: يا أبا عبد الله (يعني الإمام مالك) أستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة. بل استقبله واستشفع به فيشفِّعه الله، قـال اللـه تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُم}(64 النساء). وهذه القصة رواها القاضي عياض بإسناد صحيح. وقد صرح كثير من العلماء بهذا[1]. والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة[2] ينص على (صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، كما دلت الأحاديث السابقة). فإننا إذن وبناءاً على ما تقدم لا نعتقد تأثيرا ولا خلقاً ولا إيجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا خيراً إلا لله وحده لا شريك له، فلا نعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا خيراً للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الخلق والإيجاد والتأثير، ولا لغيره من الأحياء والأموات. فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، وكذا بالأولياء والصالحين، ولا فرق بين كونهم أحياءً أو أمواتاً، لأنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهممن دون الله تأثير في شيء. وإنما يتبرك بهم لكونهم أحبّاء الله تعالى، والخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له، ولأنه تسري بركة المكان على الداعي، كما ذكر الإمام الشوكاني. أما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات حيث جوّزوا بعض التوسلات بالأحياء دون الأموات فهم القريبون من الزلل والخلل لأنهم اعتبروا أن الأحياء لهم تأثير دون الأموات مع أنه لا تأثير إيجاداً لغير الله تعالى على الإطلاق. وأما الإفادة وفيض البركات والاستفادة من أرواحهم استفادة اعتيادية، وتوجه أرواحهم إلى الله تعالى طالبين فيض الرحمة على ذلك المتوسل فهو شيء جائز وواقع وخال عن كل خلل دون الفرق بين الأحياء والأموات. فشبهة المانعين إن كانت من جهة أن الأموات أجساد هامدة جامدة ولا روح ولا إدراك ولا مجال للخطاب معهم، فتلك ساقطة من الاعتبار لأن أجساد الأنبياء لا تبلى، وان الله حرّم على الأرض أن تأكل لحومهم، وأن أرواحهم باقية ثابتة ولها إدراك بإذن الله تعالى، وهو تعالى يعلمها بصلاة المسلمين وبتوسلات المتوسلين، وحسبك في الموضوع خطابك النبي صلى الله عليه وسـلم في كـل صلاة عند التشـهد بقولك (السلام عليك أيها النبي ورحمـة اللـه وبركاته) وليس (السلام على النبي). فإذا توسلنا به صلى الله عليه وسلم على معنى طلب الدعاء منه فطلب الدعاء مشروع وإذا توسلنا بذاته الشريفة أو بجاهه العظيم أو بحقه الجسيم فكل ذلك واقع في الروايات الصحيحة. وإذا كان القصد الاستشفاع بـه صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه الشفيع وشفاعته ثابتة شرعا. وما توهم الناس به من انه شرك فالشرك أن يجعل العبد أحداً سوى الله تعالى شريكاً له في الألوهية والربوية والخلق، وأين ذلك من التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بصفة أنه عبد الله ونبيه ورسوله أكرمه بفضله وجعل له الشفاعة والوسيلة والمقام المحمود. قال شيخنا الشيخ عبد الرحمن الشريف: فامدح كما شئت فهو الفذ مرتبة وليس فوقـه إلا الله فافـتهم. وقياس المسلمين المتوسلين على عُبَّاد الأصنام فيما حكاه الله تعالى عنهم من قولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3 الزمر) ونحوه، ناشئ عن إغماضٍ عن الحق وانحرافٍ عن الواقع وتسوية بين الأمة الوثنية الجاهلة الضالة وبين الأمة المسلمة المؤمنة بالله وحده لا شريك له، الناشئة عن الملة الإسلامية الحنيفة التي تمرنت على الاعتقاد بالله والتي رضيت بالله تعالى رباً وبالإسلام دينا وبالقرآن كتابا وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبدا ورسولا و نبياً. وآمنت بأن البعث حق والجنة حق والنار حق والموت حق والحساب حق. وكيف يتصور بمن أسلم وقرأ القرآن وفهم تعاليمه وأحب النبي العدنان أن يظن تلك الظنون الفاسدة التي ظنها عُبَّاد الأصنام الجاهليون. وكيف يتصور ذلك من العارفين بالله الدارسين لمعنى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (110 الكهف) ولإنذارات الرسول صلى الله عليه وسلم لعشيرته بعد نزول قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (214 الشعراء). النوع السادس:التوسل بالجاه: يقول العلامة الألوسي البغدادي في تفسيره «روح المعاني» بعد بحث طويل في التوسل يقول ما نصه: "أنا لا أرى بأساً في التوسل إلى الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً. ويراد من الجاه معنىً يرجع إلى صفة من صفاته مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته. فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل إليك بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي إلهي اجعل محبتك له وسيلةً في قضاء حاجتي. ولا فرق بين هذا وقولك إلهي أتوسل إليك برحمتك أن تفعل كذا، إذ معناه أيضا (الهي اجعل رحمتك وسيلة في كذا)، بل لا أرى بأساً أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. نعم لم يُعهد التوسـل بالجاه والحرمة على أحـد من الصحابة [الكلام للألوسي] ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبو عهدٍ بالتوسل بالأصنام. ثم يقول إن التوسل بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه ممن عُلم أن له جاهاً عند الله تعالى، كالمقطوع بصلاحه وولايته". ومن هذا الفهم الطيب فتح الله على شيخنا الشيخ عبد الرحمن الشريف في قصيدته المشهورة التي يرددها أتباع الطريقة دوماً، وهي تزخر بالتوسلات الشرعية بالسادات الكرام رجال السند الشريف حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة «حزب الهمزة» التي بدأ بيتها الأول بقوله: نـدعـوك يـا الله بـالآيـات والـذكــر الحــكــيــم بمــظهــر الأسـماء وبحضـرة القــدس التي شــغفت بـهـا أكــبـاد رســل الله والأنـبــــاء (إرجع إليها في كتاب أوراد الطريقة الخلوتية) [1]. راجع كتاب طي السجل للسيد محمد مهدي الروّاس. [2]. المرجع السابق. |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 6 | |||
|
![]() اصطلاح «مدد» سؤال: ما هي شرعية استخدام البعض نداء «مدد»؟ جواب: يقول الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله: "إن كلمة «مدد» التي ينادي بها أحدهم رسول الله أو يخاطب بها أشياخه أو غيرها من الكلمات التي أثارت حفيظة البعض، لها تأويل شرعي حيث ادعى هؤلاء أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه مخالفة للنص الشرعي. فنقول إن الله تعالى يقول {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} (20 الإسراء). وحتى تكون الصورة أوضح نقول: على السالك في جميع أحواله أن يعلم أمرين: الأول: أن يعلم أن الله تعالى هو مسبب الأسباب والمتصرف تصرفاً مطلقاً في هذا الكون خلقا وإمداداً. ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه مهما علا قدره من نبي أو ولي. الثاني: أن الله تعالى جعل لكل شيء سبباً فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيرها الاستقلالي. فإذا نظر العبد إلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك لأنه جعل الإله الواحد آلهة متعددين، وإذا نظر للمسبب وأهمل اتخاذ الأسباب فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سبباً، والكمال هو النظر بالعينين معاً فنشهد المسبب ولا نهمل السبب.. ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة عليها: إن الله تعالى وحده هو خالق البشر ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عادياً وهو التقاء الزوجين وتكُّونُ الجنين في رحم الأم وخروجه منه في أحسن تقويم. وكذلك فإن الله تعالى هو وحده المميت، ولكنه جعل للإماتة سبباً هو ملك الموت، فإذا لاحظنا المسبب قلنا {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ} (42 الزمر). وإذا قلنا إن فلانا قد توفاه ملك الموت لا نكون قد أشركنا مع الله إلها آخر لأننا لاحظنا السبب كما بينه تعالى في قوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (11 السجدة). · وهكذا الأمر بالنسبة للهداية إذا نظرنا للمسبب رأينا أن الهادي هو الله وحده. ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (56 الإسراء)، وإذا لاحظنا السبب نرى قول الله تعالى لرسوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (52 الشورى). أي تكون سببا في هداية من أراد الله هدايته. والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى. فإذا استرشد مريد بشيخه فقد اتخذ سبباً من أسباب الهداية التي أمر الله تعالى بها وجعل لها أئمة يدلون عليها {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِأَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24 السجدة)، فكما يجوز أن نقول يا رسول الله اهدني ويا ملك الموت اقبضني باعتبار أن المسبب في الهداية والقبض هو الله تعالى والسبب في الأول الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الثاني ملك الموت. كذلك يجوز القول مدد يا رسول الله، باعتبار أن المسبب بالمدد هو الله وأن المدد من عنده، والسبب فيه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك نقول إن الهداية سببها الرسول صلى الله عليه وسلم ومسببها هو الله وهي تجري بأمره {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}". الرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي الباب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56 الأحزاب). جاء في الصلوات الدردرية لشيخنا العارف بالله الشيخ أحمد الدرديري: "اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد النور الذاتي والسر الساري في سائر الأسماء والصفات". قال شيخنا العارف بالله تعالى الشيخ عبد الرحمن الشريف قدست أسرار روحهفي قصيدته «تحفة الإخلاص»: وقـــم على ســــاق جد في محبــة مــــن لولاه مـا انزل التنزيل بالحكم كلا ولا ســـطع الإيجاد من أحد كــــلا ولا أرســلت رسل إلى أمـم قالوا تمدح فمدحي في جـــلالتــه عـين القصـور بخــير العرب والعجم ماذاامتداحي بِمن لولاه ماخلقت عـوالم بـل ولا قـــــور مع الأكــــم ولا ســماء ولا أرض ولا مـــلك ولا رســـــولوكـانالكل في عـدم من الجمال الإلهي كـــان مظهره ومنه بــــدر الوجود المطلق الفخــم فالعرش والفرش والأفلاك أجمعها مـن نورطلعتههـلتبذي العظـم والأنبياء وجميع الرســــــل قاطبـة كــــللديه معالأفلاككالخـــدم والكتبأضحتبهذاالشأنناطقة فـدع مـــقــالة غـــمــر ظـالم أثــم فهو الســـــفير لنا في دفع نازلـــة وهوالعياذلنا في كـــل مـــزدحــــم وهـو الغياث الذي تهدى نـــوائله للقاصدين كــــذاك البـاب للحـكـم فامدح كما شئت فهو الفذ مرتبة وليـــس فــوقه إلا الله فــــافـــتهـم ياقلب فاجنح له كي تهتدي وتفز ياصـب أخـلص ولذ بالمصطفى وهم واخلع عــــذارك وافنى في محبتــه وارســل دموعك ممـا فات في القدم وخالف النفس والزم بـــاب رأفته عســاه يسديك مـا ترجو مـن النعم وقــل بذلك يا خـــير الخلائق يــا منخـــصـهالله بالتعطيف والـكـرم عجت الحمى أحتمي من ســــوء جنتها نفســـي جوف الأليل الدهـم وليس لي عمل أرجــــو به منحــاً ســــوى محبتـــــكم ممـزوجة بدمـي يا سـيدي يا رسول الله خذ بيدي يا ملجئي واحبني مـن فيضك العمم ومن عـــــوائـد آبــــائي بآلك لا تحرمني عند احتياجي أنـت معتصمي هب أنني غير فرع عـبدكم وكفى والرفقبالرق منمسـتظرف الشيم أوصيتموا بالضعيفَيْن فـــها أنا من عـبيدكم فارحموا ضعفي ومقتحمي وعاملوني بمـا تدروه مــــن صـلة كـما أُمـرتم بإيصالٍ لذي الرحـــــم في الحالتين جـدير بالصلات فــما أنــــفك عــــنجودكـم إلا بمنتظـم ولسـت أبغي من الجد الشــــفوق سوىالتوفيقيطلبهمنباريءالنسـم لعبده العاجز المسكين حـيث لكم جـــاه رفيــع بــه نــنجـو من النقـم أيترك الأصل فرعا قد نحـاه هوى مـــن غـــير مــدٍ لأمـــرغير مـلتئـم حاشـــا وكــلا بأن يقلى لـغفـلته والله والله هــــذاأعــظـم القســم يارب بالســيد الهادي البشير كذا بــآلــه الغر مــن هـم ســادة الحـرم هب لي مرامي ونفذكل ما طلبت نفسيمنالخيروانطقبالصوابفمي |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 7 | |||
|
![]() تمهيد أخرج مسلم عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت: (أخبريني عن خُلقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، فقالت: كان خلقه القرآن). وأخرج الطبراني برواةٍ ثقاة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: (إن الله عز وجل لما أراد هدى زيد بن سُعْنَه الذي كان حبراً إسرائيلياً قبل إسلامه رضي الله عنه قال زيد بن سُعْنَه: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبقُ حِلْمُه جهلَه ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حِلْما. قال زيد بن سعنه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الحجرات ومعه على بن أبي طالب رضي الله عنه، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال: يا رسول الله لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن اسـلموا أتاهم الـرزق رغـداً (أي واسعاً) وقد أصابتهم سِنة (أي جدب) وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت. فنظر صلى الله عليه وسلم إلى جانبه أراه عليًا. فقال يا رسول الله ما بقي منه شيء (أي ما عندنا ما نعطيهم) قال زيد بن سعنه (وهو كتابي حينها لم يسلم) فدنوت إليه فقلت يا محمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال صلى الله عليه وسلم: لا تُسم حائط بني فلان، قلت: نعم، فبايعني فأطلقت هِمْياني (وهو كيس يشد على الوسط تجعل فيه النقود) فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا فأعطـاه الرجل (أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الذهب للرجل الذي طلب مؤونة لجماعته) وقال له صلى الله عليه وسلم اعدل عليهم وأغثهم، وقال سعنه: فلما كان قبل مَحِلَّ الأجل بيومين أو ثلاثة (أي وقت استحقاق اخذ التمر من الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم في نفرٍ من أصحابه فلما صلى على جنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته فأخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، قلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما عُلِمتم بني المطلب إلا مُطْلاً ولقد كان لي بمخالطتكم علمٌ، ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني ببصرهِ فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسـمع؟ وتصنع بـه ما أرى؟ فوالذي نفسـي بيده لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي رأسك (الذي يبدو أن الذي يحاذر عمر قوته: هو عدم إيمان زيد بالرسول صلى الله عليه وسلم وهذه فراسة في عمر وكأنه علم بأن زيداً يختبر الرسول صلى الله عليه وسلم) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ في سكون وتُؤَدةٍ، فقال يا عمر: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسنِ الأداء وتأمرَه بحسن إتباعه، اذهب به يا عُمر فأعطه حقه وزده عشرينَ صاعاً من تمرٍ مكانَ ما رُعته (أي بدل إفزاعك له) قال زيدٌ: فذهب عمرُ فأعطاني حقي وزادني عشرينَ صاعًا من تمرٍ. فقلت: ما هذه الزيادةُ يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتُكَ، قال: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا، قلت: أنا زيد بن سُعْنه. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وقلت ما قلت؟ قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حِلْمُه جهلَه ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلمًا، وقد اختبرتهما. فأُشهدك يا عمر أني قد رضيتُ بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا وأشهدكَ أن شطر مالي (فإني أكثرُها مالاً) صدقة على أُمة محمد صلى الله عليه وسلم قال عمر: أوْ على بعضهم فإنك لا تسعُهُم. قلت: أو على بعضهم. فرجَع عُمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيدٌ: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهَد كثيرة ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غيرَ مدبرٍ رحمه الله). أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتُهم له سؤال: كيف كان تأدبُ الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحبهم له؟ جواب: حديثُ الأدبِ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمحبةِ له حديثٌ يطول، تُفَرُد له عادةً المجلداتُ والكتب. إلا أننا نسوقُ بَعض الآثارِ للدلالةِ والإيماءِ لأنَه أمر يعجز عنه البيان ويكلُ دونه اللسان. أخرج الترمذيُ عن أنسٍ رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرجُ على أصحابهِ من المهاجرين والأنصار وهم جلوسٌ فيهم أبو بكرٍ وعُمر رضي الله عنهما فلا يرفع أحد منهم إليه بصرَه إلا أبو بكرٍ وعمر فإنهما كانا ينظرانِ إليه وينظرُ إليهما ويبتسمان إليه ويبتسمُ إليهما). وأخرج الطبرانيُ وابنُ حبان في صحيحه عن أسامَة بن شَريكٍ رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسِنا الطير ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه أُناس فقالوا: من أحبُ عبادِ الله إلى الله تعالى؟ قال: أحسنهم خُلقاً). وأخرج أبو يعلى وصححه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لقد كنت أريدُ أن أسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأمرِ فأؤخر سنتين من هيبته). أما محبتُهم إليه صلى الله عليه وسلم فقد جَعلها عليه الصلاة والسلامُ مهر الإيمان، فلا إيمان لمن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أحَب إليه من مالِه وولدِه ونفسِه والناسِ أجمعين. فكانوا رضوانُ الله عليهم متيَّمين في حبه صلى الله عليه وسلم. أخرج الطبرانيُ عن عائشَة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحبُ إليَّ من نفسي وإنك لأحبُ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرتُ موتي وموتَكَ عرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيين، وأني إذا دخلت الجَنة خشيتُ أن لا أراك. فلم يردَّ عليه النبيُ صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل عليه السلامُ بهذه الآية {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69 النساء)). وفي روايةٍ عند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكركَ فلولا أني أجيء فأنظر إليك ظننت أن نفسي تخرج، فأذكر أني إن دخلتُ الجنة صرتُ دونك في المنزلة فيشقُ ذلك علي وأحبُ أن أكون معك في الدرجةِ. فلم يردَّ عليه صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت الآية فدعاه صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه). وأخرج الطبرانيُ عن حُصينِ بنِ وَحْوَح الأنصاري: (أن طَلحةَ بنَ البراءِ رضي الله عنهما لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يلصق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقبل قدميه، قال: يا رسول الله مرني إن أحببتَ ولا أعصي لك أمراً. فعجب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام فقال له عند ذلك: اذهب فاقتل أباك. فخرج مولياً ليفعل فدعاه فقال له: أقبل فإني لم أُبعث بقطيعة رحم. فمرض طلحةُ بعد ذلك فأتاه النبيُ صلى الله عليه وسلم يعودُه في الشتاء في برد وغيم فوجده مغمى عليه، فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: ما أظن طلحةَ إلا مقبوضاً من ليلته، فإن أفاق فأرسلوا إلي فأفاق طلحةُ في جوف الليل فقال: ما عادني النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، فأخبروه بمـا قـال، فقـال: لا ترسلوا إليه في هذه الساعة فتلسعُه دابة أو يصيبه شيء، ولكن إذا فُقِدتُ فأقرءوه مني السلام، وقولوا له فليستغفر لي، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبحَ سأل عنه فأخبروه بموتِه وبما قال، فرفع صلى الله عليه وسلم يده وقال: اللهم القَ طلحةَ تضحكُ إليه ويضحك إليك). مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرٌ بهذا الحب وزيادة، وجديرٌ بتلك الآدابِ السامية وزيادة.كيف لا وهو أولُ من يجوز الصراط بأمته يوم القيامة، وبنورهِ تسير الأُمة وعلى محجته. وهو أولُ من برز للوجود من أنوارِ اللهِ الذاتية. جاء في الفتاوي الحديثة لابن حجر الهيثمي المكي ما نصه "أخرج عبدُ الزراق بسندهِ عن جابرِ بن عبد اللهِ الأنصاري رضي الله عنهما قال: (قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أولِ شيء خلقه اللهُ من قبل الأشياء؟ قال: يا جابرُ إن الله خلق قبل الأشياء نورَ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم من نورهِ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرةِ حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ ولا قلمٌ ولا جنةٌ ولا نارٌ ولا ملكٌ ولا سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ ولا إنسٌ ولا جنٌ… الخ) الحديث. وهو صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء في الخلق في عالم الأرواح، وآخرهم في البعث في عالم الأشباح. روى بن سعدٍ مرسلاً بإسنادٍ صحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (كنتُ أول الناسِ في الخلق وآخرهم في البعث) فهو الفاتح وهو الخاتم. وروى الترمذيُ عن أبي هريرَة رضي الله عنه (قالوا: يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدمُ بينَ الروحِ والجسد). قال الترمذي: حديث حسنٌ وصحيح. ورواه أبو نعيم والبيهقيُ والحاكمُ وصححه، ورواه البزارُ والطبرانيُ وأبو نعيمٍ من رواية ابن عباس رضي الله عنهما. روى الامام أحمد والبخاري في التاريخ والطبرانيُ والحاكمُ وصححه وقال الحافظ الهيثمي في رجال أحمد و الطبراني: رجالهما رجال الصحيح. عن ميسرةَ الفجر قال: (قلت: يا رسولَ الله متى كنت نبيًا؟ قال: كنت نبيًا وآدم بين الروحِ والجسد). وتواترتِ الروياتُ عن أنه صلى الله عليه وسلم أولُ شافعٍ، وأولُ مُشفَّعٍ. روى الترمذي وأحمد وابن ماجة وغيرُه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيدُ ولدِ آدَم يومَ القيامة ولا فخر. وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر. وما من نبيٍ يومئذٍ آدمُ فمن سواهُ إلا تحت لوائي. وأنا أولُ من تنشقُ عنه الأرض ولا فخر. وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّع ولا فخر). وهو صلى الله عليه أولُ من يؤذَنُ له حين يستأذنُ على ربه وهو أولُ من يسجدُ لربه يوم القيامة. وروى الأمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولُ من يؤذنُ له يوم القيامة بالسجودِ وأولُ من يَرفعُ رأسه فانظر بين يديّ فأعرفُ أمتي بين الأمم من خلفي مثلُ ذلك وعن يميني مثلُ ذلك وعن شمالي مثلُ ذلك. فقال الرجل يا رسولَ الله كيف تعرفُ أمتك من بين الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هم غرٌ محجلون من أثر الوضوء ليس أحدٌ كذلك غيرهم. وأعرفهم أنهم يؤتَوْن كتبهم بإيمانهم وأعرفهم تسعى ذريتُهم بين أيديهم). ولن يلج الجنة أحد قبله صلى الله عليه وسلم لما رواه مسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: (قال صلى الله عليه وسلم: آتي باب الجنة فاستفتح فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد. فيقول: بكَ أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك) تكريمه صلى الله عليه وسلم سؤال:ما معنى قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} (63 النور)؟ جواب: يقول سيدنا الصاوي[1] في تفسير هذه الآية: "{لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ}أي نداءه كنداء بعضكم بعضاً، بمعنى لا تنادوه باسمه فتقولوا يا محمد ولا بكنيته فتقولوا يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير. يستفاد من الآية انه لا يجوز نداءُ النبي صلى الله عليه وسلم بغير ما يفيد التعظيم لا في حياته ولا بعد وفاته. فبهذا يعلم انه من استخف بجنابه صلى الله عليه وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة". وقال السَيوطي في «الإكليل في استنباط التنـزيل» عند ذكره هذه الآية الكريمة: "تحريمُ ندائه باسمه ووجوبُ تشريفه وتكريمه ليقال يا رسول الله يا نبي الله، والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته". وجاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» "أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان ذا أسماء وكنى لكن لا ينبغي أن ينادى بشيء من تلك فيحرمُ نداؤهُ بها لقوله تعالى {لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} مثل يا محمد ويا أحمد". وعن ابن عباس رضي الله عنهما، كانوا يقولون يا أحمد يا أبا القاسم فنهاهم اللهُ عن ذلك وناداه الله تعالى {يا أيها النبي} و{يا أيها الرسول} ولم يوجه الله له النداءَ باسمه فكيف بنا نحن. [1]. أحد رجال السند في طريقتنا الخلوتية. كلمة "سيدي" سؤال:هل يجوز للمرء أن يقول لأخيه يا سيدي؟ وهل هي لرسول الله من دون الناس؟ وهل السيادة لله كما يقول البعض؟ وما هو حكم الشرع في ذلك؟ جواب: من التقديرِ الواجبِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابتهِ وأهلِ بيته وأولياءِ أمتهِ تكريمُهم بألفاظِ التقديرِ والرفعةِ، منها لفظُ السيادة التي ورثناها عن سادتنا الكرام وإخوانِنا في الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. وقد رأى الإمام الشافعيُ أن ذكر اسمِ الرسول صلى الله عليه وسلم بلا سيادة، فيه من سوء الأدب ما يكفي، بل إن الإمام ابن عبد السلام أفتى في قضية الطالب الذي قال لا يزاد في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سيدنا، بأن يؤدب في السجن، وبقي هناك حتى شُفِّع فيه فخلى سبيله، كما في كتاب «إكمال الإكمال». والملفت للنظر أن الذين يذكرونَ الاسم الشريف مجرداً هم المستشرقون ومن لا خلاق لهم. فلا يجوزُ أبداً التشبهُ أيضاً بالكفار في ذكره صلى الله عليه وسلم من غير السيادة، لأنهم هم الذين يذكرونَه باسمه مجرداً استهانة بقدره الشريف. وإذا نظرنا إلى آيات القرآن العظيم نجد أن الله تعالى ذكر السيادة للبشر، فامتدح سيدنا يحيى عليه الصلاة والسلامُ بقوله تعالى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} (39 آل عمران) بل إن القرآن الكريم ذكر لفظ السيادة في حق من لا يملكون الرفعة فقال في سورَةِ يوسف {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (25 يوسف) والأمر نفسه ينطبق على لفظ المولى قال تعالى {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (41 الدخان). أما أولئك الذين يتعللون بالحديث الشريف (السيدُ الله...) فقد حَرموا أنفسهم من خير عميم لجهلهم بأمورِ دينهم، فقد ردَّ عليهم العارفُ بالله ابنُ عجيبةَ في حاشيته على «الجامع الصغير» بأن الحديث يبين أن الله هو الذي يحق له السيادة المطلقة على الكون، بمعنى المالك القاهر والمهيمن، لأنه سيد كل ذي سيادة، إذ الخلق كلهم عبيده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لَمَّا خوطب بما يخاطب به رؤساء القبائل من قومهم أنت سيدنا ومولانا (بالمعنى القبلي للسيادة) أنت سيد قريش، وكانوا قريبي عهد بالإسلام وأراد رسول الله صلى الله عليه أن يمكِّن العقيدة في نفوسهم بأن الخضوع التام للمالك الحقيقي وهو الله سبحانه. وقد نُقل عن الإمام مالك رضي الله عنه امتناع إطلاق السيد على الله، إلا إذا أريد بيان هذا المعنى الذي قصده صلى الله عليه وسلم. ولا شك بأن هذه الشبهة المثارة لا تحمل استدلالاً على عدم التسويد لأن القرآن ذكرها للبشر بحق سيدنا يحيى وبحق العزيز في قصة يوسف. أما السنة النبوية فقد تواترت فيها الأحاديث في شرعية التسويد وإطلاقه على غير الله تعالى. روى البخاريُ في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وليقل المملوكُ سيدي وسيدتي فانهم المملوكون والربُ الله عز وجل) في إشارة إلى أنهم كانوا يستخدمون لسادتهم لفظ (ربي) كما ذكر القرآن حكاية قولهم في سورة يوسف {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (42 يوسف) فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرهم بإطلاق لفظ (سيدي وسيدتي) وفي رواية أبي داودَ أيضاً (وليقل سيدي ومولاي). فإذا كان هذا بالنسبة للعبد مع سيده فكيف لا يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟. وكتبَ الشيخ محمد سليمان فرج رسالة بعنوان «دلائل المحبة وتعظيم المقام في الصلاة والسلام على سيد الأنام» بين فيها وجوب ذكر لفظِ السيادة عند ذكرِ اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها عددا من الأدلة الشرعية نسوق بعضها لإخواننا: جاء في صحيحِ مسلمٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يقول للعبد يوم القيامة ألم أكرمك وأسودك)، أي أجعلُك سيداً. فهذا الامتنانُ من الله تعالى بنعمة السيادة يدلنا على أنها شرفٌ للإنسان، فكيف لا يكون أفضل الخلق جديراً بهذا الشرف. وبذلك يتجلى لنا أن من يقول إن السيادة لا تطلق إلا على الله سبحانه وتعالى فقط، لا يُعتدُّ بقوله لأنه مخالف لمنهج القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية.وكم من الصفات اشترك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الله، تكون لله مطلقةً ولرسوله ولغيره مقيدةً، كاسمي الرحيم والرؤوف، فهما من أسماء الله الحسنى وصفاته، إلا أن الله وصف بهما نبيه فقال {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (128 التوبة) كما أن اسم السيد لم يرد في أسماء الله الحسنى. وهناك أيضاً شبهة أخرى (أوردها صاحب الرسالة المشار إليها سابقا): "وهي ما يظنه بعض الناس حديثا نبويا وهو قولهم (لا تسيدوني في الصلاة)، فهو لا يصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لحن فاحش، وخطأ لغوي لا تجوز نسبته لأفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. لأن الفعل (سَيَّدَ) لم يرد في لغة العرب وإنما (سَوَّدَ). ولذلك أدرك بعض الناس هذا المعنى فقالوا إن الحديث يجب أن يكون بعبارة (لا تسودوني في الصلاة)، ولكن هذا أيضاً أشد بطلانا، وكذبٌ وافتراءٌ على سيدنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقد أورده الكثير من المحدِّثين في الموضوعات التي وضعت كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بذلك السيوطي والحافظ السخاوي والإمام جلال الدين المحلي والشمس الرملي وابن حجر الهيثمي وبعض فقهاء الشافعية والمالكية والقاري في موضوعاته". وكذلك قولهم (لا تعظموني في المسجد) فانه باطل أيضاً، وقيل لا أصل له. وقد جاء في «كشفالخطأ» للحافظ العجلوني ما نصه: "قال في المقاصد (أي السخاوي) لا أصل له". وقال الياجي في أوائل مولده المسمى «كنـز العفاة» "بل انه لو فرضنا مجرد احتمال وروده مع أن هذا بعيد أشد البعد، ومع أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، فانه يمكن تأويله بما يناسب المقام كما أوّل العلماء حديث (السيد الله…)". إن التزام الأدب معه صلى الله عليه وسلم مقدمٌ على امتثال الأوامر، كما فعل سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما جاء سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يؤم الناس فتأخر أبو بكر، فأمره أن يثبت مكانه فلم يمتثل، ثم سأله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصلاة عن ذلك فأبدى له أنه فعل ذلك تأدباً معه صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك. وكذلك التزام سيدنا علي بن أبي طالب الأدب دون امتثال الأمر حين كتب الكتاب للمصالحة في الحديبية وكان فيه لفظ رسولُ الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسولُ الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد ابن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وان كذبتموني، امحه (أمرٌ لعلي بمحو لفظ رسول الله) فقال سيدنا علي: والله لا أمحوه. ومحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، ولم يُنكر على الإمام علي حُسن أدبه. قال العلماء المحققون وهذا من الأدب المستحب. وكذلك زيادة لفظ السيد عند ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم من الأدب المستحب، بل إن الأدلة الشرعية الآتية ترقى بذلك إلى درجة الوجوب. ومن الأدب أيضا أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أخّر الطواف لما دخل مكة في قصة صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على من دخل البيت الحرام، أدباً معه صلى الله عليه وسلم أن يطوف قبله وقال:ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد علمه ذلك. وجاء في صحيح البخاري ومسلم قولهُ صلى الله عليه وسـلم (أنا سيُد ولد آدم ولا فخر) وقال ابن عباس: السيد:الكريمعلىربه. وقال قتاده: السيد: الذيلايغلبهغضبه. وفي البخاري ومسلم وأحمد (أنا سيدُ الناس يوم القيامة). وذلك شامل لسيدنا آدم عليه السلام، لقوله صلى الله عليه وسلم (آدمُ فمن دونه من الأنبياء يوم القيامة تحت لوائي). ومما رواه الخطيب قوله صلى الله عليه وسلم {أنا إمام المسلمين وسيد المتقين}. فهذه الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد التواتر تدل دلالة لا لبس فيها على أن لفظ السيادة واجب على كل مسلمٍ محبٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلكَ لفظُ (مولى) للحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده و الترمذي والنسائي وابن ماجة (قال صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فعليٌ مولاه). وليس هذا فحسب، بل إن الصحابة الأجلاء وآل بيت رسول الله الكرامَ الأطهار هم سادتنا، فقد روى البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للسيدة فاطمة رضي الله عنها (يا فاطمة ألاترضين أن تكوني سَيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة). فيجب علينا أن نذكر سيدتنا ومولاتنا فاطمة بلفظ السيادة عند ذكرها دائما. وكذلك سيُّدنا الحسن فقد روى البخاريُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندما رأى سَيِّدنا الحسن (إن ابني هذا سيدٌ يصلح الله على يده بين فئتين متحاربين). وأيضا سيُدنا ومولانا الحسين فقد اخرج الترمذي بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الحسنُ والحسين سيدا شباب أهل الجنة). وكذلك ورد في حق سيدنا ومولانا أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وسيدنا ومولانا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه الترمذي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكرٍ وعمرُ سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا من النبيين والمرسلين). بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه ذلك المعنى بأجلى وضوح، فقد روى البخاريُ ومسلمٌ عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء على حمارٍ فقال صلى الله عليه وسلم للصحابةِ (قوموا إلى سيدكم). فهل بعد ذلك حجة!؟. فإذا كانت هذه أخلاقُ الإسلام في معاملة أصحاب الفضل والعلم، فكيف تكون المعاملةُ مع أحب الخلق إلى الله وهو بمنزلة الأب الحقيقي للمؤمنين قال تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (6 الأحزاب) وكان الصحابة ينادون بعضهم بعضاً بهذا اللفظ الذي يشعر بالتكريم والإجلالِ، فقد روى الحاكمُ في المستدرك بسند صحيح (أن أبا هريرةَ رضي الله عنه لما ردَّ السلام على سيدنا الحسن قال وعليك السلام يا سيدي. ثم قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه سيد). وما قاله الفاروق رضي الله عنه: (أبو بكرٍ سيدنا واعتق سيدنا) (أي سيدنا بلال) رضي الله عنه. وروى الحاكم بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب). وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغ الوارد عنه صلى الله عليه وسلم، فقد قال المحققون يزاد فيها لفظُ السيادة سواء في الصلاة أو خارجها مستدلين بعمل سيدنا أبي بكر في المحرابِ وامتناع سيدنا علي في قصة الصحيفة وليس في ذلك مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هناك قاعدتين: امتثال الأمر، والتزام الأدب، والأرجحُ التزامُ الأدبِ، وبهذا أفتى الإمام عز الدين بن عبد السلام وجماعةٌ من فقهاء الشافعية |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 8 | |||
|
![]() مشكوووووووووووووووووووور |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 9 | |||
|
![]() حُبُّ آل البيت الكرام سؤال:لماذا يتعلق الصوفية بحب آل البيت، وهل في الشرع أدلة يستند إليها؟ جواب: في تفسير ابن كثيرٍ للآيةِ الكريمة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (33 الأحزاب). يذكر ابن كثير بعد أن بين أن هذه الآية تعني دخولَ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت إضافةً للمعنيين في الآية، يذكر حديثا رواه الإمام مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ وعليه مرط مُرجَّل من شعرٍ أسودَ فجاءَ الحسنُ رضي الله عنه فأدخله معه ثم جاءَ الحسينُ فأدخلهُ معه ثم قال صلى الله عليه وسـلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. وقال مسلمٌ في صحيحه حديث: عن زهير بن حرب وشجاع بن مُخلد عن ابن علية قال زهير حدثنا إسماعيل بن إبراهيمَ حدثني أبو حيانَ حدثني يزيدُ بن حيانَ قـال: (انطلقتُ أنا وحصينُ بن سُبْرَهَ وعمر بن مسلم إلى زيدِ بن أرقمَ رضي الله عنه فلما جلسنا إليه قال له حصينٌ لقد لقيتَ يا زيدُ خيراً كثيراً، رأيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسمعتَ حديثه وغزوتَ معه وصليتَ خلفه لقد لقيتَ يا زيدُ خيراً كثيراً. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال يا ابن أخي والله لقد كبُرَتْ سني وقدِمَ عهدي ونسيتُ بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه فيه ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيباً بماءٍ يدعى خماً بينَ مكةَ والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظَ وذكرَ ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشرٌ يوشِكُ أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين أولهُما كتابُ اللهِ تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتابِ الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال: وأهلُ بيتي، أذكّركُم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (ثلاثاً). فقال له حصين ومَن أهلُ بيته يا زيد؟ أليس نساؤُه من أهل بيتهِ؟ قال: نساؤهُ من أهل بيته، ولكنَّ أهلَ بيته مَن حُرِمَ الصدقةَ بعده. قال ومن هم. قال: هم آلُ عليٍ، وآلُ عقيلٍ، وآلُ جعفرٍ، وآلُ عباسٍ رضي الله عنهم. قال كل هؤلاء حُرِمَ الصدقةَ بعده؟ قال: نعم). وآية المباهلة هي دليلٌ آخرُ على تحديدِ آلِ بيتِ النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (61 آل عمران) وفي تفسيرِ هذه الآيةِ ذكر الإمامُ القرطبيُ في الجامع لأحكام القرآن "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءَ بالحسن والحسينِ، وفاطمةُ تمشي خلفه وعليٌ خلفها وهو يقول لهم إن أنا دعوتُ فأمِّنوا". وسببُ نزول هذه الآية، المباهلة (الملاعنة)، أن النصارى لما قدموا من نجران يحاجون في عيسى ويزعمون فيه من الألوهيةَ، فأنزلها الله تعالى رداً عليهم. وروى الحاكم في مستدركه وقال صحيحٌ على شرط مسلم عن جابر قال (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقبُ والسيد فدعاهما إلى الملاعنةِ فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لو قالا لا لأمطر عليهما الوادي ناراً) قال جابرٌ وفيهم نزلت {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} قال جابرٌ: {وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وعليٌ بنُ أبي طالب {أَبْنَاءَنَا} الحسـنُ والحسـين{وَنِسَاءَنَا} فاطمة. وفي الآية 23 من سورة الشورى يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال البخاريُ وغيرهُ روايةً عن سعيد بن جبيرٍ ما معناه أنه قال (معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم). وفي تفسير ابن كثيرٍ قال ابنُ جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا مالكُ بن إسماعيل حدثنا عبد السلامُ حدثني يزيدُ عن أبي زيادٍ عن مقسمٍ عن أبن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قالت الأنصارُ فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا، فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما (شكَ عبد السلام) لنا الفضلُ عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجلسهم فقال (يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟ قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم ألم تكونوا ضلالاً فهداكم اللهُ بي؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: أفلا تجيبوني. قالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال ألا تقولون ألم يخرجكَ قومكَ فآويناك. أولم يكذبوك فصدقناك. أو لم يخذلوك فنصرناك. قال فما زال صلى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب وقالوا أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله). قـال فنـزلت {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ويقال في هذه الآية معنى آخر هو (قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغِ والنصحِ لكم مالاً تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني ولا تؤذوني، وفيما بيني وبينكم القرابة). والذي يؤكد أن المعنى الأول الذي ذكرناه هو الأرجح، هو أن سورة الشورى سورةٌ مكيةٌ إلا أن بعض رواة أسباب النـزول ومنهم ابن عباس وقتاده قالوا أن الآيات 23،24،25،27 نزلت في المدينة وآية القربى من بين هذه الآيات بمعنى أن هذه الآية نزلت في المدينة بعد الهجرة رداً على من تفاخر على المهاجرين لتطلب منهم أن يودوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرابته. وقد ثبت في الصحيح ما قاله البخاريُ حدثنا عبدُ الله بن عبد الوهابِ حدثنا خالد حدثنا شعبةُ عن واقدٍ قال سمعت أبي يحدثُ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته). ويقول ابن كثير وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم (إني تاركٌ فيكم كتاب الله وعترتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض). وقال الإمام أحمدُ حدثنا يزيدُ بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن يزيد بن أبي زيادٍ عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إن قريشاً إذا لقيَ بعضهمُ بعضاً لقوهم ببشرٍ حسن وإذا لقونا، لقونا بوجوهٍ لا نعرفها قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله) وفي رواية (والله لا يدخل قلب امرءٍ مسلمٍ إيمانٌ حتى يحبكم لله ولقرابتي). قال ابن القيم رحمه الله "فآله صلى الله عليه وسلم لهم خواص منها حرمان الصدقة، ومنها أنهم لا يرثون، ومنها استحقاقهم خُمس الخُمس، ومنها اختصاصهمُ بالصلاةِ عليهم، وقد ثبت أن تحريم الصدقة واستحقاق خمس الخمس وعدم توريثهم مختص ببعض أقاربه صلى الله عليه وسلم". وقال ابن تيمية في رسالةِ «العقيدة الواسطية» وهو يذكر عقيدةَ أهل السنة ويتبرأ من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل قال: "ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قـال في يـوم غدير خم (أذكركم الله في أهل بيتي). وقال أيضاً للعباس عمه وقد شكا إليه أن بعض قريش تجفو بني هاشم فقال (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)". انتهى كلام ابن تيمية. فعلى الذين يدّعون بأن تمجيد ومحبة آل البيت الكرام هو مذهب الشيعة فقط أن يتقوا الله تعالى ويتوبوا إليه، هم وأولئك الذين يوهمون الناس بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا أهل له ولا آل مستندين إلى قول الله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} (40 الأحزاب). متجاهلين أن هذه الآية نزلت في نفي التبني، ولم تنـزل لتنفي أن له صلى الله عليه وسلم آل بيت كرام أُمرنا بالصلاة والسلام عليه وعليهم: (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم. في العالمين إنك حميد مجيد). ونختم هذا الفصل بما نظمه الإمام الشافعي في مدح آل البيت: يــا آل بيت رسول الله حبكمُ فـرض من الله في القرآن أنزله يكفيكمُ من عظيم الشأن أنكمُ من لم يصل عليكم لا صلاة له التـبرك سؤال:ما هو حكم الإسلام في البركة والتبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، والصالحين وآثارهم؟ وهل في التبرك شبهة شرك؟ جواب: بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت بها أحاديث كثيرة منها ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وكذلك مسلمٌ والترمذي والنسائي واحمدُ رحمهم الله قال:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حانت صلاة العصر والتمسَ الناسُ الوضوء فلم يجدوه فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوءٍ فوضع صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء وأمر الناسَ أن يتوضئوا منه فرأيتُ المـاء ينبعُ من تحتِ أصابعه فتوضأَ الناسُ حتى توضئوا من عندِ آخرهم). وأخرج مسلمٌ عن معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه فذكر حديث جمعِ الصلاة في غزوةِ تبوك إلى أن قال (وقال (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم) إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يَمسَّ من مائها شيئاً حتى آتي، قال فجئناها وقد سبق إليها رجلان (كان هذان الرجلان من المنافقين) والعينُ مثل الشراك تبض بشيء (تسيل قليلاً قليلاً) فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا؟ فقالا نعم، فسبّهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء وغسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه فيه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاذ يوشِك إن طالت بك حياةٌ أن ترى ما هاهنا قد مليء جناناً). أما التبرك بآثارِ الصالحين فهو جائز شرعا بالأدلة الشرعية التالية: أخرج الطبراني عن جعفر بن عبد الله بن الحكم (أن خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد قُلنسوةً له يومَ اليرموك فقال اطلبوها فلم يجدوها فقال اطلبوها فوجدوها فإذا هي قُلنسوةٌ خلقة (بالية) فقال خالد: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناسُ جوانبَ شعرهفسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القُلنسوَةِ فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصرة). وأخرج ابنُ سعد عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمن بـن عبـدِ القاري (أنه نظر إلى ابنِ عمرَ رضي الله عنهما وضع يده على مقعدِ النبي صلى الله عليه وسلم من المنبرِ ثم وضعها على وجهِه). وعنده أيضاً عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط قال: (رأيتُ ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجدُ أخذوا برمانةِ المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون). والتبرك هنا لم يكن بمادة الخشب وسواها وإنما كان بما تمثله من آثار النبوة. ومن المعلوم أنه يجوز قصد الأماكنِ المباركةِ التي يستحبُ فيها الدعاءُ والتوجهُ كالمساجد والبقاع التي لها خصوصية. ودليل ذلك ما يكون في مشاهد الحج واختيار أمكنة معينة فيه للدعاء والتعبد ونحوهِ. ومما يدل على ذلك قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى} (125 البقرة) ونحن نرى الآن في بيت الله الحرام المقام منتصبا بين الإمام والكعبة، فهل في ذلك شرك!؟. ويؤيد ذلك حديثُ شد الرحال إلى المساجدِ الثلاثة، وقد صحَ عن عمرَ رضي الله عنه قولهُ لو كان مسجد قباء في كذا لذهبنا إليه، للحديث الذي حث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوضوء في البيوت ثم المجيء إلى قباء. وتجوز زيارة قبور الأنبياء والصالحين لالتماس العظة والعبرةِ والتبرك بهم جميعاً، فزيارةُ القبور مندوبةٌ وزيارة قبورِ أهل الله من باب أولى لأن العظة والبركة عندهم أشد. أما الذين يستدلون بحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) في النهي عن زيارة قبور الأنبياء والصحابةِ والصالحين فنقول بأن النهي جاء عن عدم جواز شد الرحال والسفر إلا إلى المساجد الثلاثة. أما قبور الأنبياء والصحابة والصالحين فزيارتها مندوبة للعظة والبركة ولا نهي في ذلك. فكلامه صلى الله عليه وسلم في المساجد ليبين للأمة أن ما عدا هذه المساجد الثلاثة متساوٍ في الفضل، فلا فائدة في التعب بالسفر إلى غيرها، أما هذه الثلاثة فلها مزيد فضلٍ، ولا دخل للمقابر في هذا الحديث فإقحامها في هذا الحديث يعتبر ضرباً من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يتحمله إثم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم. فنحن عندما نزور قبور الأنبياء والصحابة والصالحين لا نقصد شد الرحال إلى مساجدهم إنما نقصد زيارة قبورهم ودعاء الله عز وجل من عندهم والتبرك بهم كزيارتنا لأنبياء الله في حرم إبراهيم الخليل أو زيارتنا لساداتنا في مؤتة والأغوار والخليل وغيرها من الأماكن التي تعطرت تربتها وتشرفت بأجساد عز نظيرها. وإذا كان هناك تشدد وريبةٌ في ذلك قديماً فلأنهم كانوا حديثي عهد بالشرك فخُشي أن تختلط الأمور عليهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم زيارة القبور ابتداءً، ثم قال بعد أن وضحت عقيدة التوحيد (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة). وما كان قطعُ عمرَ لشجرة البيعة إلا لمنع الشركِ الذي كان لا يزال متمكنا أو قريباً من النفوس، ولم يكن أبداً لمنع التبرك، وفرقٌ هائل بين الإشراك والتبرك الذي هو من تأكيد الإيمان بالله وقدرته وهو من أدلة استمرار آثار العمل الصالح وهو اجتهادٌ من عمر لسد الذريعة. ولذلك وجدنا أن من أبرز الدلائل الدالة على مشروعية واستحباب التبرك بـه صلى الله عليه وسلم وبآثاره الشريفة بعد وفاته فضلاً عن حياته ما فعله سيدنا أبو بكر الصديق لما طلب عند وفاته أن يدفن التماساً للبركة، ورغبة في القرب بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، بل عند قدميه الشريفتين كما ألحّ الخليفة الفاروق بنفسه بذلك. جاء في صحيح البخاري (أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استأذن أُمنا عائشة رضي الله عنها مرتين بعد أن طُعن أن يدفن بجوار المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمرة أرسل ابنه عبد الله ليقول لها يستأذنك أمير المؤمنين عمر. ثم قال له إذا أنا متُ فاذهبوا بجنازتي إلى بيتِ عائشة وقفوا بي على الباب ثم قولوا يستأذن عمر، فإني عندها لم أعد أمير المؤمنين، فإن أذنت وإلا فادفنوني في مقابر المسلمين). فما هو إذن سر إصرار هذين الجهبذين الشامخين على أن يدفنا بجوار الحبيب صلى الله عليه وسلم سوى التماس بركته وقربه، وهو الذي قال فيهما (اقتدوا باللذيْن من بعدي أبي بكر وعمر) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والبخاري في تاريخه وغيرهم. وفي أدلة أهل السنة والجماعة قال الشيخ يوسف الرفاعي: "والتبرك بآثار الصالحين جائز، وقد نقل الحافظ العراقي في «فتح المتعال» بسنده أن الإمام أحمد ابن حنبل أجاز تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره تبركاً، قال وعندما رأى ذلك الشيخ ابن تيمية عجب قال وأي عجب في ذلك وقد روينا أن الإمام أحمد تبرك بالشرب من ماء غسل قميص الإمام الشافعي. وكان يأخذُ منها ما يمسح به وجهه وأعضاءه، كما ذكر أصحاب الطبقات وغيرهم. بل قد روى ابن تيمية نفسه تبرك أحمد بآثار الشافعي. وفي تاريخ الخطيب أن الإمام الشافعي كان يتبرك بزيارة قبر الإمام أبي حنيفة مدةَ إقامته بالعراق. وفي صحيح مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة (عن أسماء بنت أبي بكر أنها أخرجت جُبةً طيالسية وقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى فنستشفي بها). كذلك ثبت أن بلالاً رضي الله عنه مرغ خديه على عتبات الحجرة النبوية باكيا بين يدي الصحابة يومَ عاد من الشامِ إلى المدينة". وسنرى ذلك في (فصل الزيارة النبوية). ولم يرد أن أحدًا من الصحابة الكرام أنكر عليه ولا على فاطمة فيما ورد عنها من التبرك بتربة القبر الشريف. فضل زيارة الرسول أولاً: مشروعية زيارته صلى الله عليه وسلم : اتفقت الأدلة الشرعية على استحباب زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الزيارة من أقرب الوسائل لنيل شفاعته صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا سابقاً قول الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ...الخ}. وأن هذه الآية تُظهرُ كمالَ فضل زيارته دون فرق بين قريب الدار وبعيدها ولا بين زيارتهِ صلى الله عليه وسلم في حياته ولا بعدَ وفاتِه، فإن من زاره بعد وفاتِه كمن زاره في حياته. وهي نص طيبٌ للترغيب بزيارتهِ والسفرِ إليه واستغفارِ الله من عنده وطلبِ شفاعته. وقد قلنا بأن هذه الآية وان كانت قد نزلت بسببٍ خاص إلا أن العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب. وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (100 النساء) وهذه الآية وان لم تكن نصاً في الزيارةِ إلا أنه استناداً للقاعدةِ السابقة فلا شكَ أن زيارته صلى الله عليه وسلم لا سيما من الأماكنِ البعيدةِ، من الهجرة إلى الله ورسوله. وقبل الدخولِ في التفصيل أودُ أن أورد الأحاديث النبوية الشريفة التي تتعلق بزيارته صلى الله عليه وسلم: أخرج أبو داودَ بسندٍ صحيحٍ عنه صلى الله عليه وسلم قال (ما من أحدٍ يسلمُ عليَّ إلا رد اللهُ عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام). وروى الدارقُطني والبيهقيُ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صـلى الله عليه وسـلم (من زارَ قبري وجبت له شفاعتي). وروى الطبراني والدارقُطني عن ابنِ عمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من جاءني زائراً لا تحمله حاجةٌ إلا زيارتي كان حقا علي أن أكونَ له شفيعاً يوم القيامة). وروى الدارقُطني في السننِ والطبرانيُ والبيهقيُ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي). وروى العُقيلي مرسلاً عن رجلٍ من آل الخطاب قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم(من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة). وروى الدارقُطني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي). ومن المعروف والمعلومِ من هذه الأحاديثِ وأحاديثَ أخرى أنه صلى الله عليه وسلم حيٌ على الدوام، إذ من المُحالِ أن يخلوَ الوجودُ كلُه من واحدٍ يسلمُ عليه في ليلٍ أو نهارٍ. فنحن نؤمنُ ونصدقُ بأنه صلى الله عليه وسلم حي يرزقُ وأن جسدَه الأطهر لا تأكلهُ الأرضُ وكذا سائرُ الأنبياء،والإجماعُ على هذا. وكذلك العلماءُ والمؤذنونَ والشهداء. وقد كشِفَ عن أكثر من واحدٍ من العلماءِ العاملينَ والأولياءِ والشهداء فوجِدوا لم تتغير أجسادُهم. {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (154 البقرة). ولما حفرَ معاويةُ رضي الله عنه العينَ التي استنبطها بالمدينة وذلك بعد أُحدٍ بنحوِ خمسين سنة، ونقل الموتى أصابت المسحاة قدم سيدنا حمزةَ عمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسالَ منها الدم. وقد جمعَ البيهقيُ جزءاً في حياة الأنبياء في قبورِهم واستدلَ بكثيرٍ من الأحاديث أهمُها الحديث الصحيح (الأنبياءُ أحياءٌ في قبورهم يُصلّون). يشهد له حديثُ مسلمٍ (مررتُ بموسى ليلةَ اسري بي عند الكثيبِ الأحمرِ وهو قائمٌ يصلي في قبره). وإمامةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالأنبياءِ ليلةَ الإسراء تشهد لهذا المعنى. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (ردَّ اللهَ عليَّ روحي) أنه لا يُسلِّمُ عليه أحد من زائريه إلا في حال كون روحهِ الطاهِرة مردودةً إليه وهي قطعاً لا تفارقهُ أبداً، ولكن على غيرِ الصورةِ التي يعهدُها الناس ويألفونَها في هذه الحياة، فهم أحياءٌ عند ربهم كما الشهداء. {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169 آل عمران). وثبوتُ حياةِ الأنبياء من باب أولى وذلك مسلّمٌ به منطقاً وعقلاً، وإن شوهدت أجسادُهم في قبورِهم خاليةً منها عاريةً عنها مثلهُم في ذلك مَثَلُ النائمِ يَغَطُّ في نومه وهو يشاهد عجائبَ في الملكوتِ، ويكتسبُ أسراراً ينتفع بها، ويحدثك عنها بعدَ يقظته من نومه. ومعلوم انه لا يخلو وقتٌ من الأوقاتِ ولا لحظة من اللحظات إلا وكثير من أمته يصلون ويسلمون عليه في صلواتِهم وغيرها ويصلهُ علم ذلك بواسطة الملَك الذي يبلغه صلاة أمته وسلامها عليه فيدعو لمن يصلي عليه ويرد السلامَ على من يسلمُ عليه منهم. ويشرع شدُ الرحالِ إلى مسجده الذي شَرُفَ بوجود قبره صلى الله عليه وسلم فيه. ففي الحديث الصحيح (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى). والحديث صريح في اعتبارِ أن المسجد إنما شَرُفَ بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابنُ عساكرَ بسندٍ جيد عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قصةَ نزول بلالِ بن رباحٍ في داريّا بعدَ فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس قال: (ثم إن بلالاً رأى النبي صلى الله عليـه وسلم وهـو يـقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً خائفاً فركب راحلته وقصدَ المدينةَ فأتى قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلَ يبكي عندهُ ومرّغ وجهه عليه. فأقبل الحسنُ الحسينُ فجعل يضمهما ويقبلهما فقالا: نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال الله أكبر، ارتجت المدينة فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجتها، فلما قال أشهد أن محمداً رسول الله خرجت العواتق من خُدورهن وقالوا بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما رُئي يومٌ أكثر باكياً ولا باكيةً بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم). فليعلم المرءُ أن من أعظم فضائِل زيارته صلى الله عليه وسلم أن زائره إذا صلى وسلم عليه عند قبره سمعه سماعاً حقيقياً ورد عليه من غير واسطة. بخلاف من يصلي أو يسلم عليه من بُعد فإن ذلك لا يبلغه ولا يسمعه إلا بواسطة. والدليل على ذلك ما جاءَ عنه صلى الله عليه وسلم بسند جيد (من صلى عليَّ عند قبري سمعته ومن صلى عليَّ من بُعد أُعلمته) وفي روية (ما من عبد يسلم عليَّ عند قبري إلا وكَّل الله به ملكا يبلغني). وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في صحاحهم وقال هذا حديث حسن صحيح على شرط البخاري وصححه النووي في أذكاره عنه صلى الله عليه وسلم قال (من أفضل أيامكم يوم الجمعةِ فيه خـلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقةُ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ. قالوا يا رسول الله وكيف تُعرض صلاتُنَا عليك وقد أرمت (يعني بليت) قال إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). إن الأنبياء بحق أحياءٌ في قبورهم. ويسن السلام عليهم عند قبورهم ومع البعد عنها، وقد جاء عن ابن المسيب ما يثبت ذلك وهو أن يزيد بن معاوية، لما حاصر المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقتل من أهلها من قتل حتى خلا المسجد الشريف عن إقامة الصلاة فيه مدة، قال ابنُ المسيب: (كنت فيه وما كنتُ أعلم دخول الأوقات، إلا بسماع الأذان والإقامة من داخل القبر المكرم). ومما يثبت حياتهم البرزخية أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (مررتُ بموسى ليلة اسري بي وهو قائم يصلي في قبره). ثم لنعلم بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. ولنتيقن ونحن نقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حيٌ يسمعُ صوتنا وتوسلنا وشغفنا به وسؤالنا منه أن يشفع لنا إلى ربه حتى يرضى عنا ويعطينا ما هو أهله من خيري الدنيا والآخرة. وليعلم الزائر أيضاً انه يستحب لمن زار النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف للدعاء مستقبلا القبر الشريف فيسأل الله تعالى ما يشاء من الخير والفضل ولا يلزمه أن يتوجه إلى القبلة، ولا يكون بوقوفه ذلك مخالفاً للشرع، وقد نص العلماء على هذا الأمر بل قد ذهب بعضهم إلى القول بالاستحباب. والأصل في هذا الباب هو قصة الإمام مالك بن أنسٍ لما ناظره أبو جعفر المنصور في المسجد النبوي (ارجع إليها في باب التوسل): (إلى أن قال أبو جعفر يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فقال الإمام مالكٌ ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة!؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله. وذكر الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} (64 النساء)). ثم تأمل معي حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته حتى بعد وفاته. قال الإمام الحافظ الدارمي في كتابه «السنن» (باب ما أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعد موته) حدثنا أبو النعمان حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرُ بنُ مالكٍ النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: (قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال ففعلوا فمطرنا مطرًا حتى نبت العشب وسمنت الإبل وتفتقت من الشحم فسمي عام الفتق). فهذه القصة تدفع دعوى كل المنكرين لحياته في قبره الشريف صلى الله عليه وسلم وتـثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بأمته في قبره حتى بعد وفاته. روى الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين أنه ثبت إن أم المؤمنين عائشة قالت: (كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضع ثيابي وأقول إنما هو زوجي وأبي. فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة حياءاً من عمر). ولم تعمل عائشة هذا باطلا بل هي تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه يعلمان من هو عند قبورهم. |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 10 | |||
|
![]() مشكووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور استاذي الفضل ادامك الله في المنتدى |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 11 | |||
|
![]() الله ايعافيك يا اخ مهند والأخ ربيع ريغ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 12 | |||
|
![]() الله ايعافيك يا اخ مهند والأخ ربيع ريغ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 13 | |||
|
![]() تابع نفسي الفداء لقبر أنت سـاكنه فيه العفاف وفيه الجـــود والكـرم سيدتنا فاطمة الزهراء [1]. من كلام سيدنا عبد الرحمن الشريف في نصائحه الرحمانية |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 14 | |||
|
![]() منهج الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية في العمل الصحبـة يقول الله تعالى في وصف من لا صاحب له {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (100-101 الشعراء)، ولفظ الحميم لغة يشبه لفظ الهميم وبينهما علاقة واضحة من حيث المعنى إلا أنه أبدلت الهاء حاءً لقرب مخرجهما إذ هما من حروف الحلق، والهميم مأخوذ من الاهتمام أي يهتم بأمر أخيه فالاهتمام بمهم الصديق حقيقةُ الصداقة. قد عرفنا فيما مضى أن الصوفية ليست ابتداعاً أو منهاجاً جديداً للتطبيق، إنما هي تطبيق عملي للشرع قولاً وعملاً وأخلاقاً، وتُعنى بإصلاح ظاهر السالك وباطنه، وأن الشيخ المربي لا يكتفي بتعليم مريده أمور دينه بصورة نظرية بحتة، وإنما يأخذ بيده لتطبيق أحكام الشرع عملياً، يثنى عليه إذا أحسن، وينبهه إذا زل، ويتفقده إذا غاب، ويذكِّره إذا نسي، ويزكي قلبه إذا قسا ويحفزه إذا فتر ويحنو عليه، ويحبه محبة الوالد لولده، وهو يقصد بذلك وجه الله تعالى. والصحبة أمر مطلوب في المسير إلى الله تعالى، وقد حث الله تعالى عليها حين قـال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (119 التوبة) والصادقون هم نخبة مختارة في المجتمع المسلم ذكرهم الله تعالى بقوله {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (23 الأحزاب) ثم حث الله تعالى رجال نبيه على ملازمة أهل الصفة من فقراء المسلمين الذين كانوا على صفة المسجد النبوي فقال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28 الكهف)، ثم خاطب الله نبيه ليعلمنا ويرشدنا فقال {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (15 لقمان)، ثم يبين الله تعالى خسران وضلال الظالمين الذين لم يتخذوا لأنفسهم صاحب صـدق، وإنما اتخذوا رفـاق وأخلاء السوء قال تعالى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} (27-29 الفرقان). ثم يبين الله تعالى أن كل العلاقات يوم القيامة بين الناس علاقات عداء حتى بـين المتحابين في الدنيا إلا بين المتقين، فإنهم يأتون يوم القيامة أخلاء متحابين كما كانوا في الدنيا قال تعالى {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (67 الزخرف). ثم حث تعالى على ولوج أبواب أهل المعرفة لمعرفة طرق الوصول إلى رضى الله ورحمته فقال تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا}(59 الفرقان). فالصحبة إذن إما أن تكون مع أهل الفساد والضلال فيهوي معهم إلى دركهم، وإما أن تكون مع أهل الإيمان والتقوى ومعرفة الله، فيعلو معهم إلى علاهم، ويكتسب منهم الصفات الحميدة ومعرفة الله، ويداوي بهم عيوب وآفات نفسه. ويكفي أن نعلم أن الصحابة لم ينالوا هذه الرتبة إلا بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالستهم له، وكذلك التابعون لم ينالوا هذه الرتبة إلا بصحبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأمر حتى قيام الساعة بصحبة من أخذوا المعرفة بالتلقي كابراً عن كابر حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. سؤال:إذا قام المسلم بواجباته وراقب الحلال والحرام هل هو بحاجة إلى سلوك أو إتباع شيخ أو طريقة؟ جواب: إن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم في الإرشاد والتزكية لم تتوقف بوفاته صلى الله عليه وسلم، بل هي قائمة ما دامت الأرض والسماوات، من خلال وُرَّاث ورثوا عنه صلى الله عليه وسلم العلم والمعرفة وجميع الأخلاق الطيـبة، التي بُعثَ صلى الله عليه وسلم ليتممها. وهؤلاء العلماء العاملون هم ورثتُه صلى الله عليه وسلم، أخذوا نوراً من نوره وهداية من هدايته وبصيرة من بصيرته، مَن لازمهم وصاحبهم وأخذ عنهم فهو متصل السند من خلالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كابراً عن كابر. إذ هم الذين يحملون لواء المعرفة والتربية حتى قيام الساعة، وهم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي أخرجه الإمامان مسلم والبخاري في صحيحهما (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). وقد اعتاد الناس عبر السنين الأخذ بهؤلاء المرشدين، وعرفت عبر الزمان القيمة الحقيقية لصحبتهم، والخسران الكبير لمن ضل عنهم وابتعد، كيف لا وهم أهل ذكر ومجالسة الله، الذين كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وبصحبتهم تزكو النفوس، وترتقي الأرواح، وتتم مكارم الأخلاق، وتعالج القلوب، وتـتحصن بالعقيدة الصحيحة من مداخل الشيطان، ويزداد الإيمان بصحبتهم وطاعة الله معهم لأنه يزيد وينقص كما ذكر الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} (4 الفتح). وهذه الخصال جميعاً لا يمكن أن تكون للشخص بمفرده ولا من خلال الكتب بل لا بد من مجالسة ومحبة وصحبة وارثٍ محمدي يذكّرك بالله حاله، ويقوّم اعوجاجك، ويرقى بك في مدارج العلم واليقين، ولذلك ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح (قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكّركم اللَّهَ رؤيتُه، وزاد في علمكم منطقه، وذكّركم في الآخرة عمله). ثم إذا رجعنا إلى حقيقة القلب وجدنا أن قلب الإنسان لا يخلو من آفاتٍ قاتلةٍ نهى الشرع عنها، كالنفاق والرياء والأنانية وحب الشهرة والكبر والعجب والبخل، فإذا غفل المرء عن حقيقة هذه الآفات فهو في الخسران المبين، وكان من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإذا أدرك حقيقة وجود هذه الآفات وأراد التخلص منها فلن يستطيع ذلك عملياً إلا من خلال وارث محمدي مأذون يستطيع القيام بهذه المهمة، وهي مهمة شرعية ذكرها الله تعالى في قوله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّنَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (2 الجمعة). فعلى الذين يدّعون أنهم قادرون على السلوك بمفردهم من خلال الممارسة والكتب وقراءة القرآن أن يعلموا أن ذلك لا يكفي لتقويم آفات النفس وعيوبها، قياسا على الوظائف الثلاثة التي ذكرتها الآية الكريمة وكل منها لا يغني عن الآخر {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ} {وَيُزَكِّيهِمْ} {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة}َ. وفي هذا رد صريح على القائلين بإمكانية السير دون المرشد، وما أروع الذي شبه الشيخ المرشد أو الوارث المحمدي بالطبيب الذي يصف الدواء، وشبه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالدواء. إذ لا بد من كليهما، فإذا عرفت الداء فلا بد من طبيب يصف لك الدواء ويراقب حالتك بعده، إلى السوء تميل أم إلى التحسن. فلا يمكن للمرء وحده أن يعالج أمراضه القلبية دون دواء، ودون من يعرف الداء، ودون من يصف الدواء، وفي هذا بيان لحتمية تلاوة كتاب الله لأنه الدواء، وحتمية معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن فيها النجاة، ولكن لا بد معها من الطبيب العالم الذي يفهم شرع الله ويـراقب أحوالك من خلال عمـلك في طاعة الله وهـو معنى {وَيُزَكِّيهِمْ}. وهي وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وورَّاثه من بعده {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} (17 الكهف). هذا أبي بن كعب رضي الله عنه يقول في هذا المعنى: (كنت في المسجد فدخل رجل فصلى فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا فحسَّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذا كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنني أنظر إلى الله عز وجل فرقاً). هذه هي التزكية التي لا تكون إلا بالصحبة الطيبة مع شيخ مرشد، وإلا ضاع المرء وتاه في غياهب عَرَفَ الشيطان خباياها واستمكن بها، لينقضَّ على أصحابها في الوقت المناسب، يقنصهم ويزيغ بهم عن الصراط المستقيم. وبهذا عرفنا أن تلاوة القرآن وممارسة الطاعة بصورة منفردة شيء والتزكية شيء آخر. ولا بد أن نعلم أيضا أن علم التزكية شيء وحالة التزكية شيء آخر، فقد ينبري العالم يصيح وينادي من على منبره وفي محرابه أن الرياء من الشرك ثم يقع فيه، وأن الغلّ والحقد حرام وعقوبتهما كذا وكذا وفاعلهما كذا وكذا، ثم يقع فيهما. فنقول إن هذا عالمٌ بالتزكية لكنه ليس بمزكٍ، فعلم التزكية شيء وحالة التزكية شيء آخر. والمطلوب للمرء أن يعرف علم التزكية ويحظى بحالتها من خلال الوارث المرشد، فكما هي أعضاء الجسم تمرض وتذهب إلى الطبيب لعلاجها، كذلك القلوب تمرض ولا بد من طبيب عالم عارف مزك تَعْرُض عليه حالتك ليصف لها الدواء، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يعرضون أحوالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنقرأ هذا الحديث الذي يوضح لنا المعنى وهو ما رواه مسلم في صحيحه في كتاب التوبة (عن حنظلة رضي الله عنه قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال سبحان الله ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: وما ذاك؟. قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والضيعات، نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة (ثلاث مرات)). السير مع الوارث المحمدي 1. ضرورة اتخاذ المرشد: يقول الله تعالى {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} (17 الكهف)، ويقول أيضا {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (15 لقمان). وعلى ذلك فقد تبين لنا مما سلف ضرورة البحث عن شيخ مرشد يصحبه المرء مستعينا بعد الله به في علاج آفاته القلبية يدله على الله وعلى طاعته، ويذعن لنصحه وتوجيهه. ولننظر إلى الإمام أبي حامد الغزالي يحدث في هذا الأمر قائلاً: "الدخول مع الصوفية فرض عين إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام". ويقول رحمه الله في الجزء الثالث من «الإحياء» ص 60 "يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه، قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على الأرض، وإن بقيت مدة وأورقت لم تـثمر، وإن أثمرت فمرٌ ثمرها، فليعتصم المريد بشيخه وليتمسك به". وهذا ابن عطاء الله السكندري يقول: "وينبغي لمن عزم على الاسترشاد وسلوك طريق الرشاد أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق سالك للطريق، تارك لهواه، راسخ القدم في خدمة مولاه، فإذا وجده فليمتثل أمره ولينـته عما نهي عنه وزجر". يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني قدست أسراره في كتاب «الفتح الرباني» في المجلس التاسع والثلاثين على الصفحة 129: "اتبع الشيوخ العلماء بالكتاب والسنة العاملين بهما، وأحسن الظن بهم وتعلم منهم وأحسن الأدب بين أيديهم والعشرة معهم فقد تفلح، وإذا لم تـتبع الكتاب والسنة ولا الشيوخ العارفين بهما، فما تفلح أبدا. أما سمعت: (من استغنى برأيه ضل) (هذب نفسك بصحبة من هو أعلم منك) (اشتغل بإصلاحها ثم انتقل إلى غيرها) قال النبي صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)". يقول الإمام الشعراني بعد أن بين أن من سلك من غير شيخ تاه: "من قال إن طريق القوم يوصَل إليه بالفهم من غير شيخ يسير بالطالب فيها، لما احتاج مثل حجة الإسلام الإمام الغزالي والشيخ عز الدين بن عبد السلام أخْذَ أدبهما عن الشيخ، مع أنهما كانا يقولان قبل دخولهما طريق القوم (كل من قال: إن ثم طريقةً للعلم غير ما بأيدينا فقد افترى على الله عز وجل) فلما دخلا طريق القوم كانا يقولان: قد ضيعنا عمرنا في البطالة والحجاب واثبتا طريق القوم ومدحاها". وكان سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام يقول بعد ذلك: "ما عرفت الإسلام الكامل إلا بعد اجتماعي على الشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله" ثم يتابع الإمام الشعراني قائلا: "فإذا كان هذان الشيخان قد احتاجا إلى الشيخ مع سعة علمهما بالشريعة فغيرهما من أمثالنا من باب أولى". إذن فلا بد للمرء أن يسعى لاتخاذ مرشد، قد ورث الإرشاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً بعد شيخ، يسمى وارثاً محمدياً أو شيخاً مرشداً، يصله برسول الله صلى الله عليه وسلم صلة روحية، من خلال سند واضح صحيح، لا يقل في أهميته عن سند الحديث النبوي. يأتمر بأمره ويسير معه ويتعلم منه ويأخذ عنه أمور دينه ودنياه، ويعرفه طريق الوصول إلى معرفة الله عز وجل، ويعرفه أحكام دينه، ويعرفه آفات نفسه ومعالجتها، ويحذره من مداخل الشيطان على قلبه. فلرسول الله وُرَّاثٌ ورثوا عنه بعض الوظائف التي اختص بها. فمنهم من ورث عنه علوم الفقه، ومنهم من ورث عنه علوم التلاوة، ومنهم من ورث عنه علوم السير وغيرها من العلوم، وقد ورث عنه أشياخنا رجالُ السند علومَ الشريعة والطريقة والحقيقة، إضافة إلى مناهج تزكية الأنفس وإصلاح القلوب، وقد عُرف عن ساداتنا أهل البيت الأطهار عبر السنين ميراثهم لهذه العلوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر ابن كثير في تفسيره في المجلد الأول صفحة 418، في تفسير قوله تعالى {أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (144 آل عمران) قال: قال أبو القاسم الطبراني، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن حمادة بن طلحة القناد، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني). فلا يمكن أن يفهم من هذا القول ادعاءً من سيدنا علي لوراثة الخلافة والحكم عن رسول الله وهو بين ظهرانيهم، ففي ذلك منتهى الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أدّب سيدنا علياً فأحسن تأديبه، بل إن السياق يدل بما لا يدع مجالاً للشك أن المعنى المقصود هو ميراث الولاية والإرشاد الذي تربع على قمته أشياخنا من آل البيت الأطهار. يقول الشيخ مصطفى البكري في ورد السحر (إلهي دلني على من يدلني عليك وأوصلني يا مولاي إلى من يوصلني إليك). سؤال:هل يجوز ادعاء التلقي من شيخ ميت؟ وهل يجوز الانتماء لأكثر من شيخ؟ جواب: لا يمكن التلقي ولا يتم الانتفاع بشيخ ميت، ولو صح هذا لما كانت هناك حاجة إلى وجود المرشدين الأحياء، لأن الله تعالى كتب في سابق علمه أن رحمته تجري لخلقه بمدد واصل في كل عصر إلى خاصته وعرائسه في الأرض الذين هم أولياؤه وورثة أنبيائه. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (العلماء ورثة الأنبياء). فلا بد من هؤلاء كي يدلوا الخلق على الخالق ولا بد أن يكونوا أحياءً جيلاً بعد جيل، يعيشون بين الخلق حتى قيام الساعة، بهمتهم وحالهم تكون الإفادة للخلق. روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولفظه عن أنس رصي الله عنه قال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا). وهذا يدل على أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه هو ورؤيته بين الصحابة كان نافعاً لقـلوبهم. ومن هنا كان الأمر بصحبة الصالحين {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} (15 لقمان). وذكر الشيخ محي الدين بن عربي: "أن الميت لا ينـتفع به من حيث تربية المريد والانتفاع في سيره إلى الله، ومحاذاته في الطريق ولا تتيسر هذه إلا بصحبة الحي. إذن قيد الحياة شرط في الصحبة". وقد قيل من أعرض عنهم مستعيناً بكلام من تقدمهم من الأموات، طبع عليه بطابع الحرمان، وكان مثله كمن أعرض عن نبي زمانه وتشريعه مستغنياً بشرائع النبيين الذين خلوا. ويقول الأمام الشعراني: "ومن الواجب على المريد إذا مات شيخه أن يتخذ له شيخاً يربيه زيادة على ما رباه شيخه الأول فإن الطريق لا قرار له". وعلى هذا فلا بد من الانتفاع بشيخ حي يراه السالك ويجلس معه ليرشده إلى طريق الحق القويم، فبالسير مع هذا الشيخ الوارث المحمدي تستضيء القلوب، وتعتدل الأمزجة، وتخمد وساوس الشيطان، كما في حديث أنس السابق. ولا يجوز ادعاء التلقي من المشايخ الأموات فإن ذلك غير صحيح، وهو من ضعف الهمة، وهوى النفس، ورداءة الفطنة، إلا إذا كان ذلك على سبيل التبرك بهم، مع شرط وجود الشيخ المرشد الحي. فإن مات الوارث المرشد فإنهم بعد نقله لدار الحق عليهم الاجتماع إلى من أشار إليه ليخلفه أو من اجتمعت به الصفات وجرى عليه الإجماع. كما لا يجوز أيضاً اتخاذ أكثر من شيخ واحد لما في ذلك من الفساد وعدم النفع، واذكر هنا مقولة أبي يزيد البسطامي: "من لم يكن له أستاذ واحد فهو مشترك والمشترك شيخه الشيطان. ثم قال أخذت طريقي عن شيخي نَفَساً بنفَس". وهذا هو الشيخ محي الدين بن عربي يقول: "اعلم أنه لا يجوز لمريد أن يتخذ له إلا شيخاً واحد لأن ذلك أعون له في الطريق، وما رأينا مريداً قط أفلح على يد شيخين". فلا بد إذن من نبع واحد يستقي منه المريد ويستدل به على طريق الآخرة. وإذا تعدد الدُّلاَّل له ربما تاه واختلط عليه الأمر، ولا حجة للذين يقولون بأن الصحابة والتابعين كانوا لا يتقيدون بشيخ واحد، لأن أولئك كانوا أبراراً أطهاراً وكل واحد منهم هو شيخ مرشد. قد وصلوا أعلى مراتب العبودية والطاعة ولا حاجة لهم بذلك. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). وما كانت الحاجة إلى مرشد واحد إلا بعد أن كثرت الآفات والأمراض والعلل واحتاجوا إلى علاجها. والعلاج في هذه الحالة لا يكون إلا على يد شيخ واحد حتى لا يتيه المريد ويطول عليه الطريق إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حياته هو المرشد والمزكي والمعلم دون غيره. 2. صفات الشيخ المرشد: سؤال: ما هي صفات الشيخ المرشد الوارث وعلاماته؟ جواب: لابد من التفريق بين وظيفة العالم ووظيفة الشيخ المرشد المربي، إذ كما قلنا سابقا في موضوع التزكية فإن العالم يعنى بحفظ النصوص وتلقينها، وقد تكون نفسه مزكاة، أما المرشد المحمدي فطريقه موصلٌ لتزكية النفوس والتحلي بالكمالات الخلقية، وهو الذي تزداد حين تصحبه إيماناً وتقىً وطهارةً، وملازمتك له وامتثالك لأمره يعني شفاءك من أمراضك القلبية وعيوب نفسك، ويؤثر فيك شخصه الذي هو صورة عن الشخص المثالي، شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن صفات الشيخ المرشد أن يكون عالماً بالشريعة، عاملاً بأحكامها عالماً بالفرائض العينية وأركانها، متحققاً بالعقيدةِ وصحتها، مزكياً لنفسهِ على يد مربٍ مرشدٍ، خابراً مراتب النفس وأمراضها، مدركاً أحوال القلبِ ومداخل الشياطين ووساوسها، مجازاً من قبل شيخ مرشد كامل يتصل سنده بالتسلسل شيخاً عن شيخ حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقلداً متبعاً متشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم قلباً وقالباً، لا تعتري قلبه الآفات ولا قالبه النواقص، كأن يكون متكبراً معجباً بنفسه أو بخيلاً أو مغروراً أو حاسداً. وأن يكون خاليا من صفات العَوَر والصمم والبكم والعرج أو أي صفةٍ خَلْقيةٍ، لأن في ذلكَ مَساساً بالجناب المحمدي الذي يتشبه به وما لذلك من أثر سلبي في نفوس أتباعه. ثم يلمس الناظر في محيطهِ أجواءَ الإيمان والتقوى والتواضع بين أتباعه ومحبيه دلالةً على تأثيره في إصـلاح محيطه، قال الله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا} (59 الفرقان) وقال أيضاً {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (15 لقمان). أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَ عمرَ رضي الله عنهما فقـال (يا ابنَ عمر دينكَ دينكَ انما هو لحمك ودمك فانظر عمن تأخذ هذا الدين، خذ الدين عن الذينَ استقاموا ولا تأخذه عن الذينَ مالوا). 3. من علامات الإرشاد: ينيبُ إلى دار الخلود وتجري عليه صورةُ المجاهدةِ والمعاملةِ من غيرِ مكابدةٍ ولا عناء، بل بلذاذةٍ وهناء، ويصيرُ قالبه بصفةِ قلبه لامتلاء قلبِه بحب ربه، يلينُ جلدهُ كما لان قلبه، والدليلُ على لين جلده إجابةُ أعضائِه وقالبه بالطاعة كإجابة القلب باللين والخشوع والإنابة. فيزيده الله ويحبه ويمنحه بإرادة خاصة ويرزقه محبةً توصله لدرجةِ السابقين المقربين قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(23 الزمر). فأخبر تعالى أن الجلود تلينُ كما القلوب تلين. والوارث المحمدي أهـل للإقتداءِ، وعليه وقار الله وبه يتأدب المريدونَ ظاهراً وباطناً. قـال تعـالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (90 الأنعام). وقال أيضاً: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (24 السجدة). وهكذا جعلَهم الله أئمةَ المتقين. قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه (إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت هِمَتَه في ذكري، عشقني وعشقته ورفعت الحجَاب فيما بيني وبينه لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبةً ذكرتهم فيها فصرفته بهم عنهم). ومجالسة الناس للوارث المربي تزيد في إيمانهم، وتحيي أرواحَهم وقلوبهَم فلا يتكلم المربي إلاّ لله، ولا ينطق إلاّ بخير. ينتفع به من قربه كما ينتفع من بُعده، رؤيته تذكرك بالله أو كما قيل (تستفيد من لحظه كما تستفيد من لفظه) ويكون بينه وبين مريديه تآلفٌ مأخوذ عن وجه التآلف الإلهي{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ويكون في الشيخ معنى التخلق بأخلاق الله تعالى كما في الحديث القدسي: (ألا طالَ شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً). قال تعالى {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (63 الأنفال). فبتوفيق الله الذي يؤلف بين القلوب، وبما يكون من حسن التآلف بين الفاضل والمفضولِ، يصير السالك جزءَ الشيخ كما الولد جزء أبيه الصُلْبي، والولادة هنا ولادة معنوية. فالولادة الصُلْبية تربط الوَلد بعالم الملكِ (ظاهر الكون) والولادة المعنوية تربـط الولـد بعـالم الملكوت (باطن الكون) وهذه الولادة تصل المريد من خلال شيخه بميراث النبي صلى الله عليه وسلم فهو لها مستحق من خلال سنده المتصل عَبَر أشياخ شيخه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75 الأنعام). فالوارث له أولاد بهذه الصفة يأخذون منه العلومَ والأحوالَ ويتربونَ على يديه، وتتزكى نفوسهم بصحبته كما تزكت نفسه بصحبة أشياخه حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نفى الله عنه صفة الأبتر (أي الذي لا نسل له) حين عابه بها الكفار فقال تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} (3 الكوثر) رغم أنه لم يعش للرسول صلى الله عليه وسلم من صُلبه ولد، فالصالح من أمته هو ولده صلى الله عليه وسلم، لأن نسله الروحي إضافة إلى نسله من فاطمة الزهراء باقيان إلى أن تقوم الساعة. وبهذه النسبة المعنوية من جهة والصُّلبية من جهة أخرى يصل ميراث العِلم إلى أهل العلم. قال تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (6 الأحزاب) ومن هذا الفهم للأبوة الروحية كانت النصائح الرحمانية لشيخنا العارف بالله وارث جده رسول الله الشيخ عبد الرحمن الشريف حين بدأها بقوله (يا ابن الروح). ولا يظن أحد أن لما قلناه علاقة بما عند النصارى من اعتقادات في الأبـوة والبنوة، فالأب عنـدهم والعيـاذ بالله هو الله، والابن عندهم هو المسيح، ونعوذ بالله من ذلك. والأب وهو الكاهن أو الحبر عندهم صورة عن الله بدليل أنهم يعترفون أمامه كأنهم يعترفون أمام الله، وبذلك أسبغوا عليه من صفات الألوهية كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} (31 التوبة). وهذا لا جدال في رفضه رفضاً قاطعاً في عقيدة المسلمين. أما ما نعنيه هنا بالأبوة والبنوة فهي علاقة تربيةٍ روحية، فقد جُعل المرشد مربياً للروح، بمثابة الأب المربي للجسد |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 15 | |||
|
![]() أدب المريد مع الشيخ أجمع العارفون بالله أن التصوف كله أدب، ولا يمكن أن يكون سلوك دون أدب، وسوء الأدب قاطع رئيسي، ولكل وقت أدب، ولكل فعل أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن يلزم الأدب يبلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول، والأدب دعامة أساسية في السلوك. في الباب الحادي والخمسين من كتاب السهروردي «العوارف للمعارف»، يذكر السهروردي مجموعة من آداب المريد مع الشيخ أقتطف منها باقة جميلة أقدمها لقارئ كتاب الدلالة النورانية. يقول الشيخ: "أدب المريد مع الشيوخ عند الصوفية من أهم الآداب، وللقوم في ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1 الحجرات). روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قدم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني تميم، فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه بل أمِّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردتَ إلا خلافي. وقال عمر: ما أردتُ خلافك. فتماريا، حتى ارتفعت أصواتهما. فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقدموا، أي لا تتكلموا بين يدي كلامه. قال جابر: كان ناس يضحون قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن تقديم الأضحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل كان قوم يقولون لو أنزل في كذا وكذا، فكره الله ذلك. قالت عائشة رضي الله عنها: لا تقدموا، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وقال الكلبي: لا تستبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم به. وهكذا أدب المريد مع الشيخ، أن يكون مسلوب الاختيار، لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره. وقيل لا تقدموا، أي لا تمشوا بين يدي الشيخ". انتهى كلام السهروردي. وقصة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في عام الحديبية مشهورة، وذلك عندما أرسله رسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة مفاوضاً امتنع عن الطواف قبل طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو الدرداء: كنت أمشي أمام أبي بكرٍ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا وفي الآخرة. وقيل نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء خاضوا فيه وتقدموا بالقول والفتوى فنهوا عن ذلك. وهكذا أدب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكوت ولا يقول شيئاً بحضرته من كلامٍ حسنٍ إلا إذا استأمرالشيخ ووجد من الشيخ فسحة في ذلك. الكلام لسيدنا السهروردي. وينبغي للمريد أن لا يحدث نفسه بطلب منزلة فوق منزلة الشيخ، بل يحب للشيخ كل منزلة عالية، ويتمنى له عزيز المنح وغرائب المواهب. ومن تأديب الله تعالى لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (2 الحجرات). كان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا كلم إنساناً جهر بصوته. وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيتأذى بصوته. فأنزل الله تعالى الآية الكريمة، تأديباً له ولغيره. قيل لما نزلت الآية، آلى أبو بكرٍ ألا يتكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم، إلا كأخ السرار. وكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسمع كلامه حتى يُستفهم. فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع الشيخ لا ينبسط برفع الصوت، وكثرة الكلام، إلا إذا بسطه الشيخ. فرفع الصوت تنحية جلباب الوقار، والوقار إذا سكن القلبَ عقل اللسانُ ما يقول. والكلام لسيدنا السهروردي. قال أبو بكر القاضي في قوله تعالى {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} أي لا تبدؤوه بالخطاب، ولا تجيبوه إلا على حدود الحرمة. {وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (2 الحجرات) أي لا تغلظوا له في الخطاب ولا تنادوه باسمه، وهذا منتهى سوء الأدب أن ينادى الرسول صلى الله عليه وسلم بنداء يا محمد، يا أحمد... ومن هذا القبيل يكون خطاب المريد مع شيخه. ولما نزلت الآية {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (2 الحجرات) قعد ثابت بن قيس في بيته يبكي، وهو جهوري الصوت، واعتزل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أخاف أن يحبط عملي، وأكون من أهل النار. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه وبشره (أما ترضى أن تعيش سعيداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة). قال قد رضيت ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (3 الحجرات). وينبغي للمريد أنه كلما أشكل عليه شيء من حال الشيخ، وهذا باب آخر من سوء الظن، إذا حصل بين المريد وشيخه، أن يحذر انتفاء النفع، فلا يمكن أن يكون نفع مع سوء الظن. وهذا يذكِّر بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وكيف كان الخضر يفعل أشياء ينكرها سيدنا موسى، وإذا أخبره الخضر بسرها يرجع عن إنكاره. فما ينكره المريد إنما هو لقلة علمه بحقيقة ما يوجد من الشيخ. فللشيخ في كل شيء عذر بلسان العلم والحكمة{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (9 الزمر). سأل بعض أصحاب الجنيد مسألة من الجنيد، فأجابهم رضي الله عنه، فعارضه السائل، فقال الجنيد: {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} (21 الدخان) فقال بعض المشايخ: من لم يعظم حرمة من يتأدب به، حُرم بركة ذلك الأدب. وقيل: من قال لأستاذه لا، لا يفلح أبداً. وهيبة الشيخ تملك المريد عن الاسترسال في السماع وتقيده. واستغراقه في الشيخ بالنظر إليه ومطالعة موارد فضل الحق عليه، أنجع له من الإصغاء إلى السماع. ومن الأدب ألا يكتم على الشيخ من حاله ومواهب الحق عنده وما يظهره له من كرامة وإجابة، ويكشف للشيخ من حاله ما يعلمه الله تعالى منه، وما يستحيي من كشفه يذكره إيماءاً وتعريضاً، فإن المريد متى انطوى ضميره على شيء، لا يكشفه للشيخ تصريحاً أو تعريضاً، يسير على باطنه منه عقدة في الطريق. وبالقول مع الشيخ تنحل العقدة وتزول. ومن الأدب أن لا يقوم بصحبة الشيخ إلا بعد علمه بأن الشيخ قَيِّم بتأديبه وتهذيبه، وأنه أقوم بالتأديب من غيره. ومتى كان عند المريد تطلع إلى شيخ آخر، لا تصفو صحبته، ولا ينفذ القول فيه، ولا يستعد باطنه لسراية حال الشيخ إليه، فإن المريد كلما أيقن تفرد الشيخ بالمشيخة عرف فضله وقويت محبته. ومن الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمور دينه ودنياه، لا يستعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه، أي الاندفاع تجاهه، حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه، ومتفرغ لقوله. عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه). فاحترام العلماء توفيق وهداية، وإهمال ذلك خذلان وعقوبة. ولابد من الإشارة إلى آداب أخرى. فعلى المريد أن يُكنّ لشيخه كل احترام وتقدير، كونه المربي للروح، والدّال على الله تعالى، وصلة الوصل لأهل الله حتى رسول الله. لكن دون الوصول في هذه المحبة إلى الغلو المرفوض. كأن يُخْرِج شيخه عن طور البشرية، أو عن طور الولاية، فيعتقد فيه العصمة وهي للأنبياء لا للأولياء. لأن الشيخ وإن كان على أكمل الصفات، فهو غير معصوم. وإن كان من أهل المشاهدة الذين لا يقعون في المعاصي، إذ قد تبدو منه الهفوات والزلات، وغالباً ما تكون هذه الهفوات ظاهرها يخالف الشرع، وباطنها لا يخالف، كقصة سيدنا الخضر مع سيدنا موسى، وغالباً ما تجري الابتلاءات والامتحانات على يد الأولياء. فالمريد إذا اعتقد بشيخه العصمة المطلقة، ثم رأى منه ما يخالف ذلك وقع في الاضطراب والحيرة. فعلى المريد أن يستسلم لشيخه كما الميت بين يدي المغسِّل. ولا يقال بأن هذا انقيادٌ أعمى ينافي حركة العقل والحرية للمرء، لأن ذلك من باب التربية والعلاج. إذ هل يعقل أن يدخل مريضُ الجسدِ إلى طبيب الجسد متشككاً مضطرباً أم أنه يدخل إليه مستسلماً ويقبل علاجه ودواءه ونصحه ويسلم به.. دون أن يتهم بتخليه عن عقله!؟. كذلك طبيب الروح، لا بد وأن تسلم لنصحه ووعظه ودوائه وعلاجه، كي تظفر بالشفاء من العيوب، وهذا لا يتنافى مع دور العقل. ثم إني أُحذر السالك من الاعتراض على شيخه وفتح باب النقد لتصرفاته، لأن هذا يقطع المدد الروحي بينهما. وليحرص على إغلاق منافذ الشيطان الذي يسعى دوماً لإيقاع العداوة بينهما. فإذا دخل على السالك إِشكال أو ريبة من شيخه، فليحسن الظن بشيخه، وإلا فاتحه في الأمر وسأله بأدب واحترام. قال أبو العباس المرسي رحمه الله: تتبعنا أحوال القوم فما رأينا أحداً أنكر عليهم ومات بخير. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني قدست أسراره: من وقع في عِرض وليٍ، ابتلاه الله بموت القلب. ومصداق ذلك هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب..). قال محمد بن حامد الترمذي: من لم ترضه أوامر المشايخ وتأديبهم، فإنه لا يتأدب بكتابٍ ولا سنة. حكم تقبيل الأيدي سؤال: يلاحظ على أتباع الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية تقبيل أيادي بعضهم البعض أثناء السلام، ما هو الأصل في ذلك وما رأي أئمة الشرع في ذلك، وهل نستطيع وصف هذه العادة بأنها بدعة؟ جواب: السلام المتعارف عليه بين أبناء الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية يستمد مشروعيته من السنة النبوية المطهرة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم وأقوال الأئمة أصحاب المذاهب المتبعة المشهورة، حيث أجاز الشرع الحنيف تقبيل يد العلماء والصالحين والوالدين، كما سيأتي ذكره لأنه شعار ومظهر من مظاهر التواد والتواضع لأهل الفضل والصلاح. ما ورد في السنة النبوية: جاء في شرح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني (أن أبا لبابة وكعب ابن مالك وصاحبيه قبّلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم). وعن صفوان بن عسان قال: (قال يهودي لصاحبه قم بنا إلى هذا النبي، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا عن تسع آيات بينات فذكر الحديث... إلى قوله فقبلا يده ورجله وقالا: نشهد إنك نبي الله). رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وغيرهم. وروى أبو داود عن أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس قال (فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله). وكذلك رواه البيهقي كما في السيرة الشامية وفيها (ثم جاء منذر الأشبح حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها وهو سيد الوفد). ما ورد في الآثار: جاء في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني: أخرج البخاري في الأدب المفرد من رواية عبد الرحمن بن رزين قال (أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفاً له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها). وعن ثابت (أنه قبل يد أنس) رضي الله عنـه. وأخرج أيضـاً (أن عليـاً قبل يد العباس ورجله). وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي (قلت لابن أبي أوفي: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فناولنيها فقبلتها). وأخرج الطبراني والبيهقي والحاكم عن الشعبي (أن زيد بن ثابت صلى على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأخذ بركابه فقال زيد بن ثابت خل عنك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أُمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء، فقبل زيد بن ثابت يد عبد الله وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال ابن كثير في تاريخه «البداية والنهاية» ج7 ص55 في فتح بيت المقدس على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد كلام.. "فلما وصل عمر بن الخطاب إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤوس الأمراء كخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان، فترجل أبو عبيدة وترجل عمر فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة فكف أبو عبيدة فكف عمر". وفي «شرح الهداية» قال أبو المعالي: أما تقبيل يد العالم والكريم لرفده فجائز. وأما تقبيل يده لغناه فقد روي (من تواضع لغنيٍ لغناه فقد ذهب ثلثا دينه). وقد علمت أن الصحابة قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند قدومهم من غزوة مؤته. وقال الحافظ ابن الجوزي في «مناقب أصحاب الحديث» "ينبغي للطالب أن يبالغ في التواضع للعالم. قال: ومن التواضع تقبيل يده، وقبل سفيان بن عيينه والفضيل بن عياض أحدهما يد الحسين بن علي الجعفي والآخر رجله. (شرح منظومة الآداب للسفاريني. ج1 ص287)". أقوال أئمة الفقه: الحنفية:قال العلامة ابن عابدين في حاشيته عند كلام صاحب الدر المختار: "ولا بأس بتقبيل يد الرجل العالم والمتورع على سبيل التبرك، وقيل سنة. قال الشرنبلالي: وعلمت أن مفاد الأحاديث سنيته أو ندبه، كما أشار إليه العيني" (حاشية ابن عابدين ج5 ص254). المالكية:قال الإمام مالك: إن كانت قبلة يد الرجل على وجه التكبر والتعظيم فمكروهة، وإن كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإن هذا جائز (شرح البخاري لابن حجر العسقلاني ج11 ص48). الشافعية:قال الإمام النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه وعلمه أو شرفه أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب. فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة. (المصدر السابق). الحنبلية: في «غذاء الألباب شرح منظومة الآداب» للعلامة السفاريني الحنبلي قال: "قال المرزوي سألت أبا عبد الله - الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله عن قبلة اليد فقال إن كان على طريق التدين فلا بأس، قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وإن كان على طريق الدنيا فلا" ج1 ص287. هذه هي الأدلة الشرعية في حكم تقبيل يد الصالح وأهل الفضل. ومنها كانت طريقة السلام بين إخواننا في الطريقة. إلا أن مشايخنا رحمهم الله وهم أهل الفضل والعلم والولاية رأوا في أتباعهم الصلاح والتقى، ورأى التابعون في مشايخهم التواضع والانكسار، فكان من فهمهم لشرع الله أن تبادلوا تقبيل أيادي بعضهم دون فرق بين فاضل ومفضول وسيد ومسود، فقبل التابع يد المتبوع إقراراً بفضله وتقاه، وقبل المتبوع يد التابع تواضعاً وحباً حفظاً لقلبه. فكان السلام الذي نراه اليوم في زوايانا سنة مستنبطة حسنة من الأدلة الشرعية السابقة، تدل على إيمان قوي وتواضع جم وحب صادق في الله يدل على نفس طاهرة مزكاة لا يشوبها الكبر ولا الحقد ولا التعالي. علاج النفس ومراتبها سؤال: كيف تعالج الطريقة النفس من آفاتها؟ جواب: يقول الله تعالى {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} (18 فاطر). {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (69 العنكبوت). وهذه الآية مكية نزلت قبل الإذن بجهاد الأعداء مما يدل على أنها في جهاد النفس على الأخص. ويقول الله تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (7-10 الشمس). إن معرفة النفس فرض عين لكل سالك في طريق الآخرة لأن من عرف نفسه عرف ربه. وأعني بالنفس اللطيفة الربانية التي سميت فيما بعد بالروح، حيث كانت قبل تعلقها بالجسد في جوار الحق تعالى، ولما وجد الجسد تعلقت به ومالت إلى طبيعته الشهوانية، ووصفها الحق بأنها أمارة بالسوءما لم تتزكى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (53 يوسف). فحالها بدون تزكية حال ظلمة وهبوط. وإذا تزكت فهي نفس نورانية تحققت من مراتب النفس السبعة التي سنذكرها إنشاء الله. وقد عُنيت طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية بهذا الجانب وتميزت به، فهي تراعي في السالك التخلص من آفات النفس المذمومة لتحيلها إلى أخلاق حميدة مشكورة. فعلى السالك أن يتنبه لحقيقة نفسه ويسعى لتزكيتها على يد مرشد وارث متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن تأتي سكرة الموت بالحق. وليعلم السالك أن النفس تمرض كالجسد، فكما تذهب للطبيب لعلاج جسدك، وأخذ الدواء اللازم له، كذلك النفس لابد لها من طبيب وهو الشيخ، ولابد لها من دواء وهو الذكر الذي يصفه الشيخ. ثم ليُعلم أن للنفس سبع مراتب: الأولى: النفس الأمارة: وهي النفس الخالية من التزكية، المجردة من القيم الروحية، لأنها تميل إلى رغبات الجسد وملذاته وشهواته المحسوسة، وتميل صاحبها إلى الأسفل {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (5 التين). وهنا تبدأ مرحلة التزكية {إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (6 التين). وكل الطبائع الذميمة الباطنة تسكن في هذه النفس، كالغل والحقد والنفاق والشح والحسد والغضب.. الخ. {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} (53 يوسف). الثانية: النفس اللوامة: وهي التي بدأت تدرك حقيقة المجاهدة فأخذت ببداياتها، ولقرب عهدها بالنفس الأمارة تطيع الحق مرة وتعصيه أخرى ثم تندم. فإذا تنورت فعلت الخير ولامت حالها لعدم استدامته، والإكثار منه. وإذا فعلت الشر لامت صاحبها عند انتباهها لِمَ فعلته؟. قال تعالى {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ 1 وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (1-2 القيامة). الثالثة: النفس المطمئنة: وقد ارتقى حالها وتنورت بنور الإيمان الذي وقر في القلب بفعل الخير والندم على الشر، وبدأت تتخلص من الصفات الذميمة، واطمأنت بحال الذكر والقرب من الله {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28 الرعد). وهي أولى مراتب الكمال، وعُد صاحبها من أهل الطريق، لأنه أبصر الحق ودرج عليه. وتعلق بربه وتفانى في حبه. قال تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (27-28 الفجر). الرابعة: النفس الملهمة: وهي ثمرة العمل في النفس الثانية والثالثة فصارت بفعل الطاعات ملهمة {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (282 البقرة). فمن التزم الشريعة وترجمها بالطريقة أي التطبيق، لابد وأن يثمر ذلك الحقيقة، فهي كمن يخض اللبن ليأتي بالزبدة. ويتميز أصحاب هذه المرتبة بالصبر والتحمل والشكر والتواضع والقناعة والكرم قال تعالى {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (65 الكهف). ومثال ذلك قصة سيدنا عمر بن الخطاب المشهورة مع سارية بن حصن، حيث قال بعدها (وقع في خلدي) أي ألهمني ربي. الخامسة: النفس الراضية: وهي ثمرة المراتب الثلاثة السابقة. حيث رضيت عن الله في مشيئته وأقـداره، وإذا سُئلت ماذا تشتهي قالت (ما يقضي الله). قال تعالى {وَرَضُوا عَنْهُ} (8 البينة). قال شيخنا العارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشريف في تحفته: يانفس لا تبتغي اللذّات وارتدعي وارضي بما قدر الرحمن واستقمي والغالب على هذه النفس التسليم المطلق {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (65 النساء). السادسة: النفس المرضية: وهي التي رضي الله عنها بسبب رضاها. وهي أولى مراتب معرفة الله تعالى حق معرفته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (إذا تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة). والغالب على هذه النفس صفات الإخلاص والذكر والكرامة والطهارةُ من شوائب الرياسة والسمعة والرياء. قال تعالى في آية جمعت النفس المطمئنة والراضية والمرضية {ياأيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (27-28 الفجر). وقال أيضاً {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (8 البينة). السابعة: النفس الكاملة: ولا نعني به الكمال المطلق الذي هو لله وحده، بل الكمال الجزئي البشري حيث تصير الكمالات طبعاً أصيلاً في هذه النفس وتترقى في هذا المقام. وغالباً ما يكون صاحبها مرشداً للناس. وحالها من الله وإلى الله. فاعلم أيها السالك أن الترقي في هذه المقامات لا يكون إلا على يد مرب مرشد كامل يعرف مقامات الطريق، وآفات النفس، ومداخل الشيطان، وينأى بمريده عن دروب الشر والفساد، إلى دروب الخير والإحسان. وأريد هنا التنبيه على أن السير في تخليص النفس من آفاتها ورعوناتها لا يكون إلا بإتباع الشرع الشريف. لا كما تدعي الفلاسفة والبوذيون والبراهمة والمعتزلة بأنها تكون بطريق العقل والرياضات العقلية المجردة عن المنهج الإلهي الواضح فوقعوا في الضلال. |
|||
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc