{بين حي وميت}
خرجت مرة ً أزور القبور وأتأمل كيف ينفق الإنسان وقته وأين ينتهي
فلما دخلت إلى المقبرة و أخذت أمد عيني إلى أصحاب القبور شعرت بصفاء ِ من وصل إلى النهاية وفاز بها واستوقفت نفسي وسألتها بصوت عميق ترى ما حال أهل القبور؟
فإذا بي أسمع صوتا ً يرد علي إننا بخير وأحسن حال،فتعجبت من صاحب الصوت وسألته ما تعني {أحسن حال} ؟!
فقال لي :يا صاحبي ألست تعيش فوق التراب.
فتعجبت وتبسمت وقلت نعم وأين أعيش بل كيف أزورك لو لم أكن فوق التراب
فقال بكل بساطة: كما نحن نفعل نعيش ونتزاور ونتجالس سوية ً نلتقي بالبسمة ونغادر بالبسمة
فقلت: نحن كذلك نــ
فقطع علي كلامي قائلا ً إنكم تجلسون إلى بعضكم تتحدثون وتبتسمون فإذا خرجتم انقلبت الحقائق وظهر الكره وبدأ اللسان مع القلب والجوارح بالشتم وعد العيوب ولكن من رحمة الله أنه أخفى عليكم البواطن
فقلت له : أهذا هو يا سيدي أحسن حال
فقال لي: يا صاحبي إنكم في هذه الحياة تعيشون في حياة تسمى حياة الظل ألم تنظر إلى الدمى المتحركة والأجسام المطاطية يتكلم صاحبها على لسانها ما يشاء
قلت :نعم رأيت
قال: كذلك أنتم تتبعون عورات بعضكم ، وتهتمون بمديح بعضكم ، وقد لا تفعلون الصواب وهذا دليل على عدم الإخلاص في الأعمال وتستطيع أن تسميه قصور إدراك عن غاية عليا كمن يترك الغاية ويقف عند الوسيلة فأصبح عمل الخير للشكر لا للخير فإذا انقطع الشكر ينقطع الخير وهذا لا شك خاطئ ٌ وأنتم لا ترون ذلك فالبعض محجوبون بالمال والبعض محجوب بالسمعة أو المكان أو المكانة فالمكانة أنثى والأنثى عندكم تلفت الأنظار كثيرا ً
أما نحن في هذه المنزلة لا نرى الإ الحقائق
فقلت: أذلك يعني أنكم لا تتمنون أن تعودون إلينا وأنكم لا تحسدوننا على شيء
فقال: أما العودة ما يتمناه الكفار ومن ليس له رصيد يكفيه من الصالحات
ونحن والحمد الله عملنا الخير فجزانا الله به وزادنا من رحمته
أما أن نحسدكم فذلك شيء آخر اسمع يا صاحبي: طالما أنت فوق الأرض ففرصك كثيرة فإذا أتيت إلينا انتهت فرصك وإننا لا نحسدكم على شيء الإ على ركيعات تركعونها في جوف الليل
فقلت: كيف وجدتم القبر هل هو ضيق كما نراه ؟
فقال : يا صاحبي القبر هو مثال عالم الغيب المكشوف لكم فبعد صعود الروح إلى بارئها يوضع هذا الثوب الذي هو الجسم في هذا الصندوق الذي هو القبر حتى يحفظ بعيدا ً عن متناولكم لا تمسه الأيدي فإن كان من دخله صالحا ً اتسع له قبره في عالم لا يراه البشر فهو غيب ولكنهم يزورونه فهو حاضر
وإن كان صاحبه سيئا ً صار أشد ضيقاً مما يبدو للعين
فقلت: والله إن في الموت لعجب!!
فقال: يا صاح أي عجب في الموت إن كان محطة لابد من عبورها ولكنكم مشغولون دائماً
فقلت:وضح لي بحق أهل التربة والجوار كيف ينشغل الإنسان عن ما يهمه ؟
فقال: إن أحدكم يفكر في المال وجمعه وأنه كل شيء فإذا مات تركه متاعاً وأخذه أرقاماً يحاسب عليها ،ويفكر في المركبة الوثيرة وأنها كل شيء {ليستريح من هم المواصلات } ويحسبها كل شيء ، ويفكر في الزوجة أنها كل شيء ،وقد غاب عنه أن التجارة شيء ٌ وأن المركبة والمنزل و الزوجة شيء ٌ ولكن هي ليست كل شيء ،ولكن الموت هو كل شيء ، فإذا جمعت هذه و تلك وأخواتها وصويحباتها رأيت أنكم تنشغلون بلا شيء عن كل شيء
قلت: يا سبحان الله حقائق علمية لماذا لا نطبقها نحن في حياتنا
فقال : يا صاح إن منكم من يتكلم بدون لسان ويرى بدون عيون
فقلت: رحمك الله في قبرك هاتها واحدةً واحدة
فقال أليس منكم العجزة يتكلمون على كرسي فإذا سقط سقطوا معه
وكذلك من ينظر إلى الدنيا بماله فيخلع سعادة الناس بماله فيزداد شقاءً وكل هذا سيكشف عندما تنزلون في منزلتنا ، فتنهد وقال : يا صاحبي إنك زائرٌ متأمل ولقد قل نظيرك فوق التراب وأصبحت الناس تأتي المقبرة كما في كل عباداتها للتقاليد والشعائر فقط بلا تدبر ولا خشية ولو أمكنهم أن يدفنوا أقاربهم حيث ماتوا لفعلوا وارتاحوا من هم القبر ،والقبور أوسع وأعمق لمن تأمل فيها ولم يتمش بينها كأنه ميت
فقلت: أمسك عليك بحق منكر ونكير أخشى أن يأتي دوري وأن عندك
فقال:كن دائماً أذكى من غيرك في الدنيا سباقاً فهكذا هو شأن المؤمن فهي مزرعتك ورأس مالك الذي لا تملك الإ إياه
ثم وضع يده على رأسي
فانتبهت وأنا على مكتبتي أقرأ قول الله تعالى {وما يستوي الأحياء ولا الأموات } ثم رفعت المصحف وقبلته وقلت : هذا حال ميت وحي
أهو حال من يحب ومن لا يحب أيضاً؟؟؟