بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
اللهم افتح علينا حكمتك و انشر علينا رحمتك يا ذا الجلال و الإكرام
و صل اللهم و سلم على حبيبنا و نبينا محمد و على آله و صحبه اجمعين..
رأينا النبي سويا في طفولته و صباه.. و نحن معه اليوم في أوج شبابه..
عمره اليوم خمس و عشرون سنة.. و ليس له بمكة اسم إلا "الأمين"..
الأمين.. قد نظن أنه مجرد لقب.. لكثرة ما نسمع من ألقاب في زمننا لا معنى لها ولا قيمة لها.. لما كثرت الألقاب الفارغة.. ضاعت في نفوسنا معاني و قيم الألقاب اذا اطلقت على من استحقوها..
حتى نستشعر معنى أن تجمع قريش كلها على تلقيبه بـ"الأمين" ولا ينادونه الا بهذا الاسم.. أحكي لكم واقعة بسيطة و لكنها ذات مغزى خطير..
عندما قررت قريش أن تعيد بناء الكعبة لما أصابها من تلف بسبب العوامل الطبيعية حتى كادت تنهار.. اتفقوا على أن لا يضعوا في بنائها إلا مالا حلالا.. و قريش لم تكن قبيلة فقيرة.. و لكن.. و ياللعجب.. قريش كلها لم تجد لديها مالا حلالا يكفي لبناء غرفة واحدة من الحجارة دون زينة أو زخارف .. مجرد غرفة صغيرة من الحجر و هي الكعبة.. لذا بنوها على مساحة أصغر من مساحتها الحقيقية و لم يدخلوا فيها حجر اسماعيل..
بلد غنية.. و لكن لا يوجد فيها مال حلال يكفي لبناء غرفة صغيرة.. من الحجر.. دون زخارف ولا زينه ولا اضافات.. بناء من ابسط ما يكون.. مساحته أصغر من بيت أي من سكان هذا البلد.. و أهلها يعلمون أن مالهم حرام..هؤلاء.. اذا اجمعوا على تلقيب شخص ما بـ"الأمين" فهم يقدرون أمانته حقا.. لا يطلقون ألقابا فارغة..
يشكو له عمه أبو طالب يوما ضيق ذات اليد.. يقول له :
"يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي.. و قد اشتد الزمان علينا و ألحت علينا سنون منكرة.. و ليس لنا مادة ولا تجارة، و هذه عير قومك قد حضر خروجها الى الشام.. و خديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرانها فيتاجرون لها في مالها و يصيبون منافع.. فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت اليك ..و فضلتك على غيرك ..لما يبلغها عنك من طهارتك.. و ان كنت لأكره أن تأتي الشام و أخاف عليك من يهود.. و لكن لا نجد من ذلك بدا"..
و كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة.. ذات شرف و مال كثير.. كانت نجمة في المجتمع القرشي.. و كانوا يسمونها "الطاهرة"..
كانت خديجة تبعث بتجارتها الى الشام مع قوافل قريش و تستأجر من الرجال من يدير تجارتها .. و كانت قريش قوما صنعتهم الأولى التجارة.. و من لم يكن تاجرا من قريش.. فليس عندهم بشئ.. سمة من سمات المجتمعات الجاهلية.. ان قيمة الانسان لديهم تحدد بما يملك من مال.. أو بمهنته..
فماذا يفعل النبي أمام رجاء عمه.. الذي يجد نفسه مضطرا الى هذا اضطرارا بسبب ضيق ذات اليد رغم خوفه على محمد من السفر خشية أن يراه اليهود فيعرفوه..
ماذا يفعل.. و هو الكريم الرؤوف بعمه.. و لكنه في نفس الوقت عزيز لا يعرض نفسه ولا يطلب من أحد شيئا.. لا يستشرف الدنيا ولا يطلب الرزق الا بعزة نفس..
لم يكن منه الا أن تلطف مع عمه.. و ترك المجال في يده و اكتفى بقوله :"فلعلها ترسل إلي في ذلك"..
و لكن أبا طالب حرصا منه على منفعة مواتية .. يخشى إن هو تأنى و تلبث أن تفوت فلا تعود، أظهر تخوفه ذلك لمحمد عساه يبعث فيه شيئا من اللهفة و الحرص على عرض نفسه كما طلب منه فقال له : "إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبراً"..
و بقي محمد في موقفه من العزة و التسامي ، فبلغ هذا الحوار خديجة ، فرأت منفذا أرسلت منه صوتها تدعو محمدا و تعرض عليه العمل في مالها في اطار من التكريم و التعظيم يشعره أنها هي التي تتطلع الى ذلك و لكنها ماكانت تعلم أنه يريده، فلما بلغ أبا طالب ماكان بين محمد و خديجة من اتفاق فرح فرحا شديدا ، و قال لرسول الله حين لقيه : "هذا رزق ساقه الله اليك.."
فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام ، فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له "نسطورا"، فاطلع الراهب الى ميسرة – و كان يعرفه – فقال ميسرة : رجل من قريش من أهل الحرم ، فقال له الراهب : مانزل تحت هذه الشجرة إلا نبي (أي أن من نزل تحت هذه الشجرة الآن نبي)..
ثم قال له : في عينيه حمرة؟ قال ميسرة نعم، لا تفارقه
قال الراهب: هُوَ هُوَ و هو آخر الأنبياء ، و ياليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج ..
فوعى ذلك ميسرة ، ثم حضر رسول الله سوق بصرى فباع سلعة، فقال الرجل : احلف بالات و العزى .. فرفض النبي و ظهر على وجهه الضيق.. و لكنه مازال على حسن خلقه و لين طبعه..، فقال الرجل : القول قولك..
ثم قال لميسرة –و خلا به- : يا ميسرة هذا نبي، تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم، فوعى ذلك ميسرة ثم انصرف أهل العير جميعا.
البعض ينظر الى مثل هذه الروايات على انها ضرب من "الدروشة".. و هم معذورون .. فهم مازالوا لا يستوعبون صورة المجتمع آنذاك.. لذا أحاول أن أقرب الفكرة اليكم من واقعنا..
في مجتمع جاهلي.. أخلاق الناس فيه على قدر من البذاءة لا يقل أبدا عن مانعرفه في واقعنا بـ"بيئة الموالد" أو "الأسواق الشعبية"..
في مجتمع نسي الناس فيه خلق "الحياء".. لدرجة أن الرجل منهم كان يخرج الى الخلاء ليقضي حاجته بصحبة صديق له.. الاثنان مكشوفي العورة.. أمام بعضهما البعض.. يقضيان حاجتهما.. و يتسامران!.. كما نقول في الواقع البذئ الذي نعيشه في يومنا هذا :"عادي.. رجالة قدام بعض".. و كما نرى في بعض دول الغرب من مراحيض مفتوحة.. بلا أبواب أو فواصل.. و تجد رجلان أو عدة رجال يجلسون بجانب بعضهم البعض و هم يقضون حاجتهم.. منهم من يتصفح جريدته.. و منهم من يتحدث في هاتفه.. و منهم من يتجاذب أطراف الحديث..
في مجتمع يجمع المال من حله و حرامه مع سبق الاصرار و الترصد.. بل من حرامه قبل حلاله.. حتى أن بلدا بكاملها لا تجد فيها مالا حلال يكفي لبناء غرفة صغيرة.. و هي الكعبة..
في مجتمع سكران.. فاقد العقل.. منغمس في الملذات المحرمة..
عندما يظهر بين هؤلاء شخص ليس فيه أي من صفاتهم هذه.. بل نقيضها تماما.. قمة في حسن الخلق و الذوق الرفيع و الحياء.. قمة في الأمانة.. قمة في البعد عن المال الحرام و الملذات المحرمة من خمر و زنا و غيره..
هذا الشخص يكون مميزا جدا بين الناس.. لا تخطئه عيونهم أبدا.. كالشمس نزلت من السماء تسير بين البشر.. كما نقول في واقعنا انه "ابن ناس قوي"..
في هذا الواقع.. و هذا حالهم.. و هذا حال النبي.. كانت لا تخطئه عيون أهل الكتاب العالمين بطبيعة الزمان و المنتظرين لمن يهدي الله الدنيا على يديه و قد انطفأت مصابيح الهدى في العالم كله إذ أن آخر نبي بُعث مضى على زمانه أكثر من ستة قرون..
لذا كانوا اذا رأوه.. و رأوا حسن سمته و خلقه.. هفت اليه قلوبهم.. و حدثتهم.. أنه إن لم يكن هو.. فمن يستحق أن يكون؟؟
تماما كما نعيش في واقعنا الآن.. كلما شارفت مدة رئاسة رئيس دولة على الانتهاء.. تجد الناس يتاملون الوجوه من حولهم في المجتمع.. و كلما رأوا شخصا مؤثرا قياديا.. تجدهم التفوا حوله و حدثتهم قلوبهم أن هذا الشخص لا بد أن يكون هو الرئيس القادم للبلاد..
عندما ننظر الى هذه الروايات بهذا المنطق و بهذا الفهم.. لا نجد فيها أي غرابة على الاطلاق..
و نعود الى أحداث رحلة النبي مع ميسرة .. و كان الله قد ألقى على رسول الله المحبة من ميسرة ..فكان كأنه عبد لرسول الله ..
و باعوا تجارتهم و ربحوا ضعف ما كانوا يربحون..
فلما رجعوا.. و حكى ميسرة لخديجة ماكان من محمد .. و ما قاله الراهب.. و قول الآخر الذي خالفه في البيع..
تذكرت خديجة..
تذكرت رؤيا كانت قد رأتها.. أن الشمس نزلت من علياء السماء.. و دخلت بيتها..
رؤيا أولها لها ابن عمها ورقة بن نوفل.. و كان ممن اعتنقوا النصرانية و درسوا كتبها.. أولها لها بأن نور النبوة سيدخل بيتها..
و تذكرت ما كانت تسمعه كثيرا مثل غيرها من أنه أظلهم زمن نبي آخر الزمان..
تذكرت كل هذا.. و هي ترى محمدا بعين غير عير عيون من حوله..
فقد عرفته بما عرفه به قومه أمينا صدوق الحديث ، عزوفا عن الدنايا، طموحا لعوالي الأمور ، متساميا بنفسه عن مغامز المروءة ، كسوبا للخير ، بل هي قد عرفت محمدا أكثر مما عرفه قومه، عرفته عاملا في مالها و صحبه في سفره غلامها الأمين ميسرة ، فحدثها عن أخلاقه في السفر و العمل ، و حدثها عما شهد من دلائل مستقبل هذا الفتى الكريم، و حدثها عن تنبؤات الرهبان ، و حدثها عن مظاهر رعاية الله له، و رأت هي من مظاهر الرعاية ما عجبت منه نساءها.. فوقع في قلبها.. أيضا.. أنه إن لم يكن نبي هذا الزمان.. هو محمد.. فمن يكون؟
فكان ما نعرفه جميعا.. من تساميها بالرغبة في أن يكون محمد زوجا لها ..فأرسلت إليه صديقتها لتُعرِّض برغبة خديحة في الزواج منه.. و كان محمد واضح القصد , واضح العذر , فهو لم يتكلف التأبي على الزواج ولم يتظاهر بعدم حاجته إليه , ولكن يمنعه من الإقدام أن يده لاتملك ما يتزوج به ، بل لعله أبدى أنه في حاجة اليه و لكن يمنعه من الاقدام أن يده لا تملك ما يتزوج به، لقد وضح الطريق و سهلت مهمة الصديقة الأمينة و دُعي محمد الى الجمال و المال و الشرف و العقل و الكمال، إلى خديجة بنت خويلد سيدة نساء العالمين فأجاب كفؤا كريما، و زوجها عمها وزوج محمدا عمه..
و كانت خديجة في سن اكتمال الأمومة و كان محمدا في سن اكتمال الشباب، و في هذا من أسرار الموافقات النفسية ماتضيق دون أدائه العبارة، لأن محمدا كان –بعد مامضى من عمره فيما قدر الله من ألوان الحياة الصارمة- إلى عاطفة الأمومة و حنانها و برها أدنى منه حاجة إلى عاطفة الزوجة و حبها، و خديجة كانت هي الزوجة في حبها، و هي الأم في حنانها و برها، لذا.. كانت خديجة امرأة واحدة لم تتكرر في الحياة.
عدة نقاط أود الحديث عنها قبل التفصيل في موضوعنا الرئيسي لليوم..
أولا.. موقف النبي عندما ألمح اليه عمه أبو طالب أن يعرض نفسه على خديجة للتجارة في مالها.. و عزة نفس النبي و استغناءه..
كم نحتاج في زمننا هذا الى تعلم هذه القيمة.. قيمة أن من يستغنِ يغنه الله..
إن أردت الغِنى.. استغن عما في أيدي الناس.. يغنك الله..
انما طالما أنت متطلع إلى ما في أيدي الناس.. مستشرف له.. فالنتيجة هي العكس تماما..
يقول النبي حديثا معناه:"من أخذ المال باستشراف نفس لم يبارك له فيه.. و كان كالذي يأكل ولا يشبع"
و العلماء على أن رزق الانسان يقل بقدر ما يسأل الناس استكثارا لا احتياجا حقيقيا.. فمن فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب مذلة..
أحاول أن أقرب لكم الصورة أكثر.. النموذج الذي يتحدث عنه النبي تماما كما نرى فيما يعرف بـ"البوفيه المفتوح".. ترى بعض الناس يملأ أطباقه من كل شئ.. استكثارا.. لا جوعا.. لمجرد أن مسموح له من أن يأخذ كما يحلو له.. فتجده لا يأخذ بقدر احتياجه.. ولا حتى بقدر ما يتسع له طبقه..
لم يكن النبي هكذا.. و لم يكن يهين نفسه بهذه الصورة .. بل كان يسعى على رزقه بعزة نفس.. وبلا تعلق بما في أيدي الناس..
ثانيا.. من الأمور التي لم يستشرفها النبي أو لم تتطلع لها نفسه.. النبوة.. فهو سمع مرارا و تكرارا على مدار حياته قبل البعثة ما يقال حوله.. من أنه هو نبي آخر الزمان أو أن فيه صفاته على الأقل.. و بالرغم من هذا فوجئ بأمر الرسالة.. كيف؟
كما سنرى على مدار السيرة.. النبي لم يكن يرى نفسه.. بل لم يكن له نفس يراها أساسا.. تماما كدأب الأتقياء الأخفياء.. يضايقهم كثرة مديح الناس و إطرائهم و ثناءهم عليهم.. ولا يكون له اعتبار لديهم ولا يصدقونه.. فالداعية إن صدق مديح الناس و ثناءهم عليه.. سقط... و لم تقم له قائمة بعدها أبدا..
تماما كقصة تُروى.. أن رجلا أمسك في يده بعرة (فضلات البعير).. و صار الناس يمرون به و يقولون :"في يدك تمرة".. حتى صدقهم.. فأكلها!
النقطة الثالثة.. و هي موضوعنا الأساسي اليوم..
هو حديثنا عن الطاهرة.. الحب الأول.. خير نساء الأرض.. أمنا السيدة خديجة رضي الله عنها .. سيدة الأتقياء الأخفياء..
هي خير نساء الأرض... كما أخبرنا النبيقال:" " حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة ابنة محمد، وآسيه امرأة فرعون ".
كانت بما تميزت به من خلق و شرف، و مال و جمال . كانت السيدة الأولى في مكة بلا منازع. و لما تأيمت.. كان كل شريف من قريش يتمنى أن يتزوجها..و قد طلبوها و بذلوا لها الأموال.. و لكنها لم تر كفؤا لها للزواج إلا أن يكون نبيا.. فهي وحدها التى توقفت عندما سمعت قول اليهودى: (يانساء تيماء، إنه سيكون فى بلدكن نبى يقال له: أحمد، يبعث برسالة اللّه، فأيما امرأة استطاعت أن تكون له زوجاً فلتفعل. فحصبته النساء وقبحنه وأغلظن له. وأغضت خديجة على قوله ولم تعرض له فيما عرض فيه النساء).
ولم يخطر موضوع الزواج على نفسها إلا عندما سمعت الكرامات التى نقلها ميسرة. وما تعرف من خلق هذا الصادق الأمين. والحري به أن يكون النبى المنتظر. وعندما ربطت بين القضيّتين لم تتردد لحظة واحدة فى الإقدام على الزواج، وتذليل كل صعوباته وكانت تعيش على هذا الأمل منذ اللحظة الأولى .. كما ورد في الأثر.. أنها أخذت بيد النبي قائلة :
"بأبى أنت وأمى، واللّه ما أفعل هذا لشىء ولكنى أرجو أن تكون النبى الذى سيبعث فإن تكن هو فاعرف حقى ومنزلتى وادع الإله الذى سيبعثك لى."
فقال لها : " واللّه لئن كنت أنا.. لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيرى فإن الإله الذي تصنعينن هذا لأجله لا يضيعك أبدا ".
لقد كان هذا الامر هو الذى استحوذ على قلبها. وعندما تم زواجها من رسول اللّه وهى تكبره بخمسة عشر عامأَ، رأت من خلقه ومروءته ما ملأ كيانها اعتزازاً وفخراً، وأملاً بأن يكون هو النبى المنتظر. وكانت تنقل هذه المعانى إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل. الذى كان لا يفتأ يتحدث عن نبى أظل زمانه. ويقرأ فى الكتب، ويبحث فى الإرهاصات، التى رافقت سفر النبى إلى الشام. وينتظر، ويطول به الانتظار حتى يقول:
لججت وكنت فى الذكرى لجوجـا لهم طالمـا بعث النشيجـا
ووصف من خديجـة بعد وصف فقد طـال انتظارى ياخديجا
ببطـن المكتيـن علـى رجائـى حديثك أن أرى منه خروجا
بمـا أخبرتنـا مـن قـول قس من الرهبان أكره أن يعوجا
بـأن محمـداً سيـسـود فينـا ويخصم من يكون له حجيجا
و تم الزواج.. و نهلت من معين المصطفى المختار خمسة عشر عاماً قبل البعثة، تتربى على يديه، وتتمثل خلقه وتأتسى به. لذا لا نعجب أبدا، لثقتها المتناهية برسول اللّه، وأنه هو النبى المنتظر، عندما فجأه الوحى فى حراء. فقد رأت منه هذا المستوى الخلقى الرفيع والأفق العظيم .. فجاءت كلماتها التي لازال صداها يتردد على مر الزمن:
"كلا واللّه لا يخزيك اللّه أبدا.. إنك لتحمل الكل، وتقرى الضيف وتكسب المعدوم، وتؤدى الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتعين على نوائب الحق، فاقبل الذى جاءك من اللّه فإنه حق، وأبشر فإنك رسول اللّه حقا."
والله لا يخزيك الله أبدا.. كأنها تذكره بالكلمة التي قالها لها من قبل :" فإن الإله الذي تصنعينن هذا لأجله لا يضيعك أبدا "
عاشت معه يوما بيوم.. لمدة خمسة عشر عاماً قبل البعثة.. فازدادت يقيناَ وإيماناً بأنه هو النبى المصطفى- عليه الصلاة والسلام- و انصهرت و ذابت بخلقه وشخصه ومُثُلِه.
ومع لحظات الوحى الاولى، وفى الوقت الذى كان- عليه الصلاة والسلام- يخشى أن يكون هذا الوحى رئياً من الجن قالت كلمتها الخالدة: "أبشر يا بن عم، و اثبت فوالذى نفسى بيده إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة."
لقد حازت فضل صحبة النبي قبل الخلق أجمعين، وكانت تتعامل مع نبى منذ اللحظات الأولى لزواجها.
فما كان رسول اللّه يطمح إلى الوحي، ولا يعرف شيئًا عنه، ولم يكن بذهنه انتظار جبريل، لقد كان الأمر جديداً كل الجدة عليه، حتى ليمضى فزعاً إلى خديجة- رضى اللّه عنها- يخاف أن يصيبه مس من الشيطان، ويخشى على عقله مما رأى وسمع. ولعل أمر النبوة فى حس خديجة- رضى اللّه عنها- كان أكبر منه فى حس النبي.. فقد عاشت تأمل و تنتظر..
لقد كان الوحى مفاجأة كاملة لرسول اللّه ، بينما كان عند أم المؤمنين خديجة تحقيقاً لإنتظار طال، فخديجة وابن عمها ورقة كأنهم يرونه رأى العين أهلاً لهذه النبوة.
هنا.. نحتاج أن نقف قليلا و نتأمل.. مع نفسية النبي.. مع مراحل الوحي الإلهي له..
فهو عليه الصلاة والسلام قد اصطفاه ربه فأبعده أولأَ عن تلقى العلم البشرى القاصر حين اختاره أمياً. فأصبحت هذه من خصائصه الأولى.
لقد كان علم أهل الكتاب يعج فيه الصحيح بالسقيم والمستقيم بالمنحرف، والثابت بالمدخول كما قال- عز وجل: (فَوَيْل لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْل لَهُم مِّمَّا كتًبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْل لَهُم مِّمَّا يَكْسِبُون ) .
فالقارئ يأتى لهذه الكتب فيختلط عليه الحق والباطل، فحفظ اللّه رسوله من ذلك و من أن يقرأ فى كتاب أو يطلع عليه.
ومع هذه الأمية، فقد يوجد بعض الأميين الذين يقصدون أهل الكتاب ليأخذوا العلم منهم ويبنوا أحكامهم على ما يسمعون. والهوى عند أهل الكتاب لم يكن فقط فيما كتبوه بل كان بما حدثوا به كما يقول عز وجل: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هوَ مِنْ عند اللَّه وَمَا هُوَ منْ عند اللَّه وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون ).
وحفظ اللّه رسوله من أن يأتى كاهناً أو يجلس إلى راهب يتلقى منه العلم.
لقد كان علم النبي علماً ربانيا من لدن العليم الخبير، لم يخالطه علم بشرى قاصر، وكان حقاً صرفاً يطبعه اللّه- تعالى- فى قلب نبيه.
ومن هذا المنطلق، فقد طبع اللّه تعالى نبيه على بغض الشعراء والكهان، وفطره على البعد عن الأحبار والرهبان. فالشعراء والكهان يزعمون صلتهم بالجن والشياطين، والاحبار والرهبان يزعمون أنهم يتلقون من عند اللّه- عز وجل-.. وعصم اللّه تعالى نبيه عن مصادر المعرفة البشرية هذه كلها، وبقى فؤاده الشريف نقيا من أن يتلوث بهذه المصادر..
وبينما كان المجتمع الجاهلى، ومجتمع أهل الكتاب، والمثقفون والعلماء فيه يتلهفون إلى ظهور النبى المنتظر، وخاصة أهل الكتاب الذين وصفهم الله تعالى بمعرفة هذا النبى فقال: (الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَق وَهُمْ يَعْلَمُون).
بينما كان هؤلاء يعيشون هذه القضية بكل جوارحهم واندفاعهم النفسى، كان النبى بمنأىً عن هذا، ولا يخطر له على بال، كما يقول التعبير القرآنى: (نَحْنُ نَقُص عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِين ).. فهو غافل عن كل ما يدور حوله عن هذه القضية.
ومن حكمة اللّه- عز وجل- أن يكون قلبه الشريف خالياً عن ذلك، حتى لا يصبو إلى هذا الأمر ويطمع إليه فيدفعه ذلك إلى الأحبار والرهبان يسألهم، ويبحث عن ذلك. وقد رأينا من هذه النماذج من كان يعد نفسه ليكون هو النبى المنتظر، كما جرى مع أمية بن أبى الصلت الثقفى والذى رفض الإيمان حينِ فاتته هذه الفرصة، مع معرفته بالحق من عند اللّه، وهو موقف معظم أهل الكتاب
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتَاب من عِندِ اللَّهِ مُصَدِّق لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
ومن هذا المنطلق، نستطيع أن نفسر المواقف الأولى للنبى من مقدمات الوحى. فلبغضه الكهان والشعراء، ولخلو نفسه من الصبوة والتطلع إلى أن يكون نبى هذه الأمة ولاجتنابه القرب من الأحبار والرهبان فهو يعرف أن هذه الأحاديث تدور فى فلكهم وفى أخبارهم، ولكراهته للتطلع للسمعة والزعامة. لهذا كله كان يخشى أن يكون جزءاً من هذه النماذج. فكان يخشى على نفسه عليه الصلاة والسلام كما قال لخديجة، وكان يخشى أن يكون للشيطان دور فى تزيين هذا الأمر له فى لحظاته الأولى. وكان يخشى إن صدَّق قبل أن يتثبت من هذه الأمور أن يكون خذلاناً ربانيا له.
وعلى ضوء هذا المنطلق الذي يلح القرآن الكريم عليه. نفسر المواقف النبوية المثبتة ابتداءً حتى فجأه الوحي واستعلن له فى حراء.
ثم نقف مليا.. مع نفسية أمنا خديجة رضوان الله عليها.. الصِّديقة الأولى..
حتى نفهمها في ظل ما ذكرنا عن نفسية النبي ..
المتأمل.. يجد أن خديجة رضوان الله عليها.. و هي سيدة نساء الأرض.. كانت تبحث عن الكمال البشري.. من خلال البيئة المحيطة بها.. فرأت الحديث عن نبي يصطفيه اللّه تعالى من أهل الأرض، ومن خلال القرائن المتعددة؛ وما سمعته من ابن عمها ورقة وغيره، وأن هذا النبى من أهل الحرم، وما أشار إليه ذلك اليهودى عن قرب بعث هذا النبى: (فأيتكن استطاعت أن تكون فراشأَ له فلتفعل).
ْكل هذه الأمور جعلتها تتجاوز الكهان والشعراء والقيادات المحلية، ليكون محط نظرها ذلك النبى المصطفى من اللّه، ومنذ أن توسمت بالنبيتلك الخصائص والصفات التى تؤهله لهذا الموقع، وما تداوله الرهبان عن أنه هو، لم تتردد لحظة واحدة فى الزواج منه، حتى تم ذلك الامر.
والخِلطة الزوجية اليومية، والمعاشرة المباشرة تكشف المعدن الحقيقي للإنسان. فكثير من القيادات المشهورة تتكشف عيوبها الحقيقية من خلال المخالطة.
لقد كان الصادق الأمين محمد فى خلقه وفضله أهلاً للنبوة، وثقتها بصدق الأخبار التي عاينتها وتأكدت منها، رأت أن ليس فى مجتمع مكة كله من هو كفء لها غير محمد، وبعد أن تكاملت الاخبار لديها بذلك. وكانت خبرة خمسة عشر عامأَ مع رسول اللّه عمقت هذه المعانى، ورسخت هذه الأحاسيس فى نفسها فهى فى كل يوم تكشف جانباَ من العظمة النبوية، وفى كل يوم تطلع على فضيلة عالية من فضائله- عليه الصلاة والسلام- وتزداد تأثراً به وحبا وتفانياً فى سبيله، وتمضى لتكون الأداة- الطيعة المطواعة لتنفيذ كل ما يرغبه- عليه الصلاة والسلام.
وحين حُبب إليه الخلاء فى الأعوام الأخيرة قبيل البعثة، كانت لا تتردد لحظة واحدة فى تهيئة،هذا الجو الذي اختاره- عليه الصلاة والسلام- فهو فى قلبها وفى عقلها وفى وجدانها المثل الأعلى، وثقتها بحكمته وحصافة عقله وسداد رأيه، جعلت هذه الأمور ليست محل مناقشة عندها، فهى تهيئ له الزاد وترافقه حين يرغب بذلك، وتنتظر عودته من قمة الجبل على أحر من الجمر حين كان يتحنث فى حراء: ولعل هذا التحنث الذىَ رأته منه- عليه الصلاة والسلام- رفع وتيرة الأمل عندها إلى أعلى درجاته بأن يكون هو النبي المنتظر. وأخذت تحس بلهفة وشوق أن الموعد قد أزف وأن النبوة قد لاحت أعلامها.
ومن عظمة شخصيتها- رضى اللّه عنها- ذلك الكتمان لما فى نفسها من مطامح، وذلك التجمل بالصبر لما تحلم به من أمل فى أن يكون زوجها النبى المنتظر.
ثم ابتعادها عن الأضواء، و هي سيدة المجتمع القرشي..، لتذوب شخصيتها فى شخصه .. فنجد أخبارها تقل تدريجيا.. حتى يكون آخر مانجده عنها في كتب السير.. هو ما قالته للنبي مطمئنة له بعد نزول الوحي.. ثم تختفي أخبارها.. فلا نجد بعد ذلك إلا خبر وفاتها..
وثقتها بحكمته نزعت من نفسها أن تتردد لحظة واحدة فى تنفيذ قناعته، فهى تعلم بفراستها أنه المعد لتلك المهمة العظمى على مستوى البشرية كلها، لا على مستوى زعامة محلية وضيعة. لقد وظفت شهرتها الواسعة، ومالها الوفير، وعقلها الراجح، وذكاءها الوقاد، فى خدمة هذه الشخصية الجليلة التي تأمل بها أن تكون بدءاً لهداية البشرية الحيرى.
وكاد قلبها يخرج من بين ضلوعها من الفرح، حين سمعت من محمد لأول مرة عن تلك الأصوات التى تقول له: إنه رسول اللّه، وعن سلام الحجر عليه، وكيف يلتفت ولا يرى أحداً.
إنها تكظم كل انفعالاتها قبل هذه المفاجأة، فلا تحدث محمداً عن آمالها فيه.
وهى ترى أن هذا الامر لا وجود له فى تفكيره، ولا أثر له فى قلبه وفؤاده. تدع هذا الامر نجوى حرّى بين ضلوعها؛ ولذلك رأت فى أول هذه الإشارات، التى بثها إياها- عليه الصلاة والسلام- أن الأمر قد وقع، أو هو على وشك الوقوع. فقالت له: معاذ اللّه، ما كان ليفعل بك ذلك، إنك لتؤدى الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث.
لقد كان- عليه الصلاة والسلام- فى حسها وفى أعماقها أكبر من كل من فى الأرض، ولا يقبل حسها إطلاقاَ أن يكون هذا رئياً من الشيطان، على ما تعرف من مناحى عظمته وسموه وطهره. ومع ذلك، فأرادت أن تتثبت أكثر حين ارتأت أن يذهب أبو بكر الصديق ومحمد- عليه الصلاة والسلام- إلى ورقة. والحقيقة أنها تود أن يتثبت- عليه الصلاة والسلام- من ذلك؛لأنها رأت فى هذا الحديث ما أثلج صدرها يقينا بصحة فراستها وصحة تنبئها، بأن هذا الأمر على وشك الوقوع.
وكان يحدث الطاهرة خديجة ويبثها بكل ما فى نفسه. وقد أخذتها السعادة وغمرتها النشوة حين حدثها عن رؤياه الأولى، فقالت له: أبشر، فإن اللّه- عز وجل- يصنع بك خيراً، وحين حدثها عن رؤياه بشق صدره قالت له: هذا واللّه خير فأبشر. وهى على ثقة برؤياه التى كانت تأتى بصدقها كفلق الصبح. وما هذه الرؤى الجديدة إلا رؤى صادقة كسوابقها، لكنها بحصافة عقلها وتكامل شخصيتها لم تشأ أن تبث أحداً خبر هذه الرؤيا، ولا تميل إلى أخذ الأحكام والقناعات منها؛ لكن بعد أن برزت الأصوات لتنادى رسول اللّه وتسلم عليه، وتتحدد الأصوات بـ: "أنا جبريل، وأنت رسول اللّه". كان لابد من الخطوة الحاسمة فى سؤال ورقة، لعل جوابه يطمئن شخص النبى بذلك، فهى على ثقة أن اللّه- تعالى- لا يخذله ولا يسلمه، وهو على هذه الذروة الشامخة من الخلق.
وتكاد لا تنى وهى تعد اللحظات، متى يأتى الأمر الجلى بعد هذه المقدمات،وبعد كلام جبريل؟
إن عمرها ومصيرها وحياتها ارتبطت بهذا المعنى، ثم جاءها ليقول لها: أرأيتك هذا الذى كنت أحدثك أنى رأيته فى المنام، فإنه جبريل استعلن لى، أرسله إلىّ ربى، وأخبرها بالذى جاءه من اللّه عز وجل وكانت هذه لحظة العمر، فقد تأكد- عليه الصلاة والسلام- من أن ربه عز وجل أرسل له جبريل وقد رآه يملأ ما بين السماء والأرض.
وفى هذه اللحظة وصلت خديجة ذروة سعادتها، بعد أن رأت حبيبها المصطفى يؤكد لها أنه رسول اللّه، ولم تنتظر ثانية واحدة بسماعها الخبر، بل قالت:
أبشر فواللّه لا يفعل اللّه بك إلا خيراً، فاقبل الذى جاءك من عند اللّه عز وجل،فإنه حق وأبشر فإنك رسول اللّه حقاً.
بقى عليها أن تسمع فى أذنها من هو جبريل هذا؟ فقال لها ورقة ابن عمها: أنه هو الناموس الذي أُنزل على موسى..
أما خديجة، فقد انتهى الامر عندها بأن محمداً قد بعث، منذ أن علمت أن جبريل- عليه السلام- هو رسول اللّه إلى محمد- صلوات اللّه عليه.
وكان هذا أهم انعطاف فى حياة الصديقة خديجة. فكانت أول من آمن من أهل الارض على الارض، وأول من صلى للّه على الأرض من أهل الأرض.
بهذه النفسية استقبلت خديجة الإسلام.
فكانت الوزيرة الأولى للنبي.. فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من الرد عليه، فيرجع إليها إلا تثبته وتهون عليه أمر الناس، فخفف اللّه بذلك عن نبيه، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرَّج اللّه عنه بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عًليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس- رحمها اللّه تعالى.
و كانت سيدة الأتقياء الأخفياء..لذا أجد حاجة أن أجلي لكم صورتها رضي الله عنها كاملة في حديثي اليوم.. إذ صمتت مصادر السيرة النبوية عن ذكر أية حادثة محددة طيلة عشرة أعوام من البعثة حتى لقيت وجه ربها، ويدلنا هذا الصمت على أمر هام جدا، هو أنها- رضى اللّه عنها- قطعت علاقاتها الاجتماعية وصلاتها العامة بالناس، وتفرغت للنبى المصطفى- صلوات اللّه عليه- تؤدى أعظم رسالة فى الوجود فى بيته، وتحيا كل حياته، إنها تذوب فيه وفى تحقيق كل آماله ورغباته. ويكفيها أن هذا السلوك سيكون القدوة والأسوة فيما بعد، فالنساء المؤمنات فى الارض حين يتمثلن هذا الموقف، ويفقهن هذه القضية، يعرفن أن المرأة تبلغ أعظم الدرجات حين تقف بجوار زوجها الداعية المجاهد، وتهب نفسها له وتتخلى عن ذاتها من أجله، وتذوب فيه وفى قضيته بحيث تنسى شهرتها وثقافتها وعلمها؛ لتكون بجوار زوجها، فقد انقطعت خديجة- رضى اللّه عنها- عن كل ما حولها من أهل الارض، نسوة ورجالاً بعد النبوة، وتفرغت لحبيبها المصطفى تشد أزره وترعى حاجته، وتكون بلسم جراحه وزوال ألمه ونصبه، وذلك بعد أن كانت نجمة نساء مجتمعها، ومطمح آمال الرجال فى النساء، فبلغت بهذا الجد والاجتهاد فى هذا المجال، أعلى مراتب نساء أهل الارض فى زمنها. وكانت ثانية نساء أهل الأرض فى كل الازمنة والعصور، بعد مريم بنت عمران، اللهم إلا ما كان من فاطمة ابنتها- رضى اللّه عنها- والذى يعتبر تفوقها على أمها تعظيماً لخديجة- رضى اللّه عنها- التى أنجبت وربَّت سيدة نساء أهل الجنة. ولا ننسى كذلك أنها وضعت مالها كله بين يدى رسول اللّه ينفق منه ما يشاء على دعوته، والمال أهون ما يبذل فى هذا السبيل، حين يبلغ الحب ذروته مع الحبيب، والثقة أعظم ما تكون الثقة حين كان- عليه الصلاة والسلام- يتصرف بمال خديجة الصديقة- رضى الله عنها- كأنه ماله كما قال النبي عنها : "وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس ".
لقد أمضت عمرها كله وزيرة صدق لرسول اللّه ، وكانت بجواره فى أقسى ظروف محنته- عليه الصلاة والسلام- يجد عندها السلوان والراحة. و نرى عظمة خديجة في ما روى عن مقامها فى نفس رسول اللّه- عليه الصلاة والسلام من حديثه الدائم عنها.. و بره لأصدقائها و أقاربها.. و غضبه من أن تفكر واحدة من المسلمات أن ترقى إلى مقام خديجهَ- رضى اللّه عنها- ولو كانت عاثشة الصديقة- رضى اللّه عنها- لقد كانت- رضى اللّه عنها- ملء سمعه وبصره، وهبت حياتها له، ومالها له، ونفسها له، ولا غرو أن تفعل هذا خير نساء الأرض بسيد ولد آدم، وأن تفعل هذا بعد أن تربت على يديه- عليه الصلاة والسلام- خمسة عشر عامًا، تنهل من معين النبوة، و من خلق هذه الدوحة الطاهرة الزكية.
وحق لها- رضى اللّه عنها- بعد كل هذا أن تكون الفائزة الأولى.
فهى أول من بشر من نساء المؤمنين بالجنة، وأقر اللّه عينها بذلك قبل وفاتها، وقبل أن يبشر أحد من المؤمنين بذلك فى حياته، وجاءت هذه البشرى محفوفة بالسلام عليها من رب العالمين، ورسول رب العالمين جبريل.
ولا ندرى إن كان رسول اللّه قد بشرها أنها خيرة نساء الأرض أم لا، أو أنها لقيت هذه البشرى بعد أن لقيت وجه ربها راضية مرضية ،ولا ندرى إن أقرَّ رسول اللّه عينها بأنها أنجبت سيدة نساء أهل الجنة فاطمة بنت محمد، وأعلمها بذلك أم لا، والمرء لا يحب أن يكون أحدًا خيرًا منه إلا ولده. وأقر اللّه تعالى عين خديجة بأنها أنجبت سيدة نساء أهل الجنة فاطمة- رضى الله عنها، فكانت وابنتها فاطمة تعادلان أمم الأرض ونساءها فى الخيرية والسيادة.
لقد عاشت لقضية النبوة، ووهبت نفسها لها، وقدَّر اللّه تعالى لها أن تعيش مع رسول اللّه خمسة عشر عامًا قبل البعثة، فشهدت من هذا المعدن الكريم النفيس ما زادها يقينًا بصحة فراستها إلى أن جاء الوحى بتصديق هذه الفراسة، وبقيت حتى اللحظة الأخيرة من حياتها تجاهد صابرة مصابرة، وعاشت أحلك الظروف فى الدعوة، وعاشت سنى الحصار الصعبة في شعب بني هاشم، فكيف كافأها فى حياتها- عليه الصلاة والسلام؟ بأن لم يتزوج غيرها .. فعاشت معه أطول مدة عاشتها زوجة معه.. خمسة و عشرين عاما..صان قلبها فيها من الغيرة، ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهى فضيلة لم يشاركها فيها غيرها..
ثم كيف كافأها بعد وفاتها.. لم ينسها يوما.. و كان يكثر الحديث عنها.. و كان يقول عنها لعائشة رضي الله عنها "إني رُزقت حبها"..
وكان لوفاتها ووفاة أبى طابى فى العام العاشر، أشد الأثر على نفس النبي
حتى ليسمى المسلمون هذا العام بعام الحزن.. عام كامل للأحزان..
وبقيت ذكراها ماثلة فى كيانه- عليه الصلاة والسلام- وما من شىء يذكره بها إلا هاجت أشجانه لفراقها.. فلم ينسها لحظة حتى يحتاج إلى ما يذكرها به.. هي حاضرة دائما في قلبه و ذاكرته..
حتى في أهم لحظات انتصار الاسلام.. بعد عشرين سنة من الصراع مع الكفر و الشرك.. في فتح مكة..
النبي يدخل مكة فاتحا منتصرا..
ترى.. أين يبيت؟.. هل يبيت في بيته الذي تركه عندما أخرجه قومه مهاجرا من مكة؟
هل يبيت ضيفا على أحد من أهل مكة الذين يدعونه تماما كما كان أهل المدينة يتسابقون الى نيل شرف مبيت النبي عندهم عندما وصل المدينة لأول مرة؟
أم يبيت في الحرم.. بجوار الكعبة التي حرم سنينا طويلة من جوارها؟..
أتدرون أين كان مبيت النبي؟
قال لأصحاب.. "انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة"..
و ركز لواء النصر أمام قبرها.. ليعلم العالم كله أن خديجة.. شريكته في هذا النصر.. حتى و ان لم تعش لتراه و تكحل عينها به..
يبيت ليلته بجوار قبر خديجة.. و كأنما لما فتح مكة.. فتحت هي الأخرى قلبه.. فنكأت فيه ذكريات خديجة .. و كأنما جاءها على قدم و ساق.. قد اختلطت في قلبه عَبرة الفراق.. و فرح الفتح.. و لسان حاله يقول : صدقت يا خديجة.."لا يخزيك الله أبدا"..
و حتى نلتقي.. لا تنسونا من صالح دعائكم..