في ذكرى ميلاد ابن نبي
في الخامس من هذا الشهر تكون قد مرت مائة وعشر حجج على ميلاد فيلسوف الحضارة، المفكر الأصيل مالك ابن نبي رحمه الله، فكانت حياته قد بدأت مع بداية هذا القرن، فكانت شاهدة عليه.
عاش مالك ابن نبي، منذ نضج وعيه، وأوتي رشده إلى أن أتاه اليقين (31 - 10 - 1973) مهموما بحال قومه وأمته، مفكرا في دورهما الحضاري الإنساني، فعندما كان يتأمل أوضاعهم الحاضره ينتابه همّ شديد وغمّ ثقيل لما يعانونه ويكابدونه من جهل، وتخلف، وفقر، واستعباد غيرهم لهم؛ ولكنه عندما يستنطق التاريخ ويلتفت إلى الوراء يرى منهم ما يسر الناظرين من تقدم علمي، ورفاه اقتصادي، وازهار حضاري، وعزة عسكرية...
إن مما تميز به مالك ابن نبي؛ بل وامتاز به على كثير المثقفين العرب والمسلمين هو تحرره مما سماه بعض المهتمين "العبودية العقلية"، التي عمل الغرب على فرضها على كثير من النخب العربية ـ الإسلامية؛ بعدما صارت هذه الأمة خاضعة له، مسيرة بأمره، ولذلك لم يكن لهذه النخبة "المستلبة" دور أصيل وهام في إعادة أمتها إلى مركز التاريخ، ولم تزد تلك النخبة على ترديد ما لقنها إياه الغرب، الذي رفض قبولها بعدما انفصلت عن أصولها، وألهاها بما سماه ابن نبي "مزابل الحضارة"، فعاشت تلك النخبة في انفصام مع أمتها، متذبذبة ـ النخبة ـ بين عالمين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
إن كثيرا من هذه النخبة ناضلوا من أجل التحرر السياسي؛ ولكنهم لم يلبثوا بعدما اقتعدوا مقاعد المسئولية حتى عاد لوضع بلدانهم تحت سيطرة ذلك المستعمر في أنظمته الاقتصادية، والتربوية، والاجتماعية، فبدأوا كأنهم "غير قابلين للاستقلال". ووالله، لقد سمعت "بروفيسورا" في القانون يصرح لقناة تلفزيونية: "لسنا في حاجة إلى أن "نفكر" في حل مشكلاتنا، وما علينا إلا أن "نستورد" القوانين من الغرب ونطبقها على مجتمعنا (لا شك مما نعرف عن توجه "البروفيسور" أنه لا يعني من الغرب إلا "كبرى الدول الصغري، وصغرى الدول الكبرى" - فرنسا-) كما يصفها الإمام الإبراهيمي.
كان الأستاذ مالك ابن نبي قد ألقى محاضرتين تحت عنوان: "دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين" وما نشب أن توفاه الله فكانت تلك المحاضرتان كأنهما وصيتان من ابن نبي إلى أمته لتعود إلى ما اختاره الله - عز وجل- لها من دور وسط، وشهادة على غيرها. ولكن بعد أربعين سنة منذ أماته الله ماتزال هذه الأمة حيث تركها، بل يبدو أنها ازدادت تأخرا وانحطاطا، وإن كانت بعض ومضات أمل تلوح في آفاق هذه الأمة، خاصة بعد أن استطاعت بعض هذه الشعوب زلزلة أسس الفساد فيها ممثلة في حكامها "العجزة".
رحم الله المفكر الأصيل مالك ابن نبي وجميع علمائنا ومفكرينا، الذين حملوا همّ أمتهم، ولم يعيشوا كغيرهم للشهوة والنشوة والرشوة، فكانوا أسوأ عليها من أعدائها، وإن كانت ألسنتهم أطول من قاماتهم بأنهم "خُدّام" لها.
الكاتب: د.الهادي الحسني