يتداول الناس هذه الأيام الحديث عن كتاب الدرر السنية ماله وما عليه، وخاصة ما يتعلق باتهام بعضهم هذا الكتاب بأنه وراء ما ابتُلِيَ الناسُ به هذا الأوان من فتنة الغلو في التكفير وما نشأ عنه من ظهور الجماعات المتطرفة التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية.
-1- إن أعظمَ كتابٍ وأحكمَه وأبلغَه وأهداه وأرشده، كتابُ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك يستدل منه الغالي المكفر والمفرط المرجئ، والقدري والجهمي، وذلك كله حين لا يردون متشابهه إلى محكمه، ولا يعتبرون أصول الاستدلال وحقائق معاني الكلام، وحين يغلب المرض على قلوبهم ويبتغون الفتنة كما قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
ومع هذا يحرُمُ أن نقول: إن القرآن هو سبب البدع ومرجع المبتدعين، وإذا صدق هذا على القرآن فهو على ما دونه من القول أصدق.
فأهل الغلو حين ينقلون عن الدرر السنية فهم ينقلون أيضاً عن القرآن، وكان أسلافهم من الحرورية وأهل النهروان حينما ناظروا علياً وابن عباس رضي الله عنهما إنما ناظروهم بالقرآن.
2- قبل أن أنسب فكر الغلاة وأهل الخروج إلى الدرر السنية أو أنفي ذلك عنها، سوف أُحاول تقدير الوضع لو لم تُؤَلَّف الدرر السنية من أساسها، هل سيكون هناك خوارج وغلاة أم لا؟
والذي يبدو لكل متابع للتاريخ: أن المتمردين على الحكام تنطعاً باسم الدين ظهروا في أعدل زمان وأرغده عيشاً وأعني عهدَ ذي النورين رضي الله عنه فحصروا بيته في مدينة رسول الله التي حرمها كما حرم الله مكة واستحلوا دمه، وخرج الخوارج على رابع العشرة المبشرين بالجنة فقطعوا السبيل وأخافوا المسلمين وكفروا رابع الخلفاء الراشدين.
ولم يزل الغلو في الدين وفتن الخوارج تتوالى في المسلمين في عهد معاوية ومن بعده من خلفاء بني مروان، هذا والشريعة مقامة وراية الجهاد مرفوعة من الصين وحتى نهر السين، وظهروا في عهد بني العباس ودولة هارون الرشيد الذي نتغنى اليوم بحجه وغزوه وصوائفه وشواتيه وعزِ الإسلام في زمانه وسحابتِه التي أينما أمطرت يأتيه خراجها.
ولاشك عندي أن تلك العصور في عز الدين أزهى من عصرنا هذا، فإذا كان الغلاة والخوارج ظهروا فيها بغير درر سنية أو دنية، فعصرنا أولى بظهورهم من تلك العصور ولو لم تُجْمَع الدررُ السنية بل ولو لم يولد من كتبوها.
وهذا مقتضى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون يخرجون حتى يقاتل آخرهم مع الدجال.